دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من استصحابه ليس إلّا ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلّا عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشكّ ، فهو من آثار الشكّ لا المشكوك.

ومثال الثاني : إذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ، ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة أو إلى بعض الجهات أو اجتنب أحدهما ، فربّما يتمسّك ـ حينئذ ـ باستصحاب الاشتغال المتيقّن سابقا ، وفيه :

____________________________________

شكّ حتى يحتاج إلى الاستصحاب.

نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه.

وحاصل الكلام في هذا المقام ، هو أنّه لو كان لعدم الحكم الثابت سابقا أثرا شرعيّا مترتّبا عليه ، واريد ترتيبه في اللّاحق في مورد الشكّ ظاهرا لكان الرجوع إلى الاستصحاب فيه صحيحا لا غبار عليه ، لكنّ المقصود في المقام ليس ذلك ، بل المقصود هو الحكم بالبراءة وعدم الاشتغال في الظاهر ، وهو ممّا يحكم به العقل بطريق القطع من دون حاجة إلى الاستصحاب.

ومن المعلوم أنّ حكم العقل بعدم الاشتغال من آثار الشكّ لا المشكوك ، كي يحتاج إلى إحراز المشكوك إلى الاستصحاب ، فالعقل يحكم بعدم الاشتغال بمجرّد الشكّ فيه من دون حاجة إلى استصحاب عدم الاشتغال.

ومثال الثاني ، أي : مثال استصحاب الاشتغال هو : ما إذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة عند دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ووجوب الصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة بينها ، هذا في الشبهة الوجوبيّة ، ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة التحريمية.

ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة أو إلى بعض الجهات أو اجتنب أحدهما ، فربّما يتمسّك ـ حينئذ ـ باستصحاب الاشتغال المتيقّن سابقا ، أي : باستصحاب حكم العقل بوجوب تحصيل البراءة اليقينيّة عند الشكّ في بقاء التكليف.

٢١

إنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان هو بعينه موجود في هذا الزمان.

نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق حصول العلم بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان. وهذا لا يؤثر في حكم العقل المذكور ، إذ يكفي فيه العلم بالتكليف الواقعي آناً ما.

نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعي وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع السورة إلى الجهة الباقية واجتناب المشتبه الباقي ، بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع.

____________________________________

وفيه : إنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان هو بعينه موجود في هذا الزمان.

وحاصل الإشكال على استصحاب الاشتغال على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ العقل كما كان يحكم بالاشتغال في السابق بمعنى وجوب تحصيل اليقين بالبراءة كذلك يحكم به في اللّاحق لبقاء موضوع حكمه ، وهو احتمال العقاب ، فلا شكّ في حكم العقل حتى يتصوّر فيه الاستصحاب.

وبعبارة أخرى : إنّ قاعدة الاشتغال الموجودة في السابق بعينها موجودة في اللّاحق من دون حاجة إلى استصحابها أصلا.

غاية الأمر ، هو الفرق بين الزمان اللّاحق والسابق بما لا يؤثر في حكم العقل بالاشتغال ، وحاصل الفرق هو العلم بالتكليف الواقعي في الزمان السابق دون الزمان اللّاحق ، كما أشار إليه بقوله :

نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق ... إلى آخره.

نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعي وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الإتيان بالصلاة مع السورة إلى الجهة الباقية واجتناب المشتبه الباقي ، بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع.

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ الاشتغال بمعنى حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة لا شكّ فيه حتى يتصوّر استصحابه.

٢٢

لكنّ مجرّد ذلك لا يثبت وجوب الإتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة إلّا على القول بالأصل المثبت أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين.

والأوّل لا نقول به ، والثاني بعينه موجود في محلّ الشكّ من دون الاستصحاب.

____________________________________

وأمّا الاشتغال بمعنى عدم إتيان الواجب الواقعي ، فهو مشكوك فيه يمكن استصحابه ، إلّا أنّ هذا المستصحب ـ أي : عدم إتيان الواجب الواقعي ـ أثره الشرعي بقاء الوجوب الواقعي ، فيحكم العقل بوجوب طاعته وتحصيل البراءة عنه ، وليس أثره الشرعي وجوب المحتمل الآخر المستلزم لحكم العقل بوجوب طاعته الموجبة لليقين بالبراءة ، لأنّ الملازمة بين عدم إتيان الواجب الواقعي ، وكون الواجب الواقعي هو المحتمل الآخر عقليّة ، فيكون الأصل مثبتا ، كما أشار إليه بقوله :

لكنّ مجرّد ذلك ، أي : الاستصحاب لا يثبت وجوب الإتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة وهو الإتيان بالمحتمل الآخر.

إلّا على القول بالأصل المثبت أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، بأن تنضم قاعدة الاشتغال بالاستصحاب المذكور ليثبت بهما وجوب المحتمل الآخر.

والأوّل لا نقول به لكونه أصلا مثبتا ، والثاني بعينه موجود في محلّ الشكّ ، كما عرفته تفصيلا في وجه عدم صحّة استصحاب الاشتغال ، فيكفي حكم العقل بالاشتغال من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا.

٢٣

الأمر الرابع

قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اخرى ، باعتبار كون القضيّة المستصحبة قضيّة تعليقيّة حكم فيها بوجود حكم على تقدير وجود آخر.

فربّما يتوهّم لأجل ذلك الإشكال في اعتباره ، بل منعه والرجوع فيه إلى استصحاب

____________________________________

الأمر الرابع : قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اخرى ، باعتبار كون القضيّة المستصحبة قضيّة تعليقيّة حكم فيها بوجود حكم على تقدير وجود آخر.

فلا بدّ أوّلا من بيان محلّ الكلام في المقام ، ثمّ بيان الأقوال فيه.

