دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

وأمّا القسم الثاني ، فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني ، وكذلك القسم الأوّل ، لأن عموم اللفظ للزمان اللّاحق كاف ومغن عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ، إذ المعتبر في الاستصحاب عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة. فإذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم فشكّ فيما بعد

____________________________________

الدليل على حال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ، حتى يقال بعدم جريان الأصل مع وجود الدليل الاجتهادي.

نعم ، يمكن الإشكال في جريان الاستصحاب من جهة اخرى ، مثل كون الشكّ شكّا في المقتضي أو حصول تغيّر في موضوع الحكم أو غيرهما ، ممّا يأتي تفصيل الكلام فيه في هذا الأمر العاشر.

وأمّا القسم الثاني ، أعني : ما إذا كان الدليل مبيّنا لعدم الحكم في الزمن الثاني.

فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني.

كما لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب في القسم الأوّل لوجود الدليل على ثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كما أشار إليه بقوله :

وكذلك القسم الأوّل ، لأن عموم اللفظ للزمان اللّاحق كاف ومغن عن الاستصحاب.

إذ لا نحتاج في ثبوت الحكم في الزمان الثاني إلى الاستصحاب بعد ثبوته بما دلّ على ثبوته في الزمان الأوّل.

بل مانع عنه ، إذ لا يجري الأصل العملي مع الدليل الاجتهادي. إلى هنا يكون المطلب واضحا ، وإنّما الكلام فيما إذا ورد عامّ أفرادي يتضمّن أيضا للعموم والأزمان ، ثم خصّص وخرج عنه بعض الأفراد في بعض الأزمنة ، وشكّ في خروج ذلك البعض في جميع الأزمنة أو في بعضها.

فيقع الكلام في أنّه هل يرجع في زمان الشكّ في الخروج إلى عموم العام أو إلى استصحاب حكم المخصّص؟ ذهب إلى كلّ جماعة ، إلّا أنّ الحقّ عند المصنف قدس‌سره هو التفصيل ، وقد أشار إلى هذه المسألة بقوله :

فإذا فرض خروج بعض الأفراد في بعض الأزمنة ، كخروج العقد الغبني عن عموم

١٦١

ذلك الزمان المخرج بالنسبة إلى ذلك الفرد ، هل هو ملحق به في الحكم أو ملحق بما قبله؟ الحقّ هو التفصيل في المقام ، بأن يقال :

إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديّا ، بأنّ اخذ كلّ زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ، لينحلّ العموم إلى أحكام متعدّدة بتعدّد الأزمان ، كقوله : «اكرم العلماء كلّ يوم» فقام الإجماع على حرمة اكرم زيد العالم يوم الجمعة. ومثله : ما لو قال : «اكرم العلماء» ثمّ قال :

____________________________________

(أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) في زمان العلم بالغبن مثلا ، فشكّ فيما بعد ذلك الزمان المخرج في خروج ذلك الفرد.

هل هو ملحق به ، أي : فشكّ في أنّ ما بعد الزمان المخرج هل ملحق بالزمان المخرج بأن كان الفرد خارجا عن العام فيه كما هو خارج عنه فى الزمان المخرج يقينا.

أو ملحق بما قبله ، أي : بما قبل الزمان المخرج ، بأن يكون الفرد المذكور بعد الزمان المخرج باقيا تحت العام.

وبعبارة اخرى بأن يشكّ في أنّ العقد الغبني الذي خرج عن عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في أوّل زمان العلم بالغبن ، هل هو ملحق بعد مضيّ أوّل زمان العلم بالغبن بالزمان المخرج في جواز الفسخ ، أو ملحق بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في عدم جواز الفسخ؟.

قال المصنف قدس‌سره : الحقّ هو التفصيل في المقام ردّا لما ذهب إليه المحقّق الثاني حيث منع عن استصحاب حكم المخصّص مطلقا ، وردّا لبحر العلوم أيضا حيث جوّز استصحاب حكم المخصّص مطلقا.

