دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

____________________________________

من باب الورود لوجوه :

الوجه الأوّل : أنّ ذكر اليقين ـ في قوله : ولكن تنقضه بيقين آخر (١) ـ ليس من باب كونه صفة خاصّة ، بل من باب كونه من مصاديق الحجّة ، فهو بمنزلة أن يقال : انقضه بالحجّة ، وإنّما ذكر خصوص اليقين ، لكونه أعلى أفراد الحجّة ، لكون الحجّيّة ذاتيّة له وغير مجعولة.

فخصوصيّة اليقين ممّا لا دخل له في رفع اليد عن الحالة السابقة ، بل ترفع اليد عنها مع قيام الحجّة على الارتفاع بلا فرق بين اليقين وغيره من الأمارات المعتبرة ، فموضوع الاستصحاب هو الشكّ في البقاء مع عدم قيام الحجّة على الارتفاع أو البقاء ، فمع قيام الأمارة ينتفي موضوع الاستصحاب. والورود ليس إلّا انتفاء الحكم بانتفاء موضوعه.

وفيه أنّ تصوّر هذا المعنى وإن كان صحيحا في مقام الثبوت ، إلّا أنّ مقام الإثبات لا يساعد عليه ، إذ ظاهر الدليل كون خصوص اليقين موجبا لرفع اليد عن الحالة السابقة وكون اليقين مأخوذا من باب الطريقيّة مسلّم ، إلّا أنّ ظاهر الدليل كون هذا الطريق الخاصّ ناقضا للحالة السابقة.

الوجه الثاني : أنّ المحرّم هو نقض اليقين استنادا إلى الشكّ على ما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ (٢) ، ومع قيام الأمارة لا يكون النقض مستندا إلى الشكّ ، بل الأمارة ، فيخرج عن حرمة النقض خروجا موضوعيا وهو معنى الورود.

وفيه : أوّلا : أنّ دليل الاستصحاب لا يساعد على هذا المعنى ، إذ ليس المراد من قوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ حرمة نقض اليقين من جهة الشكّ واستنادا إليه ، بحيث لو كان رفع اليد عن الحالة السابقة بداع آخر ، كإجابة دعوة مؤمن مثلا لم يحرم النقض ، بل المراد حرمة نقض اليقين عند الشك بأيّ داع كان.

وثانيا : أنّ المراد من الشكّ خلاف اليقين ، كما ذكرناه سابقا واختاره صاحب الكفاية رحمه‌الله أيضا ، فيكون مفاد الرواية عدم جواز النقض بغير اليقين ووجوب النقض باليقين. والنتيجة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، والوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، والوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٢٦١

لكنّ الشأن في أنّ العمل به من باب تخصيص أدلّة الاستصحاب أو من باب التخصّص.

الظاهر أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور على أدلّة الاستصحاب ، وليس تخصيصا بمعنى رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض الموارد ، كما ترفع اليد عنها في مسألة الشكّ بين الثلاث والأربع ونحوها بما دلّ على وجوب البناء على الأكثر.

____________________________________

حصر الناقض في اليقين ، فيكون مورد قيام الأمارة مشمولا لحرمة النقض ، لعدم كونها مفيدة لليقين على الفرض.

الوجه الثالث ـ : أنّ رفع اليد ـ عن المتيقّن السابق لقيام الأمارة على ارتفاعه ـ ليس إلّا لأجل اليقين بحجّيّة الأمارة ، إذ الامور الظنّيّة لا بدّ وأن تنتهي إلى العلم ، وإلّا يلزم التسلسل ، وقد ذكرنا عند التعرّض لحرمة العمل بالظنّ : أنّ المراد حرمة العمل بما لا يرجع بالآخرة إلى العلم ، إمّا لكونه بنفسه مفيدا للعلم وإمّا للعلم بحجّيّته ، فبعد العلم بحجّيّة الأمارات يكون رفع اليد عن المتيقّن السابق لأجل قيام الأمارة من نقض اليقين باليقين ، فلا يبقى موضوع للاستصحاب.

وفيه : انّ ظاهر قوله : عليه‌السلام : ولكن تنقضه بيقين آخر (١) كون اليقين الثاني متعلّقا بارتفاع ما تعلّق بحدوثه اليقين الأوّل ، ليكون اليقين الثاني ناقضا لليقين الأوّل.

بل بعض الأخبار صريح في هذا المعنى ، وهو قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة : لا حتى يستيقن أنّه قد نام (٢) فجعل فيه الناقض لليقين بالطهارة اليقين برفعها وهو النوم ، وليس اليقين الثاني في مورد قيام الأمارة متعلّقا بارتفاع ما تعلّق به اليقين الأوّل ، بل بشيء آخر وهو حجّيّة الأمارات ، فلا يكون مصداقا لنقض اليقين باليقين ، بل من نقض اليقين بغير اليقين.

فتحصّل مما ذكرناه في المقام أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب لا بدّ من أن يكون من باب الحكومة. انتهى. وقد اختاره المصنف قدس‌سره حيث قال :

الظاهر أنّه من باب حكومة أدلّة تلك الامور على أدلّة الاستصحاب ، وليس تخصيصا بمعنى رفع اليد عن عموم أدلّة الاستصحاب في بعض الموارد ، كما ترفع اليد عنها في مسألة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٢٦٢

ولا تخصّصا بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب ، لأن هذا

____________________________________

الشكّ بين الثلاث والأربع ونحوها بما دلّ على وجوب البناء على الأكثر.

والقول بتقديم الأمارات على الاصول ومنها الاستصحاب من باب التخصيص يظهر من جماعة منهم صاحب الرياض ، حيث قال بأنّ الأمارات تتقدّم على الاصول بعنوان التخصيص.

وتقريره على ما في شرح الاعتمادي أنّ النسبة بين الأمارة والاستصحاب مثلا من حيث المورد وإن كانت هي العموم من وجه ، إذ قد يكون المورد مجرى الاستصحاب ولا توجد فيه أمارة مخالفة ، وقد يكون بالعكس ، وقد يجتمعان كما في الشيء المسبوق بالطهارة الذي قامت البيّنة على نجاسته ، إلّا أنّ الأمارة بمنزلة الخاصّ المطلق والاستصحاب بمنزلة العام المطلق.

