دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

والشهيدان ، وغيرهم في بعض الموارد ، منها : مسألة اتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها. فإنّهم حكموا بأنّ القول قول مدّعي تأخّر الموت.

نعم ، ربما يظهر ـ من إطلاقهم التوقّف في بعض المقامات من غير تفصيل بين العلم بتاريخ أحد الحادثين وبين الجهل بهما ـ عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم تاريخ الآخر ،

____________________________________

وقد عرفت أنّ نفس التأخّر ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم سبق اليقين به ، وإثبات تأخّر مجهول التاريخ عن معلوم التاريخ بأصالة عدم مجهول التاريخ إلى زمان وجود معلوم التاريخ لا يصحّ إلّا على القول بالأصل المثبت.

ومع ذلك يظهر من المشهور إثبات التأخّر بالأصل المذكور ، كما أشار إليه بقوله :

وهو ظاهر المشهور ، وقد صرّح بالعمل به الشيخ ، وابن حمزة ، والمحقّق ، والعلّامة ، والشهيدان ، وغيرهم في بعض الموارد ، منها : مسألة اتفاق الوارثين على إسلام أحدهما في غرّة رمضان واختلافهما في موت المورّث قبل الغرّة أو بعدها. فإنّهم حكموا بأنّ القول قول مدّعي تأخّر الموت.

ومن المعلوم أنّ تقديم قول مدّعي تأخّر الموت عن الإسلام مبنيّ على القول بالأصل المثبت ، بناء على كون موضوع الإرث موت المورّث عن وارث مسلم.

إذ حينئذ يستصحب بقاء حياة المورّث إلى زمان إسلام الوارث ، أعني : غرّة رمضان ، فيثبت به حدوث الموت بعد الإسلام ، فيثبت الإرث لتحقّق موضوعه ، أعني : موت المورّث عن وارث مسلم.

فالإرث لا يترتّب على نفس المستصحب ، أعني : حياة المورّث ، بل يترتّب على لازمه العقلي الاتفاقي ، أعني : موت المورّث عن وارث مسلم ، وهو عبارة اخرى لتأخّر الموت عن الإسلام. فحكمهم بتقديم قول مدّعي تأخّر الموت عن الإسلام لا يتمّ إلّا بالتزامهم على اعتبار الأصل المثبت.

نعم ، ربّما يظهر ـ من إطلاقهم التوقّف في بعض المقامات من غير تفصيل بين العلم بتاريخ أحد الحادثين وبين الجهل بهما ـ عدم العمل بالأصل في المجهول مع علم تاريخ الآخر.

ومقتضى إطلاق التوقف هو التوقف عن العمل بالأصل في المجهول حتى مع العلم

١٠١

كمسألة اشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ومسألة اشتباه الجمعتين ، واشتباه موت المتوارثين ، ومسألة اشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع أو تأخّره عنه وغير ذلك.

لكنّ الإنصاف : عدم الوثوق بهذا الإطلاق ، بل هو إمّا محمول على صورة الجهل بتاريخهما ـ وأحالوا صورة العلم بتاريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر ـ أو على

____________________________________

بتاريخ الآخر ، فلا يردّ عليهم بما تقدّم من أنّهم يقولون بحجّيّة الأصل المثبت في طرف مجهول التاريخ في صورة العلم بتاريخ أحدهما.

وبالجملة ، إنّ حكمهم بالتوقف في بعض المقامات بالعمل بالأصل وإن كان في بعض موارد توارد الحادثين المجهولين من حيث التاريخ ، كما يظهر من الأمثلة المذكورة في المتن ، إلّا أنّ إطلاقهم يشمل صورتي الجهل بتاريخهما معا أو بتاريخ أحدهما. كما يأتي توضيح ذلك في القول الثاني.

كمسألة اشتباه تقدّم الطهارة أو الحدث ومسألة اشتباه الجمعتين.

بأن انعقدتا في أقلّ من فرسخ ولم يعلم المتقدّم عن المتأخّر حتى يحكم بصحّة ما هو المتقدّم منهما وبطلان ما هو المتأخّر.

واشتباه موت المتوارثين ، كما إذا علم موت الأب والابن ولم يعرف المتقدّم ، كما في شرح الاعتمادي.

ومسألة اشتباه تقدّم رجوع المرتهن عن الإذن في البيع على وقوع البيع أو تأخّره عنه.

إذ ربّما يقع الشكّ في تقدّم البيع عن رجوع المرتهن عن إذنه فيصحّ البيع ، أو تقدّم الرجوع عن البيع فيبطل البيع ؛ لأن المالك لا يجوز له بيع العين المرهونة إلّا بإذن المرتهن ، فإذا لم يأذن من الأوّل أو رجع عن إذنه بطل البيع.

وكيف كان ، فقد توقّفوا عن الرجوع إلى الأصل في هذه الموارد ، ومقتضى إطلاقهم يشمل المقام أيضا ، ولازم ذلك عدم عملهم في المقام بالأصل أصلا فضلا عن الأصل المثبت ، وقد أجاب المصنف قدس‌سره عن إطلاق التوقف بقوله :

لكنّ الإنصاف : عدم الوثوق بهذا الإطلاق ، بل هو إمّا محمول على صورة الجهل بتاريخهما ، وأحالوا صورة العلم بتاريخ أحدهما على ما صرّحوا به في مقام آخر.

١٠٢

محامل أخر.

وكيف كان ، فحكمهم في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الإسلام وتأخّره مع إطلاقهم في تلك الموارد من قبيل النصّ والظاهر. مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الإطلاق في موارد ، كالشهيدين في الدروس والمسالك ، في مسألة الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الإذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلّامة الطباطبائيّ في مسألة اشتباه السابق من الحدث والطهارة.

هذا مع أنّه لا يخفى على متتبّع موارد هذه المسائل وشبهها ممّا يرجع في حكمها إلى

____________________________________

مثل مسألة إسلام الوارث في غرّة رمضان ، حيث علمت بأنّهم صرّحوا بالعمل بالأصل ، أعني : استصحاب عدم موت المورّث حين الإسلام فيها ، وأثبتوا به تأخّر الموت الموجب للإرث.