ثمّ توضيح ما ذكره المصنف قدس‌سره من التفصيل يتوقّف على مقدّمة ، وهي :

إنّ العموم الأزماني يمكن أن يكون على نحو العموم الاستغراقي ، بأن أخذ كلّ زمان يسع فيه الفعل موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ، ويكون الحكم متعدّدا بمقدار تعدد الأفراد الطوليّة ـ أعني : الأزمان ـ كما أشار إليه بقوله :

إن أخذ فيه عموم الأزمان أفراديا ... إلى آخره ، بأن يعلم من حال الآمر أنّ مراده من قوله : اكرم العلماء هو وجوب إكرام كلّ فرد منهم في كلّ زمان يسع الإكرام فيه.

__________________

(١) المائدة : ١.

١٦٢

____________________________________

ويمكن أن يكون العموم بالنسبة إلى الزمان مجموعيا ، بأن يكون مجموع أجزاء الزمان موضوعا لحكم واحد بمعنى استمراره في جميع أجزاء الزمان ، كما أشار إليه بقوله :

وإن اخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : اكرم العلماء دائما.

ونظيره هو وجوب الإمساك في صوم رمضان من طلوع الفجر إلى المغرب حيث لا يكون تكليفا متعدّدا بتعدّد ساعات اليوم ، ثمّ الزمان في القسم الأوّل مأخوذ على نحو القيديّة وفي القسم الثاني مأخوذ على نحو الظرفيّة. وعلى التقديرين يمكن أن يكون الزمان في جانب الخاص مأخوذا على نحو القيديّة أو على نحو الظرفيّة ، فتكون الصور أربعة :

الاولى : أن يكون العام استغراقيّا مع كون الزمان في جانب الخاص مأخوذا على نحو القيديّة.

والثانيّة : نفس الصورة في جانب العام مع كون الزمان في جانب الخاص مأخوذا على نحو الظرفيّة.

والثالثة : أن يكون العموم من قبيل العموم المجموعي مع كون الزمان في جانب الخاصّ مأخوذا على نحو القيديّة.

والرابعة : نفس الصورة في جانب العام مع كون الزمان في جانب الخاص مأخوذا على نحو الظرفيّة.

وبعبارة اخرى : يمكن أن يكون الزمان مأخوذا في كلّ منهما على نحو القيديّة أو الظرفيّة أو في أحدهما على نحو القيديّة وفي الآخر على نحو الظرفيّة. إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول :

إنّه إذا ورد عام ـ كقوله : اكرم العلماء ، ثمّ ورد خاص كقوله : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ـ وجب الرجوع إلى العموم في مورد الشكّ في الصورة الاولى ، وذلك لفرض كون كلّ فرد في كلّ زمان موضوعا مستقلا للحكم ، فمع خروج بعض الأفراد في زمان تجري أصالة عدم التخصيص زائدا على ما علم خروجه ، ومقتضاها بقاء ما لم يعلم خروجه من الأفراد تحت العام في زمان آخر.

١٦٣

«لا تكرم زيدا يوم الجمعة» إذا فرض الاستثناء قرينة على أخذ كلّ زمان فردا مستقلا ، فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ولا يجري الاستصحاب ، بل لو لم يكن عموم وجب الرجوع إلى سائر الاصول ، لعدم قابليّة المورد للاستصحاب.

____________________________________

فلا يمكن ـ حينئذ ـ استصحاب حكم المخصّص حتى يحكم بعدم وجوب إكرام زيد فيما بعد يوم الجمعة أيضا. وذلك لما عرفت من أنّ الزمان فيما بعد يوم الجمعة موضوع مستقلّ ، فلا يمكن إسراء حكم كإكرام زيد يوم الجمعة إلى موضوع آخر كإكرامه يوم السبت مثلا ، لاشتراط اتحاد الموضوع في الاستصحاب ، فلا يجوز الرجوع إلى الاستصحاب ، ولو لم يكن الرجوع إلى العموم جائزا لمانع فرضا ، بل يرجع ـ حينئذ ـ إلى سائر الاصول من البراءة أو الاشتغال لا إلى الاستصحاب.