لأنهم قالوا بعدم الفصل في اعتبار الأمارة وعدمه بين مورد تعارضها مع الأصل وغيره ، فلو لم تكن معتبرة في مورد التعارض لم تكن معتبرة في غيره أيضا ، فيلزم طرحها رأسا ، وأمّا طرح الاستصحاب في مورد التعارض لا يستلزم طرحه في مادّة افتراقه ، فلا بدّ من تخصيص الاستصحاب بالأمارة كما خصّص استصحاب عدم اتيان الأكثر بوجوب البناء على الاكثر عند الشكّ في الركعات.

وفيه : أوّلا : أنّ تقديم الدليل الاجتهادي على الأصل لا بدّ من أن يكون من باب الورود أو الحكومة ، لما عرفت غير مرّة من أنّ الدليل يخرج الشيء عن موضوع الأصل فلا يعقل التخصيص ؛ لأنه رفع الحكم عمّا هو داخل في موضوع العامّ.

وثانيا : أنّ ظاهر أدلّة اعتبار الأمارات حكومتها على الاصول. كما يأتي.

ولا تخصّصا ليس المراد به خروج المورد بالذات عن مورد الاستصحاب كما هو المعنى الاصطلاحي الظاهر منه ، بل المراد منه خروجه بعد ملاحظة ورود الدليل عن مورد الاستصحاب ، فيكون المراد بالتخصّص هو الورود ، وهو أن يكون وجود أحد الدليلين مخرجا للشيء عن موضوع الدليل الآخر ، كما أشار إليه بقوله :

بمعنى خروج المورد بمجرّد وجود الدليل عن مورد الاستصحاب.

فحاصل الكلام ، هو أنّ تقدّم الأمارات الظنّية على الاصول ليس من باب الورود ، لأن

٢٦٣

مختصّ بالدليل العلمي المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب.

____________________________________

هذا مختصّ بالدليل العلمي المزيل وجوده للشكّ المأخوذ في مجرى الاستصحاب.

وكيف كان ، فتقريب كون تقديم الأمارة على الاستصحاب من باب الحكومة يحتاج إلى بيان الفرق بين هذه العناوين ، أعني : التخصيص والورود والحكومة.

وملخّص الفرق على ما في تقرير سيّدنا الاستاذ دام ظله ، هو أنّ التخصيص هو رفع الحكم عن الموضوع بلا تصرّف في الموضوع ، كقوله عليه‌السلام : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيع الغرر (١) ، فإنّه تخصيص لقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)(٢) ، لكونه رافعا للحلّيّة بلا تصرّف في الموضوع ، بأن يقال : البيع الغرري ليس بيعا مثلا.

ويقابله التخصّص مقابلة تامّة ، إذ هو عبارة عن الخروج الموضوعي التكويني الوجداني بلا إعمال دليل شرعي ، كما إذا أمر المولى بوجوب إكرام العلماء ، فالجاهل خارج عنه خروجا موضوعيا تكوينيّا بالوجدان بلا احتياج إلى دليل شرعي ، وما بين التخصيص والتخصّص أمران متوسّطان : وهما الورود والحكومة.

أمّا الورود ، فهو عبارة عن انتفاء الموضوع بالوجدان لنفس التعبّد لا لثبوت المتعبّد به ، وإن كان ثبوته لا ينفكّ عن التعبّد ، إلّا أنّ ثبوته إنّما هو بالتعبّد.

وأمّا نفس التعبّد ، فهو ثابت بالوجدان لا بالتعبّد ، وإلّا يلزم التسلسل ، وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الاصول العقليّة ، كالبراءة العقليّة والاحتياط العقلي والتخيير العقلي ، فإنّ موضوع البراءة العقليّة عدم البيان. وبالتعبّد يثبت البيان وينتفي موضوع حكم العقل بالبراءة بالوجدان.

وموضوع الاحتياط العقلي احتمال العقاب. وبالتعبّد الشرعي وقيام الحجّة الشرعيّة يرتفع احتمال العقاب ، فلا يبقى موضوع للاحتياط العقلي.

وموضوع التخيير العقلي عدم الرجحان مع كون المورد ممّا لا بدّ فيه من أحد الأمرين ، كما إذا علم بتحقّق الحلف مع الشكّ في كونه متعلّقا بفعل الوطء أو تركه ، فإنّه لا بدّ من الفعل أو الترك ، لاستحالة ارتفاع النقيضين كاجتماعهما ، ومع قيام الأمارة على أحدهما

__________________

(١) عيون الأخبار ٢ : ٤٥ / ١٦٨ ، والوسائل ١٧ : ٤٤٨ ، أبواب آداب التجارة ، ب ٤٠ ، ح ٣.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

٢٦٤

____________________________________

يحصل الرجحان وينتفي موضوع حكم العقل بالتخيير وجدانا.

وأمّا الحكومة ، فهي عبارة عن انتفاء الموضوع لثبوت المتعبّد به بالتعبّد الشرعي ، وذلك كالأمارات بالنسبة إلى الاصول الشرعيّة التي منها الاستصحاب ، فإنّه بعد ثبوت ارتفاع المتيقّن السابق بالتعبّد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب ، إذ موضوعه الشكّ وقد ارتفع تعبّدا ، وإن كان باقيا وجدانا لعدم كون الأمارة مفيدة للعلم على الفرض.

وكذا سائر الاصول الشرعيّة ، فإنّه بعد كون الأمارة علما تعبّديا لما في تعبير الأئمّة عليهم‌السلام عمّن قامت عنده الأمارة بالعارف والفقيه والعالم لا يبقى موضوع لأصل من الاصول الشرعيّة تعبّدا.

فتحصّل ممّا ذكرناه أنّ تقديم الأمارات على الاستصحاب ليس من باب الورود ، إذ بمجرّد ثبوت التعبّد بالأمارة لا يرتفع موضوع التعبّد بالاستصحاب ، لكونه الشكّ وهو باق بعد قيام الأمارة على الفرض ، بل تقديمها عليه إنّما هو من باب الحكومة التي مفادها عدم المنافاة حقيقة بين الدليل الحاكم والمحكوم عليه.

