دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

____________________________________

باتحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة موضوعا وعدمه ، فيجري الاستصحاب على الفرض الأوّل دون الثاني.

فإذا كان الموضوع ـ في قولنا الماء المتغيّر نجس ، وقولنا هذا الماء الزائل تغيّره كان نجسا ـ واحدا بأن يكون الموضوع في القضيّة الاولى المتيقّنة هو نفس الماء الذي زال تغيّره ، كما هو الموضوع في القضيّة الثانية المشكوكة ، يحكم بجريان الاستصحاب فيه ؛ لأن الموضوع واحد وهو نفس الماء المتلبّس بالتغيّر آناً ما ، والشكّ ناشئ عن احتمال مدخليّة التغيّر في بقاء الحكم بالنجاسة ، كما له دخل في حدوث الحكم قطعا.

وإن لم يكن الموضوع فيهما واحدا عند العرف لم يجر الاستصحاب ، لعدم صدق نقض اليقين بالشكّ ـ حينئذ ـ عرفا. وبعبارة اخرى أنّ جريان الاستصحاب تابع لصدق النقض عرفا بمقتضى دليل الاستصحاب الدال على حرمة نقض اليقين بالشكّ ، وصدق النقض يتوقّف على وحدة الموضوع في القضيّتين وهي متحقّقة عرفا فيما إذا لم يكن ما انتفى من بعض قيود الموضوع في ظاهر الدليل مقوّما للموضوع ؛ لأن القيود والأوصاف مختلفة في نظر العرف.

(منها) : ما هو مقوّم للموضوع ، فبعد انتفاء ذلك لا يصدق النقض ، فلا مجال لجريان الاستصحاب فيه.

و (منها) : ما هو غير مقوّم ، فبانتفائه يصدق نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن الحكم السابق ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

نعم ، يأتي هنا توهّم عدم الفرق بين هذا الأمر ـ الثالث ـ وبين الأمر الثاني.

وهو أنّ المتّبع في تعيين مدلول الدليل هو فهم العرف أيضا ، فيكون الميزان في معرفة موضوع الحكم في الحقيقة هو فهم العرف ، فإفراد الأدلّة بالذكر ليس في محلّه.

والجواب عن التوهّم المذكور يمكن بالفرق بين الأمرين ، وحاصل الفرق أنّ المرجع في الأمر السابق هو ما يفهمونه من الدليل بخلاف هذا الأمر ، فإنّ المتّبع فيه هو نظرهم بحسب ما ارتكز في أذهانهم من الملازمة والمناسبة بين الأحكام والموضوعات من دون توسيط مساعدة الدليل ، بل ولو مع دلالته على خلافه ، كما ترى ذلك في خطاب (الكلب

٢٢١

فكلّ مورد يصدق عرفا أنّ هذا كان كذا سابقا ، جرى فيه الاستصحاب ، وإن كان المشار

____________________________________

نجس) (١) ، حيث يكون الموضوع حسب ظاهر الخطاب وفهم العرف منه هو الكلب في حال حياته ، لأنّه اسم لحيوان خاصّ ، ولكن يكون الموضوع بحسب نظرهم هو جسمه ولو في حال الممات.

قال غلام رضا رحمه‌الله في هذا المقام ما هذا نصّه : يشترط في الرجوع إليهم في المقام أمران :

أحدهما : كون فهمهم الاتحاد بين حالتي الموضوع من محاورتهم وكونهم من اهل اللسان ، لا من حيث كونهم من العقلاء.

والثاني : كون حكمهم منبعثا من دقّة النظر ، كما هو شأنهم في الأمورات المعتنى بها ، كالذهب والفضّة ، حيث يدقّون النظر في مقام وزنهما إلى الشعر فضلا عن الشعير منهما ، لا على وجه المسامحة كما في باب المكيل والموزون من غيرهما ، حيث يطلقون المنّ على الناقص منه أيضا.

والوجه في ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة ـ أيضا ـ ممّا هو بمحلّ الاهتمام بشأنها ، فلا بدّ من الدّقة فيها ، ولذا حكموا في باب التراوح بتهيئة العمال والآلات قبل طلوع الشمس لكيلا يتعطّل من اليوم الذي اعتبر النزح فيه شيئا ، وهكذا في باب الكرّ حيث حكموا بنجاسته في صورة نقصانه عن المقدار الشرعي ولو بمثقال.

والذي يدلّ على اعتبار الرجوع إلى العرف في المقام :

أولا : أنّ فهم العرف حجّة في باب الألفاظ إجماعا ، والاستصحاب مستفاد اعتباره من الأخبار فكلّ ما فهمه العرف منها فهو المرجع.

وثانيا : إجماع العلماء ، فإنّه لو لم يكن العرف حجّة في المقام للزم رفع اليد عن أكثر الاستصحابات المجمع عليها ، مع أنّ البينونة في حالتي الموضوع فيها أشدّ من البينونة فيما هو محلّ الكلام ، مثل مسألة نجاسة الماء المتغيّر إذا زال تغيّره من قبل نفسه. انتهى.

وكيف كان ، فكلّ مورد يصدق عرفا أنّ هذا كان كذا سابقا بأن لا يكون ما حصل من التفاوت في جانب الموضوع موجبا لارتفاع الموضوع في نظر العرف ، بل كان هو في

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٢٥ / ٦٤٦ ، ٦٤٧ ، والوسائل ١ : ٢٢٧ ، أبواب الأسآر ، ب ١ ، ح ٤ ، ح ٦.

٢٢٢

إليه لا يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الأدلّة كونه موضوعا ، بل علم عدمه. مثلا : قد ثبت بالأدلّة أنّ الإنسان طاهر والكلب نجس ، فإذا ماتا واطّلع أهل العرف على حكم الشارع عليهما بعد الموت ، فيحكمون بارتفاع طهارة الأوّل وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء فيهما بحسب التدقيق ، لأن الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ، وقد ارتفعت الحيوانيّة بعد صيرورته جمادا. ونحوه حكم العرف

____________________________________

نظرهم من قبيل تبادل الحالات جرى فيه الاستصحاب ، نظرا إلى بقاء الموضوع عندهم.

وإن كان المشار إليه بقولهم هذا كان كذا لا يعلم بالتدقيق أو بملاحظة الأدلّة كونه موضوعا.