غاية الأمر أنّ المانع عن الاستصحاب في هذا الفرض هو تبدّل الموضوع لا وجود العام ، فلا يجري الاستصحاب حتى لو فرضنا انتفاء العام رأسا ، بأن قال من الأوّل : لا تكرم زيدا يوم الجمعة ، بل يرجع إلى أصالة البراءة ، كما مرّ في استصحاب الزمانيّات.

هذا تمام الكلام في حكم الصورة الاولى وهي ما إذا كان العموم استغراقيّا مع كون الزمان في جانب الخاصّ مأخوذا على نحو القيديّة.

أمّا الصورة الثانيّة ـ وهي نفس الصورة السابقة في جانب العام مع كون الزمان في جانب الخاصّ مأخوذا على نحو الظرفيّة ـ لوجب الرجوع إلى العام أيضا ولا يجوز الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص ، لا من جهة تبدّل الموضوع ولزوم إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ، إذ هذا الإشكال مبنيّ على أن يكون الزمان قيدا في جانب الخاص ، والمفروض أنّ الزمان اخذ على نحو الظرفيّة لا على نحو القيديّة ، بل لوجود دليل اجتهادي وهو العام ، فيكون حاكما على الاستصحاب في هذا الفرض.

والحاصل من الجميع هو عدم جريان استصحاب حكم المخصّص فيما إذا كان العموم بالنسبة إلى الأزمان استغراقيّا ، سواء كان الزمان في جانب الخاص مأخوذا على نحو القيديّة أو على نحو الظرفيّة. وهذا ما أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله : إن اخذ فيه عموم الأزمان أفراديّا. إلى أن قال : فحينئذ يعمل عند الشكّ بالعموم ولا يجري الاستصحاب وقد عرفت الوجه في ذلك.

١٦٤

وإن اخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : «اكرم العلماء دائما» ثمّ خرج فرد في زمان وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب ، إذ لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائد على التخصيص المعلوم ، لأن مورد التخصيص الأفراد دون الأزمنة ، بخلاف القسم الأوّل ، بل لو لم يكن هنا استصحاب لم يرجع إلى

____________________________________

وأمّا الصورة الثالثة ـ وهي أن يكون العموم مجموعيّا مع كون الزمان في جانب الخاصّ مأخوذا على نحو القيديّة ـ فالحكم فيها في مورد الشكّ هو عدم الرجوع إلى العامّ ، ولا إلى استصحاب حكم المخصّص.

أمّا عدم الرجوع إلى العام ، فلعدم أصالة العموم بعد فرض كون الحكم واحدا بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد العامّ في مجموع الأزمنة ، وقد ذهب ذلك الحكم عن هذا الفرد الذي خرج عن العام بالتخصيص.

وأمّا عدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب فلما عرفت من لزوم إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، فلا يكون مفادا لاستصحاب إبقاء ما كان على ما كان ، إلّا أنّ المصنف قدس‌سره لم يتعرّض لهذه الصورة الثالثة.

وأمّا الصورة الرابعة ـ وهي نفس الصورة الثالثة مع كون الزمان في جانب الخاصّ مأخوذا على نحو الظرفيّة ـ فالمرجع فيها هو الاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

وإن أخذ لبيان الاستمرار ، كقوله : اكرم العلماء دائما ، ثمّ خرج فرد في زمان نحو لا تكرم زيدا يوم الجمعة بعد فرض الزمان ظرفا وشكّ في حكم ذلك الفرد بعد ذلك الزمان ، فالظاهر جريان الاستصحاب.

ثمّ الوجه في جريان استصحاب حكم المخصّص في هذا الفرض ما أشار إليه بقوله :

إذا لا يلزم من ثبوت ذلك الحكم للفرد بعد ذلك الزمان تخصيص زائدا على التخصيص المعلوم ، لأنّ مورد التخصيص الأفراد دون الازمنة.

بمعنى أنّ الخارج بالتخصيص هو الفرد لا الزمان حتى يكون الزمان الثاني موضوعا مستقلا يحتاج خروجه عن الحكم إلى تخصيص زائد على التخصيص المعلوم.

هذا بخلاف القسم الأوّل وهو ما يكون العموم بالنسبة إلى الأزمان استغراقيّا ، كما هو كذلك بالنسبة إلى الأفراد ، وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب فيه.

