دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

خاتمة

ذكر بعضهم للعمل بالاستصحاب شروطا ، كبقاء الموضوع وعدم المعارض ، ووجوب الفحص. والتحقيق : رجوع الكلّ إلى شروط جريان الاستصحاب.

وتوضيح ذلك : إنّك قد عرفت أنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما شكّ في بقائه ، وهذا لا يتحقّق إلّا مع الشكّ في بقاء القضيّة المحقّقة في السابق بعينها في الزمان اللّاحق ، والشكّ على هذا الوجه لا يتحقق إلّا بأمور :

الأوّل

بقاء الموضوع في الزمان اللّاحق ، والمراد به معروض المستصحب.

____________________________________

خاتمة : ذكر بعضهم للعمل بالاستصحاب شروطا ، كبقاء الموضوع وعدم المعارض ، ووجوب الفحص. هل أنّها شروط لتحقّق مفهوم الاستصحاب وجريانه ، أو للعمل به واعتباره؟ يقول المصنف قدس‌سره بأنّها شروط جريان الاستصحاب.

وهذا القول منه بظاهره لا يخلو عن إشكال ؛ لأن وجوب الفحص وعدم المعارض ليسا من شرائط الجريان ، بل هما من شرائط العمل ، كما هو الشأن في جميع الاصول الشرعيّة غير أصالة الاحتياط ، حيث لا شرط للاحتياط بعد تحقّق موضوعه ، كما تقدّم في محلّه.

إلّا أنّ صاحب الكفاية قد قال في تعليقته على الرسائل بصحّة رجوع الشروط المذكورة إلى جريان الاستصحاب ، فقال ما هذا لفظه : ومجمل وجهه أنّه ؛ إمّا مع عدم بقاء الموضوع ، فإنّما هو إسراء حكم موضوع إلى آخر.

وإمّا مع وجود الدليل على خلاف اليقين ، فلعدم مقاومة دليله لانتفاء موضوعه به حقيقة على ما سنحقّقه إن شاء الله.

وإمّا مع عدم الفحص ، فلاحتمال وجود دليل لا مقاومة لدليله معه ، ومعه لا مجال له إلّا إذا جرت اصالة عدم الدليل ولا سبيل إليها إجماعا إلّا بعد اليأس بالفحص. انتهى مورد الحاجة من كلامه قدس‌سره.

الأوّل : بقاء الموضوع في الزمان اللّاحق.

والمراد من الموضوع هو معروض المستصحب سواء كان المستصحب حكما ،

٢٠١

فإذا اريد استصحاب قيام زيد أو وجوده فلا بدّ من تحقّق زيد في الزمان اللّاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا. فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي ، وللوجود بوصف تقرّره ذهنا ، لا وجوده الخارجي.

____________________________________

كوجوب نفقة الزوجة على الزوج ، أو غيره كحياته مثلا.

ثمّ المراد من بقائه بقاؤه بجميع ما له دخل في عروض المستصحب لذلك المعروض.

وبعبارة اخرى : إنّ المراد من بقاء الموضوع في الاستصحاب هو كون الموضوع في القضية المشكوكة عين الموضوع في القضيّة المتيقّنة ، كي يكون الشكّ في الزمان اللّاحق متعلّقا بعين ما كان متيقّنا في الزمان السابق ، حتى يصدق نقض اليقين بالشكّ فيما إذا لم يمض على طبق اليقين السابق بالشكّ اللّاحق.

لأن المستفاد من أدلة الاستصحاب هو وجوب المضيّ على اليقين السابق وعدم جواز نقضه بالشكّ ، ولا يصدق المضيّ والنقض إلّا مع اتحاد القضيّتين موضوعا ومحمولا ، وإنّما التفاوت بينهما هو كون ثبوت المحمول قطعيّا في القضيّة المتيقّنة ومحتملا في القضية المشكوكة.

فاعتبار بقاء الموضوع الراجع إلى اشتراط اتحاد القضيّتين في الموضوع والمحمول مستفاد من نفس أدلّة الاستصحاب.

ثمّ معروض المستصحب قد يكون موجودا خارجيّا ، كما في استصحاب قيام زيد حيث يكون معروض القيام هو زيد الخارجي القابل لأن يحكم عليه بالقيام أو بخلافه ، وقد يكون صرف الماهيّة ، كاستصحاب وجود زيد حيث يكون معروض الوجود هو زيد الذهنيّ القابل لأن يحكم عليه بالوجود أو بالعدم ، كما أشار إليه بقوله :

فاذا اريد استصحاب قيام زيد أو وجوده فلا بدّ من تحقّق زيد في الزمان اللّاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا.

فإن كان تحقّق المعروض في السابق بوجوده التقرّري ، كما في مثال استصحاب وجود زيد ، فلا بدّ من تحقّقه كذلك في اللّاحق أيضا ، وإن كان تحقّقه بوجوده الخارجي ، كما في

٢٠٢

وبهذا اندفع ما استشكله بعض في أمر كلّيّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، بانتقاضها باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائها ، زعما منه أنّ المراد ببقائه : وجوده الخارجي الثانوي ، وغفلة عن أنّ المراد وجوده الثانوي على نحو وجوده الأوّليّ الصالح لأن يحكم عليه بالمستصحب وبنقيضه ، وإلّا لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في

____________________________________

مثال استصحاب قيام زيد ، فلا بدّ من تحقّقه في اللّاحق ـ أيضا ـ بوجوده الخارجي. وقد عرفت ضمنا أنّ المراد من الوجود التقرّري هو التقرّر المهيئي القابل لأن يحمل عليه الوجود أو العدم.

وبهذا اندفع ما استشكله بعض وهو صاحب الضوابط على ما في شرح التنكابني.

في أمر كلّيّة اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ، بانتقاضها أي : الكلّيّة باستصحاب وجود الموجودات عند الشكّ في بقائها.

حيث لا يتمّ ما ذكر من اعتبار بقاء الموضوع وإحرازه في استصحاب الوجود ، إذ بعد إحراز زيد في الخارج لا يبقى هناك شكّ كي يجري الاستصحاب.

نعم ، ما ذكره من اعتبار بقاء الموضوع إنّما يتمّ في مثل استصحاب قيام زيد ، حيث يمكن إحراز زيد في الخارج ويشكّ في قيامه ، فيستصحب بقاء القيام.

فالحاصل أنّ ما ذكره من اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب لا يجري في جميع الموارد كما عرفت ، مع أنّ العقلاء مطبقون على العمل بالاستصحاب في جميع الموارد. هذا تقريب الإشكال.