أمّا الأوّل ، فيتّضح بعد تقديم مقدّمة ، وهي :

إنّ الحكم قد يكون فعليّا من جميع الجهات ، وقد يكون فعليّا من بعض الجهات دون بعض. ويعبّر عن القسم الثاني بالحكم التعليقي تارة ، وبالحكم التقديري اخرى ويعبّر عن القسم الأوّل بالحكم التنجيزي. إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك أنّ الكلام في جريان الاستصحاب في الأحكام التعليقيّة وعدم جريانه فيها ، إنّما هو على القول بجريان الاستصحاب في الأحكام التنجيزيّة. وأمّا على القول بعدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلّيّة التنجيزيّة ، فلا يبقى مجال للبحث عن جريانه في الأحكام التعليقيّة لعدم جريانه حينئذ فيها قطعا ، كما لا يخفى.

ثمّ الأمثلة لاستصحاب الحكم التعليقي وإن كانت كثيرة ، إلّا أنّ المعروف منها هو حكم الشارع بالحرمة والنجاسة على العنب بشرط غليان مائه وعدم ذهاب ثلثيه. هذا تمام الكلام في بيان محلّ النزاع.

وأمّا الثاني ـ وهو بيان الأقوال فيه ـ فقد وقع فيه الخلاف بين الأعلام ، كما أشار إليه بقوله :

فربّما يتوهّم لأجل ذلك الإشكال في اعتباره ، بل منعه.

وقيل في وجه المنع : إنّ الاستصحاب فرع الثبوت سابقا ، والوجود التعليقي كالعدم لا

٢٤

مخالف له.

توضيح ذلك : إنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ، كما إذا وجبت الصلاة فعلا ، أو حرّم العصير العنبي بالفعل في زمان ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه.

وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه. وقد يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ، فالمستصحب هو وجوده التعليقيّ ، مثل : إنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ، فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جفّ وصار زبيبا فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة على الغليان ، فيحرم عند تحقّقه أم لا؟ بل يستصحب الإباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان.

____________________________________

ثبوت له إلّا فرضا ، فيجب الرجوع إلى الاستصحاب المخالف ، كاستصحاب الحلّيّة المتحقّق قبل الغليان في المثال المعروف. كما أشار إليه بقوله :

والرجوع فيه إلى استصحاب مخالف له.

توضيح ذلك : إنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ، كما إذا وجبت الصلاة فعلا ، أو حرّم العصير العنبي بالفعل في زمان ثمّ شكّ في بقائه وارتفاعه.

وذلك على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي أن يفرض مثلا أنّ صلاة الجمعة كانت واجبة في زمن الحضور ثمّ شكّ في وجوبها في زمن الغيبة ، وأن يفرض أنّ ماء العنب كان حراما كالخمر ثمّ شكّ في حرمته بعد الجفاف ، فلا إشكال ـ حينئذ ـ في جريان الاستصحاب فيه لوجود المستصحب في السابق بوجود محقّق بالفعل ، كما أشار إليه بقوله :

وهذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه. وقد يكون أمرا موجودا على تقدير وجود أمر ، فالمستصحب هو وجوده التعليقي ، مثل : إنّ العنب كان حرمة مائه معلّقة على غليانه ، فالحرمة وإن كانت موجودة حال العنبيّة قبل الغليان إلّا أنّها كانت معلّقة على الغليان ، كما أشار إليه بقوله :

فالحرمة ثابتة على تقدير الغليان ، فإذا جفّ وصار زبيبا ، فيشكّ في أنّ الزبيب هل هو محرّم على تقدير الغليان ، كما كان العنب محرّما على تقدير الغليان أم لا؟

غاية الأمر حرمة الزبيب المعلّقة على الغليان تكون بالاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

فهل يبقى بالاستصحاب حرمة مائه المعلّقة على الغليان ، فيحرم عند تحقّقه أم لا؟ بل

٢٥

ظاهر سيّد مشايخنا في المناهل ، وفاقا لما حكاه عن والده قدس‌سره ، في «الدرس» عدم اعتبار الاستصحاب الأوّل والرجوع إلى الاستصحاب الثاني. قال في المناهل في ردّ تمسّك السيّد العلّامة الطباطبائي على حرمة العصير من الزبيب إذا غلى بالاستصحاب :

«ودعوى تقديمه على استصحاب الإباحة أنّه يشترط في حجّيّة الاستصحاب ثبوت أمر أو حكم وضعي أو تكليفي في زمان من الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه من الأسباب ، ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، فالاستصحاب التقديري باطل ، وقد صرّح بذلك الوالد العلّامة في أثناء «الدرس» ، فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة». انتهى كلامه رفع مقامه.

____________________________________

يستصحب الإباحة السابقة لماء الزبيب قبل الغليان ، بأن يقال : ماء الزبيب كان قبل الغليان حلالا ، فإذا شكّ في بقاء ذلك يستصحب بقاء الإباحة والحلّيّة.

ظاهر سيّد مشايخنا السيّد محمّد المجاهد في المناهل ، وفاقا لما حكاه عن والده قدس‌سره السيّد علي صاحب الشرح الكبير على النافع على ما في شرح الاعتمادي في «الدرس» عدم اعتبار الاستصحاب الأوّل ، أي : استصحاب الحرمة المعلّقة على الغليان ، لما عرفت من أنّ الوجود التعليقي بمنزلة العدم ، فليس بوجود متحقّق سابقا ، كي يستصحب.

والرجوع إلى الاستصحاب الثاني وهو استصحاب الحلّيّة المتحقّقة قبل الغليان.

قال في المناهل في ردّ تمسّك السيّد العلّامة الطباطبائي ، أي : بحر العلوم على حرمة العصير من الزبيب إذا غلى بالاستصحاب : ودعوى تقديمه على استصحاب الإباحة.