١٦٥

العموم ، بل إلى الاصول الأخر.

ولا فرق بين استفادة الاستمرار من اللفظ ، كالمثال المتقدم ، أو من الإطلاق ، كقوله : «تواضع للناس» ، بناء على استفادة الاستمرار منه. فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج ، وليس هذا من باب تخصيص العامّ بالاستصحاب ،

____________________________________

فحاصل التفصيل هو الرجوع إلى العام وعدم جواز الرجوع إلى الاستصحاب في القسم الأوّل ، والرجوع إلى الاستصحاب فقط في القسم الثاني.

بل لو لم يكن هنا استصحاب من جهة الشكّ ، في المقتضي مثلا لم يرجع إلى العموم ، بل إلى الاصول الأخر ، كالبراءة مثلا لما عرفت من أنّ الخارج عن العام هو الفرد لا الزمان ـ أيضا ـ حتى يحتاج خروج الزمان الثاني إلى تخصيص زائد على التخصيص المعلوم.

فيقال : إنّ احتمال التخصيص الزائد ينفى بأصالة العموم وعدم التخصيص الزائد على التخصيص المعلوم ، فالمانع عن الرجوع إلى العامّ في هذا الفرض هو عدم لزوم التخصيص الزائد حتى يرجع في مورد احتماله إلى أصالة العموم.

فالمتحصّل من الجميع هو الرجوع إلى العام وعدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان العموم الأزماني استغراقيّا ، والرجوع إلى الاستصحاب لا إلى العموم فيما إذا كان مجموعيّا.

وبعبارة اخرى فيما إذا كان الزمان مأخوذا على نحو الظرفية. هذا تمام الكلام في التفصيل المذكور في المتن واختاره المصنف قدس‌سره في مقابل القول بالرجوع إلى عموم العام بالنسبة إلى زمان الشكّ مطلقا ، كما هو ظاهر المحقّق الثاني قدس‌سره ، والقول بالرجوع إلى استصحاب الخاصّ مطلقا ، كما هو ظاهر السيّد بحر العلوم قدس‌سره ، وستأتي الاشارة إليهما في كلام المصنف قدس‌سره.

وكيف كان ، فإن اخذ عموم الأزمان لبيان الاستمرار يرجع في مورد الشكّ إلى الاستصحاب من دون فرق بين أن يكون الاستمرار مستفادا من اللفظ ، كأكرم العلماء دائما.

أو من الإطلاق ، كقوله : تواضع للناس ، بناء على استفادة الاستمرار منه بمقدّمات الحكمة ، فإنّه إذا خرج منه التواضع في بعض الأزمنة على وجه لا يفهم من التخصيص

١٦٦

وقد صدر خلاف ما ذكرنا ، من أنّ مثل هذا من مورد الاستصحاب وأنّ هذا ليس من تخصيص العامّ به ، في موضعين :

أحدهما : ما ذكره المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان ، من أنّه فوريّ ، لأن عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان. وحاصله : منع جريان الاستصحاب ، لأجل عموم وجوب الوفاء ، خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن وبقي الباقي.

وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار ، وهو الأقوى ، بناء

____________________________________

ملاحظة المتكلّم كلّ زمان فردا مستقلّا لمتعلّق الحكم ، استصحب حكمه بعد الخروج ، أي : استصحب حكم الخاص ، بعد خروج هذا الزمان.

وليس هذا ، أي : استصحاب حكم المخصّص في هذا الفرض من باب تخصيص العامّ بالاستصحاب ، بل من باب إبقاء حكم المخصّص.

وقد صدر خلاف ما ذكرنا ، من أنّ مثل هذا من موارد الاستصحاب وأنّ هذا ليس من تخصيص العامّ به ، أي : الاستصحاب.

