دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

المدلول عليه بدليل ظاهر في نفسه أو بمعونة دليل خارجيّ في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب ، لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشكّ وهو ظنّ الاستمرار ، نعم هو من قبيل استصحاب حكم العامّ إلى أن يرد المخصّص ، وهو ليس استصحابا في حكم شرعيّ ، كما لا يخفى.

____________________________________

في استصحابها ؛ لأنّ الشكّ في أكثر موارد الاستصحاب فيها من الشكّ في الاستعداد ، كالشكّ في فوريّة الخيار وتوقيت جواز الرجوع في الهبة.

فردّ القمّي رحمه‌الله ما ذكره المصنف قدس‌سره من الإيراد بالنقض باستصحاب الأحكام ، بأنّ الاستقراء أوجب الظنّ القويّ بإرادة الاستمرار من المطلقات ، فاحتمال الفور أو التوقيت منها يكون من الشكّ في الرفع. فأورد عليه المصنف قدس‌سره بقوله :

وأمّا ثالثا : فلأن ما ذكره من حصول الظنّ ... الى آخره.

وحاصل ما أورده المصنف قدس‌سره ، هو أنّه إذا كانت المطلقات ظاهرة في الاستمرار لم يبق مجال للاستصحاب أصلا ؛ وذلك لما هو كالبديهي عند الاصوليين من عدم جريان الأصل العملي مع وجود الدليل الاجتهادي ، كما أشار إليه بقوله :

فإنّ التحقيق : أنّ الشكّ في نسخ الحكم المدلول عليه بدليل ظاهر في نفسه أو بمعونة دليل خارجيّ كالاستقراء مثلا في الاستمرار ليس موردا للاستصحاب ، لوجود الدليل الاجتهادي في مورد الشكّ وهو ظنّ الاستمرار الحاصل من المطلق ولو بالاستقراء ، فيتمسّك بإطلاق الكلام من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا.

نعم هو من قبيل استصحاب العامّ إلى أن يرد المخصّص ، أي : التمسّك بالإطلاق فيما إذا شكّ في ورود التقييد يكون من الاصول اللّفظيّة من قبيل استصحاب حكم العامّ ... الى آخره.

فإنّ استصحاب حكم العموم ليس استصحابا حقيقيا ، بل لا يعقل أن يكون استصحابا مصطلحا ، لأن استصحاب نفس الحكم لا يجري مع الشكّ في الموضوع ، واستصحاب نفس العموم بمعنى ظهور اللّفظ فيه المعتبر من باب بناء العقلاء وإجماع أهل اللّسان ليس من الاصول العمليّة ، بل هو من الاصول اللفظية ، كما أشار إليه بقوله :

وهو ليس استصحابا في حكم شرعيّ.

١٤١

ثمّ إنّه قدس‌سره ، أورد على ما ذكره ـ من قضاء التتبّع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الإطلاق ـ : بأنّ النبوّة أيضا من تلك الأحكام.

ثمّ أجاب : بأنّ غالب النبوّات محدودة ، والذي ثبت علينا استمراره نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يخفى ما في هذا الجواب.

أمّا أوّلا : فلأن نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها ، فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها في أنفسها أو بمعونة الاستقراء في الاستمرار. فانكشف نسخ ما نسخ وبقي ما لم يثبت نسخه.

وأمّا ثانيا : فلأن غلبة التحديد في النبوّات غير مجدية ، للقطع بكون إحداهما مستمرّة ،

____________________________________

وكيف كان ، فقد أورد القمّي قدس‌سره على ما ذكره من أنّ مقتضى التتبّع هو غلبة الاستمرار فيما ظاهره الإطلاق ، كما أشار إليه بقوله :

ثمّ إنّه قدس‌سره أورد على ما ذكره ـ من قضاء التتبّع بغلبة الاستمرار في ما ظاهره الإطلاق ـ : بأنّ النبوّة أيضا من تلك الأحكام المطلقة ، فيحصل الظنّ باستمرارها بواسطة غلبة إرادة الاستمرار من المطلقات. فيجري فيها الاستصحاب ، كما يجري في الأحكام الشرعيّة ، فيردّ به ما ذكره من عدم جريان الاستصحاب في النبوّة. هذا تمام الكلام فيما أورده المحقّق القمّي قدس‌سره على نفسه.

ثمّ أجاب : بأنّ غالب النبوّات محدودة ، والّذي ثبت علينا استمراره نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وحاصل جوابه يرجع إلى الفرق بين الأحكام والنبوّات ، بأنّ الغالب في الأحكام إرادة الاستمرار من المطلقات بحكم الاستقراء ، فيجري فيها الاستصحاب بخلاف النبوّات ، حيث يكون الغالب فيها عكس ما في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، فتكون غالبها محدودة فلا يجري فيها الاستصحاب ، وذلك لعدم إحراز استعداد البقاء فيها. ثمّ أورد المصنف قدس‌سره على هذا الجواب بوجهين : الأوّل ما أشار إليه بقوله :

أمّا أوّلا : فلأن نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها.

وحاصل هذا الإيراد على الجواب المذكور هو منع غلبة التحديد في النبوّات ، فإنّ القدر المسلّم الثابت هو نسخ أغلب النبوّات وهو لا يستلزم التحديد.

فللخصم أن يدّعي ظهور أدلّتها في أنفسها أو بمعونة الاستقراء في الاستمرار ، ويلتزم بنسخ ما انكشف نسخه فقط ، وبقي ما لم يثبت نسخه ، ثمّ أشار إلى الوجه الثاني بقوله :

١٤٢

فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب وإلحاقه بالنادر ، بل يشكّ في أنّه الفرد النادر أو النادر غيره ، فيكون هذا ملحقا بالغالب.