يعني : قال في ردّ استصحاب الإباحة : إنّه يشترط في حجّيّة الاستصحاب ثبوت أمر ، كحياة زيد مثلا أو حكم وضعي ، كطهارة المتوضّئ مثلا أو تكليفي ، كوجوب الصوم مثلا في زمان من الأزمنة قطعا ، ثمّ يحصل الشكّ في ارتفاعه بسبب من الأسباب ، كالموت في المثال الأوّل ، وخروج المذي في الثاني ، وغروب الشمس في الثالث.

ولا يكفي مجرّد قابليّة الثبوت باعتبار من الاعتبارات ، كثبوت شيء على تقدير ثبوت شيء آخر ؛ لأنّ الثبوت التقديري ليس بوجود حتى يستصحب.

وكيف كان ، فالاستصحاب التقديري باطل ، وقد صرّح بذلك ، أي : البطلان الوالد العلّامة في أثناء الدرس ، فلا وجه للتمسّك باستصحاب التحريم في المسألة ، أي : مسألة

٢٦

أقول : لا إشكال في أنّه يعتبر في الاستصحاب تحقّق المستصحب سابقا ، والشكّ في ارتفاع ذلك المحقّق ، ولا إشكال أيضا في عدم اعتبار أزيد من ذلك.

ومن المعلوم أنّ تحقّق كلّ شيء بحسبه. فإذا قلنا : العنب يحرم ماؤه إذا على أو بسبب الغليان ، فهناك لازم وملزوم وملازمة. أمّا الملازمة ـ وبعبارة اخرى : سببيّة الغليان لتحريم

____________________________________

الزبيب.

انتهى كلامه رفع مقامه.

والمصنّف قدس‌سره ممّن يقول باعتبار الاستصحاب في الحكم التعليقي ، كالحكم التنجيزي ، وقد أشار إلى ردّ صاحب المناهل وبيان وجه صحّة الاستصحاب التعليقي بقوله :

لا إشكال في أنّه يعتبر في الاستصحاب تحقّق المستصحب سابقا ، والشكّ في ارتفاع ذلك المحقّق ، وذلك لما مرّ غير مرّة من أنّ المستفاد من تعريف الاستصحاب وأدلّته هو اعتبار اليقين بتحقّق المستصحب والشّكّ في بقائه ، ولا يعتبر في الاستصحاب أزيد من ذلك.

غاية الأمر ثبوت المستصحب على قسمين : تارة : يكون وجوده في السابق على نحو التنجيز ، واخرى : يكون وجوده في السابق على نحو التعليق.

ثمّ المعتبر في صحّة الاستصحاب هو مطلق الثبوت والوجود منجّزا كان أو معلّقا ، فالوجود التعليقي نحو من الوجود ؛ لأنّ تحقّق كلّ شيء ووجوده بحسبه ، كما أشار إليه بقوله :

ومن المعلوم أنّ تحقّق كلّ شيء بحسبه.

ومن هنا يظهر ردّ ما ذكره صاحب المناهل من بطلان الاستصحاب التعليقي ، وذلك أنّ الوجه في بطلان الاستصحاب التعليقي ، لا يخلو عن احتمالين :

الأوّل : اعتبار كون وجود الشيء منجّزا في السابق.

والثاني : إنّ الوجود التعليقي ليس بوجود أصلا ، بل هو محض العدم.

فإن كان مراد صاحب المناهل هو الاحتمال الأوّل ، ففيه أنّه لا دليل لنا على اعتبار الوجود المنجّز في صحّة الاستصحاب ، بل يكفي مطلق الوجود في الصحّة. وإن كان مراده هو الاحتمال الثاني ، ففيه أنّ الوجود

المعلّق نحوا من الوجود ، وليس عدما محضا.

وحينئذ فإذا قلنا : العنب يحرم ماؤه إذا غلى أو بسبب الغليان ، فهناك امور ثلاثة :

٢٧

ماء العصير ـ فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق.

وأمّا اللّازم ـ وهي الحرمة ـ فله وجود مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه وحينئذ فإذا شككنا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا. فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شكّ في بقائها بعد

____________________________________

الأوّل : هو اللّازم وهو الحرمة في مثال غليان ماء العنب.

والثاني : هو الملزوم وهو الغليان.

والثالث : هو الملازمة بينهما التي تقتضيها سببيّة الغليان للحرمة شرعا.

ثمّ الملازمة يكون وجودها متحقّقا بالفعل من دون تعليق ؛ لأنّ وجود الملازمة لا يستلزم وجود الطرفين ، فكما أنّ الملازمة بين طلوع الشمس ووجود النهار متحقّقة بالفعل وإن لم يتحقّق الطرفان ، فكذا الملازمة بين غليان العنب وحرمته متحقّقة بالفعل وإن لم يتحقّق الغليان والحرمة ، كما أشار إليه بقوله :

أمّا الملازمة ... فهي متحقّقة بالفعل من دون تعليق. وأمّا اللّازم ـ وهي الحرمة ـ فله وجود مقيّد بكونه على تقدير الملزوم ، وهذا الوجود التقديري أمر متحقّق في نفسه في مقابل عدمه.

والحاصل أنّ حرمة العنب موجودة بوجود تقديري. وحينئذ فاذا شككنا بعد أن صار العنب زبيبا في أنّ وصف العنبيّة له مدخل في تأثير الغليان في حرمة مائه ، فلا أثر للغليان في التحريم بعد جفاف العنب وصيرورته زبيبا.

أو ليس له مدخل فيه فيؤثر الغليان في التحريم بعد الجفاف أيضا ، فيجري الاستصحاب في الحكم التعليقي ، كما يجري الاستصحاب في الملازمة ، بأن يقال : كان بين العنب بشرط الغليان وبين حرمته ونجاسته ملازمة ، فإذا شكّ في بقائها بعد أن صار العنب زبيبا تستصحب تلك الملازمة ، ولازم ذلك هو الحكم بحرمة الزبيب بعد الغليان.