والحاصل أنّه قد صدر خلاف ما ذكرنا في موضعين : (أحدهما) ما ذكره المحقّق الثاني في مسألة خيار الغبن في باب تلقّي الركبان ، أي : استقبال أصحاب الأمتعة في خارج البلد ليشتريها منهم بأقلّ ما في البلد من القيمة ، فيكون لأصحاب الأمتعة حينئذ خيار الغبن ، من أنّه فوريّ ، لأن عموم الوفاء بالعقود من حيث الأفراد يستتبع عموم الأزمان ، ولازم ذلك هو وجوب الوفاء لكلّ عقد في كلّ زمان ، ثمّ خرج منه أوّل زمان الاطّلاع على الغبن حيث يجوز الفسخ بخيار الغبن وبقي الباقي تحت العام ، فيجب الوفاء به بمقتضى عموم العام.

ولا يجوز الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص مطلقا ، أي : وإن كان العامّ مفيدا للعموم الزماني الاستمراري ، لأن مقتضى عموم العام للأزمان هو الاقتصار في الخروج عنه على ما هو القدر المتيقّن ، فيرجع في غيره إلى العام ، ومعه لا مجال للاستصحاب أصلا ، هذا ما ذكره المحقّق الثاني في المقام.

وظاهر الشهيد الثاني في المسالك إجراء الاستصحاب في هذا الخيار ، وهو الأقوى ، بناء

١٦٧

على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء إلّا كون الحكم مستمرّا ، إلّا أنّ الوفاء في كلّ زمان موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ ، حتى يقتصر في تخصيصه على ما ثبت من جواز نقض العقد في جزء من الزمان وبقي الباقي.

نعم ، لو استظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض بجواز نقضه في زمان بالإضافة إلى غيره من الأزمنة ، صحّ ما ادّعاه المحقّق قدس‌سره ، لكنّه بعيد ، ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك ، إلّا أنّ بعضهم قيّده بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو الإجماع ، لا أدلّة نفي الضّرر ، لاندفاع الضّرر بثبوت

____________________________________

على أنّه لا يستفاد من إطلاق وجوب الوفاء إلّا كون الحكم مستمرّا.

نظير قوله : تواضع للناس ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. ولا يدلّ الإطلاق على أنّ كلّ زمان يسع فيه الوفاء بالعقد موضوع مستقلّ محكوم بوجوب مستقلّ ، نظير قوله : أكرم العلماء كلّ يوم ، حتى يقال بأنّه لا يمكن الرجوع إلى الاستصحاب لكونه مستلزما لإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر ، بل يجب الرجوع إلى العامّ ، ويقتصر في تخصيصه على ما ثبت خروجه منه يقينا ، كما هو واضح في المتن.

وبالجملة ، إنّ ما يظهر من الشهيد الثاني من جريان الاستصحاب في هذا الخيار هو الأقوى ، وذلك لعدم مانع عن جريان الاستصحاب ، إذ المانع هو تبدّل الموضوع وإسراء الحكم عن موضوع إلى موضوع آخر ، وهو منتف على الفرض.

نعم ، لو استظهر من وجوب الوفاء بالعقد عموم لا ينتقض ... إلى آخره.

أي : لو استظهر من وجوب الوفاء بالعموم عموم زماني أفرادي بحيث لا ينقض بجواز نقضه في زمان ، كأوّل زمان العلم بالغبن بالإضافة إلى غيره من الأزمنة صحّ ما إدّعاه المحقّق قدس‌سره.

إذ يكون ـ حينئذ ـ كلّ زمان موضوعا مستقلّا لحكم مستقلّ ، فلا يمكن الرجوع إلى الاستصحاب لكونه مستلزما لإسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر كما مرّ.

لكنّه بعيد ، أي : الاستظهار المذكور بعيد ؛ لأن الإطلاق لا يفيد إلّا الاستمرار ، فلا مانع ـ حينئذ ـ من إجراء الاستصحاب.

ولهذا رجع إلى الاستصحاب في المسألة جماعة من متأخّري المتأخّرين تبعا للمسالك ، إلّا

١٦٨

الخيار في الزمن الأوّل.

ولا أجد وجها لهذا التفصيل ، لأن نفي الضّرر إنّما نفي لزوم العقد ولم يحدّد زمان الجواز. فإن كان عموم أزمنة وجوب الوفاء يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضّرر ويرجع في الزائد عليه إلى العموم ، فالإجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على معقده.