كما إذا قام الإجماع على تنجّس الماء إذا تغيّر ، فبعد زوال التغيّر لا يعلم بقاء الموضوع بدقيق العقل ولا بملاحظة لسان الدليل لاحتمال مدخليّة التغيّر في الحكم ، إلّا أنّ العرف يحكم بأنّ هذا الماء كان نجسا.

بل علم عدمه ، كما إذا قال : الماء المتغيّر نجس ، فإنّه بعد زوال التغيّر ينتفي الموضوع بحسب الدليل وهو باقي عرفا ، ثمّ إنّ بقاء الموضوع عرفا مع عدم بقائه عقلا أو دليلا ، ليس مجرّد فرض فارض بل هو أمر متحقّق ، كما في شرح الاعتمادي.

مثلا : قد ثبت بالأدلّة أنّ الإنسان طاهر والكلب نجس ، فإذا ماتا ارتفع موضوع الطهارة ـ أعني : الحيوان الناطق ـ وموضوع النجاسة ـ أعني : الحيوان النابح ـ ويحدث موضوع جديد للنجاسة ، أعني : الميتة.

إلّا أنّ العرف يحكم ببقاء الموضوع ؛ لأنه في نظرهم عبارة عن هذا الموجود الخارجي حيّا كان أو ميّتا. على ما في شرح الاعتمادي.

ولذا يحكم العرف بارتفاع طهارة الأوّل ، مع أنّه ليس من باب الرفع ، بل من باب انتفاء موضوع الطهارة وحدوث موضوع النجاسة بالموت ، وكذا يحكمون ببقاء نجاسة الثاني ، مع أنّه ليس من باب البقاء ، بل من باب ثبوتها لموضوع جديد حدث بالموت وقد انتفى موضوع النجاسة الأوّليّة به ، كما أشار إليه بقوله :

وبقاء نجاسة الثاني ، مع عدم صدق الارتفاع والبقاء فيهما بحسب ظاهر الأدلّة ولا بحسب التدقيق فيهما.

٢٢٣

باستصحاب بقاء الزوجيّة بعد موت أحد الزوجين.

وقد تقدّم حكم العرف ببقاء كرّيّة ما كان كرّا سابقا ووجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها واستصحاب السواد فيما علم زوال مرتبة معيّنة منه ويشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد خفيف ، إلى غير ذلك.

وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين قدس‌سرهما ـ في المعتبر والمنتهى ـ : «الاستدلال على بقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة بأنّ النجاسة قائمة بالأعيان النجسة ، لا بأوصاف الأجزاء ، فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها. وتلك الأجزاء باقية ، فتكون النجاسة باقية ، لانتفاء ما

____________________________________

لأن الطهارة والنجاسة كانتا محمولتين على الحيوانين المذكورين ، وقد ارتفعت الحيوانيّة بالموت وحدث موضوع جديد للنجاسة ، فلا معنى لصدق ارتفاع الأوّل وبقاء الثاني بعد صيرورته جمادا.

والحاصل أنّ العرف يجعلون الموضوع في أكثر الأحكام المترتّبة في الأدلّة الشرعيّة على الموضوع الحيّ لما هو أعمّ من الحيّ والميّت كما في نجاسة الحيوان النجس العين ، وجواز التقليد وحلّيّة النظر إلى الزوجة ولمسها بعد موتها ، فالحكم ببقاء حلّيّة النظر بعد الموت يمكن أن يكون من جهة استصحاب بقاء الزوجيّة ، كما أشار إليه بقوله :

ونحوه حكم العرف باستصحاب بقاء الزوجيّة بعد موت أحد الزوجين.

حيث إنّهم يجعلون الموضوع فيها ما هو أعمّ من الحيّ والميّت وإن كان في ظاهر الدليل هو الزوجة ، وكذا في مسألة التقليد عن المجتهد حيث يكون الموضوع عندهم ما هو أعمّ من الحيّ والميّت وإن كان في ظاهر الدليل هو المجتهد الظاهر في كونه حيّا. فإذا شكّ في بقاء الزوجيّة بعد الموت يجري الاستصحاب ويترتّب عليه الأثر كجواز النظر واللمس.

وقد تقدّم حكم العرف ببقاء كرّيّة ما كان كرّا سابقا باستصحاب الكريّة ووجوب الأجزاء الواجبة سابقا قبل تعذّر بعضها بالاستصحاب.

وبهذا الوجه يصحّ للفاضلين قدس‌سرهما في المعتبر والمنتهى ، الاستدلال على بقاء نجاسة الأعيان النجسة بعد الاستحالة ، بدعوى أنّ موضوع النجاسة هو أجسام الأعيان النجسة من دون مدخليّة عناوينها الخاصّة فيها.

٢٢٤

يقتضي ارتفاعها». انتهى كلام المعتبر.

واحتجّ فخر الدين : «للنجاسة بأصالة بقائها ، وبأنّ الإسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله». انتهى.

____________________________________

فلا تزول بتغيّر أوصاف محلّها. وتلك الأجزاء باقية ، فلا ترتفع النجاسة لانتفاء ما يقتضي ارتفاعها. انتهى كلام المعتبر ، أي : كلام المحقّق في المعتبر والعلّامة في المنتهى.

وهذه الدعوى منهما مبنيّة على دعوى فهم العرف من موضوع النجاسة في الأعيان النجسة أعمّ من واجد الوصف وفاقده وإن كان الموضوع في ظاهر الأدلّة هو الموصوف مع وصفه.

وكيف كان ، فقد اختلف الفقهاء في باب الاستحالة على أقوال ، والمشهور إنّها من المطهّرات مطلقا ، وقيل إنّها ليست منها مطلقا ، وذهب إليه الفاضلان وفخر المحقّقين ، وقيل بالتفصيل بين النجاسات والمتنجّسات بحصول الطهارة بها في الاولى دون الثانية ، وذهب إليه جماعة تبعا للفاضل الهندي. والحقّ هو القول الأوّل.

واحتجّ فخر الدين : للنجاسة بأصالة بقائها ، بأنّ الإسم أمارة ومعرّف ، فلا يزول الحكم بزواله.