وكيف كان ، فلا فرق بين هذا الحكم التعليقي للعنب وبين سائر أحكامه ، كالملكيّة والحلّيّة مثلا في جريان الاستصحاب ، كما أشار إليه قوله :

فأيّ فرق بين هذا وبين سائر الأحكام الثابتة للعنب إذا شكّ في بقائها بعد صيرورته

٢٨

صيرورته زبيبا؟.

نعم ، ربّما يناقش في الاستصحاب المذكور ؛ تارة بانتفاء الموضوع وهو العنب واخرى بمعارضته باستصحاب الإباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه عليه بمثل الشهرة والعمومات. لكنّ الأوّل لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر.

____________________________________

زبيبا ، أي : لا فرق بينهما في جريان الاستصحاب.

نعم ، ربّما يناقش في الاستصحاب المذكور ، أي : استصحاب الحكم التعليقي ؛ تارة بانتفاء الموضوع وهو العنب واخرى بمعارضته باستصحاب الإباحة قبل الغليان ، بل ترجيحه عليه بمثل الشهرة.

حيث يكون المشهور هو عدم تنجّس الزبيب بالغليان ، فيكون مرجّحا لاستصحاب الحلّ المنجّز.

والعمومات ، أي : ترجيح استصحاب الإباحة بالعمومات الاجتهاديّة ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً)(١) أو الفقاهتيّة ، كقوله عليه‌السلام : كلّ شيء لك حلال ... إلى آخره (٢) ، على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي. هذا تمام الكلام فيما يمكن أنّ يناقش به الاستصحاب في الحكم التعليقي من الوجهين المذكورين.

وقد ردّ المصنّف قدس‌سره كلا الوجهين ، حيث أشار إلى ردّ الوجه الأوّل بقوله :

لكنّ الأوّل لا دخل له في الفرق بين الآثار الثابتة للعنب بالفعل والثابتة له على تقدير دون آخر.

وملخّص الكلام في ردّ الوجه الأوّل ، هو أنّ تغيّر الموضوع لا يكون مانعا عن جريان الاستصحاب ، لأنّ الشكّ في الأحكام المعتبر في الاستصحاب دائما يكون من جهة تغيير حال من حالات الموضوع ، وإلّا ، فلا يتحقّق الشكّ في حكم من الأحكام.

وحينئذ فلو كان التغيّر في الموضوع مانعا عن الاستصحاب ، لكان مانعا عنه مطلقا من دون فرق بين أن يكون المستصحب من الأحكام التعليقيّة أو من الأحكام التنجيزيّة.

____________________________________

(١) الفرقان : ٤٨.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

٢٩

والثاني فاسد لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل الغليان.

فالتحقيق : إنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في اعتباره من حيث الأخبار أو من حيث العقل بين أنحاء تحقّق المستصحب. فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب وشكّ في ارتفاعه ، فالأصل بقاؤه.

مع أنّك عرفت أنّ الملازمة وسببيّة الملزوم للّازم موجودة بالفعل ، وجد اللّازم أم لم يوجد ، لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط. وهذا الاستصحاب غير متوقف

____________________________________

ثمّ أشار إلى ردّ الوجه الثاني بقوله :

والثاني فاسد لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الإباحة قبل الغليان.

وحاصل الردّ على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الشكّ في الحلّ والحرمة على تقدير الغليان مسبّب عن الشكّ في بقاء الحرمة المقدّرة حال العنبيّة.

فإذا جرى الأصل السبي ـ أعني : استصحاب الحرمة ـ لكان حاكما على الأصل المسبّبي ، أعني : استصحاب الإباحة. هذا مضافا إلى أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأصلين هو التساقط لا الترجيح ، سواء كان المرجّح من الاصول أو الظنون ، لا سيّما الشهرة حيث لم يثبت اعتبارها في مقام الاستدلال ، ولا الترجيح.

فالتحقيق : إنّه لا يعقل فرق في جريان الاستصحاب ولا في اعتباره من حيث الأخبار أو من حيث العقل بين أنحاء تحقّق المستصحب من حيث التنجيزيّة والتعليقيّة ، فكما يجري الاستصحاب في المستصحب المتحقّق تنجيزا ، كذلك يجري في المستصحب المتحقّق تعليقا ، سواء قلنا باعتباره من باب الأخبار والتعبّد أو من باب الظنّ وبناء العقلاء.

فكلّ نحو من التحقّق ثبت للمستصحب وشكّ في ارتفاعه ، فالأصل بقاؤه. هذا حال استصحاب الحرمة المعلّقة.

وأمّا استصحاب الملازمة فأمره أوضح كما مر ، وأشار إليه بقوله :

مع أنّك عرفت أنّ الملازمة وسببيّة الملزوم للّازم موجودة بالفعل ، سواء وجد اللّازم

٣٠

على وجود الملزوم.

نعم ، لو اريد إثبات وجود حكم فعلا في الزمان الثاني اعتبر إحراز الملزوم فيه ليترتّب عليه بحكم الاستصحاب لازمه. وقد يقع الشكّ في وجود الملزوم في الآن اللّاحق ، لعدم تعيّنه واحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يتراءى أنّه ملزوم.

____________________________________

والملزوم بالفعل أم لا ، لأنّ صدق الشرطيّة لا يتوقّف على صدق الشرط ، فاستصحاب الملازمة الثابتة حال العنبيّة بالفعل يجري بعد الزبيبية من غير توقّف على وجود الملزوم.