____________________________________

وأمّا ثانيا : فلأن غلبة التحديد في النبوّات غير مجدية.

أي : غلبة التحديد في مسألة النبوّة لا توجب الظنّ بلحوق ما هو المشكوك بالأفراد الغالبة المحدودة ، حتى يجري على المشكوك ما يجري على الأفراد الغالبة من الحكم بقاعدة إلحاق الفرد المشكوك على الغالب في الحكم ، وذلك لعدم جريان هذه القاعدة في مسألة النبوّة ، كما أشار إليه بقوله :

للقطع بكون إحداهما وهي الأخيرة مستمرّة.

وحاصل الكلام على ما في بحر الفوائد وشرح الاعتمادي ، هو أنّ المشكوك في باب الغلبة قد يكون أمرا ثالثا مردّدا بين اللحوق بالغالب واللحوق بالنادر ، فتجري قاعدة إلحاق الفرد المشكوك بالغالب ، فيظنّ بلحوقه بالغالب ، كما إذا كان أكثر أهل السوق مسلمين والنادر منهم كافرا ، ثمّ شكّ في رجل بأنّه من أيّ الفريقين ، فتجري القاعدة فيظنّ منها بلحوقه بالمسلمين.

وقد يتردّد المشكوك بين لحوقه بالغالب وبين كونه عين النادر ، فلا تجري هنا قاعدة إلحاق المشكوك بالغالب ، وذلك لعدم وجود النادر ، فلا يظنّ بلحوق المشكوك بالغالب كما فيما نحن فيه ، فإنّ أغلب النبوّات محدودة ومنسوخة وواحدة منها ناسخة للكلّ ومستمرّة إلى يوم القيامة ، فنبوّة موسى عليه‌السلام مثلا يحتمل كونها من النبوّات الغالبة المحدودة ، ويحتمل كونها عين النبوّة المستمرّة ، فلا يظنّ بلحوقها بالغالب لخروج المشكوك ـ حينئذ ـ عن مورد القاعدة ، كما أشار إليه بقوله :

فليس ما وقع الكلام في استمراره أمرا ثالثا يتردّد بين إلحاقه بالغالب وإلحاقه بالنادر ، بل يشكّ في أنّه عين الفرد النادر أو النادر غيره حتى يكون هذا ملحقا بالغالب ، كما قال : فيكون هذا ملحقا بالغالب.

والحاصل أنّ مورد القاعدة هو ما إذا كانت الاحتمالات ثلاثية ـ أعني : الغالب ، والنادر ، والمشكوك ـ وكان النادر متعدّدا حتى يكون المشكوك قابلا للّحوق بكلّ واحد من الغالب والنادر.

١٤٣

والحاصل : أنّ هنا أفرادا غالبا وفردا نادرا ، وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير النادر أو ما قبله الغالب ، بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه كون هذا هو الأخير المغاير للباقي.

ثمّ أورد قدس‌سره على نفسه بجواز استصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة ، وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وربّما يورد عليه : أنّ الكتابيّ لا يسلّم البشارة المذكورة حتى يضرّه في التمسّك بالاستصحاب ولا ينفعه.

____________________________________

وليس هنا مشكوك قابل اللحوق بأحدهما ، بل الأمر يدور بين كون هذا الفرد هو الأخير النادر أو ما قبله الغالب ، بل قد يثبت بأصالة عدم ما عداه كون هذا هو الأخير المغاير للباقي ، فلا تجري فيه قاعدة إلحاق المشكوك بالغالب ، بل مقتضى الأصل هو أنّ المشكوك هو الفرد الأخير المستمرّ ، فيكون مغايرا لسائر الأفراد في كونها محدودة دون هذا الفرد حيث يكون مستمرا ولو بالأصل المذكور.

إلّا أن يقال : بأنّ مراد القمّي رحمه‌الله من غلبة تحديد النبوّات ليس هو كون أغلبها مؤقتة ، بل مراده أنّ أدلّة النبوّات وإن كانت مطلقات في الظاهر كأدلّة الأحكام الشرعيّة ، إلّا أنّ الاستقراء المفيد للظنّ بالاستمرار موجود في مسألة الأحكام وليس بموجود في مسألة النبوّة ، بل الاستقراء الحاصل في مسألة النبوّة يقتضي الظنّ بخلاف الاستمرار ، فلهذا يجري الاستصحاب في الأحكام ولا مجال لجريانه في النبوّة ، وحينئذ فإيراد المصنف قدس‌سره أجنبيّ عن كلام المحقّق القمّي قدس‌سره ، كما لا يخفى.

ثمّ أورد قدس‌سره على نفسه بجواز استصحاب أحكام الشريعة السابقة المطلقة من دون حاجة إلى استصحاب النبوّة ، إذ استصحاب الأحكام يكفي عن استصحاب النبوّة ، ثمّ وجه جواز استصحاب أحكام الشريعة المطلقة هو أنّ استقراء مطلقات الشرائع ينفع في حصول الظنّ بإرادة الاستمرار من أحكامها ، فيجري الاستصحاب فيها.

وأجاب : بأنّ إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لا ينفعهم.

وحاصل الجواب أنّ الأحكام المطلقة بعد اقترانها بالبشارة المذكورة صارت مؤقّتة ، فلا يصحّ استصحابها حينئذ حتى ينفعهم.

وربّما يورد عليه : أنّ الكتابيّ لا يسلّم البشارة المذكورة حتى يضرّه في التمسّك

١٤٤

ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد أنّه إذا لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة ، فإذا فرض قضيّة نبوّته مهملة غير دالّة إلّا على مطلق النبوّة ، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة ، فإنّها تصير ـ أيضا ـ حينئذ مهملة.