ويندفع هذا الإشكال بأنّه مبنيّ على أن يكون المراد ببقاء الموضوع هو بقاؤه بوجوده الخارجي في الزمان الثاني ، وليس الأمر كذلك ، بل المراد ببقاء الموضوع والمعروض هو البقاء على نحو وجوده الاوّلي الصالح لأن يحكم عليه بالمستصحب ونقيضه.

ثمّ المعروض في مثال استصحاب قيام زيد بوجوده الخارجي الصالح لأن يحكم عليه بالقيام ونقيضه ، وفي مثال استصحاب وجود زيد هو زيد بوجوده التقرّري ، وهي الماهيّة المجرّدة عن قيد الوجود والعدم ، الصالحة لأن يحكم عليها بالوجود وهو المستصحب ، وبالعدم وهو نقيضه.

فاندفع ـ حينئذ ـ الإشكال المذكور لجريان اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب في

٢٠٣

الزمان السابق.

فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت اخرى ، وهذا المعنى لا شكّ في تحقّقه عند الشكّ في بقاء حياته.

____________________________________

جميع الموارد حتى فيما إذا كان المستصحب نفس الوجود.

وإلّا لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في الزمان السابق.

قد عرفت أنّ الموضوع لا بدّ من أن يكون صالحا لأن يحمل عليه المستصحب ونقيضه وإن لم يكن كذلك من الأوّل ، بأن يكون الموضوع مقيّدا بالمحمول كي تكون القضيّة ضروريّة بشرط المحمول لم يجز أن يحمل عليه المستصحب في الزمان السابق.

وذلك فإنّ ثبوت المستصحب ـ حينئذ ـ ضروري من دون حاجة إلى حمله على الموضوع.

مثلا زيد القائم قائم بالضرورة من دون حاجة إلى أن يقال بأنّ زيدا القائم قائم. فإنّك إذا قلت : زيد قائم لا تريد من زيد الموضوع زيد القائم ، بل تريد زيدا القابل للقيام وعدمه ، ثمّ حينما تحمل عليه القيام وتقول : زيد قائم تريد ثبوت القيام له.

وكذلك إذا قلت : زيد موجود ، تلحظ زيدا على وجه قابل للوجود والعدم. ولا تريد أنّ زيدا الموجود موجود. كما أشار إليه بقوله :

فالموضوع في استصحاب حياة زيد هو زيد القابل لأن يحكم عليه بالحياة تارة وبالموت اخرى ، فلا تريد أنّ زيدا الحيّ حيّ ، بل تريد أنّ زيدا حيّ حيث يكون المراد من زيد هو القابل للأمرين.

وهذا المعنى لا شكّ في تحقّقه عند الشكّ في بقاء حياته.

بمعنى أنّك إذا شككت في بقاء حياته زيد ، فالموضوع ـ أعني : زيد الملحوظ على وجه صالح للأمرين ـ محرز ، وإنّما الشكّ في حياة ، فيجري الاستصحاب.

وفي كلامه هذا إشارة إلى أنّه إذا شكّ في بقاء وجود شيء أو حياة حيوان يكون الموضوع محرزا دائما ؛ لأنّ الموضوع لوحظ على وجه صالح للأمرين ، فلا يعقل ارتفاعه ، كما في شرح الاعتمادي. إلى أن قال :

ثمّ ، لا يخفى عليك أنّه إن شكّ في بقاء شيء خارجي غير متعلّق بشيء أخر كزيد ،

٢٠٤

ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح ، لأنه لو لم يعلم تحقّقه لاحقا ، فإذا اريد إبقاء المستصحب العارض له المتقوّم به ، فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع ، وهو محال ، وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق.

____________________________________

فالمستصحب هو وجود زيد والموضوع هو نفس زيد الصالح للأمرين.

وإن شكّ في بقاء شيء متعلّق بشيء آخر ، كالشكّ في بقاء قيام زيد أو بقاء وجوب الصلاة ، فالمتداول عندهم هو أنّ المستصحب نفس ذلك الشيء ، أعني : القيام في المثال الأوّل والوجوب في المثال الثاني ، وموضوعه معروضه ، أعني : زيدا في المثال الأوّل والصلاة في المثال الثاني. وإن كان المستصحب هنا ـ أيضا ـ كالفرض الأوّل هو وجود القيام ووجود الوجوب وموضوعه هو نفس القيام ونفس الوجوب.

ثمّ الدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب واضح.

ويمكن الاستدلال على اعتبار بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب بوجوه :

منها : ما تقدّم من استفادة ذلك من نفس أدلّة الاستصحاب ، وهي الأخبار كقوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشكّ (١) ولا يصدق نقض اليقين بالشكّ إلّا مع بقاء الموضوع ، كي تكون القضيّة المتيقّنة متحدة مع القضيّة المشكوكة من حيث الموضوع.

ومنها : هو الإجماع ، كما حكي عن بعض ، والمراد به اتفاق العلماء ، لا الإجماع المصطلح ؛ لأن بيان اعتبار بقاء الموضوع في تحقّق مفهوم الاستصحاب ليس من وظيفة الشارع.

ومنها : هو الدليل العقلي ، كما أشار إليه بقوله :

فإمّا أن يبقى في غير محلّ وموضوع ، وهو محال ، لأن قيام العرض في الخارج بلا موضوع محال.

وهذا المحذور إنّما يلزم في فرض عدم تحقّق الموضوع وعدم إحرازه حين إبقاء المستصحب العارض له بالاستصحاب ، فلا بدّ من بقاء الموضوع كي لا يلزم ثبوت العرض في الخارج بلا موضوع.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

٢٠٥

ومن المعلوم أنّ هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض ، وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد فيخرج عن الاستصحاب ، بل حدوثه للموضوع الجديد كان مسبوقا بالعدم ، فهو المستصحب دون وجوده. وبعبارة اخرى : بقاء المستصحب لا في موضوع ، محال ، وكذا في موضوع آخر ، إمّا لاستحالة انتقال العرض ، وإمّا لأن المتيقّن سابقا وجوده في الموضوع السابق ، والحكم بعدم ثبوته لهذا الموضوع الجديد ليس نقضا للمتيقّن السابق.

وممّا ذكرنا يعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ، ولا يكفي احتمال البقاء ، إذ لا بدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء ، والحكم بعدمه نقضا.