توضيح ذلك : إنّ القضايا الحقيقيّة متكفلة لإثبات الحكم على تقدير وجود الموضوع ، وليست متعرّضة لبيان وجود الموضوع نفيا وإثباتا ، بلا فرق بين كونها من القضايا الشرعيّة أو العرفيّة ـ إخباريّة كانت أو إنشائيّة ـ فإنّ مفاد قولنا : الخمر حرام ، إثبات الحرمة على تقدير وجود الخمر.

وأمّا كون هذا المائع خمرا أو ليس بخمر ، فهو أمر خارج عن مدلول الكلام. وحيث إنّ دليل الحاكم شأنه التصرّف في الموضوع ، فلا منافاة بين الدليل الدالّ على حرمة الخمر ، والدليل الدالّ على أنّ هذا المائع ليس بخمر.

وكذا لا منافاة بين قوله تعالى : (وَحَرَّمَ الرِّبا)(١) وبين قوله عليه‌السلام : لا ربا بين الوالد والولد (٢).

__________________

(١) البقرة : ٢٧٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٤٧ / ١ ، والوسائل ١٨ : ١٣٥ ، أبواب الربا ، ب ٧ ، ح ١. والحديث فيهما : (ليس بين الرجل وولده ربا).

٢٦٥

[معنى حكومة دليل على دليل آخر] ومعنى الحكومة ـ على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح ـ أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم.

____________________________________

إذ مفاد الأوّل ثبوت الحرمة على تقدير وجود الربا ومفاد الثاني عدم وجوده ، وبعد انتفاء الربا بينهما بالتعبّد الشرعي تنتفي الحرمة لا محالة.

وكذا لا منافاة بين أدلّة الاستصحاب والأمارة القائمة على ارتفاع الحالة السابقة ، فإنّ مفاد أدلّة الاستصحاب هو الحكم بالبقاء على تقدير وجود الشك فيه ، ومفاد الأمارة هو الارتفاع وعدم البقاء ، وبعد ثبوت الارتفاع بالتعبّد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب.

ولا فرق في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الأمارة بين كونها قائمة على ارتفاع الحالة السابقة أو على بقائها ، إذ بعد ارتفاع الشكّ بالتعبّد الشرعي لا يبقى موضوع للاستصحاب في الصورتين ، فكما لا مجال لجريان استصحاب النجاسة بعد قيام الأمارة على الطهارة ، فكذا لا مجال لجريانه بعد قيام البيّنة على بقاء النجاسة. هذا تمام الكلام فيما أفاده سيّدنا الاستاذ في هذا المقام.

والمتحصّل من الجميع ، هو كون تقديم الأمارة على الاستصحاب من باب الحكومة ، كما هو مختار المصنف قدس‌سره.

ومعنى الحكومة ـ على ما سيجيء في باب التعارض والتراجيح ـ أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم.

وحاصل الكلام أنّ معنى الحكومة هو كون أحد الدليلين بدلالته اللفظيّة ناظرا إلى حال الدليل الآخر ، أي : شارحا ومفسّرا له ، بحيث لو لا الدليل المحكوم لكان الدليل الحاكم لغوا.

ثمّ إنّ الحاكم قد يفسّر المحكوم بإخراج شيء من موضوعه ، أي : بتضييق موضوعه ، وقد يفسّره بإدخال شيء في موضوعه ، أي : بتوسيع موضوعه على ما في شرح الاعتمادي.

وقد أشار إلى الأوّل بقوله : أن يحكم الشارع في ضمن دليل بوجوب رفع اليد عمّا يقتضيه الدليل الآخر لو لا هذا الدليل الحاكم.

٢٦٦

أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم ، وسيجيء توضيحه إن شاء الله تعالى.

وحاصله : تنزيل شيء خارج عن موضوع دليل منزلة ذلك الموضوع في ترتيب أحكامه عليه ، أو داخل في موضوع منزلة الخارج منه في عدم ترتيب أحكامه عليه ، وقد اجتمع كلا الاعتبارين في حكومة الأدلّة الغير العلميّة على الاستصحاب مثلا.

ففي ما نحن فيه إذا قال الشارع : «اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك» ـ والمفروض أنّ الشكّ موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب ، فإنّ الشارع جعل الاحتمال المخالف للبيّنة كالعدم ـ فكأنّه قال : لا تحكم على هذا الشكّ بحكمه المقرّر في قاعدة الاستصحاب وافرضه كالمعدوم.

____________________________________

وذلك كحكم الشارع بوجوب رفع اليد عمّا دلّ على وجوب البناء على الأكثر في الشكّ في عدد الركعات بقوله : لا شكّ لكثير الشكّ (١) ، فيخرج شكّ كثير الشكّ عن موضوع الدليل الأوّل ، أعني : وجوب البناء على الأكثر ، بحيث لو لا الدليل الثاني لكان مقتضى الدليل الأوّل هو البناء على الأكثر ، حتى مع كثرة الشكّ.

وكذلك لو لا الدليل الأوّل ـ الذي يثبت للشكّ حكما في الشرع ، أعني : وجوب البناء على الأكثر ـ لكان الدليل الثاني لغوا ، فالدليل الثاني حاكم على الدليل الأوّل بنحو التضييق.

وقد أشار إلى الثاني بقوله : أو بوجوب العمل في مورد بحكم لا يقتضيه دليله لو لا الدليل الحاكم.

وذلك كقول الشارع : الخمر حرام ، حيث يكون ظاهره اختصاص الحرمة بالمائع المسكر المتّخذ من العنب ، ثمّ قوله فرضا : الفقاع خمر ، حاكم على الدليل الأوّل بنحو التوسعيّة ، حيث يدخل الفقاع بالدليل الثاني في موضوع الدليل الأوّل ، ولو لا الدليل الأوّل المثبت للخمر حكما شرعا لكان الدليل الثاني لغوا.

ففي ما نحن فيه إذا قال الشارع : «اعمل بالبيّنة في نجاسة ثوبك» ، والمفروض أنّ الشكّ موجود مع قيام البيّنة على نجاسة الثوب.