نعم ، لو اريد إثبات وجود حكم فعلا في الزمان الثاني اعتبر إحراز الملزوم فيه ليترتّب عليه بحكم الاستصحاب لازمه ، بأن اريد إثبات الحرمة فعلا في الزمان الثاني ، فلا بدّ حينئذ من إحراز الملزوم ليترتّب عليه لازمه بالاستصحاب.

والحاصل أنّ استصحاب الملازمة قبل الغليان يثبت الحرمة المعلّقة وبعد الغليان يثبت الحرمة الفعليّة على ما في شرح الاعتمادي.

وقد يقع الشكّ في وجود الملزوم في الآن اللّاحق ، لعدم تعيّنه واحتمال مدخليّة شيء في تأثير ما يتراءى أنّه ملزوم.

وذلك كما إذا غلى الزبيب بالشمس واحتمل مدخليّة كون الغليان بالنّار في الحرمة ، فاستصحاب الملازمة ـ حينئذ ـ لا يثبت اللّازم ـ أي : الحرمة ـ وذلك لعدم إحراز الملزوم به ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي مع تصرّف ما.

٣١

الأمر الخامس

إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ، إذ المقتضي موجود ، وهو جريان دليل الاستصحاب وعدم ما يصلح مانعا ، عدا امور :

منها : ما ذكره بعض المعاصرين ، من :

«أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ آخرين ، لتغاير الموضوع ، فإنّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه. ولذا يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو

____________________________________

الأمر الخامس : إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة.

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو عنوان البحث في هذا الأمر ، فنقول في تحرير عنوان البحث :

إنّه إذا ثبت حكم في الشريعة السابقة ، ولم يعلم خلافه في هذه الشريعة فهل يجوز استصحاب ذلك الحكم في هذه الشريعة أم لا؟ وإلى هذا العنوان أشار المصنّف قدس‌سره بقوله :

إنّه لا فرق في المستصحب بين أن يكون حكما ثابتا في هذه الشريعة أم حكما من أحكام الشريعة السابقة ، إذ المقتضي موجود ، وهو جريان دليل الاستصحاب.

سواء كان دليله الظنّ العقلائي أو التعبّد الأخباري ، وإن كان ربّما يتوهّم انصراف الثاني إلى استصحاب أحكام شرعنا فقط ، إلّا أنّه انصراف بدويّ ناشئ عن الاستيناس ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وعدم ما يصلح مانعا ، عدا امور : ذكرت في موارد مختلفة.

منها : ما ذكره بعض المعاصرين ، أي : صاحب الفصول من : أنّ الحكم الثابت في حقّ جماعة لا يمكن إثباته في حقّ آخرين ، لتغاير الموضوع ، فإنّ ما ثبت في حقّهم مثله لا نفسه.

وحاصل الإشكال من جهة اختلاف الموضوع ، هو أنّ المكلّف بأحكام كلّ شريعة إنّما هو المدرك لتلك الشريعة التي يريد استصحاب أحكامها ، ومن المعلوم أنّ المدرك للشريعة السابقة قد انقرض ، وأمّا المدرك لهذه الشريعة لم يكن محكوما بأحكام الشريعة السابقة ، فلا

٣٢

الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة لا بالاستصحاب» وفيه :

أوّلا : إنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين.

فإذا حرم في حقّه شيء سابقا وشكّ في بقاء الحرمة في الشريعة اللاحقة ، فلا مانع عن الاستصحاب أصلا. وفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد اللاحقة نادر ، بل غير واقع.

____________________________________

يجري الاستصحاب في حقّه ، فما ثبت في حقّه من الحكم الثابت في الشريعة السابقة يكون مثله لا نفسه.

ولذا ، أي : لتغاير الموضوع يتمسّك في تسرية الأحكام الثابتة للحاضرين أو الموجودين إلى الغائبين أو المعدومين بالإجماع والأخبار الدالّة على الشركة.

أي : شركة الغائبين مع الحاضرين والمعدومين مع الموجودين في زمن الخطاب بالإجماع أو الأخبار لا بالاستصحاب.

وفيه : أوّلا : إنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين.

وحاصل الجواب الأوّل : إنّ إشكال تغاير الموضوع إنّما يتوهّم بالنسبة إلى من لم يدرك الشريعة السابقة أصلا أو حال البلوغ ، لا بالنسبة إلى من أدرك الشريعتين حال البلوغ ، فيجوز له الاستصحاب ، فإذا ثبت الحكم في حقّ المدرك للشريعتين بالاستصحاب أمكن إثباته في حقّ غيره بقاعدة الاشتراك في التكليف.

إلّا أن يقال : إنّ إثبات الحكم للآخرين بقاعدة الاشتراك في التكليف مبني على وحدة الصنف ، ومدرك الشريعتين لا يتحدّ صنفا مع غيره فيجوز له الاستصحاب ؛ لأنّه شاكّ في بقاء حكمه السابق بخلاف غيره ، فلا يجوز له الاستصحاب ، لانتفاء الموضوع ، ولا العمل بالحكم المستصحب لعدم جريان قاعدة الاشتراك في التكليف ، كما مرّ.

قوله : وفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد اللّاحقة نادر ، بل غير واقع دفع لما يتوهّم من ردّ فرض المدرك للشريعتين ، بل نفرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة عند تجدّد الشريعة اللّاحقة ؛ فإشكال تغاير الموضوع يبقى على حاله.

وحاصل الدفع أنّ فرض انقراض جميع أهل الشريعة السابقة فرض لم يقع أصلا ؛ وذلك

٣٣

وثانيا : إنّ اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب وإلّا لم يجر استصحاب عدم النسخ. وحلّه : إنّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه.

____________________________________

أنّه ما هلك قوم نبيّ كهلاكة قوم نوح ، وقد بقى معه في الفلك من بقي من المكلّفين.