____________________________________

وبالجملة ، إنّ استصحاب العرض على فرض عدم بقاء الموضوع السابق مستلزم لأحد المحذورين :

أحدهما : هو قيام العرض في الخارج بلا محلّ وموضوع وهو محال ؛ لأن العرض بمقتضى عرضيّته يستحيل وجوده بلا محل.

وثانيهما : هو انتقال العرض من موضوع إلى موضوع آخر ، كما أشار إليه بقوله :

وإمّا أن يبقى في موضوع غير الموضوع السابق وهو أيضا ممتنع لاستلزامه وجود العرض بلا محلّ ولو آناً ما ، إن اريد من استصحاب قيام زيد انتقال قيامه إلى عمرو ، أو خارج عن عنوان الاستصحاب إن اريد من الاستصحاب حدوث القيام لعمرو مكان قيام زيد.

إذ ليس هذا الابقاء إبقاء لما شكّ من العارض ، كما أشار إليه بقوله :

أنّ هذا ليس إبقاء لنفس ذلك العارض ، وإنّما هو حكم بحدوث عارض مثله في موضوع جديد. والمطلب واضح في المتن بحيث لا يحتاج إلى التوضيح.

وممّا ذكرنا من عدم صدق النقض على تقدير عدم بقاء الموضوع المتيقّن سابقا يعلم أنّ المعتبر هو العلم ببقاء الموضوع ، ولا يكفي احتمال البقاء ، إذ لا بدّ من العلم بكون الحكم بوجود المستصحب إبقاء ، والحكم بعدمه نقضا.

لأن النقض الموجب لمخالفة النهي في قوله عليه‌السلام : لا تنقض ... إلى آخره إنّما يصدق فيما إذا كان بقاء الموضوع يقينيّا.

وأمّا في صورة الشكّ في بقاء الموضوع ، فهو انتقاض ، لا النقض ، وذلك لاحتمال

٢٠٦

فإن قلت : إذا كان الموضوع محتمل البقاء ، فيجوز إحرازه في الزمان اللّاحق بالاستصحاب.

قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه في بعض الصور ، إلّا أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه.

____________________________________

ارتفاع الحكم بنفسه بسبب ارتفاع موضوعه ، نظير ما تقدّم في قوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ)(١).

فإنّ إبطال العمل إنّما هو فيما إذا ترك العمل عن اختيار. وامّا إذا شكّ في فقد ما له مدخليّة فيه فرفع اليد عن العمل حينئذ لا يصدق عليه الإبطال ، وذلك لاحتمال بطلان العمل ـ حينئذ ـ بنفسه.

فإن قلت : إذا كان الموضوع محتمل البقاء ، فيجوز إحرازه في الزمان اللّاحق بالاستصحاب ، لأن الاستصحاب كما عرفت في بحث القطع يكون من الاصول المحرزة ، يحرز به الواقع حكما كان أو موضوعا ، كما يحرز بالعلم ، فلا بأس حينئذ من إحراز الموضوع بالاستصحاب عند الشكّ في بقاء الموضوع ، ففي استصحاب قيام زيد عند الشكّ في بقاء نفس زيد يستصحب بقاء زيد أوّلا ، ثمّ قيامه ثانيا. وبالجملة أنّه لا يعتبر العلم ببقاء الموضوع بل يكفي فيه احتمال البقاء.

قلت : لا مضايقة من جواز استصحابه في بعض الصور الثلاث الآتية. وهو ما إذا كان الشكّ في الحكم مسبّبا عن الشكّ في الموضوع بعنوان الشبهة الموضوعيّة ، كالشكّ في بقاء حرمة هذا المائع للشكّ في بقاء خمريّته ، كما في شرح الاعتمادي.

إلّا أنّ استصحاب الموضوع ـ حينئذ ـ يغنينا عن الاستصحاب في الحكم ؛ لأن معنى استصحاب الموضوع هو ترتيب أحكامه عليه ، فيترتّب عليه الحكم من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا ، كما أشار إليه بقوله :

إلّا أنّه لا ينفع في استصحاب الحكم المحمول عليه.

والاولى لنا أن نذكر الصور الثلاث مع حكمها قبل مجيئها في المتن ، كي يكون أسهل

__________________

(١) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله : ٣٣.

٢٠٧

بيان ذلك : إنّ الشكّ في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه ؛ إمّا أن يكون مسبّبا من سبب غير الشكّ في بقاء ذلك الموضوع المشكوك البقاء ، مثل أن يشكّ في عدالة مجتهده مع الشكّ في حياته ، وإمّا أن يكون مسبّبا عنه.

فإن كان الأوّل ، فلا إشكال في استصحاب الموضوع عند الشكّ ، لكنّ استصحاب الحكم

____________________________________

للمحصّلين ، فنقول :

الصورة الاولى : هي ما لم يكن الشكّ في بقاء الحكم الذي يراد استصحابه مسبّبا عن الشكّ في الموضوع المشكوك بقاؤه ، بل كان الشكّ فيه مسبّبا عن سبب آخر ، كالشكّ في عدالة مجتهد مع الشكّ في بقاء حياته ، حيث لا يكون الشكّ في العدالة مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ـ أعني : الحياة ـ بل الشكّ في العدالة ناشئ من جهة احتمال عروض الفسق ؛ لأن العدالة إنّما تتصوّر دائما على تقدير الحياة ، فلا معنى لأن يكون الشكّ فيها مسبّبا عن الشكّ في الموضوع ، أعني : الحياة.

والصورة الثانية : هي ما يكون الشكّ في الحكم مسبّبا عن الشكّ في بقاء الموضوع ، وهذه الصورة ترجع إلى صورتين :

الاولى : هي ما يكون الموضوع فيه معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، ثمّ شكّ في بقاء تغيّر الماء.

الثانية : هي ما يكون الموضوع فيه مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما إذا أصبح الكلب ملحا فشكّ في بقاء النجاسة من جهة تردّد موضوعها بين الكلب بوصف أنّه كلب ، فيكون معلوم الارتفاع ، وبين القدر المشترك بين الكلب وما يستحال إليه من الملح وغيره ، فيكون معلوم البقاء. هذا تمام الكلام في الصور الثلاث.

وأمّا حكمها من حيث جريان الاستصحاب في الحكم والموضوع معا أو جريانه في الموضوع فقط أو عدم جريانه في شيء من الموضوع والحكم ، فهو جريان الاستصحاب في الموضوع والحكم في الصورة الاولى ، وجريانه في الموضوع دون الحكم في الصورة الثانية ، وعدم جريانه في شيء منهما في الصورة الثالثة. وقد أشار إلى جريان الاستصحاب في الموضوع والحكم في الصورة الاولى بقوله :

فإن كان الأوّل ، فلا إشكال في استصحاب الموضوع عند الشكّ.