ثمّ إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه :

الأول : أنّ المقصود من التمسّك به إن كان الاقتناع به في العمل عند الشكّ ، فهو ـ مع مخالفته للمحكيّ عنه من قوله : «فعليكم كذا وكذا» ، فإنّه ظاهر في أنّ غرضه الإسكات

____________________________________

بالاستصحاب ولا ينفعه الاستصحاب ، بل ينفعه الاستصحاب حينئذ.

ويمكن توجيه كلامه : بأنّ المراد أنّه إذا لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة ، فإذا فرض قضيّة نبوّته مهملة غير دالّة إلّا على مطلق النبوّة ، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعيّة تلك الأحكام لمدّة النبوّة ، فإنّها تصير ـ أيضا ـ حينئذ مهملة كالنبوّة ، فلا يجري الاستصحاب فيها كما لا يجري في النبوّة ؛ لأنّ الإهمال في النبوّة مستلزم للإهمال في الشريعة وأحكامها ، بمقتضى تبعيّة شريعة كلّ نبيّ نبوّته.

ثمّ إنّه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه : (الأوّل) وهذا الجواب الثاني ـ من الأجوبة الباقية ـ هو خامس الأجوبة عن استصحاب الكتابي.

وتوضيح هذا الوجه الأوّل في الجواب يتوقّف على ذكر مقدّمة ، وهي :

أنّ الدليل إمّا اقتناعيّ أو إلزاميّ ، أو برهانيّ ، أو إرشاديّ.

أمّا الأوّل ، فهو ما يتمسّك به المستدلّ لإثبات جواز عمل نفسه وإن لم يقبله الخصم.

وأمّا الثاني ، فهو ما يستدلّ به لإلزام الخصم بقبول ما هو المدّعى ، لكونه مسلّما عنده فيلزم به الخصم ويقبله وإن لم يقبله المستدلّ.

وأمّا الثالث ، فهو الاستدلال بالدليل المقبول عند الطرفين لإثبات المدّعى.

وأمّا الرابع ، فهو ما يراد به تعليم طريق الاستدلال ، كاستشهاد الأئمة عليه‌السلام بالآيات والروايات. إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول :

أنّ المقصود من التمسّك به إن كان الاقتناع به في العمل عند الشكّ.

وهو القسم الأوّل من الدليل بأنّ يكون مقصود الكتابي من الاستدلال بالاستصحاب هو القناعة به في عمل نفسه.

١٤٥

والإلزام ـ فاسد جدّا ؛ لأنّ العمل به ـ على تقدير تسليم جوازه ـ غير جائز ، إلّا بعد الفحص والبحث.

وحينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين بناء على ما ثبت من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة ، كما يدلّ عليه النصّ الدالّ على تعذيب الكفّار ، والإجماع المدّعى على عدم معذوريّة الجاهل ، خصوصا في هذه المسألة ، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشئ في بلاد الإسلام. وكيف كان ، فلا يبقى مجال للتمسّك بالاستصحاب.

وإن أراد به الإسكات والإلزام ، ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيّا ، لأنه فرع الشكّ ، وهو أمر وجدانيّ كالقطع لا يلتزم به أحد.

____________________________________

فهو مع مخالفته للمحكيّ عنه من قوله : «فعليكم كذا وكذا» فإنّه ظاهر في أنّ غرضه الإسكات والإلزام.

أي : ظاهره كون الدليل إلزاميّا وإسكاتيا لا اقتناعيا ، فحمله على الاقتناعي مخالف لظاهر كلامه في مقام الاستدلال ، ومع مخالفة هذا الاحتمال للظاهر.

فهو فاسد جدا ، لأنّ العمل به ، أي : الاستصحاب على تقدير تسليم جوازه ، أي : العمل بالاستصحاب والإغماض عن كونه مخالفا للظاهر غير جائز ، إلّا بعد الفحص والبحث ، إذ لا يجوز الرجوع إلى الاصول إلّا بعد الفحص عن الدليل.

وحينئذ ، أي : وحين الفحص والبحث يحصل العلم بأحد الطرفين بناء على ما ثبت من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة التي هي من أركان الاعتقاديّات.

فلا يبقى ـ حينئذ ـ مجال للتمسّك بالاستصحاب كما هو واضح في الكتاب. هذا تمام الكلام فيما إذا كان المراد بالدليل هو القسم الأوّل.

وإن أراد به الإسكات والإلزام وهو القسم الثاني.

ففيه : أنّ الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيّا ، لأنه فرع الشكّ ، وهو أمر وجدانيّ كالقطع لا يلتزم به أحد.

وحاصل الإشكال على هذا الاحتمال أنّ الاستدلال بالاستصحاب لإلزام الخصم مبنيّ على أن يكون الخصم شاكّا ، والمفروض أنّ المسلم في المقام ليس بشاكّ في نسخ الشريعة السابقة وبنوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يمكن إلزام المسلم بالاستصحاب حتى يكون

١٤٦

وإن أراد بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلط ، لأن مدّعي البقاء في مثل المسألة ـ أيضا ـ يحتاج إلى الاستدلال عليه.

الثاني : أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار ، فلا ينفع الكتابيّ التمسّك به ، لأن ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوّة ، وثبوته في شرعهم غير معلوم.

نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسّك به ، لصيرورته حكما إلهيّا غير منسوخ يجب تعبّد الفريقين به.

____________________________________

الاستصحاب دليلا إلزاميّا وإسكاتيا.