نعم ، يتصوّر ما ذكر من وجود مدرك الشريعتين في أوائل حدوث الشريعة اللاحقة ، وربّما يحصل الشكّ في بقاء حكم بعد مضي مدّة لا يوجد فيها مدرك الشريعتين حتى يتمسّك بالاستصحاب ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. ثمّ أشار إلى الجواب الثاني عن الإشكال المذكور أو إلى ردّه بقوله :

وثانيا : إنّ اختلاف الأشخاص لا يمنع عن الاستصحاب وإلّا لم يجر استصحاب عدم النسخ ، مع أنّ استصحاب عدم النسخ يكون من المسلّمات عند الاصولي والأخباري. وقياس استصحاب عدم أحكام الشريعة السابقة باستصحاب عدم النسخ والملازمة بينهما نفيا وإثباتا يتّضح بعد مقدّمة ، وهي :

إنّ ما ذكر من المانع وهو تغاير الموضوع بعينه موجود في استصحاب عدم النسخ ، فكما أنّ الأشخاص الموجودين في الشريعة السابقة ربّما كانوا غير الموجودين في الشريعة اللّاحقة ، فكذلك أنّ الأشخاص الموجودين في زمن الخطاب والصدر الأوّل ربّما كانوا غير الأشخاص الموجودين في زمان الشكّ في النسخ. إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك وجه الملازمة بين الاستصحابين المذكورين.

فنقول : إنّه لو كان المانع عن استصحاب أحكام الشريعة السابقة هو تغاير الموضوع باختلاف الأشخاص ، لكان هذا المانع بعينه موجودا في استصحاب عدم النسخ ، فلو لم يجر استصحاب أحكام الشريعة السابقة لم يجر استصحاب عدم النسخ والتالي باطل ، كما مرّ فالمقدّم مثله والملازمة واضحة كما عرّفت ، والنتيجة هي جريان استصحاب أحكام الشريعة السابقة لكون اختلاف الأشخاص غير مانع عنه ، كما لا يكون مانعا عن استصحاب عدم النسخ.

وحلّه : إنّ المستصحب هو الحكم الكلّي الثابت للجماعة على وجه لا مدخل لأشخاصهم فيه.

٣٤

إذ لو فرض وجود اللّاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعا ، فإنّ الشريعة اللّاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الاولى ، غاية الأمر احتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم.

ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب لقدح في أكثر الاستصحابات ، بل في جميع موارد

____________________________________

وحاصل الحلّ أنّ ما ذكر من الأشكال من جهة مدخليّة الأشخاص في الحكم مبني على أن تكون الأحكام في كلّ شريعة مجعولة على نحو القضايا الخارجيّة المتكفّلة للحكم على الأفراد الموجودة في زمان خاصّ ، وليس الأمر كذلك ، بل الأحكام في كلّ شريعة مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة الشاملة لجميع أفراد المكلّفين الموجودة والمقدّرة إلى يوم القيامة.

وحينئذ فلا يلزم إشكال أصلا ، إذ بعد فرض ثبوت الحكم من الأوّل لجميع الأفراد الموجودة بالفعل أو بالفرض لو لا النسخ ، فإذا شكّ في نسخ حكم من الأحكام وعدم عموم لفظي يقتضي استمراره في جميع الأزمنة ، يجري فيه استصحاب البقاء وعدم النسخ ، ولازمه ثبوته للأفراد الموجودة في الشريعة اللّاحقة.

إذ لو فرض وجود اللّاحقين في السابق عمّهم الحكم قطعا لما عرفت من أنّ الأحكام مجعولة على نحو القضايا الحقيقيّة ، لا على نحو القضايا الخارجيّة ، نظير الخطاب الصادر من المولى العرفي إلى عبده أو من الأب إلى ابنه ، فكلّ شريعة مستمرّة إلى يوم القيامة ما لم تنسخ.

فإنّ الشريعة اللّاحقة لا تحدث عند انقراض أهل الشريعة الاولى ، وذلك فإنّ كثيرا من أمّة عيسى عليه‌السلام مثلا كانوا موجودين عند حدوث شريعتنا وقد صاروا موظّفين بالعمل بها ، على ما في شرح الاعتمادي.

غاية الأمر احتمال مدخليّة بعض أوصافهم المعتبرة في موضوع الحكم.

وحاصل الكلام فيما يمكن أن يكون مراد المصنّف قدس‌سره في المقام ، هو أنّ غاية الأمر كون الشكّ في المقام شكّا في المقتضي من جهة احتمال مدخليّة بعض الأوصاف ، مثل كونهم أمّة موسى عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام مثلا في موضوع الحكم ، فلو لم يجر الاستصحاب فيه ، فهو من جهة كون الشكّ في المقتضي لا من جهة اختلاف الأشخاص في الشريعتين. هذا على ما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره من عدم اعتبار الاستصحاب في مورد الشكّ في المقتضي ، وأمّا على ما ذهب إليه القوم من قولهم باعتبار الاستصحاب مطلقا ، فيجري فيه الاستصحاب.

٣٥

الشكّ من غير جهة الرافع.

وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين فليس مجرى للاستصحاب حتى يتمسّك به ، لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين للغائبين ليس بالزمان ، ولعلّه سهو من قلمه قدس‌سره. وأمّا التسرية من الموجودين إلى المعدومين ، فيمكن التمسّك فيها بالاستصحاب

____________________________________

ومثل هذا لو أثّر في الاستصحاب ، أي : مثل مجرّد تغيّر الوصف الاعتباري ككونهم أمّة عيسى عليه‌السلام لو أثّر في عدم جريان الاستصحاب ، ومنع عن جريانه لقدح في أكثر الاستصحابات.