وثانيهما : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول ، من : «أنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات ، ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيّته من أخبار الباب

____________________________________

أنّ بعضهم كصاحب الرّياض قيّده ، أي : جواز الاستصحاب بكون مدرك الخيار في الزمان الأوّل هو الإجماع ، لا أدلّة نفي الضّرر ، لاندفاع الضّرر بثبوت الخيار في الزمن الأوّل.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتماديّ ، هو أنّه يستدلّ على خيار الغبن تارة بالإجماع ، واخرى بقاعدة نفي الضّرر ، فمن تمسّك بالإجماع صحّ له الاستصحاب ؛ لأن الإجماع يفيد جواز العقد ولا يعيّن الفور أو التراخي.

ومن تمسّك بقاعدة نفي الضّرر لا يصحّ منه الاستصحاب ؛ لأنها تعيّن الفور بملاحظة أنّ الضّرر يندفع به. هذا حاصل وجه ما ذكره صاحب الرياض من التفصيل. وقد أشار إلى ردّ هذا التفصيل بقوله :

ولا أجد وجها لهذا التفصيل ، لأن نفي الضّرر أيضا كالإجماع إنّما نفي لزوم العقد ولم يحدّد زمان الجواز. فإن كان عموم أزمنة وجوب الوفاء عموما أفراديا بحيث يقتصر في تخصيصه على ما يندفع به الضّرر وهو الفور ويرجع في الزائد عليه إلى العموم ، فالإجماع أيضا كذلك ، يقتصر فيه على القدر المتيقّن من معقده وهو الفور.

وإن كان عموم الزمان استمراريّا يرجع إلى الاستصحاب سواء كان دليل التخصيص هو الإجماع أو قاعدة نفي الضّرر ، ولا يرجع إلى العامّ ، لما مرّ غير مرّة من عدم لزوم التخصيص الزائد حتى ينفى بأصالة العموم عند الشكّ فيه. هذا تمام الكلام في الموضع الأوّل.

أمّا الموضع الثاني ، فقد أشار إليه بقوله :

وثانيهما : ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول وهو السيّد بحر العلوم من : أنّ

١٦٩

الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين ، إذ ليست العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، وإلّا لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ، لانتهاء كلّ دليل إلى أدلّة عامّة ،

____________________________________

الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعي مخصّص للعمومات ، فيرجع عند الشكّ إلى الاستصحاب لا إلى العام.

وتوضيح ذلك على ما في شرح الاعتمادي أنّ معناه ، أنّه إذا قام الدليل مثلا على وجوب إكرام العلماء كلّ يوم بنحو العموم الزماني الأفرادي ، ثمّ قام الدليل مثلا على حرمة إكرام زيد يوم الجمعة ، ثمّ شكّ فيها يوم السبت ، كان استصحاب الحرمة المخالف لأصل البراءة مخصّصا لعموم وجوب إكرام العلماء كلّ يوم ، فيكون مراده من العموم المخصّص بالاستصحاب هو العموم الّذي اخذ فيه عموم الزمان أفراديّا ، حيث يكون استصحاب حكم المخصّص فيه موجبا لزيادة التخصيص ، ولا يكون مراده من العموم هو العموم الزماني الاستمراري ، فإنّ استصحاب حكم المخصّص لا يوجب فيه زيادة التخصيص ، بل هو استمرار التخصيص الأوّل.

قوله : ولا ينافيه عموم أدلّة حجّيّته من أخبار الباب الدالّة على عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين دفع لما يتوهّم من تنافي تخصيص العموم مع عموم أدلّة حجّيّة الاستصحاب.

إذ مقتضى التخصيص هو كون النسبة ـ بين الاستصحاب وعموم أكرم العلماء كلّ يوم ـ عموما مطلقا ، بأن يكون الاستصحاب أخصّ من أكرم العلماء كلّ يوم.