ومن هنا يعلم أنّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون دليلا برهانيا ، وذلك لعدم كونه مقبولا عند المسلم ، فلا يكون إرشاديا أيضا ، وبقي احتمال آخر وهو أنّ مقصود الكتابي من الاستدلال بالاستصحاب هو مجرّد بيان موافقة قوله للأصل حتى يكون منكرا ، ومخالفة قول المسلم للأصل حتى يكون مدّعيا وعلى المدّعي الإثبات ، كما أشار إليه بقوله :

وإن أراد بيان أنّ مدّعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال ، فهو غلط ، وذلك لأن مدّعي البقاء في مثل هذه المسألة التي هي من أركان اصول الدين أيضا يحتاج إلى الاستدلال ، فالحاجة إلى الاستدلال غير مختصّة بالمسلم ، بل الكتابي أيضا يحتاج اليه.

الثاني : من الوجوه الباقية ، والسادس من جميع الأجوبة عن استصحاب الكتابي هو :

أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار ، فلا ينفع الكتابيّ التمسك به ، لأن ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوّة في الشريعة السابقة ، وذلك فإنّ أخذه من شرعنا اعتراف بحقيّته ومعه كيف تستصحب الشريعة والنبوّة؟!.

وثبوته في شرعهم غير معلوم فكيف يستدلّ به؟.

نعم ، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسّك به ، لصيرورته حكما إلهيّا غير منسوخ يجب تعبّد الفريقين به.

أي : يجب تمسّك الفريقين بالاستصحاب لكونه حكما إلهيّا غير منسوخ على الفرض ، إلّا أن يقال بأنّ التمسّك بالاستصحاب مستلزم للدور ؛ وذلك فإنّ إثبات عدم منسوخيّة

١٤٧

وإن كان من باب الظنّ ، فقد عرفت في صدر البحث أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعيّ الكلّيّ ممنوع جدّا. وعلى تقديره فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوع.

وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّيّة الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي لمنع الدليل على العمل بالظنّ ، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكّن من التوقّف

____________________________________

الاستصحاب وغيره من الأحكام الثابتة في شرعهم يتوقّف على اعتبار الاستصحاب ، واعتباره أيضا يتوقّف على إثبات عدم منسوخيّة الاستصحاب.

اللهم إلّا أن يقال أنّ أصالة عدم النسخ بعد ثبوت الحكم لا تتوقّف على اعتبار الاستصحاب ، بل هي من الاصول التي قد جرى بناء العقلاء وأهل كلّ دين على العمل بها من حيث الظنّ والظهور ، لا من باب التعبّد والأخبار ، فلا يتوقّف إثبات اعتبارها على إثبات اعتبار الاستصحاب حتى يلزم الدّور.

إلّا أن يقال بأنّ هذا خروج عن الفرض ؛ لأنّ مفروض الكلام هو التمسّك بالاستصحاب المبني على الأخبار على إثبات عدم نسخ النبوّة أو الأحكام الثابتة في الشريعة السابقة. وكيف كان ، فهذا تمام الكلام فيما إذا كان اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

وإن كان من باب الظنّ ، فقد عرفت في صدر البحث أنّ حصول الظنّ ببقاء الحكم الشرعيّ كالنبوّة والشريعة ممنوع جدا وذلك لشيوع نسخ الشرائع.

وعلى تقديره ، أي : حصول الظنّ فالعمل بهذا الظنّ في مسألة النبوّة ممنوع لما عرفت من عدم كفاية الظنّ في اصول الدين ، بل لا بدّ من تحصيل العلم بها.

قوله : وإرجاع الظنّ بها إلى الظنّ بالأحكام الكلّيّة الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي لمنع الدليل على العلم بالظنّ ... إلى آخره.

دفع لما يتوهّم من أنّ الظنّ بالنبوّة على تقدير حصوله وإن كان لا ينفع لإثبات نفس النبوّة كما عرفت ، إلّا أنّه ينفع لإثبات أحكام شريعة النبيّ السابق ، لكون الظنّ بالنبوّة مستلزما للظنّ بأحكام شريعة هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وحاصل الدفع أنّ الظنّ بنوّة نبيّ وإن كان مستلزما للظنّ بشرائعه إلّا أنّه لا دليل على اعتباره فيها أيضا ، إذ مع التمكّن من تحصيل العلم بحقيّة شريعة هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يجب تحصيله ولا يجوز الاكتفاء بالظنّ ومع عدم التمكّن من تحصيل العلم أيضا لا يجوز

١٤٨

والاحتياط في العمل ، ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.

ودعوى : «قيام الدليل الخاصّ على اعتبار هذا الظنّ ، بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين ، من أنّ شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في

____________________________________

الاعتماد بالظنّ ، وذلك فإنّ اعتباره ـ حينئذ ـ مبنيّ على الانسداد وتماميّة مقدّماته ، ولا تتمّ مقدّمات الانسداد في المقام لإمكان الاحتياط في مقام العمل بالجمع بين الشريعتين ، مع أنّ من مقدّمات الانسداد هو عدم إمكان الاحتياط.

فيجب الاحتياط بالجمع بين أحكام الشريعتين وإن كان حرجيا ، إذ لا دليل للكتابي على نفي الحرج في الشريعة السابقة ، كما أشار إليه بقوله :

ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، بل ما يظهر من بعض الآيات ـ كقوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(١) ، وقوله تعالى حكاية عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا)(٢) ـ وقوع الحرج في الشرائع السابقة.

وعلى فرض تسليم رفع الحرج في الشريعة السابقة ، فيمكن أن يقال : إنّ المرفوع هو الحرج اللّازم لأغلب الناس لا الحرج الذي يلزم لقليل منهم ، كما أشار إليه بقوله :

خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.

إلّا أن يقال بعدم الفرق بين لزوم الحرج على الأغلب وبين لزومه على النادر إلّا من حيث ما هو الملاك في نفي الحرج ، هل هو الحرج النوعيّ بمعنى أنّ الحكم إذا كان حرجيّا على الأكثر يرتفع عن الجميع حتى عمّن لا حرج عليه ، أو الحرج الشخصيّ؟ بمعنى أنّه لا يرتفع إلّا عمّن عليه الحرج.