وحاصل الكلام أنّ ملخّص ما استدلّ به من يقول ببقاء النجاسة بعد الاستحالة كفخر الدين والفاضلين ، يرجع إلى وجهين :

الأوّل : هو الالتزام بعموم الموضوع ، بأن يكون موضوع النجاسة هي ذوات الأشياء من غير مدخليّة العناوين والأوصاف في عروض النجاسة أصلا ، وتعليق الحكم في الأدلّة بأسماء الأوصاف العنوانيّة كعنوان الكلب والدم وغيرهما ، إنّما هو لكونها معرّفات وإشارات إلى الذوات ، كما في قولك لمخطابك : أكرم هذا الجالس ، حيث يكون ذكر عنوان الجلوس معرّفا لذات من تريد إكرامه ، لا لدخالته في الحكم أصلا.

وحينئذ تبقى النجاسة بعد الاستحالة بنفس دليل النجاسة.

والثاني : هو الأصل ، ومن المعلوم أنّ التمسّك بالأصل إنّما هو على تقدير احتمال مدخليّة الوصف العنواني في ثبوت الحكم ، فيتمسّك باستصحاب النجاسة.

ثمّ الفرق بينهما هو أنّ الأوّل مبنيّ على عدم مدخليّة الأوصاف في الحكم ، والثاني

٢٢٥

وهذه الكلمات وإن كانت محلّ الإيراد ، لعدم ثبوت قيام حكم الشارع بالنجاسة بجسم الكلب المشترك بين الحيوان والجماد ، بل ظاهر عدمه ، لأن ظاهر الأدلّة تبعيّة الأحكام للأسماء كما اعترف به في المنتهى في استحالة الأعيان النجسة ، إلّا أنّه شاهد على إمكان اعتبار موضوعيّة الذات المشتركة بين واجد الوصف العنواني وفاقده ، كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ، حيث إنّ أهل العرف ، لا يفهمون نجاسة اخرى حاصلة بالموت ، ويفهمون

____________________________________

مبنيّ على كون الموضوع أعمّ من الواجد للوصف والفاقد له ، واحتمال كون الوصف علّة مبقية أيضا.

ثمّ غرض المصنف قدس‌سره من ذكر هذه المسألة هو تأييد كون الميزان في معرفة الموضوع هو فهم العرف لا الدقّة العقليّة ولا الأدلّة ، إذ لا يصحّ التمسّك بالاستصحاب بناء على رعاية الدقّة العقليّة.

لاحتمال كون الموضوع هو الذات المتّصفة بهذا العنوان ، وكذا بناء على ملاحظة الدليل ؛ لأن ظاهره مدخليّة العنوان والوصف في ثبوت الحكم. وإنّما يتوهّم صحّة التمسّك بالاستصحاب بناء على رعاية المسامحة العرفيّة ، كما عرفت من أن يفرض الموضوع في نظرهم هو الذات المشتركة بين واجد العنوان وفاقده.

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ الحقّ ما ذهب إليه المشهور ، من أنّ الاستحالة من المطهّرات ، إذ لم يثبت كون موضوع النجاسة نفس الذات المشتركة بين واجد العنوان الأوّلي ـ أعني : الكلب مثلا ـ وواجد العنوان المستحال إليه كالتراب مثلا ، لا بالدقّة العقليّة ولا بملاحظة ظاهر الأدلّة ولا بالمسامحة العرفيّة إلّا في بعض مراتب الاستحالة كما يأتي.

بل المستفاد من ظاهر الدليل كون الموضوع هو المتّصف بهذا العنوان فينتفي بانتفائه. وعلى فرض الشكّ يرجع إلى قاعدة الطهارة أو دليل طهارة عنوان المستحال إليه من التراب وغيره ، لا إلى استصحاب النجاسة لعدم إحراز الموضوع ولو عرفا ، بل لا يجري على فرض إحرازه أيضا ، وذلك لتقدّم الدليل الاجتهادي ، أعني : دليل طهارة عنوان المستحال إليه ، إلّا أنّه يستفاد من هذه الكلمات إمكان كون الموضوع هو المشترك بين واجد العنوان وفاقده ولو في نظر العرف.

٢٢٦

ارتفاع طهارة الانسان ، إلى غير ذلك ممّا يفهمون الموضوع فيه مشتركا بين الواجد للوصف العنواني والفاقد.

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل لزوال الموضوع دون الثاني ، لأن موضوع النجاسة ليس عنوان المستحيل ـ أعني : الخشب ، مثلا ـ وإنّما هو الجسم ، ولم يزل بالاستحالة ، وهو حسن في بادئ النظر ، إلّا أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ، إذ لم يعلم أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر في الفتاوى ومعاقد الإجماعات : أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم لأداء عموم الحكم لجميع

____________________________________

كما ذكرنا في نجاسة الكلب بالموت ، حيث إنّ النجاسة السابقة قد انتفت من جهة انتفاء موضوعها وهو الحيوان الخاص باسم الكلب ، ثمّ حدثت نجاسة في موضوع جديد ، أعني : الميّتة ، إلّا أنّ العرف لا يفهمون نجاسة اخرى حاصلة بالموت ، بل يحكمون ببقاء النجاسة الأوّليّة.

ويفهمون ارتفاع طهارة الإنسان ، مع أنّه ليس بارتفاع ، بل تبدّل الموضوع إلى موضوع جديد للنجاسة. إلى هنا علم القولان في مسألة الاستحالة. ثمّ أشار إلى القول الثالث بقوله :

ثمّ إنّ بعض المتأخّرين كالمحقّق السبزواري والفاضل الهندي فرّق بين استحالة نجس العين والمتنجّس ، فحكم بطهارة الأوّل لزوال الموضوع ، لأن الموضوع في الأوّل بحسب ظاهر الدليل هو المتّصف بالوصف العنواني.

دون الثاني ، لأن موضوع النجاسة ليس عنوان المستحيل ـ أعني : الخشب ، مثلا ـ وإنّما هو الجسم.

حيث قالوا بأنّ كلّ جسم لاقى نجسا ، فهو متنجّس.

ولم يزل بالاستحالة ، أي : الموضوع وهو الجسم لم يزل بالاستحالة ، فحكمه ـ أعني : النجاسة ـ أيضا لم يزل بها.

وهو حسن في بادئ النظر ، إلّا أنّ دقيق النظر يقتضي خلافه ، إذ لم يعلم من لسان الدليل أنّ النجاسة في المتنجّسات محمولة على الصورة الجنسيّة وهي الجسم ، وإن اشتهر

٢٢٧

الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة للنجس ، لا لبيان إناطة الحكم بالجسميّة. وبتقرير آخر : الحكم ثابت لأشخاص الجسم ، فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه وصنفه المتقوّم به عند الملاقاة.

فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به. كما إذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصّيّة وتأثير» مع كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع.

____________________________________

في الفتاوى ومعاقد الإجماعات : أنّ كلّ جسم لاقى نجسا مع رطوبة أحدهما فهو نجس ، إلّا أنّه لا يخفى على المتأمّل أنّ التعبير بالجسم ليس من جهة تعلّق الحكم بالجسم من جهة كونه جسما من دون مدخليّة العنوان لكلّ جسم في الحكم.

بل إنّما هو لأداء عموم الحكم لجميع الأجسام الملاقية من حيث سببيّة الملاقاة للانفعال في كلّ جسم وبيان قابليّة كلّ جسم للانفعال ، وهذا لا ينافي ثبوت النجاسة لكلّ جسم من جهة الوصف العنواني.

وبعبارة اخرى على ما في شرح الاعتمادي أنّ تعليقهم الحكم بالجسم ليس لبيان موضوعيّة الجسم بما هو ، بل لبيان أنّ حكم الانفعال عامّ لكلّ شيء قابل للملاقاة ، والانفعال ، وحيث تعذّر عدّها بعناوينها الخاصة أتوا بعنوان الجسم ، فقولهم :

كلّ جسم لاقى نجسا ... إلى آخره ، في قوّة قولهم : الخشب إذا لاقى والحجر إذا لاقى ، وهكذا حينئذ تحتمل مدخليّة الأوصاف العنوانيّة في تنجّس المتنجّسات ـ أيضا ـ كمدخليّتها في نجاسة الأعيان النجسة على ما هو الدليل ، كما أشار إليه بقوله :

وبتقرير آخر : الحكم ثابت لأشخاص الجسم بعناوينها الخاصّة وليس بثابت لمفهوم الجسم.

فلا ينافي ثبوته لكلّ واحد منها من حيث نوعه وصنفه المتقوّم به عند الملاقاة.

وملخّص الكلام على ما في شرح الاعتمادي أنّه إذا حكم بنجاسة هذا الفرد من المائع بسبب الملاقاة يحتمل ثبوت هذا الحكم له من حيث إنّه جسم ، ويحتمل ثبوته له من حيث الوصف النوعي كالمائعيّة أو الصنفي كالمائيّة.

فقولهم : «كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس» ، لبيان حدوث النجاسة في الجسم بسبب

٢٢٨

وإن أبيت إلّا عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم ، فنقول : لا إشكال أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة ، مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك. فاستنباط القضيّة الكلّيّة المذكورة منها ليس إلّا من حيث عنوان حدوث النجاسة ، لا ما يتقوّم به ، وإلّا فاللّازم إناطة النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور في دليله.

____________________________________

الملاقاة من غير تعرّض للمحلّ الذي يتقوّم به هل هو الجسم أو النوع أو الصنف؟.

كما إذا قال القائل : «إنّ كلّ جسم له خاصّيّة وتأثير» ، مع كون الخواصّ والتأثيرات من عوارض الأنواع ، وذلك فإنّ كلّ نوع خاصّ من الجسم له تأثير خاصّ به.

وإن أبيت إلّا عن ظهور معقد الإجماع في تقوّم النجاسة بالجسم بما هو جسم ، بأن يكون قولهم : بأنّ كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس ، كاشفا عن قيام النجاسة بالصورة الجنسيّة لا النوعيّة.

فنقول : لا يمكن التعويل على الظهور المذكور والأخذ به ، بل لا بدّ من ملاحظة مستند حكمهم في القضيّة المذكورة ، إذ العموم المزبور لم يرد كتابا أو سنّة ، ثمّ مستند حكمهم هو الأدلّة الخاصّة ، كما أشار إليه بقوله :

لا إشكال أنّ مستند هذا العموم هي الأدلّة الخاصّة الواردة في الأشخاص الخاصّة ، مثل الثوب والبدن والماء وغير ذلك ، فاستنباط القضيّة الكلّيّة المذكورة منها ليس إلّا من حيث عنوان حدوث النجاسة بالملاقاة بمعنى تنجّس كلّ جسم بالملاقاة.

لا ما يتقوّم به ، أي : لا يستفاد من الأدلّة الخاصّة عموم ما يقوّم به الحكم بالنجاسة ، بأن يكون الجسم بما هو جسم ما يقوّم به الحكم بالنجاسة ، بمعنى كون الجسم من حيث هو علّة ومناطا للنجاسة ، بحيث تدور النجاسة مداره.

وبعبارة اخرى : إنّ المستفاد من الأدلّة الخاصّة عموم تنجّس الجسم بالملاقاة لا عموم ما يقوّم به الحكم بالنجاسة بعد الملاقاة ، وذلك لظهور الأدلّة الخاصّة في مدخليّة الصورة النوعيّة أو الصنفيّة أو الشخصيّة في الحكم ، فينافي أن يكون ما يقوّم الحكم بالنجاسة هي الصورة الجسميّة.

وبالجملة إنّ المراد من قولهم : كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس ، بيان عموم تنجّس الجسم بالملاقاة لا بيان عموم ما تعرض له النجاسة بها ، وإلّا كان اللّازم أن يقولوا : كلّ ملاق

٢٢٩

ودعوى : «أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما» ليست بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضيّة العامّة من حيث عموم ما تحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوّم النجاسة بالجسم.

نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس : أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر

____________________________________

للنجس يتنجّس بعنوانه الخاص ، كي لا ينافي ظهور الأدلّة الخاصّة في مدخليّة العناوين الخاصّة في الحكم ، كما أشار إليه بقوله :

وإلّا ، أي : وإن لم يكن استنباط القضيّة الكلّيّة من حيث حدوث النجاسة ، فاللّازم إناطة النجاسة في كلّ مورد بالعنوان المذكور فى دليله ، لأن المراد من القضيّة الكلّيّة ـ حينئذ ـ هو عموم تنجّس كلّ ملاق بعنوانه الخاص.

ودعوى : أنّ ثبوت الحكم لكلّ عنوان خاصّ من حيث كونه جسما ، ليس بأولى من دعوى كون التعبير بالجسم في القضيّة العامّة من حيث عموم ما تحدث فيه النجاسة بالملاقاة ، لا من حيث تقوّم النجاسة بالجسم.