إذ ما من استصحاب إلّا أن يحصل فيه تغيير من جهة الموضوع أو غيره وصار منشأ للشكّ ؛ لأنّه لو لم يحصل تغيّر أصلا لم يطرأ شكّ أبدا ، كي يجري الاستصحاب ، ألا ترى أنّه يشكّ في بقاء نجاسة الكرّ المتغيّر لأجل زوال تغيّره بنفسه ومع ذلك يجري الاستصحاب؟ كما في شرح الاعتمادي مع توضيح منّا.

بل في جميع موارد الشكّ من غير جهة الرافع.

وملخّص الكلام في المقام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الشكّ في بقاء الحكم من جهة المقتضي دائما يكون من جهة تغيّر الموضوع.

نعم ، إذا كان الشكّ في بقاء الحكم من جهة احتمال الرافع ، كالشكّ في بقاء الطهارة لاحتمال الحدث ، فهو لا يرجع إلى تغيّر في الموضوع. هذا تمام الكلام في ردّ ما استدلّ به صاحب الفصول على عدم جريان الاستصحاب في أحكام الشريعة السابقة من تغاير الموضوع.

ثمّ أيّد هذا الاستدلال بتسرية أحكام الحاضرين إلى الغائبين بالإجماع والأخبار لا بالاستصحاب ؛ وذلك لعدم جريان الاستصحاب من جهة تغاير الموضوع. فأشار المصنّف قدس‌سره إلى ردّ هذا التأييد أو الجواب عنه بقوله :

وأمّا التمسّك في تسرية الحكم من الحاضرين إلى الغائبين فليس مجرى للاستصحاب حتى يتمسّك به ، لأنّ تغاير الحاضرين المشافهين للغائبين ليس بالزمان ، بل هو بالحضور والغيبة ، وهذا القسم من التغاير مانع عن الاستصحاب ؛ لأنّ مجرى الاستصحاب هو ما كان المتيقّن والمشكوك مختلفين بالزمان ، لا بالأشخاص.

وأمّا التسرية من الموجودين إلى المعدومين ، فيمكن التمسّك فيها بالاستصحاب

٣٦

بالتقريب المتقدّم.

أو بإجرائه فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين ، ويتمّ الحكم في المعدومين بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة.

ومنها : ما اشتهر من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء.

وفيه : إنّه إن اريد نسخ كلّ حكم إلهيّ من أحكام الشريعة السابقة ، فهو ممنوع.

____________________________________

بالتقريب المتقدّم في استصحاب أحكام الشريعة السابقة واستصحاب عدم النسخ ؛ لأنّ المستصحب حكم كلّي لا مدخليّة لأشخاص الموجودين فيه أصلا ، فلو فرض الشكّ في ثبوته للمعدومين يجري الاستصحاب.

أو بإجرائه فيمن بقي من الموجودين إلى زمان وجود المعدومين نظير مدرك الشريعتين.

ويتمّ الحكم في المعدومين المعاصرين بقيام الضرورة على اشتراك أهل الزمان الواحد في الشريعة الواحدة ، وذلك بشرط اتحادهما في الصنف ، كما عرفت.

وقد أشار إلى الأمر الثاني من الامور التي تكون مانعة عن استصحاب أحكام الشريعة السابقة بقوله :

ومنها : ما اشتهر من أنّ هذه الشريعة ناسخة لغيرها من الشرائع ، فلا يجوز الحكم بالبقاء بالاستصحاب.

وفيه : إنّه إن اريد نسخ كلّ حكم إلهيّ من أحكام الشريعة السابقة ، فهو ممنوع وفاسد بالإجماع ، بل يمكن دعوى الضرورة على فساد النسخ كذلك.

وتدلّ على فساده الآيات والأخبار ، ويكفي من الآيات قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(١) الآية.

ومن الأخبار ما دلّ على حرمة شرب الخمر واللواط ونكاح المحارم في جميع الشرائع ، بل العقل يستقلّ بثبوت بعض الأحكام ، كالمستقلّات العقليّة الغير القابلة للتغيّر في جميع

__________________

(١) البقرة : ١٨٣.

٣٧

وإن اريد نسخ البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب. فإن قلت : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية ، فيعلم بوجود المنسوخ في غيره.

قلت : لو سلّم ذلك لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات ، لأنّ الأحكام المعلومة في شرعنا بالأدلّة واجبة العمل ، سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فأصالة عدم النسخ فيها غير محتاج إليها. فتبقى أصالة عدم النسخ في محلّ الحاجة سليمة عن المعارض ، لما

____________________________________

الشرائع.

وبالجملة : إن اريد بنسخ هذه الشريعة نسخ جميع الأحكام الثابتة في الشرائع السابقة ، فهو فاسد بالأدلّة الأربعة.

وإن اريد نسخ البعض فالمتيقّن من المنسوخ ما علم بالدليل ، فيبقى غيره على ما كان عليه ولو بحكم الاستصحاب على فرض الشكّ في البقاء ، وعدم دلالة الدليل الأوّل على الاستمرار ، وبالجملة أنّ نسخ البعض لا يمنع من الاستصحاب.

فإن قلت : إنّا نعلم قطعا بنسخ كثير من الأحكام السابقة ، والمعلوم تفصيلا منها قليل في الغاية ، فيعلم بوجود المنسوخ في غيره.

وحاصل الإشكال على استصحاب أحكام الشريعة السابقة ، هو أنّ العلم الإجمالي بنسخ كثير من الأحكام مانع عن الاستصحاب.

قلت :

أوّلا : لا نسلّم وجود العلم الإجمالي بوجود المنسوخ في غير ما علم نسخه تفصيلا.

وثانيا : لو سلّم ذلك لم يقدح في إجراء أصالة عدم النسخ في المشكوكات بالشكوك البدويّة بعد انحلال العلم الإجمالي ـ بالظفر بعدّة من موارد النسخ ـ إلى شكّ بدويّ في غيرها وعلم تفصيلي فيها.