ودعوى قيام الدليل الخاصّ أعني : سيرة السلف على اعتبار هذا الظنّ أي : الظنّ ببقاء النبوّة والشريعة السابقة ، حيث يكون معتبرا بقيام السيرة على اعتباره من دون ربط له باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أو الأخبار.

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

(٢) البقرة : ٢٨٦.

١٤٩

الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبيّ اللّاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللّاحق. ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقرّ لهم البناء على أحكامهم» مدفوعة : بأنّ استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلّا لزم كونهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوّة نبيّهم في أكثر الأوقات ، لما تقدّم من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد.

وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب هي ترتيب الأعمال المترتّبة على

____________________________________

بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين وهو صاحب الفصول قدس‌سره.

من أنّ شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، كمائة سنة مثلا.

بل بمجيء النبيّ اللّاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب لقيام سيرة العقلاء وأهل الشرائع على استصحابها ما لم تثبت نبوّة اللّاحق. ولو لا ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبيّ ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقرّ لهم البناء على أحكامهم ، مدفوعة.

أي : الدعوى المذكورة مدفوعة بأنّ استقرار الشرائع كان بالعلم وحصول القطع من البراهين كالمعجزة ، لا بالظنّ الحاصل من الاستصحاب والسيرة كما أشار إليه بقوله :

لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلّا لزم كونهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوّة نبيّهم في أكثر الأوقات ، لما تقدّم من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد.

والحاصل أنّه لو قلنا : بأنّ الامم السابقة كانوا في أنبيائهم وشرائعهم معتمدين على الاستصحاب ، فلا بدّ لنا أن نقول : بأنّهم في أكثر الأوقات كانوا شاكّين فيهما ؛ لأنّ الاستصحاب لا يفيد القطع ولا الظنّ الشخصي والتالي باطل بالضرورة ، إذ لا يلتزم أحد بجواز الشكّ في الاعتقاديّات فالمقدّم مثله. والنتيجة هي عدم جواز الاعتماد على الاستصحاب في اصول الدين ، وهو المطلوب.

وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب على تقدير حصول شكّ لهم في

١٥٠

الدين السابق ، دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيّهم التي هي من اصول الدين. فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبيّ السابق.

نعم ، بعد ظهور النبيّ الجديد الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال ، وحينئذ فللمسلمين ـ أيضا ـ أن يطالبوا اليهود بإثبات حقيّة دينهم ، لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر ، فتأمّل.

الثالث : إنّا لم نجزم بالمستصحب ـ وهي نبوّة موسى او عيسى ـ إلّا بإخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله (١) ، ونصّ القرآن (٢). وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.

____________________________________

بعض الأوقات هي ترتيب الأعمال المترتّبة على الدين السابق ، دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيّهم التي هي من اصول الدين. فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقّية دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبيّ السابق.

نعم ، بعد ظهور النبيّ الجديد الظاهر كونهم شاكّين في دينهم حتى يظهر لهم الحال مع بقائهم على الأعمال ، وحينئذ.

أي : حين ما علمت من أنّ غاية ما يستفاد من بناء العقلاء عند الشكّ أحيانا في بقاء النبوّة والشريعة هو مجرّد ترتيب الأعمال على الاستصحاب لا حقيّة دينهم وشريعتهم ، كما في شرح الاعتمادي.

فللمسلمين ـ أيضا ـ أن يطالبوا اليهود بإثبات حقيّة دينهم ، لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر وهو الاستصحاب.

الثالث : من الوجوه الباقية ، والسابع من جميع الأجوبة.

إنّا لم نجزم بالمستصحب ـ وهي نبوّة موسى عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام ـ إلّا بإخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونصّ القرآن. وحينئذ فلا معنى للاستصحاب بعد الاعتراف بحقيّة هذه الشريعة ؛ لأن اليقين بالمستصحب موقوف على اليقين بحقيّة هذه الشريعة ، وبعد اليقين المذكور لا يبقى

__________________

(١) بصائر الدرجات : ١٢١ / ١ ، بحار الأنوار ١١ : ٤١ / ٤٣. وورد حديث في بحار الأنوار ٢٣ : ٩٦ / ٣ ، مضمونه الإقرار بنبوة عيسى عليه‌السلام ، وهو عن الإمام الصادق عليه‌السلام : واعلموا أنّه لو أنكر رجل عيسى بن مريم وأقرّ بمن سواه من الرسل لم يؤمن. والأحاديث التي تعبر عن نبوة موسى وعيسى عليهما‌السلام كثيرة لا يسع المقام ذكرها.

(٢) ونذكر من نصّ القرآن أربع آيات : البقرة : ٣٦ ، الأعراف : ١٠٤ ، المائدة : ٤٦ ، الصف : ٦.

١٥١

ودعوى : «إنّ النبوّة موقوفة على صدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا على نبوّته» مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلّا من حيث نبوّته.

والحاصل : إنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة.

وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام ، لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود.

____________________________________

مجال لاستصحاب الشريعة السابقة.

ودعوى : إنّ النبوّة موقوفة على صدق نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله لا على نبوّته.

حتى يقال بأنّه بعد اليقين بالشريعة اللّاحقة بالاعتراف بالنبيّ اللّاحق لا يبقى مجال للاستصحاب.

مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلّا من حيث نبوّته ، فالعلم بالصدق مستلزم للعلم بنبوّة المخبر ، فيحصل اليقين بحقيّة شريعته ، ومعه لا يجري استصحاب الشريعة السابقة.

وحاصل التوهم المذكور على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ اليقين بالمخبر به ـ وهو كون موسى عليه‌السلام مثلا نبيّا ـ موقوف على صدق المخبر ـ أعني : محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ لا على نبوّته.