٢٠٨

ـ كالعدالة مثلا ـ لا يحتاج إلى إبقاء حياة زيد ، لأن موضوع العدالة (زيد) على تقدير الحياة ، إذ لا شكّ فيها إلّا على فرض الحياة. فالذي يراد استصحابه هو عدالته على تقدير الحياة. وبالجملة فهنا مستصحبان ، لكلّ منهما موضوع على حدة ، حياة زيد وعدالته على تقدير الحياة ، ولا يعتبر في الثاني إثبات الحياة.

وعلى الثاني ، فالموضوع ؛ إمّا أن يكون معلوما معيّنا شكّ في بقائه ، كما إذا علم أنّ الموضوع لنجاسة الماء هو الماء بوصف التغيّر ، وللمطهّريّة هو الماء بوصف الكرّيّة والإطلاق ، ثمّ شكّ في بقاء تغيّر الماء الأوّل وكرّيّة الماء الثاني أو إطلاقه ، وإمّا أن يكون غير معيّن ، بل مردّدا بين أمر معلوم البقاء وآخر معلوم الارتفاع ، كما إذا لم يعلم أنّ الموضوع للنجاسة هو الماء الذي حدث فيه التغيّر آناً ما ، أو الماء المتلبّس بالتغيّر. وكما إذا شككنا في أنّ النجاسة محمولة على الكلب بوصف أنّه كلب ، أو المشترك بين الكلب وبين ما يستحال إليه من الملح أو غيره.

أمّا الأوّل ، فلا إشكال في استصحاب الموضوع ، وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الامور الخارجيّة أنّ استصحاب الموضوع حقيقة ترتيب الأحكام الشرعيّة المحمولة على

____________________________________

فيجري استصحاب حياة المجتهد وتترتّب عليها الآثار المتوقفة عليها ، وكذلك يجري استصحاب الحكم ، أعني : عدالة المجتهد.

والمراد من الحكم هنا هو ما يكون مقابلا للموضوع فيشمل الوصف ، إلّا أنّ استصحاب الحكم كالعدالة غير محتاج إلى إحراز الموضوع ـ أعني : الحياة ـ لما عرفت من أنّ العدالة لا تتصوّر إلّا على تقدير الحياة.

ومن المعلوم أنّ استصحاب العدالة على تقدير الحياة يصحّ مع القطع بانتفاء الموضوع فضلا عن الشكّ فيه ، فكما يجري استصحاب الحياة ويترتّب عليه جواز التقليد على القول بعدم جواز تقليد الميّت ، كذلك يجري استصحاب الحكم ـ أعني : العدالة ـ ويترتّب عليه جواز الاقتداء في الجماعة.

وأشار إلى حكم الصورة الثانية بقوله : أمّا الأوّل ، أعني : الأوّل من الصورة الثانية ، وهي الصورة الثانية من الصور الثلاث.

فلا إشكال في استصحاب الموضوع ، وقد عرفت في مسألة الاستصحاب في الأمور

٢٠٩

ذلك الموضوع الموجود واقعا ، فحقيقة استصحاب التغيّر والكرّيّة والإطلاق في الماء ترتيب أحكامها المحمولة عليها ، كالنجاسة في الأوّل والمطهّريّة في الآخرين.

فمجرّد استصحاب الموضوع يوجب إجراء الأحكام ، فلا مجال لاستصحاب الأحكام حينئذ ، لارتفاع الشكّ ، بل لو اريد استصحابها لم يجر ، لأن صحّة استصحاب النجاسة ـ مثلا ـ ليس من أحكام التغيّر الواقعي ، حتى يثبت باستصحابه ، لأن أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعيّة ، لا استصحابها ، إذ مع فرض التغيّر لا شكّ في النجاسة.

____________________________________

الخارجيّة كحياة زيد مثلا أنّ استصحاب الموضوع حقيقة ترتيب الأحكام الشرعيّة المحمولة على ذلك الموضوع الموجود واقعا ، فحقيقة استصحاب التغيّر في المثال المتقدّم هو ترتيب الحكم بالنجاسة على الماء ، كما أنّ حقيقة استصحاب حياة الزوج ترتيب وجوب نفقة الزوجة عليه ، وحقيقة استصحاب خمريّة المائع ترتيب حرمة الشرب ، وهكذا.

فلا يجري حينئذ استصحاب الاحكام ؛ لأنها مترتّبة على موضوعاتها بعد إحرازها ولو بالاستصحاب من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا ، كما أشار إليه بقوله :

فلا مجال لاستصحاب الأحكام حينئذ ، لارتفاع الشكّ فيها باستصحاب الموضوع المستلزم لترتّب الحكم عليه ، فيكون إثبات الحكم بالاستصحاب تحصيلا للحاصل وهو محال.

بل لو اريد استصحابها لم يجز ، لأن صحّة استصحاب النجاسة ـ مثلا ـ ليس من أحكام التغيّر الواقعي ، حتى يثبت باستصحابه ، لأن أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعيّة ، لا استصحابها ، إذ مع فرض التغيّر لا شكّ في النجاسة.

والمطلب واضح لا يحتاج إلى التوضيح ، ومع ذلك نذكر ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال :

إنّ معنى استصحاب الموضوع ترتيب آثاره ، فمعنى استصحاب التغيّر ترتيب آثار التغيّر.

وبديهيّ أنّ أثر التغيّر الواقعي هي النجاسة الواقعيّة لا صحّة استصحاب النجاسة ، إذ لو علمنا بالتغيّر واقعا لقطعنا بالنجاسة واقعا ، ولا نشكّ فيها حتى يعقل استصحابها ، فكذا عند

٢١٠

مع أنّ قضيّة ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب حكم العقل باشتراط بقائه فيه ، فالتغيّر الواقعي إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل. فهذا الحكم ـ أعني : ترتّب الاستصحاب على بقاء الموضوع ـ ليس أمرا جعليّا حتى يترتّب على وجوده الاستصحابي ، فتأمّل.

وعلى الثاني ، فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم.