فإنّ الشارع حكم في دليل وجوب العمل بالبيّنة برفع اليد عن آثار الاحتمال المخالف

__________________

(١) هناك أخبار كثيرة تدلّ على عدم الاعتناء بكثرة الشكّ. منها : الكافي ٣ : ٣٥٨ / ٢ ، والاستبصار ١ : ٣٧٤ / ١٤٢٢ ، والوسائل ٨ : ٢٢٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٦ ، ح ٢ ، ح ٤.

٢٦٧

وربّما يجعل العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص ، بناء على أنّ المراد من الشكّ عدم الدليل والطريق والتحيّر في العمل ، ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة.

____________________________________

للبيّنة التي منها استصحاب الطهارة.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ ، وبديهيّ أنّه لا يرتفع بقيام البيّنة ، فإذا كان الثوب طاهرا فشكّ في بقاء طهارته وقامت البيّنة على نجاسته ، فمقتضى أدلّة الاستصحاب لو لا دليل اعتبار البيّنة إجراء الاستصحاب حتى مع قيام البيّنة على الخلاف.

إلّا أنّ معنى اعتبار البيّنة على النجاسة تنزيل لمؤدّاها منزلة الواقع ، ومعناه عدم الاعتناء باحتمال الخلاف ، أي : احتمال بقاء الطهارة ، ولازمه عدم إجراء استصحاب الطهارة ، فدليل البيّنة مفسّر لدليل الاستصحاب بتضييق موضوعه وهو الشكّ ، بمعنى أنّ الشكّ مع البيّنة ليس بشكّ ، وتوسيع غايته وهو العلم بالنقض بمعنى أنّ البيّنة علم فنقض اليقين السابق بها ليس نقض اليقين بالشكّ.

ومعلوم أنّه لو لم يحكم الشارع بالاستصحاب عند احتمال بقاء الطهارة مثلا المعبّر عنه باحتمال الخلاف ، لكان دليل البيّنة الدالّ على إلغاء احتمال الخلاف لغوا ، وقد عرفت أنّ حكومة الأمارات لا تختصّ بالاستصحاب ، بل أنّها حاكمة على جميع الاصول الشرعيّة.

وربّما يجعل ، كما يظهر من جمع من المتأخّرين منهم صاحب الفصول على ما في شرح الاعتمادي.

العمل بالأدلّة في مقابل الاستصحاب من باب التخصّص بمعنى الورود لا التخصّص بمعناه الاصطلاحي.

والظاهر أنّ التخصيص كما في بعض النسخ خطأ من الناسخ أو المطبعة.

وكيف كان ، فقد يظهر من جمع أنّ تقديم الأدلّة على الاستصحاب من باب الورود ، وذلك بناء على أنّ المراد من الشكّ الذي هو موضوع الاستصحاب ليس هو عدم العلم الذي لا يرتفع إلّا بالعلم ، بل هو عدم الدليل والطريق والتحيّر في العمل.

ومن المعلوم أنّ الموضوع بالمعنى المذكور يرتفع وجدانا مع الدليل والطريق على

٢٦٨

وإن شئت قلت : إنّ المفروض دليل قطعي الاعتبار ، فنقض الحالة السابقة به نقض باليقين.

وفيه : أنّه لا يرتفع التحيّر ولا يصير الدليل الاجتهادي قطعي الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب ، إلّا بعد إثبات كون مؤدّاه حاكما على مؤدّى الاستصحاب ،

____________________________________

الحكم ، كما أشار إليه بقوله :

ومع قيام الدليل الاجتهادي لا حيرة. كيف تبقى الحيرة مع أنّه موظف بالعمل بالدليل الاجتهادي ...؟! وبالجملة أنّ موضوع الاستصحاب يرتفع بالوجدان والتكوين بعد تعبّد الشارع بالأدلّة ، وهذا هو معنى الورود.

وإن شئت قلت : إنّ المفروض دليل قطعيّ الاعتبار ، فنقض الحالة السابقة به نقض باليقين.

وحاصل تقريب الوجه الثاني للورود ، هو أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ بمعنى عدم العلم والمراد من العلم الوجداني الواقعي ومن العلم التعبّدي الظاهري ، فيرتفع موضوع الاستصحاب بقيام البيّنة على خلاف الحالة السابقة.

فالفرق بين هذا الوجه والوجه السابق هو أنّ موضوع الاستصحاب في الوجه السابق هو عدم الدليل ، فيرتفع بوجود الدليل ، وفي هذا الوجه عدم العلم بمعنى الأعمّ من العلم الوجداني والتعبّدي ، فيرتفع الموضوع بمطلق العلم ، والدليل الاجتهادي علم تعبّدا.

فقوله : إن شئت قلت دليل آخر للحكم بالورود لا أنّه عبارة اخرى عن الوجه والدليل الأوّل.

وفيه : أنّه لا يرتفع التحيّر.

كان الأولى أن يقول : إنّ موضوع الاستصحاب ليس هو التحيّر كي يرتفع بالدليل الاجتهادي ، إذ ارتفاع التحيّر مع الدليل أمر بديهي ، بل موضوع الاستصحاب هو الشكّ بمعنى عدم العلم ، ثمّ المراد باليقين الرافع للاستصحاب هو اليقين بخلاف الحالة السابقة لا اليقين باعتبار الأمارة المخالفة للحالة السابقة ، إذ لا يصير الدليل الاجتهادي قطعي الاعتبار في خصوص مورد الاستصحاب إلّا بعد إثبات كون مؤدّاه حاكما على الاستصحاب.

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ كون البيّنة الظنّية

٢٦٩

وإلّا أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة أم لا ، ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة أم لا. ولا تندفع مغالطة هذا الكلام إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب لا يخلو عن مسامحة ، لأن مرجع ذلك بظاهره إلى عدم

____________________________________

واردا على استصحاب الطهارة مثلا ـ إمّا بعنوان أنّه إذا جاء الدليل يرتفع عدم الدليل ، كما عرفت في الوجه الأوّل ، وإمّا بعنوان أنّه إذا جاء العلم الظاهري يرتفع عدم العلم ، كما في الوجه الثاني ـ موقوف على حجّيّة البيّنة حتى في مادّة تعارضها مع الاستصحاب ، وهذه لم تثبت إلّا بكون دليل اعتبارها حاكما على دليل الاستصحاب ، فحينئذ يكون تقديمها عليه من باب الحكومة كما هو الحقّ لا من باب الورود.