فاذا أخبر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بنبوّة موسى عليه‌السلام مثلا يحصل اليقين بنبوّة موسى عليه‌السلام ، لكون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله معروفا بالصدق ، فيجري الاستصحاب.

وحاصل الجواب أنّ صدقه ـ بحيث يحصل من خبره العلم بنبوّة موسى عليه‌السلام مثلا ـ لم يعرف إلّا من جهة نبوّته ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب مع العلم بالشريعة اللّاحقة.

والحاصل : إنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة.

وبعبارة اخرى على ما في شرح الاعتمادي أنّ صحّة الاستصحاب تتصوّر بأن يثبت المستصحب باتّفاق جميع الملل وتواترهم لا بالنصّ عليه في هذه الشريعة.

وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام ، لإمكان معارضة قول النصارى بنبوّة عيسى عليه‌السلام بتكذيب اليهود ، فليس هناك اتّفاق وتسالم على نبوّة عيسى عليه‌السلام لو لا النصّ عليها في هذه الشريعة.

١٥٢

الرابع : إنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلّا إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبيّ ، وإلّا فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا معنى لاستصحابه لعدم قابليّته للارتفاع أبدا.

ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبيّ السابق الإخبار بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى حكاية عن عيسى : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(١) ، فيكون كلّ ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدين عيسى عليه‌السلام المختصّ به ، عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

____________________________________

الرابع : من الوجوه الباقية ، والثامن من جميع الأجوبة هو :

إنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلّا الى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وإلّا فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا معنى لاستصحابه لعدم قابليّته للارتفاع أبدا. ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبيّ السابق الإخبار بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وتوضيح هذا الوجه الرابع يتوقّف على ذكر مقدّمة قصيرة ، وهي : إنّ الغرض من استصحاب النبوّة لا يخلو عن أحد أمرين : الأوّل إثبات صفة النبوّة للنبيّ. والثاني وجوب التديّن بما جاء به ذلك النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول :

إنّ الغرض من استصحاب النبوّة لا يمكن أن يكون إثبات صفة النبوّة ؛ لأنها قائمة بالنفس الناطقة الباقية بعد الموت ، فتبقى النبوّة ببقاء النفس الناطقة التي لا تفنى بفناء البدن ، فلا يعقل استصحاب النبوّة حتى يكون الغرض منه إثباتها.

فلا بدّ من أن يكون الغرض منه الأمر الثاني ، أعني : وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أشار إليه بقوله :

إنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلّا الى وجوب التديّن ... إلى آخره ، بمعنى وجوب اطاعة ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذ ما جاء به من شريعته.

__________________

(١) الصف : ٦.

١٥٣

ومن المعلوم : إنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ المسلمين فضلا عن استصحابه.

فإن أراد الكتابيّ دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة ، فنحن منكرون له. وإن أراد هذه الجملة فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ انتهاء مدّة الحكم المعلومة إجمالا.

فإن قلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ في تحقّق الغاية المعلومة ، وإنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا ، فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب.

قلت : المسلّم هو الدين المغيّا بمجيء هذا الشخص الخاصّ ، لا بمجيء موصوف كلّي حتى

____________________________________

ومن المعلوم أنّ كلّ ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فالعلم بمجيء نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والاعتراف بنبوّته مستلزم للعلم بنسخ أحكام الشريعة السابقة ، فلا يمكن استصحابها حتى يجب التديّن بها ، ولا يضرّ الاعتراف ببقاء الدين السابق ـ إلى زمن مجيء نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ المسلمين. كما أشار إليه بقوله :

ومن المعلوم : إنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين ، كدين عيسى عليه‌السلام حيث إنّ الاعتراف ببقائه إلى مجيء نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يضر المسلمين فضلا عن استصحابه إلى زمن مجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لا يضرّهم بطريق اوّلى.

وكيف كان ، فإن أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة ، فنحن منكرون له ، فلا مجال للاستدلال بالاستصحاب أصلا ، كما لا يخفى.

وإن أراد هذه الجملة فهو عين مذهب المسلمين ، فلا مجال للاستدلال بالبرهان فضلا عن الاستصحاب.

فإن قلت : لعلّ مناظرة الكتابي في تحقّق الغاية المعلومة ، وإنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا ، فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب.

وملخّص السؤال والإشكال ، هو أنّ الكتابي يختار الشّق الثاني من الترديد المذكور ويسلّم بأنّ النبيّ السابق أخبر بمجيء نبي بعده ، وأنّ شريعته مغيّاة بمجيئه ، إلّا أنّه لا يسلّم مجيئه فيتمسّك بالاستصحاب لإلزام المسلمين.

قلت : المسلّم ، أي : المتيقّن السابق المسلّم عند الكلّ هو الدين المغيّا بمجيء هذا الشخص الخاصّ الذي جاء بالدين الجديد.

١٥٤

يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص ويتمسّك بالاستصحاب.

الخامس : أن يقال : إنّا معاشر المسلمين لمّا علمنا أنّ النبيّ السالف أخبر بمجيء نبيّنا ، وإنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الإقرار به والإيمان به متوقّف على تبليغ ذلك إلى رعيّته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبيّ السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والنبوّة التقديريّة لا تضرّنا ولا تنفعهم في بقاء شريعتهم.

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا ، صلوات الله عليه ، في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليه‌السلام : «ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟» قال عليه‌السلام : (أنا مقر بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امّته وأقرّ به الحواريون ، وكافر بنبوة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكتابه ، ولم يبشّر به أمّته).

ثمّ قال الجاثليق : أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال عليه‌السلام : (بلى) ،. قال الجاثليق :

____________________________________

لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص حتى يكون هناك مجال للاستصحاب ويتمسّك بالاستصحاب لإلزام المسلمين.