____________________________________

استصحاب التغيّر تترتّب عليه النجاسة لا صحّة استصحابها ، فلا معنى لاستصحاب النجاسة عند استصحاب التغير ؛ لأن النجاسة بعد ثبوت التغيّر بالاستصحاب لا يحتاج إلى الاستصحاب ، وصحّة استصحاب النجاسة ليست من الآثار الشرعيّة للتغيّر ، بل هي من الآثار العقليّة ، فيكون استصحاب التغيّر ليترتّب عليه صحّة استصحاب النجاسة أصلا مثبتا. كما أشار إليه بقوله :

مع أنّ قضيّة ما ذكرنا من الدليل على اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب حكم العقل باشتراط بقائه فيه.

أي : حكم العقل باعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب من جهة امتناع وجود العرض بلا موضوع.

فالتغيّر الواقعي إنّما يجوز استصحاب النجاسة له بحكم العقل.

حيث لا يصحّ استصحاب النجاسة مع عدم التغيّر ، لكونه مستلزما لوجود العرض من دون موضوع ، فترتّب صحّة الاستصحاب المذكور على بقاء التغيّر بالاستصحاب أمر عقلي وليس أمرا مجعولا شرعا ، فيكون استصحاب التغيّر لغاية ترتّب استصحاب النجاسة على وجود التغيّر الاستصحابي أصلا مثبتا ، وهو ليس بحجّة.

فتأمّل لعلّه إشارة إلى أنّ نفس استصحاب النجاسة يكفي في الحكم بالنجاسة وهو ليس بمثبت لكون نفس المستصحب وهو النجاسة حكما شرعيّا.

أو إشارة إلى أنّ الأثر الشرعي وهو الحكم بالنجاسة وإن كان مترتّبا على المستصحب الأوّل وهو التغيّر بواسطة عقليّة ـ أعني : صحّة استصحاب النجاسة كما عرفت ـ إلّا أنّ الواسطة خفيّة ، وقد عرفت أنّ الأصل فيما إذا كانت الواسطة خفيّة حجّة. هذا تمام الكلام في حكم الصورة الاولى والثانية.

٢١١

أمّا الأوّل ، فلأن أصالة بقاء الموضوع لا تثبت كون هذا الأمر الباقي متصفا بالموضوعيّة إلّا بناء على القول بالأصل المثبت ، كما تقدّم في أصالة بقاء الكرّ ـ المثبتة للكرّيّة ـ المشكوك بقاؤه على الكرّيّة ، وعلى هذا القول فحكم هذا القسم حكم القسم الأوّل. وأمّا أصالة بقاء

____________________________________

وقد أشار إلى حكم الصورة الثالثة بقوله : وعلى الثاني ـ أعني : الثاني من الصورة الثانية التي انقسمت إلى قسمين ، فالقسم الثاني منها هي الصورة الثالثة من الصور الثلاث ـ فلا مجال لاستصحاب الموضوع ولا الحكم.

فلا بدّ من بيان وجه عدم جريان الاستصحاب في كلّ من الموضوع والحكم ، فقد أشار إلى وجه عدم استصحاب الموضوع بقوله :

أمّا الاوّل وحاصل وجه عدم جريان الاستصحاب في الموضوع فيما إذا كان الموضوع مردّدا بين ما هو معلوم البقاء وما هو معلوم الارتفاع على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّه إن اريد من استصحاب الموضوع استصحاب كلّي الموضوع المردّد بين الأمرين ، فهو أصل مثبت ؛ لأن النجاسة إنّما تعلّقت بالماء المتغيّر لا بعنوان الموضوع ، كما أنّ الحرمة تعلّقت بعنوان الخمر لا بعنوان الموضوع.

وبعبارة اخرى : إنّ الحكم الشرعي لا يتعلّق أبدا بعنوان الموضوع ، وإنّما يتعلّق بالعناوين الخاصّة ، كالخمر والدم والماء وغيرها. فلا بدّ من أن يراد من استصحاب كلّي الموضوع إثبات لازمه العقلي ـ أعني : كون الماء مثلا موضوعا ـ فيدخل في الأصل المثبت ، كما أشار إليه بقوله :

فلأن أصالة بقاء الموضوع لا تثبت كون هذا الأمر الباقي ، كالماء في مثال الماء المتغيّر متصفا بالموضوعيّة إلّا بناء على القول بالأصل المثبت.

وقد مرّ غير مرّة أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة عند المصنف قدس‌سره ، بل يمكن أن يقال بعدم جريان الاستصحاب في الحكم حتى على القول بالأصل المثبت ، وذلك لما عرفت في القسم الأوّل من القسمين الأخيرين ، من أنّ استصحاب الموضوع يغني عن استصحاب الحكم ، إذ يترتّب الحكم على الموضوع الثابت بالاستصحاب من دون حاجة إلى استصحابه أصلا ، كما أشار إليه بقوله :

وعلى هذا القول فحكم هذا القسم حكم القسم الأوّل.

٢١٢

الموضوع بوصف كونه موضوعا ، فهو في معنى استصحاب الحكم ، لأن صفة الموضوعيّة للموضوع ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه.

____________________________________

أي : على القول بالأصل المثبت وإثبات كون الباقي متصفا بالموضوعيّة بأصالة بقاء كلّي الموضوع ، فحكم هذا القسم الثاني هو حكم القسم الأول ، حيث قلنا فيه بأنّه يستصحب الموضوع ويترتّب عليه الحكم من غير حاجة إلى استصحابه.

قوله : وأمّا أصالة بقاء الموضوع بوصف كونه موضوعا ، فهو في معنى استصحاب الحكم إشارة إلى توهّم وجوابه.

أمّا تقريب التوهّم ، فهو إنّ ما ذكر من كون استصحاب بقاء الموضوع مثبتا ، مبني على أن يكون المراد منه استصحاب عنوان الموضوع لإثبات كون الأمر الباقي هو الموضوع ، والأمر ليس كذلك ، بل المراد من استصحاب الموضوع هو استصحاب وصف الموضوعيّة ، بأن يقال هذا كان موضوعا فهو الآن ـ أيضا ـ موضوع بالاستصحاب ، فيرجع حينئذ استصحاب الموضوع إلى استصحاب نفس الحكم ، فلا يكون مثبتا ؛ لأن الأصل المثبت ما يترتّب عليه أثر عقلي أو عادي أو أثر شرعي بواسطتهما ، وما يترتّب على الأصل هنا على الفرض المذكور هو نفس الحكم الشرعي من دون واسطة أصلا ؛ لأن المقصود باستصحاب الموضوع هو استصحاب الحكم.