وإلّا أمكن أن يقال : إنّ مؤدّى الاستصحاب وجوب العمل على الحالة السابقة مع عدم اليقين بارتفاعها ، سواء كان هناك الأمارة الفلانيّة أم لا ، ومؤدّى دليل تلك الأمارة وجوب العمل بمؤدّاه ، خالف الحالة السابقة أم لا.

والحاصل على ما في شرح الاعتمادي أنّه لو لا استفادة الحكومة من دليل اعتبار الأمارات لم يكن وجه لتقديم الأمارة على الاستصحاب في مادّة تعارضهما ؛ لأن عموم دليل الاستصحاب يقتضي اعتباره حتى مع وجود الأمارة على خلافه ، وعموم دليل الأمارة يقتضي اعتبارها حتى مع وجود الاستصحاب على خلافها ، فتقديم كلّ منهما على الآخر ترجيح بلا مرجّح.

ولا تندفع مغالطة هذا الكلام إلّا بما ذكرنا من طريق الحكومة.

أي : حكومة الأمارات على الاستصحاب ، فينتفي التعارض بينهما لعدم التعارض بين الحاكم والمحكوم.

وكيف كان ، أي : تقديم الأمارة على الاستصحاب من باب الورود أو الحكومة ، فجعل بعضهم عدم الدليل الاجتهادي على خلاف الحالة السابقة من شرائط العمل بالاستصحاب لا يخلو عن مسامحة.

٢٧٠

المعارض لعموم «لا تنقض» كما في مسألة البناء على الأكثر ، لكنّه ليس مراد هذا المشترط قطعا ، بل مراده عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة.

____________________________________

بل كان الأولى أن يشترط في العمل بالاستصحاب عدم الدليل الاجتهادي على رفع الحالة السابقة.

لأن مرجع ذلك بظاهره إلى عدم المعارض لعموم «لا تنقض» كما في مسألة البناء على الأكثر.

توضيح المطلب على ما في شرح الاعتمادي أنّ الدليل المقابل للاستصحاب على قسمين :

أحدهما : ما يدلّ على خلاف الحالة السابقة ظاهرا ، كدليل وجوب البناء على الأكثر المخالف لعدم إتيان الأكثر ، وكدليل جواز تقسيم أموال المفقود بعد الفحص أربع سنين المخالف للحياة ، ومثل هذا الدليل على تقدير تماميّته عندهم يكون مخصّصا للاستصحاب الذي هو ـ أيضا ـ حكم ظاهري.

ثانيهما : ما يدلّ على رفع الحالة السابقة واقعا ، كما إذا اقتضى الاستصحاب طهارة شيء أو حياة زيد ، وقامت البيّنة على طروّ النجاسة أو الممات ، وهذا يكون واردا أو حاكما على الاستصحاب على ما عرفت التفصيل فيه حسب الأقوال.

وظاهر كلام المشترط حيث قال : شرط العمل بالاستصحاب عدم الدليل على خلاف الحالة السابقة هو إرادة القسم الأوّل.

لكنّه ليس مراد هذا المشترط قطعا ؛ لأن الخاصّ الدالّ ظاهرا على خلاف الحالة السابقة المعارض لعموم «لا تنقض» إن كان تامّا بحيث يصلح لتخصيص مثل عموم «لا تنقض» كدليل وجوب البناء على الأكثر يكون مانعا عن الاستصحاب.

إلّا أنّ هذا الشرط لا يختصّ بالاستصحاب ؛ لأن العمل بكلّ عامّ مشروط بانتفاء المخصّص المعتبر ، وإن لم يكن تامّا كذلك كدليل جواز التقسيم عند بعضهم فلا يكون مانعا عن الاستصحاب.

بل مراده هو القسم الثاني ، أعني : عدم الدليل على ارتفاع الحالة السابقة ، لما عرفت من أنّ الدليل الاجتهادي الدالّ على ارتفاع الحالة السابقة واقعا وارد أو حاكم على

٢٧١

ولعلّ ما أورده عليه المحقّق القميّ قدس‌سره ـ من : «أنّ الاستصحاب أيضا أحد من الأدلّة ، فقد يرجّح عليه الدليل وقد يرجّح على الدليل ، وقد لا يرجّح أحدهما على الآخر. قال قدس‌سره : «ولذا ذكر بعضهم في مال المفقود أنّه في حكم ماله حتى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة ، المعمول بها عند بعضهم ، بل عند جمع من المحقّقين ، الدالّة على وجوب الفحص أربع سنين» ـ مبنيّ على ظاهر كلامه ، من إرادة العمل بعموم «لا تنقض».

وأمّا على ما جزمنا به ـ من أنّ مراده عدم ما يدلّ علما أو ظنّا على ارتفاع الحالة السابقة ـ فلا وجه لورود ذلك ، لأن الاستصحاب إن اخذ من باب التعبّد ، فقد عرفت حكومة أدلة

____________________________________

الاستصحاب.

ولعلّ ما أورده عليه ـ أي : على المشترط المذكور ـ المحقّق القمّيّ قدس‌سره من : أنّ الاستصحاب أيضا أحد من الأدلّة ، فقد يرجّح عليه الدليل ، كترجيح وجوب البناء على الأكثر على استصحاب عدم إتيان الأكثر.

وقد يرجّح على الدليل ، أعني : قد يرجّح الاستصحاب على الدليل ، كما في مثال التقسيم المتقدّم عند بعض.

وقد لا يرجّح أحدهما على الآخر ، بأن يتوقف في ترجيح الاستصحاب على دليل جواز التقسيم فرضا ، كما أشار إليه بقوله :

ولذا ـ أي : لإمكان ترجيح الاستصحاب على دليل جواز التقسيم ـ ذكر بعضهم في مال المفقود أنّه في حكم ماله ، فلا يجوز تقسيمه بين الورثة.

حتى يحصل العلم العادي بموته استصحابا لحياته ، مع وجود الروايات المعتبرة ، المعمول بها عند بعضهم ، بل عند جمع من المحقّقين ، الدالّة على وجوب الفحص أربع سنين.