أو على محامل أخر ، كغفلتهم عن كون الأصل مثبتا ، أو اضطراب كلماتهم في مسألة الحادثين ، كاضطرابها في أصل العمل بالاصول المثبتة. كما سيأتي التصريح به في كلام المصنف قدس‌سره.

وكيف كان ، فحكمهم بإثبات التأخّر بالأصل في مسألة الاختلاف في تقدّم الموت على الإسلام وتأخّره مع إطلاقهم في تلك الموارد من قبيل النصّ والظاهر.

حيث يكون الأوّل نصّا في جواز إثبات تأخّر مجهول التاريخ بالأصل ، والثاني ظاهرا في التوقف في صورتي الجهل بتاريخهما والجهل بتاريخ أحدهما.

ومن المعلوم أنّ النصّ مقدّم على الظاهر ، فيجب الأخذ به ورفع اليد عن ظهور الظاهر ، ولازم ذلك هو التزامهم باعتبار الأصل المثبت.

هذا مع أنّ جماعة منهم نصّوا على تقييد هذا الإطلاق في موارد.

حيث صرّحوا فيها بأنّ التوقف في مسألة الحادثين إنّما هو في مجهولي التاريخ.

كالشهيدين في الدروس والمسالك ، في مسألة الاختلاف في تقدّم الرجوع عن الإذن في بيع الرهن على بيعه وتأخّره ، والعلّامة الطباطبائيّ في مسألة اشتباه السابق من الحدث والطهارة.

فحكموا بالتوقف في هذه الموارد مع كون الحادثين فيها مجهولي التاريخ.

١٠٣

الاصول ، أنّ غفلة بعضهم ، بل أكثرهم عن مجاري الاصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة.

الثاني : عدم العمل بالأصل وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما. وقد صرّح به بعض المعاصرين ، تبعا لبعض الأساطين.

مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين ، والطهارة ، والحدث ، وموت المتوارثين ، مستدلّا على ذلك بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل.

____________________________________

هذا مع أنّه لا يخفى على متتبّع موارد هذه المسائل وشبهها ممّا يرجع في حكمها إلى الاصول ، أنّ غفلة بعضهم ، بل أكثرهم عن مجاري الاصول في بعض شقوق المسألة غير عزيزة.

كغفلتهم في المقام عن الشق الآخر ، أعني : صورة العلم بتاريخ أحدهما. هذا تمام الكلام في القول الأوّل من القولين الآخرين. وقد أشار إلى الثاني بقوله :

الثاني : عدم العمل بالأصل أصلا في صورة جهل تاريخ الحادثين.

وإلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما في الحكم بالتوقف.

وقد صرّح به بعض المعاصرين ، أعني : صاحب الجواهر تبعا لبعض الأساطين ، أعني : صاحب مفتاح الكرامة على ما في الأوثق.

وحاصل الكلام أنّ صاحب الجواهر حكم بالتوقف والرجوع إلى قاعدة اخرى في موارد حدوث الحادثين ، ولم يفرّق بين صورة جهل تاريخهما وبين جهل تاريخ أحدهما في لزوم التوقف وعدم العمل بالأصل.

فلا بدّ في هذا المقام أوّلا من بيان وجه إلحاق صورة جهل تاريخ أحدهما بصورة جهل تاريخهما في الحكم بلزوم التوقّف ، وثانيا من بيان وجه عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ.

أمّا وجه الإلحاق ، فقد أشار إليه بقوله : مستشهدا على ذلك بعدم تفصيل الجماعة في مسألة الجمعتين ، والطهارة ، والحدث ، وموت المتوارثين.

أي : استشهد صاحب الجواهر على الإلحاق بعدم تفصيل الجماعة في المسائل المذكورة وغيرها بين الصورتين. ثمّ أشار إلى وجه عدم جريان الأصل بقوله :

١٠٤

وظاهر استدلاله إرادة ما ذكرنا ، من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر وكون المجهول متحقّقا بعد المعلوم.

لكنّ ظاهر استشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة ، إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتاريخ أحدهما أصلا ، فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة وشككنا في حياة ولده في ذلك الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده فيحكم له بإرث أبيه. وظاهر هذا

____________________________________

مستدلّا على ذلك.

أي : استدلّ صاحب الجواهر على عدم جريان الأصل في مجهول التاريخ بأنّ التأخّر ليس أمرا مطابقا للأصل ، أي : مجرى الأصل والاستصحاب ، كما عرفت سابقا من أنّ عنوان التأخّر ليس مجرى الاستصحاب لعدم سبق اليقين به ، وإثباته باستصحاب عدم الآخر مبنيّ على القول بالأصل المثبت ، كما أشار اليه بقوله :

وظاهر استدلاله إرادة ما ذكرنا ، من عدم ترتيب أحكام صفة التأخّر وكون المجهول متحقّقا بعد المعلوم.

أي : ظاهر استدلال صاحب الجواهر هو إرادة عدم ترتّب الأثر الشرعي على أصالة عدم وجود المجهول في زمان المعلوم من جهة كونها أصلا مثبتا ، إذ الأثر مترتّب على التأخّر ولا يثبت بالأصل المذكور. ولم يكن ظاهر استدلاله إرادة منع جريان الأصل رأسا ، بل يجري الأصل إن ترتّب الأثر الشرعي على نفس المستصحب لا على عنوان التأخر وهذا عين ما تقدّم من المصنّف قدس‌سره فراجع.

لكنّ ظاهر استشهاده بعدم تفصيل الأصحاب في المسائل المذكورة ، إرادة عدم ثمرة مترتّبة على العلم بتاريخ أحدهما أصلا.

بمعنى عدم الحكم بمقتضى الأصل في كلتا الصورتين. غاية الأمر أنّ عدم الحكم في صورة جهل تاريخهما يمكن أن يكون من جهة تعارض الأصلين ، وفي صورة جهل تاريخ أحدهما من جهة كون الأصل فيه مثبتا.