وذلك لأن صفة الموضوعيّة للموضوع الثابتة بالاستصحاب ملازم لإنشاء الحكم من الشارع باستصحابه ، أي : باستصحاب الموضوع ، فيرجع استصحاب الموضوع إلى استصحاب نفس الحكم ؛ لأن حكم الشارع بموضوعيّة شيء بطريق الاستصحاب هو إنشاء للحكم لذلك الشيء بطريق الاستصحاب. هذا معنى ما في المتن من رجوع استصحاب الموضوع إلى استصحاب الحكم ، فحينئذ لا يكون الاستصحاب مثبتا. هذا غاية ما يمكن في تقريب التوهّم.

والجواب أنّه لو سلّم عدم كون الاستصحاب المذكور من الأصل المثبت ، فهو خارج عمّا نحن فيه ؛ لأن ما نحن فيه هو استصحاب الموضوع ، وهذا الاستصحاب يرجع إلى استصحاب نفس الحكم كما عرفت في تقريب التوهّم. هذا تمام الكلام في عدم جريان استصحاب الموضوع في القسم الثاني. وقد أشار إلى عدم جريان استصحاب الحكم فيه

٢١٣

وأمّا استصحاب الحكم ، فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه ، وبقاؤه قائما بهذا الموجود الباقي ليس قياما بنفس ما قام به أوّلا ، حتى يكون إثباته إبقاء ونفيه نقضا.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّه كثيرا ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته حتى يكون الحكم مرتفعا ، أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، فلو فرض شكّ في الحكم كان من جهة اخرى غير الموضوع ، كما يقال : إنّ حكم النجاسة في الماء المتغيّر موضوعه نفس الماء ، والتغيّر علّة محدثة للحكم فيشكّ في علّيّته للبقاء.

____________________________________

بقوله :

وأمّا استصحاب الحكم ، فلأنّه كان ثابتا لأمر لا يعلم بقاؤه.

فلا يجري حينئذ استصحاب الحكم من جهة عدم إحراز الموضوع مع أنّه شرط لجريان الاستصحاب ، إذ لا نعلم في استصحاب النجاسة في مثال الماء المتغيّر ، بأنّ موضوع النجاسة هو نفس الماء والتغيّر علّة محدثة ، كي يبقى الموضوع ـ بعد زوال التغيّر أو الموضوع ـ هو خصوص الماء المتغيّر ، بأن يكون التغيّر قيدا للموضوع حتى ينتفي الموضوع لانتفائه ، فلا يكون إثبات الحكم للباقي إلّا إثبات الحكم الثابت لموضوع آخر ، فلا يصحّ الاستصحاب. هذا تمام الكلام في الصور الثلاث التي يجري استصحاب بقاء الموضوع في بعضها دون بعضها الآخر.

إذا عرفت ما ذكرنا ، فاعلم أنّه كثيرا ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في أنّ موضوعه ومحلّه هو الأمر الزائل ولو بزوال قيده المأخوذ في موضوعيّته.

مثل الشكّ في بقاء نجاسة الماء في المثال المتقدّم لاحتمال كون الموضوع هو الماء المتغيّر بالفعل وقد زال.

أو هو الأمر الباقي والزائل ليس موضوعا ولا مأخوذا فيه ، بأن يكون موضوع النجاسة هو نفس الماء ويكون التغيّر علّة محدثة ، فيبقى الموضوع بعد زوال التغيّر.

فلو فرض حينئذ شكّ في الحكم يجري الاستصحاب ؛ لأن الشكّ في الحكم لم يكن من جهة الشكّ في بقاء الموضوع ، كي لا يجري استصحاب الحكم من جهة عدم إحراز الموضوع ، بل يكون الشكّ فيه من جهة اخرى.

٢١٤

فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ، وهو أحد امور :

الأوّل : العقل ، فيقال : إنّ مقتضاه كون جميع القيود قيودا للموضوع مأخوذة فيه ، فيكون

____________________________________

وكيف كان ، فاعتبار بقاء الموضوع ممّا لا شكّ فيه في جريان الاستصحاب ، وإنّما الكلام في تمييز ما هو الموضوع الذي يجب إحرازه في الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : إنّ الكبرى ـ أعني : اعتبار بقاء الموضوع في الاستصحاب ـ ممّا لا كلام فيه ، وإنّما الكلام في الصغرى أعني : الموضوع ، فلا بدّ من ميزان يميّز به الموضوع ، كما أشار إليه بقوله :

فلا بدّ من ميزان يميّز به القيود المأخوذة في الموضوع عن غيرها ، ثمّ يذكر امورا يمكن جعل أحد هذه الامور ميزانا لتميّز الموضوع عن غيره وهي ثلاثة :

(الأوّل) هو العقل ، و (الثاني) هو لسان الدليل ، و (الثالث) هو فهم العرف كما يأتي تفصيل ذلك في المتن.

ثمّ ما تقدّم من المصنف قدس‌سره من أنّه كثيرا ما يقع الشكّ في الحكم من جهة الشكّ في تردّد الموضوع بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء ، مبتن على أن يكون الميزان في معرفة الموضوع هو دقّة العقل لا لسان الدليل أو فهم العرف.

وحينئذ فإذا قلنا بأنّ الميزان في بقاء الموضوع هو دقّة العقل لا يجري الاستصحاب في أكثر الموارد ، وذلك لاحتمال مدخليّة ما عدم من بعض القيود في الموضوع. وكيف كان ، فالميزان الذي يتميّز به الموضوع لا يخلو عن أحد امور ، كما أشار إليه بقوله :

وهو أحد امور : الأوّل : العقل ، فيقال : إنّ مقتضاه كون جميع القيود المذكورة في الكلام سواء كانت قيودا للموضوع أو المحمول ، أو الحكم ـ مثال الأوّل نحو الماء المتغيّر نجس ، ومثال الثاني نحو الماء نجس عند التغيّر ، ومثال الثالث نحو النجاسة ثابتة عند التغيّر للماء ـ راجعة في الحقيقة إلى قيود الموضوع ، كما أشار إليه بقوله :

قيودا للموضوع ، لأن الموضوع للنجاسة في الحقيقة هو الماء المتغيّر في جميع الأمثلة المذكورة ، فلا بدّ من إحرازها في الاستصحاب ؛ لأن الاستصحاب هو إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع ، السابق نظرا إلى ما عرفت من اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، ثمّ الحكم بالعينيّة لا يتمّ إلّا بعد إحراز جميع القيود

٢١٥

الحكم ثابتا لأمر واحد ليجمعها ، وذلك لأن كلّ قضيّة ـ وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها ـ راجعة في الحقيقة إلى موضوع واحد ومحمول واحد.