والحاصل أنّ ما أورده المحقّق القمّي على هذا المشترط مبنيّ على ظاهر كلامه ، من إرادة العمل بعموم «لا تنقض». وأنّ العمل به مشروط بعدم المخصّص. فيردّ عليه بأنّ العموم قد يتقدّم على المخصّص كما مرّ. فلا يكون العمل به مشروطا بعدم المخصّص مطلقا.

وأمّا على ما جزمنا به ـ من أنّ مراده عدم ما يدلّ علما أو ظنّا على ارتفاع الحالة السابقة

٢٧٢

جميع الأمارات الاجتهاديّة على دليله ، وإن اخذ من باب الظنّ فالظاهر أنّه لا تأمّل لأحد في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ عدم وجود أمارة في مورده على خلافه. ولذا ذكر العضدي في دليله : «أنّ ما كان سابقا ولم يظنّ عدمه فهو مظنون البقاء».

ولما ذكرنا لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له بعد اعترافه بحجّيّتها لو لا الاستصحاب ، لا في الأحكام ولا في الموضوعات. وأمّا ما استشهد به قدس‌سره ـ من

____________________________________

ـ فلا وجه لورود ذلك ، لأن الاستصحاب إن اخذ من باب التعبّد ، فقد عرفت حكومة أدلة جميع الأمارات الاجتهاديّة على دليله.

فلا يوجد مورد يترجّح فيه الاستصحاب على الدليل أو لا يترجّح أحدهما على الآخر ، بل دائما يتقدّم الدليل على الاستصحاب من باب الحكومة.

وإن اخذ من باب الظنّ فالظاهر أنّه لا تأمّل لأحد في أنّ المأخوذ في إفادته للظنّ عدم وجود أمارة في مورده على خلافه.

بمعنى أنّهم اعتبروه من باب الظنّ واعتبروا عدم قيام أمارة معتبرة على خلافه.

توضيح ذلك ـ على ما في شرح الاعتمادي دام ظله ـ أنّ بعضهم اعتبر الاستصحاب من باب الظنّ الشخصي ، فعليه إذا اقتضى الاستصحاب طهارة شيء مثلا وقامت البيّنة على نجاسته ، فإن منعت البيّنة عن حصول الظنّ من الاستصحاب تكون واردة عليه ، وإلّا تكون حاكمة لما سنذكره.

وبعضهم اعتبره من باب الظنّ النوعي ، فعليه تكون البيّنة حاكمة على الاستصحاب لما سنذكره. وبعضهم اعتبره من باب الظنّ النوعي مع عدم قيام ظنّ على خلافه ، فعليه إن أفادت البيّنة الظنّ الشخصي بالخلاف تكون ـ أيضا ـ واردة عليه ، وإلّا تكون حاكمة.

والوجه أنّ كلّ من قال باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ بأحد الوجوه الثلاثة المذكورة ، لاحظ عدم قيام أمارة معتبرة على خلافه.

ولما ذكرنا لم نر أحدا من العلماء قدّم الاستصحاب على أمارة مخالفة له بعد اعترافه بحجّيّتها لو لا الاستصحاب.

أي : لم نر أحدا ممّن اعترف باعتبار البيّنة في صورة عدم معارضتها مع الاستصحاب قدّم الاستصحاب عليها.

٢٧٣

عمل بعض الأصحاب بالاستصحاب في مال المفقود وطرح ما دلّ على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده ـ فلا دخل له بما نحن فيه ، لأن تلك الأخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ، وإنّما المقابل له قيام دليل معتبر على موته.

وهذه الأخبار على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلّة الاستصحاب ، دالّة على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ، نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشكّ في عدد الركعات ، فمن عمل بها خصّص بها عمومات الاستصحاب ، ومن طرحها لقصور

____________________________________

لا في الأحكام ، كما إذا اقتضى الاستصحاب بقاء الطهارة وقام الخبر الصحيح على كون المذي ناقضا للطهارة ، كما في شرح الاعتمادي. إلّا أنّ كلام المصنف قدس‌سره هذا ينافي ما تقدّم من المحقّق القمّي ، حيث قال بأنّ الاستصحاب قد يرجّح على الدليل فتنبّه عليه ، وأشار إلى دفعه بقوله :

وأمّا ما استشهد به قدس‌سره ـ أعني : المحقّق القمّي ـ من عمل بعض الأصحاب بالاستصحاب في مال المفقود وطرح ما دلّ على وجوب الفحص أربع سنين والحكم بموته بعده.

فهو داخل في مسألة قيام الدليل على خلاف الحالة السابقة ظاهرا المعارض لعموم «لا تنقض» ، نظير دليل وجوب البناء على الأكثر.

فلا دخل له بما نحن فيه ، أي : قيام الدليل على ارتفاع الحالة السابقة واقعا.

لأن تلك الأخبار ليست أدلّة في مقابل استصحاب حياة المفقود ، وإنّما المقابل له قيام دليل معتبر على موته.

كما إذا قامت البيّنة على موت المفقود ، فإنّها دليل في مقابل استصحاب الحياة ، بمعنى أنّها تدلّ على ارتفاع الحالة السابقة واقعا ، فتكون حاكمة عليه.

وأمّا أخبار جواز التقسيم ، فهي لا تدلّ على ارتفاع الحالة السابقة ، بل تدلّ على مجرّد ترتيب آثار الموت ظاهرا ، فهي مخالفة للحالة السابقة ومخصّصة لعموم «لا تنقض» ، كما في شرح الاعتمادي ، وقد أشار إليه بقوله :

وهذه الأخبار على تقدير تماميّتها مخصّصة لعموم أدلّة الاستصحاب ، دالّة على وجوب البناء على موت المفقود بعد الفحص ، نظير ما دلّ على وجوب البناء على الأكثر مع الشكّ

٢٧٤

فيها بقي أدلّة الاستصحاب عنده على عمومها.

ثمّ المراد بالدليل الاجتهادي كلّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث إنها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة ، وتسمّى في نفس الأحكام : أدلّة اجتهاديّة ، وفي الموضوعات : أمارات معتبرة.

فما كان ممّا نصبه الشارع غير ناظر إلى الواقع أو كان ناظرا ، لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع ، فليس اجتهاديّا ، بل هو من الاصول ، وإن كان مقدّما على بعض الاصول الأخر.