وبالجملة ، تظهر الثمرة ـ بين القول بالتفصيل بين صورة جهل تاريخهما حيث لا يجرى الأصل ، وبين صورة جهل تاريخ أحدهما فيجري الأصل في طرف المجهول وبين هذا القول ـ فيما فإذا فرضنا العلم بموت زيد في يوم الجمعة وشككنا في حياة ولده في ذلك

١٠٥

القائل عدم الحكم بذلك وكون حكمه حكم الجهل بتاريخ موت زيد أيضا في عدم التوارث بينهما.

وكيف كان ، فإن أراد هذا القائل ترتيب آثار تأخّر ذلك الحادث ـ كما هو المشهور ـ فإنكاره في محلّه ، وإن أراد عدم جواز التمسّك باستصحاب عدم ذلك الحادث ووجود ضدّه وترتيب جميع آثاره الشرعيّة في زمان الشكّ ، فلا وجه لإنكاره ، إذ لا يعقل الفرق بين مستصحب علم بارتفاعه في زمان وما لم يعلم.

وأمّا ما ذكره من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها فقد عرفت ما فيه.

____________________________________

الزمان ، فالأصل بقاء حياة ولده فيحكم له بإرث أبيه على القول بالتفصيل.

ولا يحكم له بالإرث على قول هذا القائل ، الذي يقول بعدم ترتّب الأثر الشرعي على كلتا الصورتين. فيكون حكم صورة جهل تاريخ أحدهما ، كحكم صورة جهل تاريخهما في عدم التوارث بينهما على ما هو ظاهر هذا القائل ، وذلك لأصالة عدم استحقاق الإرث.

وكيف كان ، فإن أراد هذا القائل من عدم ترتّب الأثر الشرعي على الأصل نفي ترتيب آثار تأخّر ذلك الحادث ، كما هو ، أي : ترتيب الآثار على التأخّر ظاهر المشهور ، فإنكاره في محلّه ، لما مرّ غير مرّة من أنّ التأخّر لا يثبت بالأصل.

وإن أراد عدم جواز التمسّك باستصحاب عدم ذلك الحادث ، أي : عدم موت الولد ووجود ضدّه وعدم جواز استصحاب حياة الولد وترتيب جميع آثاره ، أي : عدم جواز ترتيب آثار الأصل الشرعيّة في زمان الشكّ ، فلا وجه لإنكاره إذ لا يعقل الفرق بين مستصحب علم بارتفاعه في زمان وما لم يعلم كما عرفت.

وحينئذ ، فكما تستصحب حياة زيد فيما لو شكّ في أصل موته ، كذلك تستصحب فيما لو شكّ في حياته إلى زمن موت أبيه مع العلم بارتفاعها بعده.

وأمّا ما ذكره من عدم تفصيل الأصحاب في مسألة الجمعتين وأخواتها فقد عرفت ما فيه من المحامل :

منها : إنّ الإطلاق محمول على ما نصّوا عليه من التقييد في مقام آخر.

ومنها : إنّه محمول على الاضطراب.

١٠٦

فالحاصل : إنّ المعتبر في مورد الشكّ في تأخّر حادث آخر استصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر ، فإن كان زمان حدوثه معلوما ، فتجري أحكام بقاء المستصحب في زمان الحادث المعلوم لا غيرها. فإذا علم بتطهّره في الساعة الاولى من النهار وشكّ في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة ، لكن لا يلزم من ذلك ارتفاع الطهارة المتحقّقة في الساعة الاولى ، كما تخيّله بعض الفحول. وإن كان مجهولا كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالا ، وسيجيء توضيحه.

____________________________________

ومنها : إنّه محمول على الغفلة. وقد تقدّم جميعها فراجع. ومن هنا نبدأ في توضيح عبارات الكتاب طبقا لما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

فالحاصل : إنّ المعتبر في مورد الشكّ في تأخّر حادث آخر استصحاب عدم الحادث في زمان حدوث الآخر إن ترتّب عليه الأثر الشرعي من دون تعارض بالمثل.

فإن كان زمان حدوثه ، أي : الآخر معلوما ، فتجري أحكام بقاء المستصحب ، كحياة الولد مثلا في زمان الحادث المعلوم ، كموت الأب يوم الجمعة مثلا لا غيرها ، أي : لا يترتّب على المستصحب غير تلك الأحكام ، كأحكام التأخّر ؛ لأن الأصل بالنسبة إليه مثبت.

فإذا علم بتطهّره في الساعة الاولى من النهار وشكّ في تحقّق الحدث قبل تلك الساعة أو بعدها ، فالأصل عدم الحدث فيما قبل الساعة إن ترتّب الأثر الشرعي على نفس عدم الحدث فرضا.

وإذا كان الأثر مترتّبا على تأخّر الحدث عن الطهارة لا يجري الأصل ، لكونه حينئذ أصلا مثبتا ، فلا يثبت به تأخّر الحدث وكونه محدثا ، كما أشار إليه بقوله :

لكن لا يلزم من ذلك ارتفاع الطهارة المتحقّقة في الساعة الاولى ، كما تخيّله بعض الفحول ، أي : بحر العلوم على ما في شرح الاعتمادي.

وإن كان مجهولا ، أي : وإن كان زمان حدوث الآخر ـ أيضا ـ مجهولا كان حكمه حكم أحد الحادثين المعلوم حدوث أحدهما إجمالا وسيجيء توضيحه في تعارض الاستصحابين ، فحكم ما إذا علم بحدوث الملاقاة والكريّة كلتيهما مثلا ولم يعلم بأنّ المتأخّر أيّهما حكم ما إذا علم بموت زيد وعمرو مثلا ، ولم يعلم أنّ الحادث أيّهما من

١٠٧

واعلم : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه ، ويحكم بتقدّمه ، لأنّ تأخّره لازم لحدوث حادث آخر قبله ، والأصل عدمه ، وقد يسمّى ذلك بالاستصحاب القهقري ، مثاله : إنّه إذا ثبت أنّ صيغة الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا ، وشكّ في كونها كذلك قبل ذلك ، حتى تحمل خطابات الشارع على ذلك ، فيقال : مقتضى الأصل كون الصيغة حقيقة فيه في ذلك الزمان بل قبله ، إذ لو كانت في ذلك الزمان حقيقة في غيره لزم النقل وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه.