والأمر في المقام ليس كذلك ، بل النسبة بينهما هي العموم من وجه ؛ لأن مادّة الافتراق من جانب أكرم العلماء كلّ يوم هو غير زيد الخارج عنه بالتخصيص ، ومادّة الافتراق من جانب الاستصحاب هو غير مورد إكرام العلماء ، كسائر موارد الاستصحابات ، ومادّة الاجتماع هي إكرام زيد يوم السبت ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، ويرجع إلى التخيير لا إلى التخصيص.

وحاصل الدفع أنّ ما ذكر في التوهّم من كون النسبة بينهما هي العموم من وجه ، مبني على أن يكون الملاك في العموم والخصوص بدليل الاستصحاب ، كعموم لا تنقض اليقين بالشكّ ، وليس الأمر كذلك كما أشار إليه بقوله :

إذ ليست العبرة في العموم والخصوص بدليل الدليل ، أي : بدليل الاستصحاب ، كما

١٧٠

بل العبرة بنفس الدليل.

ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ لا يتعدّاه إلى غيره ، فيقدّم على العامّ ، كما يقدّم على غيره من الأدلّة ، ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة

____________________________________

عرفت ، بل العبرة بنفس الدليل ، أعني : الاستصحاب ، ومن المعلوم أنّ النسبة بين أكرم العلماء كلّ يوم وبين استصحاب حرمة إكرام زيد يوم السبت عموم مطلق ، فلا منافاة بين التخصيص بالاستصحاب وبين عموم أدلّة حجّيّته.

وإلّا لم يتحقّق لنا في الأدلّة دليل خاصّ ، أي : وإن لم تكن العبرة بنفس الدليل ، وكانت العبرة بدليل الدليل ، كما هو مبنى التوهّم ، لم يتحقّق دليل خاصّ في الأدلّة ، حتى أنّ قوله : لا تكرم زيدا يوم الجمعة لا يكون خاصا بالنسبة إلى قوله : أكرم العلماء كلّ يوم.

وذلك لانتهاء كلّ دليل إلى أدلّة عامّة كحجّيّة خبر العادل ، فإنّه إذا قام الإجماع مثلا على وجوب إكرام العلماء ، وقام خبر العادل على حرمة إكرام زيد ، كانت النسبة بين عموم أكرم العلماء وعموم دليل حجّيّة خبر العادل هي العموم من وجه.

لأنّ الأوّل يشمل غير مورد حرمة الإكرام كسائر العلماء ، والثاني يشمل غير مورد وجوب إكرام العلماء من سائر الأحكام ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، كإكرام زيد العالم ، فيرجع إلى التخيير مثلا.

فلا بدّ من أن تكون العبرة في العموم والخصوص بنفس الدليل ، كما أشار إليه بقوله : بل العبرة بنفس الدليل.

ولا ريب أنّ الاستصحاب الجاري في كلّ مورد خاصّ لا يتعدّاه إلى غيره.

بمعنى أنّ استصحاب حرمة إكرام زيد العالم في المثال المذكور مختصّ بمورده ، كاختصاص إخبار العادل بحرمة إكرام زيد بمورده ، فيكون الاستصحاب أخصّ من عموم أكرم العلماء.

فيقدّم على العامّ ، كما يقدّم على غيره من الأدلّة الاجتهاديّة ، كتقديم استصحاب خيار الغبن على عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١).

__________________

(١) المائدة : ١.

١٧١

والتحريم بالاستصحاب في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيّتها. ومن ذلك استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير ، وفي كون التحديد تحقيقيّا أو تقريبيّا ، وفي صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك». انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين.

ولا يخفى ما في ظاهره ، لما عرفت من أنّ مورد جريان العموم لا يجري الاستصحاب حتى لو لم يكن عموم ، ومورد جريان الاستصحاب لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب.

____________________________________

أو الفقاهتية كتقديم استصحاب النجاسة على أصالة الطهارة ، واستصحاب الحرمة على أصالة الحليّة ، واستصحاب الاشتغال على أصالة البراءة ، كما في شرح الاستاذ الاعتماديّ ، كما أشار إلى ما ذكر من الأمثلة بقوله :

ولذا ترى الفقهاء يستدلّون على الشغل والنجاسة والتحريم بالاستصحاب في مقابلة ما دلّ على البراءة الأصليّة وطهارة الأشياء وحلّيّتها. ومن ذلك استنادهم إلى استصحاب النجاسة والتحريم في صورة الشكّ في ذهاب ثلثي العصير ، وفي كون التحديد بذهاب الثلثين تحقيقيّا أو تقريبيّا وفي مورد صيرورته قبل ذهاب الثلثين دبسا ، إلى غير ذلك.