وحاصل الدعوى أنّه يمكن أن يكون المراد بقولهم : ـ كلّ جسم لاقى نجسا فهو نجس ـ بيان عموم ما تعرض له النجاسة ، بأن يكون ما تعرض له النجاسة هو الجسم بما هو جسم ، غاية الأمر بعد التصرّف في الأدلّة الخاصّة الظاهرة في مدخليّة العنوان الخاصّ في الحكم في كلّ مورد ، بأن يقال : قوله عليه‌السلام : الثوب يتنجّس بالملاقاة (١) لا يراد به أنّ الثوب بما هو ثوب يتنجّس بالملاقاة ، بل المراد منه أنّ الثوب بما هو جسم يتنجّس بالملاقاة وهكذا سائر الموارد.

وحاصل الجواب عن الدعوى المذكورة ، هو أنّ التصرّف في الأدلّة الخاصّة بما ذكر ليس باولى من التصرّف في معقد الإجماع المستنبط من هذه الأدلّة ، بأن يقال : إنّ تعبيرهم بالجسم إنّما هو لبيان عموم الحكم بالنجاسة بالملاقاة ، لا لبيان عموم محلّ النجاسة. على ما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منّا.

نعم ، الفرق بين المتنجّس والنجس ، أنّ الموضوع في النجس معلوم الانتفاء في ظاهر

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٦١ / ٧٥٩ ، والوسائل ٣ : ٤٤١ ، أبواب النجاسات ، ب ٢٦ ، ح ٢. نقله بالمعنى.

٢٣٠

الدليل وفي المتنجّس محتمل البقاء.

لكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق بعد تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب.

____________________________________

الدليل ، لأن مدخليّة العنوان في النجاسة حدوثا وبقاء واضح بحسب ظهور أدلّة النجاسات.

وفي المتنجّس محتمل البقاء ، لأن دليل عموم الحكم في المتنجّس هو الإجماع على تنجّس كلّ جسم بالملاقاة ، فيحتمل أن يكون ذكر الجسم لبيان محلّ النجاسة ويحتمل أن يكون ذكره لبيان عموم الحكم.

وحاصل الفرق أنّ ظهور دليل المتنجّس في مدخليّة العنوان الخاصّ في الحكم ليس كظهور دليل النجس ، إلّا أنّ هذا المقدار من الفرق لا يوجب الفرق بينهما بحسب جريان الاستصحاب وعدم جريانه ؛ لأن الاستصحاب كما لا يجري مع القطع بانتفاء الموضوع ، كذلك لا يجري مع الشكّ فيه ، كما أشار إليه بقوله :

لكنّ هذا المقدار لا يوجب الفرق بعد تبيّن أنّ العرف هو المحكّم في موضوع الاستصحاب.

أي : الفرق المذكور لا يجدي في الاستصحاب بين باب النجس والمتنجّس بعد البناء على لزوم إحراز الموضوع في باب الاستصحاب ، سواء جعل الميزان في إحراز الموضوع العقل أو الرجوع إلى الأدلّة أو العرف.

أمّا على الأوّل ، فالموضوع منتف في استحالة المتنجّس كالنجس ، وذلك لاحتمال مدخليّة الصورة النوعيّة في عروض النجاسة في كلا القسمين ، فيكون لازم ذلك عدم جريان الاستصحاب فيهما.

وأمّا على الثاني ، فلا يحرز الموضوع وإن لم يكن معلوم الانتفاء ، وذلك أنّ المثبت لعموم الحكم في المتنجّسات ليس إلّا الدليل اللّبي الذي لا يمكن فيه تشخيص الموضوع كي يعمل على طبقه ، وهذا المقدار يكفي في عدم جريان الاستصحاب.

وأمّا على الثالث ، فللعلم بأنّ العرف لا يفرّقون بين استحالة النجس والمتنجّس في الحكم بانتفاء الموضوع في بعض مراتب الاستحالة دون بعض ، فإنّهم لا يفرّقون في

٢٣١

أرأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّيّة أو الحرمة ، أو النجاسة ، أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولا لمأكول اللحم ، خصوصا إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة؟ كما أنّ العلماء ـ أيضا ـ لم يفرّقوا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، كما لا يخفى على المتتبّع.

بل جعل بعضهم الاستحالة مطهّرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة حتى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّيّة مطلق الظنّ.

____________________________________

حكمهم بعدم بقاء الموضوع بعد صيرورة الشيء رمادا أو دخانا ، بين كونه نجسا أو متنجّسا ، كما لا يفرّقون في حكمهم ببقاء الموضوع بعد صيرورة الشيء فحما بين النجس والمتنجّس ، كما أشار إليه بقوله :

أرأيت أنّه لو حكم على الحنطة أو العنب بالحلّيّة أو الحرمة ، أو النجاسة ، أو الطهارة ، هل يتأمّل العرف في إجراء تلك الأحكام على الدقيق والزبيب؟.

أي : لا يتأمّلون في إجراء ما تعلّق بالحنطة والعنب بالأصالة أو بالعرض من الحكم على الدقيق والزبيب من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا ، لشمول نفس الدليل الاجتهادي ؛ لأن الموضوع عندهم أعمّ ممّا يوجد في العنوان المستحال كالحنطة والعنب ، والمستحال إليه كالدقيق والزبيب.

كما لا يتأمّلون في عدم جريان الاستصحاب في استحالة الخشب دخانا والماء المتنجّس بولا لمأكول اللحم ، وذلك لتبدّل الموضوع في كلا المثالين عندهم ، خصوصا إذا اطّلعوا على زوال النجاسة بالاستحالة ، كما ذهب إليه المشهور ، إذ بعد اطّلاعهم على ما ذهب إليه المشهور من زوال النجاسة بالاستحالة يحصل لهم العلم ولو بتنقيح المناط بعدم بقاء الموضوع بعد استحالة المتنجّسات.

كما أنّ العلماء ـ أيضا ـ لم يفرّقوا في الاستحالة بين النجس والمتنجّس ، إذ كلّ من قال بمطهريّة استحالة النجس قال بمطهريّة استحالة المتنجّس ـ أيضا ـ وبالعكس.

بل جعل بعضهم الاستحالة مطهرة للمتنجّس بالأولويّة الجليّة حتى تمسّك بها في المقام من لا يقول بحجّيّة مطلق الظنّ.

٢٣٢

وممّا ذكرنا ظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة ، تبعا للفاضل الهندي قدس‌سره ، من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الإسم حتى يطهّر بالاستحالة.