وهذا إنّما يصحّ بناء على الأصل المثبت ، وقد استظهرنا سابقا أنّه متفق عليه في الاصول اللفظيّة ، ومورده صورة الشكّ في وحدة المعنى وتعدّده.

____________________________________

جهة تعارض الاستصحابين في الصورتين.

واعلم : أنّه قد يوجد شيء في زمان ويشكّ في مبدئه.

ومن هنا يبدأ المصنف قدس‌سره في بيان الاستصحاب القهقري ، ويسمّى أيضا بالاستصحاب المعكوس وأصالة التقدّم.

ولا دليل على اعتبار هذا الأصل بأحد عناوينه المذكورة ؛ وذلك فإنّ أخبار الباب لا تشملها ، لظهورها فيما إذا كان اليقين في السابق والشكّ في اللّاحق ، والأمر في هذا الاستصحاب بالعكس ، حيث يكون اليقين في اللّاحق والشكّ في السابق ، لأنا نعلم بأنّ الأمر حقيقة في الوجوب في عرفنا بالفعل ، والشكّ في أنّه هل كان كذلك في السابق أم لا؟

بل كان بمعنى الندب وقد نقل عنه بمعنى الوجوب ويحكم بتقدّمه بأصالة التقدّم أو بقاعدة عدم النقل وعدم تعدّد الوضع ، لأن تأخّره لازم لحدوث حادث آخر قبله ، كالنقل وتعدّد الوضع ، والأصل عدمه.

فهذا الأصل ليس باستصحاب مصطلح عند الاصوليين إلّا أنّه قد يسمّى مجازا بالاستصحاب القهقري ، كما في المتن ، هذا مع أنّه أصل مثبت ، كما أشار إليه بقوله :

وهذا إنّما يصحّ بناء على الأصل المثبت ؛ لأن أصالة عدم حدوث النقل والوضع الجديد يستلزم عقلا كون هذا المعنى العرفي هو الموضوع له الأولى.

وقد استظهرنا سابقا عند دعوى الاتّفاق على اعتبار الاستصحاب في العدميّات. أنّه متفق عليه في الاصول اللفظيّة.

١٠٨

أمّا إذا علم التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في زماننا ، فمقتضى الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم ، ولذا اتفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة على أنّ الأصل فيها عدم الثبوت.

____________________________________

أي : اعتبار الأصل المثبت متفق عليه في الاصول اللفظيّة ، بل قيل : إنّه لا أصل لفظي ، إلّا وهو مثبت.

ثمّ وجه اعتبار الأصل المثبت في الأصل اللفظي هو أنّ اعتبار الاصول اللفظيّة إنّما هو ببناء العقلاء والظنّ النوعي ، فتكون من الأمارات ، وقد تقدّم في الفرق بين الاصول والأمارات أنّ مثبتات الأمارات حجّة بلا إشكال ، إلّا أن يقال أنّ الاصول اللفظيّة خارجة عن الاستصحاب رأسا وأصلا ؛ لأن حجّيّته من باب الأخبار والتعبّد لا من باب الظنّ.

أمّا إذا علم التعدّد وشكّ في مبدأ حدوث الوضع المعلوم في زماننا مثل أنّا نعلم أنّ الصلاة في اللغة بمعنى الدعاء ، وفي عرفنا بمعنى العبادة الخاصّة ، فيشكّ في أنّها نقلت إليها في زمن الشارع أو بعده فمقتضى الأصل عدم ثبوته قبل الزمان المعلوم ، ولذا اتفقوا في مسألة الحقيقة الشرعيّة على أنّ الأصل فيها عدم الثبوت انتهى الأمر السابع.

١٠٩

الأمر الثامن

قد تستصحب صحّة العبادة عند الشكّ في طروّ مفسد ، كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة ، أو وجود ما يشكّ في اعتبار عدمه. وقد اشتهر التمسّك بها بين الأصحاب ، كالشيخ والحلّي ، والمحقّق ، والعلّامة ، وغيرهم.

وتحقيقه وتوضيح مورد جريانه : إنّه لا شكّ ولا ريب في أنّ المراد بالصحّة المستصحبة ليس صحّة مجموع العمل ، لأن الغرض التمسّك به عند الشكّ في الأثناء. وأمّا صحّة الأجزاء

____________________________________

الأمر الثامن : قد تستصحب صحّة العبادة عند الشكّ في طروّ مفسد.

وقبل الخوض في البحث لا بدّ من بيان أمرين تحريرا لما هو محلّ الكلام في هذا المقام :

أحدهما : بيان ما هو المراد من صحّة العبادة المستصحبة.

وثانيهما : بيان ما هو مفسد للعبادة.

فنقول : إنّ فساد العبادة يمكن أن يكون ناشئا من أحد أمور :

منها : ترك ما شكّ في جزئيّته أو شرطيّته ، كالسورة والطمأنينة مثلا ، كما أشار إليه بقوله :

كفقد ما يشكّ في اعتبار وجوده في العبادة.

ومنها : ترك الجزء أو الشرط نسيانا ، كترك القراءة ورفع الستر مثلا كما في شرح الاعتمادي.

ومنها : احتمال مانعيّة ما هو الموجود ، كزيادة الجزء عمدا أو سهوا ، أو قاطعيّته كالضحك ، كما أشار إليه بقوله :

أو وجود ما يشكّ في اعتبار عدمه.

ومنها : احتمال وجود ما هو المانع قطعا ، كاحتمال طروّ النجاسة ، أو القاطع كذلك ، كاحتمال طروّ الحدث. هذا تمام الكلام فيما يحتمل أن يكون مفسدا للعبادة.