والظاهر أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل ، ومصاديق الأدلّة والأمارات في

____________________________________

في عدد الركعات ، فمن عمل بها خصّص بها عمومات الاستصحاب ، ومن طرحها لقصور فيها دلالة أو سندا بحيث لا تصلح لتخصيص عمومات الاستصحاب.

بقي أدلّة الاستصحاب عنده على عمومها.

ثمّ المراد بالدليل الاجتهادي كلّ أمارة اعتبرها الشارع من حيث إنّها تحكي عن الواقع وتكشف عنه بالقوّة.

وحاصل الكلام أنّ الدليل الاجتهادي ما يكون ناظرا إلى الواقع ويكشف عنه ظنّا بالظنّ الشخصي أو النوعي ، وإن لم يفد ظنّا في واقعة ، كما أشار إليه بقوله :

وتكشف عنه بالقوّة ، أي : فيه قوّة الكشف عن الواقع ظنّا وإن لم يفده فعلا في مورد خاصّ ، وكان ملاك اعتباره كونه ناظرا إلى الواقع في مقابل الأصل ، حيث لا يكون الملاك في اعتباره كونه ناظرا إلى الواقع ، ولو كان ناظرا إليه كالاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

فما كان ممّا نصبه الشارع غير ناظرا إلى الواقع ، كأصالة البراءة والاحتياط والتخيير أو كان ناظرا ، لكن فرض أنّ الشارع اعتبره لا من هذه الحيثيّة ، بل من حيث مجرّد احتمال مطابقته للواقع.

كالاستصحاب ، فإنّه وإن كان ناظرا إلى الواقع مفيدا للظن ببقاء ما كان ، إلّا أنّه بناء على اعتباره من باب الأخبار إنّما اعتبره الشارع لمجرّد احتمال المطابقة.

فليس اجتهاديّا ، بل هو من الاصول ، وإن كان مقدّما على بعض الاصول الأخر ، كتقديم الاستصحاب على البراءة مثلا.

٢٧٥

الأحكام والموضوعات واضحة غالبا ، وقد تختفي ، فيتردّد الشيء بين كونه دليلا وبين كونه أصلا ، لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا إلى الواقع ، أو من حيث هو كما في كون اليد المنصوبة دليلا على الملك ، وكذلك أصالة الصحّة عند الشكّ في عمل نفسه بعد الفراغ ، وأصالة الصحّة في عمل الغير.

وقد يعلم عدم كونه ناظرا إلى الواقع وكاشفا عنه وأنّه من القواعد التعبّديّة ، لكن تختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب ، لأنا قد ذكرنا أنّه قد يكون الشيء الغير الكاشف منصوبا من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع ، إلّا أنّ الاختفاء في تقديم

____________________________________

والظاهر أنّ الاستصحاب والقرعة من هذا القبيل ، أي : من قبيل ما كان ناظرا إلى الواقع ، إلّا أنّ الشارع لم يعتبرهما من جهة الكشف ، بل اعتبرهما من جهة احتمال المطابقة للواقع.

ومصاديق الأدلّة والأمارات في الأحكام والموضوعات واضحة غالبا ، وقد تختفي ، فيتردّد الشيء بين كونه دليلا وبين كونه أصلا ، لاختفاء كون اعتباره من حيث كونه ناظرا إلى الواقع ، أو من حيث هو كما في كون اليد المنصوبة دليلا على الملك ، وكذلك أصالة الصحّة عند الشكّ في عمل نفسه بعد الفراغ ، وأصالة الصحّة في عمل الغير.

ومقتضى الأصل عند التردّد هو كونه من الاصول ، بمعنى عدم ترتيب آثار الدليليّة التي منها حجّيّة المثبت منها ، بخلاف مثبتات الاصول حيث لا تكون حجّة. وحاصل الكلام هو نفي آثار الدليليّة عن المتردّد بين كونه دليلا أو أصلا.

وقد يعلم كون الشيء من القواعد التعبّديّة ، إلّا أنّه يختفي تقديمه على الاستصحاب من باب الحكومة ، كما أشار إليه بقوله :

لكن تختفي حكومته مع ذلك على الاستصحاب ، أي : لا يعلم أنّه مع كونه أصلا تعبّديا حاكم على الاستصحاب أم لا.

لأنا قد ذكرنا أنّه قد يكون الشيء الغير الكاشف ـ كقاعدة الفراغ والتجاوز والبناء على الأكثر ـ منصوبا من حيث تنزيل الشارع الاحتمال المطابق له منزلة الواقع.

وحاصل الكلام كما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ بعض الاصول مجرّد وظيفة مقرّرة للجاهل ، كالبراءة والاحتياط ، والتخيير ، ولا ريب في حكومة الاستصحاب عليها. وبعضها

٢٧٦

أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه.

____________________________________

ناظرا إلى الواقع ، إلّا أنّه اعتبر بمجرّد احتمال المطابقة ، كالاستصحاب والقرعة. وبعضها قد اعتبر بمجرّد احتمال المطابقة ولا نظر له إلى الواقع ، كقاعدة الفراغ ونحوها. وحكومتها على الاستصحاب خفيّة ، كما أشار إليه بقوله :

إلّا أنّ الاختفاء في تقديم أحد التنزيلين على الآخر وحكومته عليه.

فما كان منهما خاصّا يكون حاكما ومقدّما على العامّ ، فقاعدة الفراغ لاختصاصها بما بعد العمل تكون أخصّ من استصحاب عدم الإتيان فتقدّم عليه ، وكذا البناء على الأكثر المختصّ بالركعات. ويقدّم الاستصحاب على ما تكون النسبة عموما من وجه ، كما إذا تعارض استصحاب النجاسة مع قاعدة الطهارة ، وكما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منّا.

هذا تمام الكلام في شرائط جريان الاستصحاب أو العمل به. ثمّ يقع الكلام في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة ، أعني : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير.

***

٢٧٧

تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة

ثمّ إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة ، أعني : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير.

إلّا إنّه قد يختفي وجهه على المبتدئ.