فالتحقيق : إنّ مراتب تغيّر الصورة في الأجسام مختلفة ، بل الأحكام أيضا مختلفة.

ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب. وفي بعض آخر ، لا يحكمون بذلك ويثبتون الحكم بالاستصحاب ، وفي ثالث ،

____________________________________

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي أنّ صاحب المعالم رحمه‌الله تمسّك في المسألة بالأولويّة لا من باب الظنّ المطلق لعدم اعتباره عنده ، ولا من باب الظنّ الخاصّ لعدم كونها منه ، بل لكونها قطعيّة ، وجه الأولوية أنّ النجس أشدّ قذارة من المتنجّس.

وممّا ذكرنا من أنّ النجاسة في المتنجّسات لم تكن محمولة على الجسم ، والتعبير بالجسم يكون لإفادة تعميم الحكم بالنجاسة بالملاقاة ، لا لبيان محلّ النجاسة.

ظهر وجه النظر فيما ذكره جماعة ، تبعا للفاضل الهندي قدس‌سره ، من أنّ الحكم في المتنجّسات ليس دائرا مدار الإسم الخاصّ والعنوان المخصوص حتى يطهّر بالاستحالة ، بل هو ثابت للجسم بما هو هو ، والجسم باق فالحكم أيضا ثابت.

فالتحقيق : إنّ مراتب تغيّر الصورة في الأجسام مختلفة ، بل الأحكام أيضا مختلفة.

وقد يأتي تفصيل اختلاف مراتب تغيّر الصورة في الأجسام بحيث يكون بعضها موجبا لانتفاء الموضوع عند العرف وبعضها لا يكون موجبا لانتفاء الموضوع. وأمّا اختلاف الأحكام ، فلأنّ بعضها يدور مدار الإسم والعنوان الخاص ، كما لو نذر للفقير منّا من العنب لا تبرأ ذمّته بإعطاء الزبيب ، وبعضها لا يدور مدار الإسم ، كالحلّيّة والحرمة ، فهما ثابتان في الزبيب بنفس الدليل الدالّ على ثبوتهما في العنب ، كما أشار إليه بقوله :

ففي بعض مراتب التغيّر يحكم العرف بجريان دليل العنوان من غير حاجة إلى الاستصحاب ، لأن الموضوع عندهم أعمّ ممّا يوجد في العنوان المستحال والمستحال إليه.

وفي بعض آخر لا يحكمون بذلك ، أي : بجريان الدليل الدالّ على ثبوت الحكم بعنوان مع كون الموضوع في نظرهم هو الأعمّ من واجد العنوان وفاقده ، إلّا أنّه يشكّ في بقاء الحكم ، لاحتمال كون العنوان علّة للحكم بقاء أيضا ، فيثبتون الحكم بالاستصحاب ، كما أشار

٢٣٣

لا يجرون الاستصحاب أيضا من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس.

فمن الأوّل : ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّيّة أو الطهارة أو النجاسة ، فإنّ الظاهر جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب. فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ ممّا جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ، مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين. ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الآخر ، والظاهر أنّهم لا يحتاجون في إجراء الأحكام المذكورة إلى الاستصحاب.

ومن الثاني : إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خلّا وصيرورة الكلب أو الإنسان جمادا بالموت.

____________________________________

إليه بقوله :

ويثبتون الحكم بالاستصحاب. وفي بعض المراتب لا يقولون بالاستصحاب أيضا ، كما أشار إليه بقوله :

وفي ثالث لا يجرون الاستصحاب أيضا إمّا لانتفاء الموضوع في نظرهم ، أو لتردّدهم في البقاء والانتفاء ، وقد عرفت أنّ الاستصحاب لا يجري ما لم يحرز الموضوع.

قوله : من غير فرق في حكم النجاسة بين النجس والمتنجّس إشارة إلى جريان المراتب الثلاث لتغيّر الموضوع في نظر العرف في جميع الأبواب من غير فرق بين النجس والمتنجّس.

ثم يذكر المصنف قدس‌سره لكلّ من المراتب الثلاث أمثلة ، وقد أشار إلى الأوّل منها بقوله :

فمن الأوّل : ما لو حكم على الرطب أو العنب بالحلّية أو الطهارة أو النجاسة ، فإنّ الظاهر جريان عموم أدلّة هذه الأحكام للتمر والزبيب. فكأنّهم يفهمون من الرطب والعنب الأعمّ ممّا جفّ منهما فصار تمرا أو زبيبا ، مع أنّ الظاهر تغاير الاسمين بحيث كان إطلاق أحدهما مكان الآخر مجازا.

ولهذا لو حلف على ترك أحدهما لم يحنث بأكل الآخر. والمطلب واضح لا يحتاج إلى البيان ، ثمّ يكون من هذا القسم صيرورة الحنطة دقيقا.

ومن الثاني : إجراء حكم بول غير المأكول إذا صار بولا لمأكول وبالعكس ، وكذا صيرورة الخمر خلّا وصيرورة الكلب أو الإنسان جمادا بالموت لا بالاستحالة إلى التراب

٢٣٤

إلّا أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ؛ إمّا للنصّ ، كما في الخمر المستحيل خلّا ، وإمّا لعموم دليل ما دلّ على حكم المنتقل إليه ، فإنّ الظاهر أنّ استفادة طهارة المستحال إليه إذا كان بولا لمأكول ليس من أصالة الطهارة بعد عدم جريان الاستصحاب ، بل هو من الدليل ، نظير استفادة نجاسة بول المأكول إذا صار بولا لغير المأكول.

ومن الثالث : استحالة العذرة او الدّهن المتنجّس دخانا والمنيّ حيوانا ، ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة ، فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ معنى قولهم : «الأحكام تدور مدار الأسماء» ، أنّها تدور مدار أسماء

____________________________________

ونحوه ، وإجراء حكم الزوجيّة بعد الموت ونجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره. فالموضوع في هذه الأمثلة باق عرفا فيجري الاستصحاب لو شكّ في بقاء الحكم من جهة مدخليّة العنوان في الحكم بقاء.

إلّا أن يدلّ دليل خارجي على ارتفاع الحكم السابق فلا يبقى حينئذ مجال للاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

إلّا أنّ الشارع حكم في بعض هذه الموارد بارتفاع الحكم السابق ، إمّا للنصّ الخاصّ ، كما في الخمر المستحيل خلّا ، وإمّا لعموم دليل ما دلّ على حكم المنتقل إليه.