ثمّ المراد بالصحّة المستصحبة ليس صحّة تمام العمل ، وذلك لأحد وجهين :

الأوّل : ما أشار إليه بقوله : لأن الغرض التمسّك به عند الشكّ في الأثناء ، أي : في أثناء العمل ، ومن المعلوم أنّه لا يعقل فرض صحّة مجموع العمل في الأثناء.

١١٠

السابقة فالمراد بها : إمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، وإمّا ترتيب الأثر عليها.

أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل ام لا ، لأن فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء المأتيّ ، بها على طبق الأمر المتعلّق بها عن كونها كذلك ،

____________________________________

والثاني : إنّ صحّة تمام العمل في الأثناء غير متيقّنة ، إذ لا وجود لها حتى يتعلّق بها اليقين وتستصحب عند الشكّ فلا بدّ ـ حينئذ ـ أن يكون المراد بالصحّة هي صحّة الأجزاء السابقة. هذا تمام الكلام في موصوف ومعروض الصحّة.

ثمّ نفس الصحّة تارة تكون بمعنى موافقة ما أتى به المكلّف للأمر ، كما هو عند المتكلّمين ، واخرى تكون بمعنى مسقط الإعادة والقضاء ، كما هو عند الفقهاء ، وثالثة بمعنى ترتّب الأثر. هذا تمام الكلام في بيان تحرير محلّ الكلام.

ثمّ ما يظهر من المصنف قدس‌سره في استصحاب صحّة الأجزاء السابقة هو التفصيل بين ما إذا كان الشكّ في الصحّة من جهة ترك ما شكّ في شرطيّته أو جزئيته ، أو فعل ما يحتمل أن يكون وجوده مانعا ، وبين ما إذا كان الشكّ في الصحّة من جهة وجود قاطع للهيئة الاتصاليّة ، حيث يقول باستصحاب الصحّة في مورد الشكّ في عروض القاطع فقط دون غيره من الصور المتقدّمة ، فلا بدّ من بيان وجه التفصيل المذكور.

وقد أشار إلى وجه عدم جريان الاستصحاب في صحّة الأجزاء فيما إذا كان الشكّ من غير جهة عروض القاطع بقوله :

أمّا موافقتها للأمر المتعلّق بها ، فالمفروض أنّها متيقّنة ، سواء فسد العمل أم لا.

وحاصل كلام المصنف قدس‌سره في وجه عدم جريان استصحاب الصحّة بمعنى موافقة الأجزاء للأمر ، هو أنّ من أركان الاستصحاب هو اليقين السابق والشكّ اللّاحق ، فينتفي الاستصحاب بانتفاء أحدهما ، ثمّ الشكّ اللّاحق في الصّحة مفقود ؛ لأن المفروض هو إتيان الأجزاء السابقة على نحو توافق الأمر المتعلّق بها.

والمراد بالأمر المتعلّق بها هو الأمر الضمني المتولّد من الأمر بالمركّب ، فهذه الأجزاء موافقة لأمرها سواء فسد مجموع العمل من جهة طروّ المفسد أم لا.

لأن فساد العمل لا يوجب خروج الأجزاء السابقة المأتي بها على طبق الأمر المتعلّق

١١١

ضرورة عدم انقلاب الشيء عمّا وجد عليه.

وأمّا ترتيب الأثر ، فليس الثابت منه للجزء من حيث إنّه جزء إلّا كونه بحيث لو ضمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكلّ.

ومن المعلوم أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية أم قطع بعدمه ، أم شكّ في ذلك.

فإذا شكّ في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء ، فالقطع ببقاء صحّة تلك الأجزاء

____________________________________

بها عن كونها كذلك ، أي : موافقة لأمرها.

ضرورة عدم انقلاب الشيء عمّا وجد عليه.

أي : لا ينقلب ما وقع موافقا للأمر عن كونه كذلك إلى كونه غير موافق له ، ولا يجري استصحاب صحّة الأجزاء السابقة بنفس الوجه المذكور فيما إذا كانت الصحّة بمعنى ترتّب الأثر ، كما أشار إليه بقوله :

وأمّا ترتيب الأثر فهو ـ أيضا ـ متيقّن لا شكّ فيه حتى يجري الاستصحاب فيه ، غاية الأمر صحّة الأجزاء السابقة حينئذ صحّة تأهليّة ، بمعنى كون الأجزاء السابقة قابلة لانضمام باقي الأجزاء إليها ، كما أشار إليها بقوله : لو ضمّ إليه الأجزاء الباقية مع الشرائط المعتبرة لالتأم الكلّ ، فالصحّة بهذا المعنى باقية يقينا ، ولا يحتمل ارتفاعها لما تقدّم من أنّ الشيء لا ينقلب عمّا وقع عليه.

والمراد من الأثر المترتّب على الجزء هو تحقّق الكل ، والمركّب لو ضمّ إليه باقي الأجزاء في مقابل الجزء الفاسد ، وهو الذي لا يلزم من ضمّ باقي الأجزاء والشرائط إليه وجود الكل.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الأثر المطلوب من الجزء غير الأثر المطلوب من الكلّ ، فإنّ الأثر المطلوب من الجزء ليس إلّا كونه جزء علّة لحصول الكلّ.

ومن المعلوم أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما ، سواء قطع بضمّ الأجزاء الباقية الموجب لصحّة العمل أم قطع بعدمه الموجب لبطلان العمل ، أم شكّ في ذلك ، كما هو محلّ البحث في هذا المقام.

١١٢

لا ينفع في تحقّق الكلّ مع وصف هذا الشكّ ، فضلا عن استصحاب الصحّة. مع ما عرفت من أنّه ليس الشكّ في بقاء صحّة تلك الأجزاء بأيّ معنى اعتبر من معاني الصحّة ، ومن هنا ردّ هذا الاستصحاب جماعة من المعاصرين ممّن يرى حجّيّة الاستصحاب مطلقا ، لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسّك.

بيانه : إنّه قد يكون الشكّ في الفساد من جهة احتمال فقد أمر معتبر أو وجود أمر مانع ، وهذا هو الذي لا يعتنى فيه نفيه باستصحاب الصحّة ، لما عرفت من أنّ فقد بعض ما يعتبر من الامور اللّاحقة لا يقدح في صحّة الأجزاء السابقة ، وقد يكون من جهة عروض ما

____________________________________

فإذا شكّ في حصول الفساد من غير جهة تلك الأجزاء.