الخامس : من الوجوه الباقية ، والتاسع من الأجوبة :

أن يقال : إنّا معاشر المسلمين لمّا علمنا أنّ النبيّ السالف أخبر بمجيء نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الإقرار به والإيمان به متوقّف على تبليغ ذلك إلى رعيّته.

لأن ترك تبليغه ترك للواجب وهو معصية لا يصدر عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لكونه معصوما.

وحينئذ صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبيّ السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله.

بمعنى أنّ دينه مغيّا بمجيء نبيّنا ، فبعد تحقّق الغاية لا يبقى مجال للاستصحاب كما مرّ غير مرّة ، كما أشار إليه بقوله :

والنبوّة التقديريّة لا تضرّنا ولا تنفعهم في بقاء شريعتهم.

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا عليه‌السلام ، في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليه‌السلام : «ما تقول في نبوّة عيسى وكتابه ، هل تنكر منهما شيئا؟».

قال عليه‌السلام : أنا مقر بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته وأقرّ به الحواريون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوة محمّد وكتابه ، ولم يبشّر به امّته.

ثمّ قال الجاثليق : أليس تقطع الأحكام أي : أليس تقبل الأحكام بشاهدي عدل؟

١٥٥

فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال عليه‌السلام : (الآن جئت بالنصفة يا نصرانيّ!) ، ثمّ ذكر عليه‌السلام أخبار خواصّ عيسى عليه‌السلام بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

ولا يخفى : إنّ الإقرار بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمّته لا يكون حاسما لكلام

____________________________________

قال عليه‌السلام : بلى.

قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك ، أي : من غير المسلمين على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممّن لا تنكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا ، أي : من غير النصارى.

قال عليه‌السلام : (الآن جئت بالنصفة يا نصرانيّ!) ، ثمّ ذكر عليه‌السلام أخبار خواصّ عيسى عليه‌السلام بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وتتمّة الحديث على ما في شرح الاعتمادي :

قال عليه‌السلام : ما تقول في يوحنا الديلمي؟. قال : بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

قال : أقسمت عليك هل نطق الإنجيل : إنّ يوحنا قال : إنّ المسيح أخبرني بدين محمّد العربي ، وبشّرني به أنّه يكون من بعدي ، فبشّرت به الحواريّون فآمنوا به؟

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح ، وبشّر نبوّة رجل واهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك ، ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضا عليه‌السلام : (فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وأمّته أتؤمن به؟)

قال : أمر سديد. فقرأ عليه من السفر الثالث آيات فيها ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته وامّته ، فانجر الكلام إلى أن قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي من الإنجيل وإنّي لمقرّ به ... إلى آخره.

ولا يخفى : إنّ الإقرار بنبوّة عيسى عليه‌السلام وكتابه وما بشّر به امّته لا يكون حاسما لكلام

__________________

(١) عيون الأخبار ١ : ١٥٦ ـ ١٥٧ / ١.

١٥٦

الجاثليق ، إلّا إذا اريد المجموع من حيث المجموع بجعل الإقرار بعيسى عليه‌السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة ، ويشهد له قوله عليه‌السلام بعد ذلك : (كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشّر) ، فإنّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.

وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه ، فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ، بل لأنّه عليه‌السلام ، من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات وإلّا فالظاهر المؤيّد

____________________________________

الجاثليق.

إذ يجوز له أن يقول بأنّ مقتضى الإقرار بالنبوّة هو استصحابها والالتزام بالشريعة السابقة ، ودعوى البشارة لا تجدي بدون الدليل والبرهان كما في شرح الاعتمادي.

إلّا إذا اريد المجموع من حيث المجموع بجعل الإقرار بعيسى عليه‌السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.

بأن يكون المعنى : أنا مقرّ بنبوّة عيسى على تقدير بشارته بمجيء محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويشهد له قوله عليه‌السلام بعد ذلك : (كافر بنبوّة كلّ عيسى ... إلى آخره).

إلى أن قال المصنف قدس‌سره :

وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه ـ حيث قال عليه‌السلام : (الآن جئت بالنصفة) ـ فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ، أي : التسليم.

بل لأنه عليه‌السلام من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات.

وحاصل الكلام في المقام أنّ قوله : وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة ... إلى آخره دفع لما يتوهّم من أنّ التزام الإمام عليه‌السلام بالبيّنة حيث قال : الآن جئت بالنصفة بعد قول الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين ... إلى آخره يدلّ على كونه عليه‌السلام مدّعيا والجاثليق منكرا.

وقد ثبت في محلّه أنّ الميزان في المنكر هو كون قوله مطابقا للأصل ، وهو في المقام ليس إلّا الاستصحاب ، فيدلّ التزام الإمام عليه‌السلام على كون الاستصحاب حجّة ، إذ لو يكن حجّة لم يكن في جعل قول الجاثليق مطابقا له فائدة ، فالتزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه يدلّ على تسليمه بحجّيّة الاستصحاب.

وحاصل الدفع أنّ التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه لا يدلّ على تسليمه بحجيّة الاستصحاب أصلا ، إذ ليس الغرض من التزامه بالبيّنة جعل الخصم منكرا ، بل الغرض منه

١٥٧

بقول الجاثليق «وسلنا مثل ذلك» كون كلّ منهما مدّعيا ، إلّا أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الامام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى عليه‌السلام ، إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم.

____________________________________

هو بيان كون نفس الإمام عليه‌السلام مثبتا لما هو الحقّ هداية للخلق.