كدليل طهارة بول المأكول ونجاسة بول غير المأكول في المثال الأوّل ، ودليل حلّيّة الخلّ في المثال الثاني ، ودليل نجاسة الميّتة في المثال الثالث ، فلو لا الدليل الدالّ على حكم المنتقل إليه في الامثلة المذكورة لجرى الاستصحاب فيثبت به حكم المنتقل عنه للمنتقل إليه ، كما يستصحب الزوجيّة ونجاسة الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره. وذلك لبقاء الموضوع عرفا في الأمثلة المذكورة ، إلّا أنّ الدليل الخارجي على ارتفاع الحالة السابقة مانع عن الاستصحاب.

ومن الثالث : استحالة العذرة أو الدهن المتنجّس دخانا والمنيّ حيوانا ، ولو نوقش في بعض الأمثلة المذكورة للمراتب الثلاث لتغيّر الموضوع ، بأن يقال بانتفاء الموضوع عرفا عند انقلاب الخمر خلّا وبالعكس.

فالمثال غير عزيز على المتتبّع المتأمّل ، كمثال استحالة العظم أو الخشب فحما وانتقال دم الإنسان إلى البرغوث مثلا ، حيث يكون الموضوع باقيا عرفا في هذه الأمثلة.

٢٣٥

موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها ، فإذا قال الشارع : «العنب حلال» فإذا ثبت كون الموضوع هو مسمّى هذا الإسم دار الحكم مداره ، فينتفي عند صيرورته زبيبا ، أمّا إذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب المشترك بينه وبين الزبيب أو بينهما وبين العصير ، دار الحكم مداره أيضا.

نعم ، تبقى دعوى : «إنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة كون الموضوع هو العنوان وتقوّم الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه». لكنّك عرفت أنّ العناوين مختلفة والأحكام ـ أيضا ـ مختلفة ، وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم

____________________________________

وممّا ذكرنا ، من أنّ الميزان في بقاء الموضوع هو العرف وأنّ مراتب تغيّر الموضوع مختلفة عندهم يظهر أنّ معنى قولهم : الأحكام تدور مدار الأسماء ، أنّها تدور مدار أسماء موضوعاتها التي هي المعيار في وجودها وعدمها.

لأن الموضوعات بالنسبة إلى الأحكام تكون كالعلل بالنسبة إلى معلولاتها ، وتكون الأسماء حاكية عن المسمّيات التي هي الموضوعات للأحكام ، فالأحكام تدور مدار الأسماء الحاكية عن الموضوعات فتنتفي بانتفائها ، إلّا أن يعلم بأنّ الموضوع أعمّ ممّا يحكي عنه الإسم في ظاهر الدليل ، كما أشار إليه بقوله :

أمّا إذا علم من العرف أو غيره أنّ الموضوع هو الكلّي الموجود في العنب المشترك بينه وبين الزبيب أو بينهما وبين العصير ، دار الحكم مداره أيضا.

غاية الأمر لا يدور الحكم مدار الإسم ، كالعنب ؛ لأن الموضوع أوسع منه ، فيدور الحكم مدار ما هو القدر المشترك بينه وبين غيره.

نعم ، تبقى دعوى : إنّ ظاهر اللفظ في مثل القضيّة المذكورة ـ أعني : العنب حلال ـ كون الموضوع هو العنوان وتقوّم الحكم به المستلزم لانتفائه بانتفائه. لكنّك عرفت أنّ العناوين مختلفة عند العرف.

إذ قد يكون الموضوع نفس العنوان كما عرفت في النذر حيث لا تبرأ ذمّة من نذر منّا من العنب للفقير بدفع منّا من الزبيب له ، كما لا يحصل الحنث بترك الزبيب.

وقد يكون الموضوع ما هو المشترك بينه وبين عنوان المستحال إليه ، كالموضوع في الحكم بالحلّيّة أو الحرمة.

٢٣٦

واختيار الفاضلين له.

ودعوى : «احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى القرينة الخارجيّة ، وإلّا فظاهر اللفظ كون القضيّة ما دام الوصف العنواني» ، لا تضرّنا فيما نحن بصدده ، لأنّ المقصود مراعاة العرف في تشخيص الموضوع وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة ، ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظي إذا كان العرف بالنسبة إلى القضيّة الخاصّة على خلافه.

وحينئذ فيستقيم أن يراد من قولهم : «إنّ الأحكام تدور مدار الأسماء» إنّ مقتضى ظاهر

____________________________________

وقد تقدّم حكاية بقاء نجاسة الخنزير المستحيل ملحا عن أكثر أهل العلم واختيار الفاضلين له.

قال الاستاذ الاعتمادي : لا يخفى أنّه لم يتقدّم منه قدس‌سره حكاية هذا بالصراحة ، بل أنّ بعضهم حكم ببقاء نجاسة الأشياء بعد الاستحالة ، فيشمل مثل صيرورة الخنزير أو الكلب ملحا بوقوعه في المملحة.

ودعوى : احتياج استفادة غير ما ذكر من ظاهر اللفظ إلى القرينة الخارجيّة ، وإلّا فظاهر اللفظ كون القضيّة ما دام الوصف العنواني.

أي : كون الحكم في القضيّة مثل العنب حلال يدور مدار الوصف العنواني ، فالحمل على خلاف الظاهر المذكور يحتاج الى القرينة الخارجيّة.

إلّا أنّ الدعوى المذكورة لا تضرّنا فيما نحن بصدده ، لأن المقصود لزوم متابعة القرينة على الخلاف على تقدير وجودها.

وبعبارة اخرى كما في شرح الاعتمادي لزوم مراعاة العرف في تشخيص الموضوع وعدم الاقتصار في ذلك على ما يقتضيه العقل على وجه الدقّة ، ولا على ما يقتضيه الدليل اللفظي إذا كان العرف بالنسبة إلى القضيّة الخاصّة على خلافه فيؤخذ ـ حينئذ ـ بما فهمه العرف لا بظاهر الدليل.