أي : من إحدى الجهات الأربعة المتقدّمة على ما في شرح الاعتمادي.

فالقطع ببقاء صحّة تلك الأجزاء لا ينفع في تحقّق الكلّ مع وصف هذا الشكّ ، فضلا عن استصحاب الصحّة فرضا ، وإلّا فلا شكّ في صحّة الأجزاء السابقة ، بل صحّتها قطعيّة بأيّ معنى اعتبر من معاني الصحّة.

أي : سواء كانت بمعنى موافقة الأمر أو سقوط الإعادة أو ترتّب الأثر ، كما عرفت مفصّلا.

فتحصّل من جميع ما ذكر أنّه لا ملازمة بين صحّة الأجزاء السابقة وصحّة العمل ، فلا يصحّ إثبات صحّة العمل باستصحاب صحّة الأجزاء.

ومن هنا ردّ هذا الاستصحاب جماعة من المعاصرين ممّن يرى حجيّة الاستصحاب مطلقا ، أي : وإن كان مثبتا ، كما في شرح الاعتمادي.

لكنّ التحقيق : التفصيل بين موارد التمسّك ، وهذا ما ذكرناه من أنّ ما يظهر من المصنف قدس‌سره هو التفصيل.

ونكتفي في توضيح العبارة على ما في شرح الاعتمادي.

بيانه : إنّه قد يكون الشكّ في الفساد من جهة احتمال فقد أمر معتبر ، كترك الجزء أو الشرط نسيانا ، أو ترك محتمل الجزئيّة والشرطيّة.

أو وجود أمر مانع كزيادة الجزء عمدا أو سهوا.

وهذا هو الذي لا يعتنى فيه نفيه باستصحاب الصحّة ، لما عرفت من أنّ فقد بعض

١١٣

تنقطع معه الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة.

فإنّا استكشفنا من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع ، إنّ للصلاة هيئة اتصاليّة ينافيها توسّط بعض الأشياء في خلال أجزائها ، الموجب لخروج الأجزاء اللّاحقة عن قابليّة الانضمام ، والأجزاء السابقة عن قابليّة الانضمام إليها ، فإذا شكّ في شيء من ذلك وجودا أو صفة ، جرى استصحاب صحّة الأجزاء ، بمعنى بقائها على القابليّة المذكورة ، فيتفرّع على ذلك عدم وجوب استئنافها أو استصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة وما يلحقها من الأجزاء الباقية ، فيتفرّع عليه بقاء الأمر بالإتمام.

____________________________________

ما يعتبر من الأمور اللّاحقة الموجب لبطلان العمل لا يقدح في صحّة الأجزاء السابقة ، كما أنّ عدم تحقّق السكنجبين لفقد بعض ما يعتبر فيه لا يقدح في صحّة الخلّ.

وقد يكون من جهة عروض ما ، كالضحك الذي يحتمل أن تنقطع معه الهيئة الاتصاليّة المعتبرة في الصلاة المنكشفة من تعبير الشارع عن بعض ما يعتبر عدمه في الصلاة بالقواطع ، كالحدث والقهقهة والفعل الكثير.

حيث يدلّ التعبير المذكور على إنّ للصلاة هيئة اتصاليّة ينافيها توسّط بعض الأشياء ، كالحدث مثلا في خلال أجزائها ، أي : التوسّط الموجب لخروج الأجزاء اللّاحقة عن قابليّة الانضمام إلى الأجزاء السابقة.

وكذلك خروج الأجزاء السابقة عن قابليّة الانضمام إليها ، أي : إلى الأجزاء اللّاحقة.

والحاصل أنّ الشارع عبّر عن بعض الأشياء بالقواطع ، فيستفاد منه أنّ الصلاة ـ مضافا إلى اعتبار الإجزاء والشرائط وعدم الموانع فيها ـ يعتبر فيها ـ أيضا ـ هيئة اتصاليّة يقال لها الجزء الصوري ، وأنّ بعض الامور كالحدث مثلا يرفعها وبعض الامور كالتجشؤ مثلا لا يرفعها.

فإذا شكّ في شيء من ذلك وجودا ، كالشكّ في طروّ الحدث أو صفة ، كالشكّ في أنّ الضحك من القواطع أم لا ، جرى استصحاب صحّة الأجزاء السابقة.

بمعنى بقائها على القابليّة المذكورة ، فيتفرّع على ذلك عدم وجوب استئنافها ، وكذلك يمكن استصحاب نفس الاتصال الملحوظ بين الأجزاء ، كما أشار إليه بقوله :

أو استصحاب الاتصال الملحوظ بين الأجزاء السابقة وما يلحقها من الأجزاء الباقية ،

١١٤

وهذا الكلام وإن كان قابلا للنقض والإبرام ، إلّا أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفيّة في كثير من الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام ، وربّما يتمسّك في مطلق الشكّ في الفساد باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضي.

وفيه : إنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح لا محالة ، والمفروض

____________________________________

فيتفرّع عليه بقاء الأمر بالإتمام.

إلّا أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الهيئة الاتصاليّة لكونها قائمة بالطرفين ، والمفروض عدم وجود أحدهما ، واستصحاب القابليّة غير مجد ، وذلك لعدم ترتّب أثر شرعي عليه ؛ لأن المقصود من استصحابها هو إثبات بقاؤها على الوجه الذي كان عليه من تحقّق الكلّ به على تقدير انضمام تمام ما يعتبر فيه إليه.

ومن المعلوم أنّ هذا المعنى ليس من الامور الشرعيّة ، فيكون الاستصحاب مثبتا.