فإذا شكّ في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء علم كونه قيدا للموضوع أو للمحمول أو لم يعلم أحدهما ، فلا يجوز الاستصحاب ، لأنه إثبات عين الحكم

____________________________________

المحتمل أخذها في موضوع الحكم السابق.

وبعبارة اخرى : إنّ المعتبر في الاستصحاب هو بقاء الموضوع وهو يتوقف على اتحاد القضيتين من جميع الجهات سوى الاتحاد في الزمان ؛ لأن تغايره شرط في تحقّق الاستصحاب ، فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد جامع لجميع القيود المأخوذة في موضوع ذلك الحكم ، كما أشار إليه بقوله :

فيكون الحكم ثابتا لأمر واحد ليجمعها ، أي : موضوع واحد جامع لجميع القيود ، وذلك لأن كلّ قضيّة ـ وإن كثرت قيودها المأخوذة فيها ـ راجعة في الحقيقة إلى موضوع واحد ومحمول واحد ، لأن الحاكم لا يأخذ شيئا في كلامه إلّا مع مدخليّته في حصول مطلوبه.

ملخّص الكلام على ما في شرح الاعتمادي أنّ انتفاء قيد من قيود الكلام يوجب انتفاء الموضوع ؛ لأن كلّ قيد في القضيّة يرجع إلى الموضوع بمعنى مدخليّته في مناط الحكم ، والموضوع مع جميع قيوده أمر واحد ، إذ المجموع محصّل لمناط الحكم ، فينتفي بانتفاء أحدها.

وحينئذ فإذا كان هناك قيد كالتغيّر شكّ في مدخليّته بقاء وعدمها ، يحكم العقل بالأوّل في ارتفاعه ، احتمال لارتفاع الموضوع.

ثمّ إنّ الكلام في قيود المحمول على فرض عدم رجوعها إلى الموضوع هو الكلام في قيود الموضوع ، إذ كما يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع كذلك يعتبر بقاء المحمول بمقتضى اعتبار وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، إذ بدونها لا يكون الشكّ شكّا في البقاء ، بل يكون في حدوث أمر آخر غير ما هو المتيقّن وجوده سابقا ، فلا يجري الاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

فإذا شكّ في ثبوت الحكم السابق بعد زوال بعض تلك القيود ، سواء علم بحسب

٢١٦

السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع الشكّ في أحدهما.

نعم ، لو شكّ بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفا للحكم ـ كالخيار ـ لم يقدح في جريان الاستصحاب.

لأن الاستصحاب مبنيّ على إلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل. فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلّا في الشكّ من جهة الرافع ذاتا أو وصفا.

____________________________________

الظهور اللفظي كونه قيدا للموضوع ، كما في مثال الماء المتغيّر نجس.

أو للمحمول ، مثل النجاسة عند التغيّر ثابتة للماء.

أو لم يعلم أحدهما ، كما إذا قيل التغيّر يوجب تنجّس الماء أو قام الإجماع على ذلك ، فإنّ المتيقّن ثبوت النجاسة ما دام التغيّر حاصلا ، كما في شرح الاعتمادي.

فلا يجوز الاستصحاب ، لأنه إثبات عين الحكم السابق لعين الموضوع السابق ، ولا يصدق هذا مع الشكّ في أحدهما ، أعني : بقاء الموضوع أو المحمول.

نعم ، لو شكّ بسبب تغيّر الزمان المجعول ظرفا للحكم.

وجه تقييده الزمان بكونه ظرفا هو أنّ الزمان لو كان قيدا للحكم لا يجري الاستصحاب في الزمان الثاني قطعا. وإنّما الكلام في الزمان الذي يكون ظرفا للحكم المتيقّن سابقا ، حيث تحتمل مدخليّته في عالم اللّب فيه ، إلّا أنّ الاحتمال المذكور لا يمنع عن الاستصحاب ، كما قال : لم يقدح في جريان الاستصحاب ، وإلّا لم يبق مورد للعمل بقوله عليه‌السلام : لا تنقض اليقين بالشّك ، فلا بدّ حينئذ من إلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل ، كما أشار إليه بقوله :

لأن الاستصحاب مبنيّ على إلغاء خصوصيّة الزمان الأوّل ، أعني : إلغاء كونه قيدا للحكم ، بل لا بدّ من حمله على أن يكون ظرفا للحكم.

ثم منشأ الشكّ في بقاء الخيار المذكور في المتن إن كان احتمال كون الموضوع هو المتضرّر ، فلا مجال للاستصحاب نظرا إلى الدقّة العقليّة في موضوع المستصحب ، وذلك لانجبار الضّرر بالخيار في أوّل زمن العلم ، وأمّا إذا كان منشؤه مجرّد مضيّ الزمان الأوّل الملحوظ ظرفا ، لاحتمال عدم استعداده للبقاء أزيد من ذلك يجري الاستصحاب ، كما مرّ.

فالاستصحاب في الحكم الشرعي لا يجري إلّا في الشكّ من جهة الرافع ذاتا ، أي : فيما

٢١٧

وفيما كان من جهة مدخليّة الزمان. نعم ، يجري في الموضوعات الخارجيّة بأسرها ، ثمّ لو لم

____________________________________

إذا شكّ في وجود الرافع كخروج البول.

أو وصفا ، أي : فيما إذا شكّ في رافعيّة الموجود ، كالشكّ في أنّ المذي رافع للوضوء أم لا.

وبالجملة ، إنّ بقاء الموضوع بالدقّة العقليّة في موارد استصحاب الحكم إنّما هو في ثلاثة موارد :

أحدها : موارد الشكّ في الرافع.

ثانيها : موارد الشكّ في بقاء الحكم لاحتمال حصول الغاية ، كما إذا وجب إكرام زيد إلى الغروب.

ثالثها : موارد الشكّ في بقاء الحكم لاحتمال انقضاء استعداده للبقاء بسبب طول الزمان الملحوظ ظرفا ، كما في شرح الاعتمادي.

وقد تقدّم الإشارة إلى المورد الأوّل والثاني. وأشار إلى المورد الثالث بقوله :

وفيما كان من جهة مدخليّة الزمان ، فلا يجري الاستصحاب في موارد الشكّ في المقتضي ، لحصول التغيّر في الموضوع ولو في الجملة ، كزوال التغيّر في الماء ووجدان الماء في المتيمّم ، كما في شرح الاعتمادي.