وببيان آخر ، كما يظهر من المتن أنّ الاصول في أطراف العلم الإجمالي متعارض بعضها مع البعض ، فإذا لم يجر البعض يجري الآخر لكونه سليما عن المعارض ، وإليه أشار بقوله :

فتبقى أصالة عدم النسخ في محلّ الحاجة سليمة عن المعارض.

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ

٣٨

تقرّر في الشبهة المحصورة ، من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا أو لم يحتج إليه ، فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر.

ولأجل ما ذكرنا استمرّ بناء المسلمين في أوّل البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتى يطّلعوا على الخلاف ، إلّا أن يقال : إنّ ذلك كان قبل إكمال شريعتنا ، وأمّا بعده ، فقد جاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم

____________________________________

المنسوخات وإن لم تنحصر في المقدار المعلوم تفصيلا ، لكن يحتمل انحصارها فيما بين الأحكام المعلومة في شرعنا.

وحيث إنّ هذه الأحكام واجبة العمل من دون حاجة إلى أصالة عدم النسخ سواء كانت من موارد النسخ أم لا ، فيجوز إجراء أصالة عدم النسخ في موارد الحاجة ، وهي الأحكام المعلوم وجودها في الشريعة السابقة المشكوك نسخها في شرعنا.

لما تقرّر في الشبهة المحصورة ، من أنّ الأصل في بعض أطراف الشبهة إذا لم يكن جاريا لخروجه عن محلّ الابتلاء أو للاضطرار إليه أو لغير ذلك أو لم يحتج إليه ، كما في المقام لكون أحكام شرعنا واجبة العمل من دون حاجة إلى أصالة عدم النسخ.

فلا ضير في إجراء الأصل في البعض الآخر ، لكون الأصل فيه سليما عن المعارض.

ولأجل ما ذكرنا من الاستصحاب المرتكز عند العقلاء استمرّ بناء المسلمين في أوّل البعثة على الاستمرار على ما كانوا عليه حتى يطّلعوا على الخلاف ، إلّا أن يقال : إنّ ذلك ، أي : الاستصحاب كان قبل إكمال شريعتنا ، وأمّا بعده ، فقد جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بجميع ما تحتاج إليه الامّة إلى يوم القيامة ، سواء خالف الشريعة السابقة أم وافقها.

كما يدلّ عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة حجّة الوداع : ما من شيء يقرّبكم إلى الجنّة ويبعّدكم عن النار إلّا وقد أمرتكم به ، وما من شيء يبعّدكم عن الجنّة ويقرّبكم إلى النار إلّا وقد نهيتكم عنه حتى الخدش بالأظفار (١).

فالمستفاد من هذا الخبر أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جاء بجميع ما تحتاج إليه الامّة ، وقد بيّن حكم كلّ فعل وكلّ موضوع ، وما أهمل بيان شيء من الأحكام الشرعيّة.

__________________

(١) الكافي ٢ : ٧٤ / ٢. الوسائل ١٧ : ٤٥ ، أبواب مقدّمات التجارة ، ب ١٢ ، ح ٢ ، وليس فيهما عبارة (حتى الخدش بالأظفار).

٣٩

وافقها. فنحن مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا أم مخالفا ، لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين.

ولكن يدفعه : إنّ المفروض حصول الظنّ المعتبر من الاستصحاب ببقاء حكم الله السابق في هذه الشريعة ، فيظنّ بكونه ممّا جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. ولو بنينا على الاستصحاب

____________________________________

وحينئذ فنحن مكلّفون بتحصيل ذلك الحكم موافقا أم مخالفا ، لأنّه مقتضى التديّن بهذا الدين.

وحاصل الكلام في عدم جريان الاستصحاب بعد إكمال الشريعة الإسلاميّة ، هو أنّ ناسخيّة هذه الشريعة للشرائع السابقة ليست بمعنى كون أحكامها على خلاف أحكام الشرائع السابقة ، حتّى يقال بفساد النسخ بهذا المعنى بما تقدّم من الأدلّة الأربعة.

بل بمعنى تبدّل الشريعة السابقة بالشريعة اللّاحقة وإيجاب العمل بالشريعة اللّاحقة بعنوان أنّها ممّا جاء به نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وافق الحكم الأوّل أو خالفه.

غاية الأمر في صورة الموافقة يكون الحكم المجعول في الشريعة اللّاحقة مماثلا للحكم المجعول في الشريعة السابقة لا بقاء له ، فلا يبقى ـ حينئذ ـ مجال للاستصحاب ، أي : استصحاب عدم النسخ والحكم ببقاء ما كان ثابتا في الشريعة السابقة ، وذلك للقطع بارتفاع جميع أحكام الشريعة السابقة.

إذ لا يعقل ـ حينئذ ـ أن يكون في شريعتنا حكم جاء به عيسى عليه‌السلام ، كي يقال بثبوت ذلك بالاستصحاب ، وهذا غاية ما يمكن أن يقال بتقريب الإشكال في قوله : إلّا أن يقال ... الى آخره.

وقد أشار إلى دفعه بقوله :

ولكن يدفعه : إنّ المفروض حصول الظنّ المعتبر من الاستصحاب ببقاء حكم الله السابق في هذه الشريعة.

وحاصل الدفع أنّه لو قلنا بأنّ النسخ يكون بمعنى تبدّل الشريعة السابقة بالشريعة اللّاحقة لا يكون ذلك مانعا عن الاستصحاب ؛ لأنّ النسخ بالمعنى المذكور لا يوجب تقييد أحكام الشريعة السابقة بكونها ممّا جاء به عيسى عليه‌السلام حتى يكون مانعا عن الاستصحاب ، بل المستصحب هو نفس الحكم ، فيجوز ـ حينئذ ـ إثبات الحكم بالاستصحاب سواء قلنا

٤٠