ويمكن أن يقال في الجواب أنّ الهيئة الاتصاليّة وإن كانت قائمة بالطرفين ـ ولا يجوز استصحابها بناء على الدقّة العقليّة لعدم وجودها قبل تحقّق الجزء اللّاحق ـ إلّا أنّ المكلّف لمّا كان عازما على إيجاد الأجزاء اللّاحقة ، فكأنّها موجودة فعلا بحكم العرف ، فيكون الأمر القائم بها ـ أيضا ـ موجودا بهذه الملاحظة ، وهذا المقدار يكفي في إجراء الاستصحاب ، كما في نظائر المقام ، مثل استصحاب الكريّة والقلّة والزمان ، وإلى هذه المناقشة أشار بقوله :

وهذا الكلام وإن كان قابلا للنقض والإبرام ، إلّا أنّ الأظهر بحسب المسامحة العرفيّة في كثير من الاستصحابات جريان الاستصحاب في المقام.

لأن عدم وجوب الاستئناف وإن كان مترتّبا على قابليّة الاتصال بواسطة ، أعني : تحقّق الكلّ بعد إكمال الضمائم ، إلّا أنّ الواسطة خفيّة والعرف يحكم بأنّه أثر نفس المستصحب.

وربّما يتمسّك في مطلق الشكّ في الفساد ، أي : سواء كان الشكّ من جهة المانع أو القاطع باستصحاب حرمة القطع ووجوب المضي ، إذ قبل طروّ احتمال الفساد كان القطع حراما والمضي واجبا ، فيستصحب ذلك بعد طروّ احتمال الفساد.

وفيه : أوّلا : إنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح وهو مشكوك البقاء ،

١١٥

الشكّ في الصحّة ، وربّما يتمسّك في إثبات الصحّة في محلّ الشكّ بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(١) ، وقد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصل البراءة عند الكلام في مسألة الشكّ في الشرطيّة ، وكذلك التمسّك بما عداها من العمومات المقتضية للصحّة.

____________________________________

كما أشار إليه بقوله :

والمفروض الشكّ في الصحّة.

وثانيا : إنّ حرمة قطع العمل ووجوب المضي فيه قبل طروّ احتمال الفساد لا يثبت صحّة الفعل بعده ، إلّا من باب التلازم الثابت بينهما من الخارج ، لكنّ الأصل ـ حينئذ ـ يكون من الاصول المثبتة.

وبالجملة أنّ شرط الاستصحاب هو بقاء الموضوع وهو مشكوك هنا ؛ لأن العمل ـ قبل طروّ محتمل المفسديّة كان صحيحا ـ يمكن المضي فيه فوجب ، ويمكن قطعه فحرم ، وبعد طروّ محتمل المفسديّة لا نعلم الصحّة حتى يمكن المضي فيه ، ولا نعلم أنّ رفع اليد عنه قطع حتى يحرم القطع لاحتمال انقطاعه بطروّ المفسد ، ولا معنى لقطع المنقطع ، كما في شرح الاعتمادي.

وربّما يتمسّك في إثبات الصحّة في محلّ الشكّ بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) ، وقد بيّنا عدم دلالة الآية على هذا المطلب في أصل البراءة عند الكلام في مسألة الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة.

حيث قال المصنف قدس‌سره هناك بأنّ ظاهر الآية حرمة إحداث البطلان بعد تمام العمل بمثل الشرك والمعاصي لا حرمة قطع العمل في الاثناء ، وعلى تقدير شمولها للقطع في الأثناء ، فموضوعها ـ أعني : الإبطال ـ غير محرز في المقام ، وذلك لاحتمال حصول البطلان بنفسه بطروّ المفسد ، فحينئذ ينقطع العمل ، ولا معنى لقطع المنقطع وإبطال الباطل.

وكذلك ، أي : ومن البيان المذكور تعرف عدم جواز التمسّك بما عداها من العمومات المقتضية للصحّة.

__________________

(١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣٣.

١١٦

____________________________________

كقوله عليه‌السلام : لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة (١) ، وقوله عليه‌السلام ـ في المرسلة ـ : تسجد سجدتي السّهو لكلّ زيادة ونقيصة (٢) وغيرهما. هذا تمام الكلام في التنبيه الثامن.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٥ / ٩٩١ ، الوسائل ٦ : ٩١ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٢٩ ، ح ٥.

(٢) التهذيب ٢ : ١٥٥ / ٦٠٨ ، الوسائل ٨ : ٢٥١ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٣٢ ، ح ٣.

١١٧

الأمر التاسع

لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة أو الأحكام الشرعيّة العمليّة ، اصوليّة كانت او فرعيّة.

وأمّا الشرعيّة الاعتقاديّة ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها ، لأنه إن كان من باب

____________________________________

الأمر التاسع : لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة أو اللغويّة أو الأحكام الشرعيّة العمليّة ، اصوليّة كانت أو فرعيّة.

وغرض المصنّف قدس‌سره ـ من البحث في هذا الأمر ـ التاسع ـ هو إثبات عدم اعتبار الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة ، كما صرّح به بقوله :

وأمّا الشرعيّة الاعتقاديّة ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها بعد القول باعتباره في غيرها ، من غير فرق بين كون المستصحب من الموضوعات أو الأحكام ، كما أشار اليه بقوله :

لا فرق في المستصحب بين أن يكون من الموضوعات الخارجيّة ، كاستصحاب حياة زيد مثلا ، فيكون المراد من الموضوعات الخارجيّة هي الموضوعات الصرفة التي لا يتعلّق بها إلّا حكم شرعي جزئي ، في مقابل الموضوعات المستنبطة التي يتعلّق بها حكم شرعي كلّي.

فتشمل الموضوعات الشرعيّة ، كالصلاة والصوم وغيرهما ، والموضوعات اللغويّة ، كوضع اللّفظ لمعنى معيّن مثل الصعيد مثلا.

والموضوعات العرفيّة أو اللغويّة كأصالة عدم النقل لإثبات كون المعنى العرفي هو الموضوع له لغة ، وأصالة عدم القرينة لإثبات كون المراد هو المعنى الحقيقي.

أو الأحكام الشرعيّة العمليّة ، اصوليّة كانت ، كاستصحاب وجوب التقليد على المتجزئ أو البقاء على تقليد الميّت ، بناء على كون هذه المسائل اصوليّة على ما في شرح الاعتمادي.