نعم ، يجري في الموضوعات الخارجيّة بأسرها ، أي : أعمّ ممّا كان الشكّ فيه في المقتضي ، كالشكّ في حياة زيد من جهة الشكّ في انقضاء استعداده للبقاء. وممّا كان الشكّ في الرافع كالشكّ في حياته من جهة الشكّ في عروض مانع منها من قتل ونحوه.

والوجه في جريان الاستصحاب في الموضوعات الخارجيّة مطلقا هو لإحراز الموضوع فيها بدقيق العقل ؛ لأن الموضوع في استصحابها ليس وجودها خارجا ، بل هي نفس الماهيّة القابلة للوجود والعدم وهي غير قابلة للزوال ؛ لأنه يلزم انقلاب الشيء عمّا هو عليه.

فحينئذ إذا شكّ في حياة زيد يجري استصحاب بقاء حياته لإحراز الموضوع ، سواء كان الشكّ فيها من جهة المقتضي وهو احتمال انقضاء استعداده أو من جهة طروّ الرافع كالقتل مثلا ؛ لأن الموضوع هو زيد المتصوّر القابل للحياة والممات.

٢١٨

يعلم مدخليّة القيود في الموضوع ، كفى في عدم جريان الاستصحاب الشكّ في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلا.

الثاني : أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة ، ويفرّق بين قوله : «الماء المتغيّر نجس» وبين قوله : «الماء يتنجّس إذا تغيّر» ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر ، فيزول الحكم بزواله ، وفي الثاني نفس الماء فتستصعب النجاسة لو شكّ في مدخليّة التغيّر في

____________________________________

ثمّ لو لم يعلم مدخليّة القيود في الموضوع ، كفى في عدم جريان الاستصحاب الشكّ في بقاء الموضوع ، على ما عرفت مفصّلا قال الاستاذ الاعتمادي : الظاهر أنّ هذا تكرار لقوله فيما سبق : أو لم يعلم أحدهما.

والغرض أنّه كما لا يجري الاستصحاب بناء على الدقّة العقليّة عند انتفاء معلوم القيديّة بحسب ظاهر الدليل ، كما إذا قال : الماء المتغيّر نجس ، كذلك لا يجري فيما إذا لم يعلم القيديّة لإجمال الدليل ، كما إذا قال : التغيّر موجب لنجاسة الماء ، أو قام به الإجماع. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل ، وهو أن يكون الميزان في بقاء الموضوع هو العقل. وقد أشار إلى الأمر الثاني وهو أن يكون الميزان في تمييز الموضوع هو لسان الدليل بقوله :

الثاني : أن يرجع في معرفة الموضوع للأحكام إلى الأدلّة.

وقد نسب هذا الميزان في معرفة الموضوع إلى شريف العلماء ولازمه وهو سدّ باب الاستصحاب فيما إذا لم يكن الحكم الشرعي ثابتا بالدليل اللفظي ، بأن يكون ثابتا بالدليل اللّبي ، كوجوب تقليد الأعلم مثلا ، أو كان ثابتا بالدليل اللفظي الذي كان موضوعه مجملا أو كان الموضوع فيه مقيّدا بوصف وقلنا بثبوت المفهوم له ، كما إذا قال : الماء المتغيّر نجس ، فإنّ المفهوم المزبور دليل اجتهادي على انتفاء الحكم عند انتفاء التغيّر ، فلا يجري الاستصحاب ، وهو كما ترى على ما في التعليقة.

ويفرّق بين قوله : الماء المتغيّر نجس ، وقوله : الماء يتنجّس إذا تغيّر ، فيجعل الموضوع في الأوّل الماء المتلبّس بالتغيّر.

وذلك لظهور تقييد الماء بالتغيّر في اعتبار التغيّر بالفعل في ثبوت الحكم ، فلا يعتدّ باحتمال كون الموضوع في الواقع نفس الماء وكون التغيّر علّة محدثة.

وحينئذ فيزول الحكم بزواله ولا يبقي مجال للاستصحاب.

٢١٩

بقائها ، وهكذا.

وعلى هذا فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع ، إذا كان الدليل غير لفظي لا يتميّز فيه الموضوع ، لاحتمال مدخليّة القيد الزائل فيه.

الثالث : أن يرجع في ذلك إلى العرف.

____________________________________

وفي الثاني نفس الماء.

أي : فيجعل الموضوع في المثال الثاني نفس الماء ، وذلك لظهور إطلاق لفظ الماء في كون الموضوع نفس الماء والمتغيّر علّة محدثة ، فلا يعتني باحتمال كون الموضوع في الواقع هو الماء المتغيّر بالفعل ، إذ لا يجوز رفع اليد عن الظهور المذكور بالاحتمال المزبور.

فيستصحب النجاسة لو شكّ في مدخليّة التغيّر في بقائها ، أي : النجاسة من جهة احتمال كون التغيّر علّة مبقية أيضا.

وهكذا سائر الموارد. ثمّ ما ذكر من جريان الاستصحاب في المثال الثاني وأمثاله إنمّا هو فيما إذا لم يكن هناك إطلاق أحوالي معتبر ، كما في المثال المتقدّم ، إذ المطلوب فيه هو بيان مجرّد حدوث النجاسة عند التغيّر ، وأمّا لو فرض وجود إطلاق أحوالي معتبر ، فلا حاجة حينئذ إلى الاستصحاب ، بل يتمسّك به ، كما إذا قيل إذا تغيّر الماء بالنجس يجب الاجتناب عنه ما لم يتطهّر بملاقاة كرّ ونحوه.

وعلى هذا ، أي : على فرض كون الميزان في معرفة الموضوع لسان الدليل.

فلا يجري الاستصحاب فيما كان الشكّ من غير جهة الرافع ونحوه ، كحصول الغاية ، إذا كان الدليل غير لفظي لا يتميّز فيه الموضوع.

كما إذا اقتضى الإجماع أو قاعدة الاشتغال كون موضوع وجوب التقليد هو المجتهد المطلق الحيّ الأعلم ، فلا يعلم أنّ هذه القيود معتبرة ابتداء أو استدامة أيضا ، فلا يجري الاستصحاب عند زوال أحدها لاحتمال كونها قيودا للموضوع بحيث ينتفي بانتفائها ، كما في شرح الاعتمادي ، وأشار إليه بقوله : لاحتمال مدخليّة القيد الزائل فيه. هذا تمام الكلام في الأمر الثاني.

الثالث : أن يرجع في ذلك إلى العرف.

بأن يقال : إنّ الميزان في تمييز القيود المأخوذة في الموضوع من غيرها هو حكم العرف

٢٢٠