والشاهد عليه هو ما أشار إليه بقوله : لأنه عليه‌السلام من أوّل المناظرة ملتزم بالإثبات ، أي : إثبات الحقّ وهو في المقام نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ويؤيّده قول الجاثليق حيث قال : «وسلنا مثل ذلك ... إلى آخره» حيث جعل نفسه مدّعيا ، كما أشار إليه بقوله :

وإلّا فالظاهر المؤيّد بقول الجاثليق «وسلنا مثل ذلك» كون كلّ منهما مدّعيا ، ومن المعلوم أنّ جعل كلّ منهما مدّعيا ينافي كون أحدهما منكرا والآخر مدّعيا.

إلّا أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام عليه‌السلام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى عليه‌السلام.

فليس مراده من البيّنة هي البيّنة الاصطلاحيّة التي يقيمها المدّعي ، حتى يكون الجاثليق مدّعيا ، بل مراده منها هو نفس الإمام والمسلمين من جهة اعترافهم بنبوّة عيسى ، ومع ذلك يدّعون نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلى المدّعي الإثبات ، فيبقى حينئذ الجاثليق متمسّكا بالاستصحاب من جهة كونه منكرا.

فالمقصود من الاستثناء هو نفي الظهور الذي إدّعاه من قول الجاثليق ـ أعني : وسلنا ـ في كونه أيضا مدّعيا.

فافهم لعلّه إشارة إلى أنّ كون مراد الجاثليق بالبيّنة ـ نفس الإمام والمسلمين ـ لا

١٥٨

الأمر العاشر

إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ؛ إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : «اكرم العلماء في كلّ زمان» ، وكقوله : «لا تهن فقيرا» ، حيث إنّ النهي للدوام ، وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو قوله : «اكرم العلماء في كلّ زمان إلى أن يفسقوا» ، بناء على مفهوم الغاية ، وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ،

____________________________________

يوجب سقوط قوله : «سلنا مثل ذلك ... إلى آخره» من الظهور في كونه مدّعيا.

أو إشارة إلى أنّ ما ذكر من الأجوبة عن استصحاب الكتابي وإن كان بحسب الظاهر والتعبير أكثر من الثمانية ، كما عرفت ، إلّا أنّه في الحقيقة ليس كذلك لرجوع بعضها إلى بعضها الآخر.

الأمر العاشر : والغرض من البحث فيه هو تقسيم الاستصحاب باعتبار الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق إلى ثلاثة أقسام ، ثمّ بيان جريان الاستصحاب وعدم جريانه فيها ، سيّما فيما إذا كان الدليل الدالّ على الحكم عامّا ثمّ خرج منه بعض الأفراد بالتخصيص ثم شكّ في خروجه في جميع الأزمنة أو بعضها ، وقد أشار إلى أقسام الدليل الدالّ على الحكم بقوله :

إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ؛ إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني.

إمّا بالتصريح كقوله : اكرم العلماء في كلّ زمان أو دائما.

وإمّا بالالتزام كقوله : لا تهن فقيرا ، حيث إنّ النهي لطلب ترك الطبيعة وهو مستلزم للدوام. هذا هو القسم الأوّل ، وقد أشار إلى القسم الثاني بقوله :

وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو قوله : اكرم العلماء في كل زمان إلى أن يفسقوا ، بناء على مفهوم الغاية.

فلا يجب الإكرام بعد الفسق بمقتضى المفهوم ، فيكون الدليل مبيّنا لعدم الحكم في الزمان الثاني ، أعني : عند تحقّق الغاية.

ثمّ أشار إلى القسم الثالث بقوله :

١٥٩

إمّا لإجماله ، كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، وإمّا لقصور دلالته ، كما إذا قال : «إذا تغيّر الماء نجس» ، فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء.

ومثل الإجماع المنعقد على حكم في زمان ، فإنّ الإجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث.

____________________________________

وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ، إمّا لإجماله ، كما إذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة.

ثمّ عدم تعرض الدليل لحال الحكم في الزمان الثاني وعدم دلالته عليه على وجهين :

أحدهما : ما تقدّم من كون الدليل مجملا بالنسبة إلى الحالة الثانية.

وثانيهما : أن يكون مهملا بالنسبة إليها.

ثمّ الفرق بين الإجمال والإهمال أنّ الأوّل لا يوجد إلّا في الأدلّة اللفظيّة ، والثاني يوجد في الأدلّة اللفظيّة واللبيّة معا ، كما أشار إلى الاوّل بقوله :

وإمّا لقصور دلالته ، كما إذا قال : إذا تغيّر الماء نجس ، فإنّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء بسبب التغيّر ، فلا يدلّ على حكمه بعد زواله.

وأشار إلى الثاني بقوله : ومثل الإجماع المنعقد على حكم ، كخيار الغبن في زمان ، كأوّل زمن العلم ، حيث إنّه المتيقّن على ما في شرح الاعتمادي.

ثمّ الفرق بينهما ثانيا هو أنّ الحكم يمكن أن يكون مرادا في الزمان الثاني من الدليل المجمل وإن كان الدليل المجمل غير دالّ على الحكم في الزمان الثاني.

ولا يمكن أن يكون مرادا من الدليل المهمل على تقدير ثبوته واقعا ، وذلك لوجود لفظ في المجمل وهو الليل في المثال المذكور ، حيث يمكن أن يراد منه زوال الحمرة وإن لم يفهم المخاطب ، وعدم ذكر لفظ في المهمل. هذا تمام الكلام في أقسام الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق.

أمّا جريان الاستصحاب وعدم جريانه ، فلا مانع منه في القسم الثالث ـ أعني : ما إذا لم يكن الدليل مبيّنا لحال الحكم في الزمان الثاني ـ كما أشار إليه بقوله :

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث ؛ لأن المفروض عدم دلالة

١٦٠