أو فرعيّة ، كاستصحاب الطهارة أو الحدث ووجوب الصوم عند الشكّ في دخول الليل.

فالحاصل هو اعتبار الاستصحاب في غير الامور الاعتقاديّة من دون فرق بين كون

١١٨

____________________________________

المستصحب من الموضوعات الخارجيّة وغيرها ، وعدم اعتباره فيها.

فلا بدّ حينئذ من بيان وجه جريان الاستصحاب في غير الامور الاعتقاديّة وعدم جريانه في الامور الاعتقاديّة.

فنقول : إنّ الوجه في جريان الاستصحاب واعتباره في الامور غير الاعتقاديّة هو تحقّق موضعه ومحلّه ومناط اعتباره فيها ، فإذا تحقّق محلّ الاستصحاب ـ أعني : اليقين والشكّ ـ ومناط اعتباره ـ أعني : ترتّب حكم شرعي على وجود المستصحب الواقعي المحرز بالاستصحاب ـ جرى الاستصحاب ، ويكون حجّة لعدم كونه ـ حينئذ ـ من الاصول المثبتة.

إلّا أنّه لا إشكال في وجود المناط المذكور في الموضوعات الخارجيّة والأحكام الشرعيّة ، وأمّا الموضوعات اللغويّة فلا يوجد فيها المناط ؛ لأن الاصول الجارية فيها مثبتة. فلا بدّ من أن يقال : إنّ اعتبار الاستصحاب في باب اللّغات ليس من باب التعبّد ، بل كان من باب بناء العقلاء وأهل اللسان عليه ، فلا ربط له ـ حينئذ ـ بالاستصحاب المصطلح. فما هو ظاهر المصنف قدس‌سره من اعتبار الاستصحاب في الموضوعات اللغويّة لا يخلو عن تأمّل. واكتفينا بهذا المقدار من الكلام في المقام تجنّبا عن التطويل المخلّ بالمرام ، وإن كان للتفصيل نفع تام ، ومن يريد ذلك فعليه بالكتب المبسوطة كالأوثق وشرح التنكابني وغيرهما.

وأمّا وجه عدم جريان الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة ، فيتلخّص في عدم كفاية الظنّ فيها فضلا عن التعبّد بالاستصحاب ، بناء على كون المراد من الامور الاعتقاديّة ما يجب الاعتقاد به كالتوحيد والنبوة ونحوهما.

بل يجب الاعتقاد بها بالبراهين العقليّة القطعيّة ، إلّا أنّ ظاهر سوق عبارة المصنف قدس‌سره يقتضي أن يكون المراد بالشرعيّة الاعتقاديّة هي الأحكام الشرعيّة الاعتقاديّة ، بأن يكون المكلّف متيقّنا بلزوم الاعتقاد ببعض الامور الاعتقاديّة ، كبعض تفاصيل عالم البرزخ أو المعاد ، ثم شكّ في لزومه في اللّاحق ، فحينئذ يجري الاستصحاب فيها ، كما يجري في الأحكام غير الاعتقاديّة.

وكيف كان ، فمراد المصنف قدس‌سره من المستصحب في الامور الاعتقاديّة ليس واضحا ، إذ

١١٩

____________________________________

لا يعلم بأنّ المراد من المستصحب هل هو نفس الحكم المتعلّق بالاعتقاد ، أو الاعتقاد ، أو المعتقد؟

ويمكن أن يكون المراد من المستصحب في الامور الاعتقاديّة هو وجوب تحصيل العلم بها ، أو لا أقل وجوب تحصيل الظنّ بها ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، فنذكر ما أفاده الاستاذ الاعتمادي في هذا المقام ، حيث قال ما هذا لفظه :

اعلم أنّ المعارف على أقسام :

١ ـ الأمر الخارجي الذي بيّنه الشارع بما هو عالم بالغيب ، كمقدار فواصل السماوات ، وخلق الحور والقصور ، والاعتقاد بمثل هذا لا يعتبر في الإيمان ، نعم ، إنكاره تكذيب للشارع فيوجب الكفر.

٢ ـ الأمر الديني العملي الفرعي أو الأصلي ، والمطلوب فيه العمل لا الاعتقاد ، وتحصيل العلم به واجب مقدّمة للعمل لا نفسيّا كما توهّم ، ويعمل فيه بالأمارات والاصول على ما قرّر.

٣ ـ الأمر الاعتقادي الذي لا دخل له في الإيمان ، إلّا أنّ الشارع أوجب تحصيل العلم به مستقلّا ، وبعد حصوله لا بدّ من الاعتقاد ، ككيفيّة عصمتهم عليهم‌السلام على احتمال ، والعاجز عن تحصيل العلم به معذور ، ولا إلجاء إلى إقامة الظنّ مقامه.

٤ ـ الأمر الاعتقادي الذي لا دخل له في الإيمان ، ولا يجب تحصيل العلم به ، إلّا أنّه لو حصل أحيانا وجب الاعتقاد ، كتفاصيل البرزخ والمعاد وكيفيّة علمه تعالى وعلمهم عليهم‌السلام ، وحيث إنّ وجوب الاعتقاد هنا من آثار العلم لا المعلوم ، فلا يقوم الظنّ مقامه بأدلّة اعتباره.

٥ ـ الأمر الاعتقادي المعتبر في تحقّق الإيمان وهو بمقتضى السيرة ، وتفسير الشارع الاعتقاد بوجود الواجب المستجمع لجميع الكمالات ، ووجود الأنبياء والأئمّة والمعاد إجمالا. وإليها ينظر قوله رحمه‌الله : وأما الشرعيّة الاعتقاديّة ، فلا يعتبر الاستصحاب فيها إلى أن قال بما حاصله :

إنّه اختلفوا في لزوم تحصيل العلم بها أو كفاية الظنّ على أقوال ، الحقّ عند المصنف قدس‌سره منها هو عدم تحقّق الإيمان إلّا بالاعتقاد بها عن علم ، للأمر به في الآيات والأخبار ، ومع

١٢٠