فلا بدّ من التكلّم هنا في مقامات :

الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاصول ، كاليد ونحوها.

الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها.

الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب.

أمّا الكلام في المقام الأوّل ـ وهو عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات ـ فيقع في مسائل :

____________________________________

تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة

ثمّ إنّه لا ريب في تقديم الاستصحاب على الاصول الثلاثة ، أعني : البراءة ، والاحتياط ، والتخيير. إلّا أنّه قد يختفي وجهه على المبتدئ ، فلا بدّ من التكلّم هنا في مقامات :

الأوّل : في عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات التي يتراءى كونها من الاصول كاليد ونحوها كأصالة الصحّة.

الثاني : في حكم معارضة الاستصحاب للقرعة ونحوها.

ممّا كان ناظرا إلى الواقع ، إلّا إنّ الشارع اعتبره لمجرّد احتمال المطابقة كالاستصحاب ، فإنّه ربّما يتعارض الاستصحابان على ما في شرح الاعتمادي.

الثالث : في عدم معارضة سائر الاصول للاستصحاب ، أمّا الكلام في المقام الأوّل ـ وهو عدم معارضة الاستصحاب لبعض الأمارات ـ فيقع في مسائل.

٢٧٨

المسألة الاولى

إنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب ، بل هي حاكمة عليه.

بيان ذلك : إنّ اليد ، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه ، وأنّ اليد المستقلّة الغير المالكيّة قليلة بالنسبة إليها ، وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلا على العباد ، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب ، على ما عرفت من حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب.

____________________________________

المسألة الاولى : إنّ اليد ممّا لا يعارضها الاستصحاب ، بل هي حاكمة عليه.

وما يظهر من كلام المصنف قدس‌سره في المقام هو تقديم اليد على الاستصحاب مطلقا ، أي : سواء قلنا بكون اليد من الأمارات أو قلنا بكونها من الاصول.

غاية الأمر يكون تقديمها عليه على القول الأوّل بالحكومة ، لما عرفت من حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الاستصحاب ، وعلى القول الثاني بالتخصيص ، ولا بدّ من تخصيص الاستصحاب بها وإلّا لزم اختلال السوق وبطلان الحقوق ، كما هو مفاد الرواية المذكورة في الكتاب.

وقد أشار المصنف قدس‌سره إلى القول الأوّل بقوله :

إنّ اليد ، إن قلنا بكونها من الأمارات المنصوبة دليلا على الملكيّة من حيث كون الغالب في مواردها كون صاحب اليد مالكا أو نائبا عنه ، وأنّ اليد المستقلّة الغير المالكيّة ، أعني : اليد العدوانيّة قليلة بالنسبة إليها ، أعني : اليد الحقّة المالكة ، فيحصل من غلبة اليد المالكة الظنّ بالملكيّة وأنّ الشارع إنّما اعتبر هذه الغلبة تسهيلا على العباد ، فلا إشكال في تقديمها على الاستصحاب بالحكومة ، ومثال ذلك ـ على ما في شرح الاعتمادي ـ هو ما اذا كان شيء في السابق ملكا لشخص ثمّ حصل ذلك الشيء في يد شخص آخر ، فشكّ في أنّه صار ملكا أو هو باق في ملك المالك الأوّل ، فمقتضى الاستصحاب بقاء ملكيّة المالك الأوّل ، ومقتضى اليد حصول الملكيّة الجديدة لذي اليد ، ودليل اعتبار اليد يدلّ على عدم الاعتناء باحتمال الخلاف ، ولازم ذلك عدم استصحاب الملكيّة السابقة المحتمل بقاؤها ،

٢٧٩

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة أو أنّها كاشفة ـ لكنّ اعتبار الشارع له ليس من هذه الحيثيّة ، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّدا ، لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ، نظير أصالة الطهارة ، كما يشير قوله عليه‌السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما في يد المسلمين : (ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق) (١)

____________________________________

فالشكّ في بقاء الملكيّة السابقة في مورد اليد ليس من الشكّ المعتبر في الاستصحاب ، كي يجري الاستصحاب.

وبالجملة ، إنّ اليد تكون معتبرة من باب الغلبة ، كما هو ظاهر المصنف قدس‌سره بمعنى : إنّا تتبّعنا أغلب موارد الأيادي الثابتة على الأعيان فوجدنا كون ثبوتها على الملكيّة ، فنلحق المشكوك بها ، لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، واعتبار الشارع إيّاها إمضاء منه لتلك الغلبة ، لا أنّه إنشاء منه مستقلّا ، فإنّ كون اليد دليلا على الملك أمر مقرّر في جميع الأديان ، وحينئذ يكون اعتبار اليد من باب الدليليّة ، ومن الواضح أنّ الدليل مقدّم على الأصل. هذا تمام الكلام في القول الأوّل.

وأشار إلى قول الدليل الثاني بقوله :

وإن قلنا بأنّها غير كاشفة بنفسها عن الملكيّة أو أنّها كاشفة لكنّ اعتبار الشارع له ليس من هذه الحيثيّة ، بل جعلها في محلّ الشكّ تعبّدا.

ثمّ بيّن وجه ذلك بقوله :

لتوقّف استقامة نظام معاملات العباد على اعتبارها ، نظير أصالة الطهارة ، كما يشير قوله عليه‌السلام في ذيل رواية حفص بن غياث الدالّة على الحكم بالملكيّة على ما في يد المسلمين.

قد تقدّم جواز استناد الشاهد في الشهادة إلى اليد بهذه الرواية في بحث القطع ، وهي من الروايات المشهورة رواها حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد أنّه له ...؟ قال : نعم ، قال الرجل : أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له ، فلعلّه لغيره ، فقال عليه‌السلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم. قال عليه‌السلام : (فلعلّه لغيره ، ومن أين جاز لك أن تشتريه ، ويصير ملكا لك ، ثمّ تقول بعد ذلك : الملك لي وتحلف عليه ، ولا)

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٨٧ / ١. الفقيه ٣ : ٣١ / ٩٢. التهذيب ٦ : ٢٦٢ / ٦٩٥. الوسائل ٢٧ : ٢٩٣ ، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ب ٢٥ ، ح ٢.

٢٨٠