لأن فهم العرف قرينة على أنّ المراد من الدليل هو خلاف ظاهره ، فمقتضى ظاهر الدليل وإن كان تبعيّة الحكم لاسم الموضوع إلّا أنّه قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف ، لأنّ مقتضى فهمهم هو جريان حكم العنب في الزبيب أيضا ، كما أشار إليه بقوله :

٢٣٧

دليل الحكم تبعيّة ذلك الحكم لاسم الموضوع الذي علّق عليه الحكم في ظاهر الدليل ، فيراد من هذه القضيّة تأسيس أصل ، قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ، فافهم.

____________________________________

قد يعدل عنه بقرينة فهم العرف أو غيره ، كإعلام الشارع بإجماع أو غيره بأنّ الزبيب في حكم العنب.

فافهم لعلّه إشارة إلى أنّ لازم جعل فهم العرف قرينة على ما هو المراد من الدليل هو عدم كون الإسم المذكور مناطا للحكم أصلا ، بل المناط ما هو الموضوع في نظر العرف ، فلا يتمّ ـ حينئذ ـ قولهم : «الأحكام تدور مدار الأسماء» إلّا أن تكون الأسماء كناية عن الموضوعات الواقعيّة.

٢٣٨

الأمر الثاني ممّا يعتبر في تحقّق الاستصحاب أن يكون في حال الشكّ متيقّنا بوجود المستصحب في السابق ، حتى يكون شكّه في البقاء.

فلو كان الشكّ في تحقّق نفس ما تيقّنه سابقا ـ كأن تيقّن عدالة زيد في زمان كيوم الجمعة مثلا ، ثمّ شكّ في نفس هذا المتيقّن ، وهو عدالته يوم الجمعة ، بأن زال مدرك اعتقاده السابق فشكّ في مطابقته للواقع أو كونه جهلا مركّبا ـ لم يكن هذا من مورد الاستصحاب لغة ولا اصطلاحا.

أمّا الأوّل ، فلأن الاستصحاب في اللّغة : أخذ الشيء مصاحبا ، فلا بدّ من إحراز ذلك حتى يأخذه مصاحبا ، فإذا شكّ في حدوثه من أصله فلا استصحاب.

وأمّا اصطلاحا ، فلأنهم اتفقوا على أخذ الشكّ في البقاء أو ما يؤدّي هذا المعنى في معنى الاستصحاب.

____________________________________

الأمر الثاني : ممّا يعتبر في تحقّق الاستصحاب أن يكون في حال الشكّ متيقّنا بوجود المستصحب في السابق ، حتى يكون شكّه في البقاء.

والغرض من هذا الشرط في الاستصحاب هو ردّ توهّم كون قاعدة اليقين من الاستصحاب أو شمول أدلّته لها ، فإنّ قاعدة اليقين على ما هو صريح كلام المصنف قدس‌سره لم تكن من الاستصحاب لا لغة ولا اصطلاحا.

أمّا الأوّل ، فلأن الاستصحاب في اللّغة : أخذ الشيء مصاحبا ، فلا بدّ من إحراز ذلك الشيء أوّلا ، ثمّ أخذه مصاحبا ثانيا ، كي يصدق على ذلك الاستصحاب بالمعنى اللغوي.

وأمّا إذا شكّ في أصل حدوث ذلك الشيء ، كما هو مقتضى قاعدة اليقين فلا شيء حتى يأخذه مصاحبا ، كي يصدق عليه الاستصحاب بالمعنى اللغوي. هذا تمام الكلام في عدم صدق الاستصحاب لغة على قاعدة اليقين.

وأمّا عدم صدقه عليها اصطلاحا فيتّضح بالشرط المذكور ، وهو أن يكون الشكّ متعلّقا ببقاء ما هو المتيقّن سابقا ، كما أشار إليه بقوله :

وأمّا اصطلاحا ، فلأنهم اتفقوا على أخذ الشكّ في البقاء ، مع أنّ الشكّ في مورد

٢٣٩

نعم ، لو ثبت أنّ الشكّ بعد اليقين بهذا المعنى ملغى في نظر الشارع ، فهي قاعدة اخرى مباينة للاستصحاب ، سنتكلّم فيها ، بعد دفع توهّم من توهّم أنّ أدلّة الاستصحاب تشملها وأنّ مدلولها لا يختصّ بالشكّ في البقاء ، بل الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا ، سواء تعلّق بنفس ما تيقّنه سابقا ام ببقائه.

____________________________________

القاعدة يكون في الحدوث لا في البقاء ، فلا يصدق الاستصحاب اصطلاحا على قاعدة اليقين ؛ لأنّ الشكّ في البقاء المأخوذ في معنى الاستصحاب الاصطلاحي منتف في قاعدة اليقين.

نعم ، لو ثبت أنّ الشكّ بعد اليقين بهذا المعنى.

أي : تعلّق الشكّ بنفس ما هو المتيقّن سابقا لا ببقائه ملغى في نظر الشارع ، فهي قاعدة اخرى باسم قاعدة اليقين والشكّ الساري مباينة للاستصحاب ، سنتكلّم فيها ، بعد دفع توهّم من توهّم أنّ أدلّة الاستصحاب تشملها وأنّ مدلولها لا يختصّ بالشكّ في البقاء ، بل الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا.

أي : كان الشكّ في البقاء كمورد الاستصحاب أو في الحدوث كمورد القاعدة. وكيف كان ، فلا بدّ أوّلا من تقريب التوهّم ، وثانيا من الجواب عنه.

أمّا تقريب التوهّم ، فهو أن يقال : إنّ الموضوع للحكم بالحرمة في قوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ (١) هو اليقين المتعقّب بالشكّ ، فيكون معناه أنّ الشكّ بعد اليقين ملغى مطلقا سواء تعلّق بنفس ما تعلّق به اليقين سابقا أم ببقائه ، ونقض ذلك اليقين بمطلق الشكّ حرام.

أمّا كون الحدوث محرزا أو غير محرز ، فهو ممّا لا دخل له في الحكم ، بل هما من خصوصيّات الموارد ؛ لأن الشكّ المسبوق باليقين قد يكون متعلّقا ببقاء ما تعلّق به اليقين ، فيكون حدوثه محرزا.

وقد يكون متعلّقا بعين ما تعلّق به اليقين فيكون حدوثه غير محرز ، لكون الشكّ متعلّقا بحدوثه ، والاختلاف الناشئ من خصوصيّات الموارد لا يمنع عن التمسّك بإطلاق القضيّة الدالّة على حرمة نقض اليقين بالشكّ ، كما أنّ اختلاف خصوصيّات موارد الاستصحاب لا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٢٤٠