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الشكّ في ذهاب الثلثين في المثال المتقدّم وإن كان مقتضاه هو البراءة عن وجوب الاجتناب عنه بأدلّة البراءة والطهارة بقاعدة الطهارة ، إلّا أنّ استصحاب الحرمة والنجاسة مقدّم عليهما ، وكذا إذا قرب ذهاب الثلثين واحتمل كون التحديد تقريبا ، وكذا إذا صار دبسا قبل ذهاب الثلثين واحتمل كفايته في الطهارة والحليّة ، فيجري استصحاب النجاسة والحرمة ، كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منّا.

انتهى كلامه ، على ما لخّصه بعض المعاصرين ، أي : صاحب الفصول.

ولا يخفى ما في ظاهره ، أي : ظاهر ما ذكره السيّد بحر العلوم من جواز تخصيص العموم الزماني الأفرادي باستصحاب حكم المخصّص.

لما عرفت من أنّ مورد جريان العموم وهو ما إذا فرض كون عموم الزمان فيه أفراديّا ، كأكرم العلماء كلّ يوم لا يجري الاستصحاب ، كي يكون مخصّصا للعام على ما يظهر من كلام بحر العلوم رحمه‌الله ، حتى لو لم يكن عموم ، وذلك لما عرفت من تبدّل الموضوع ولزوم

١٧٢

ثمّ ما ذكره من الأمثلة خارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ، لأن الاصول المذكورة بالنسبة إلى الاستصحاب ليست من قبيل العامّ بالنسبة إلى الخاصّ ، كما سيجيء في تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول. نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّيّة إلى عموم حلّ الطيّبات وحلّ الانتفاع بما في الأرض ، كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الآخرين مثالا لمطلبه ، دون المثال الأوّل ، لأنه من قبيل الشكّ في موضوع الحكم

____________________________________

إسراء الحكم من موضوع إلى موضوع آخر.

ومورد جريان الاستصحاب وهو ما إذا فرض كون عموم الزمان فيه استمراريا ، على ما في شرح الاعتمادي ، لا يرجع إلى العموم ولو لم يكن استصحاب ، وذلك لعدم لزوم التخصيص الزائد حتى ينفى عند الشكّ بأصالة العموم.

والمتحصّل من الجميع أنّه ليس في موارد الشكّ في بقاء حكم المخصّص مورد يصحّ فيه التمسّك بالعامّ والتمسّك بالاستصحاب ، حتى يتعارضان ويبحث في تقديم أحدهما على الآخر.

ثمّ ما ذكره من الأمثلة داخل في مسألة حكومة الاستصحاب على سائر الاصول ، كما في شرح الاعتمادي وخارج عن مسألة تخصيص الاستصحاب للعمومات ، لأن الاصول المذكورة.

أعني : أصالة البراءة والحلّيّة ، والطهارة بالنسبة إلى الاستصحاب ليست من قبيل العامّ بالنسبة إلى الخاصّ كي يكون الاستصحاب مخصّصا لها ، بل تقدّم الاستصحاب عليها يكون من باب الحكومة إن كانت تلك الاصول شرعيّة أو الورود إن كانت عقليّة ، كما سيأتي في باب تعارض الاستصحاب مع غيره من الاصول.

نعم ، لو فرض الاستناد في أصالة الحلّيّة إلى عموم حلّ الطيّبات وحلّ الانتفاع بما في الأرض ، كقوله تعالى : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(١) كان استصحاب حرمة العصير في المثالين الآخرين.

أعني : مثال كون التحديد تحقيقيّا أو تقريبيّا ، ومثال صيرورة العصير دبسا مثالا لمطلبه

__________________

(١) البقرة : ٢٩.

١٧٣

الشرعيّ ، لا في نفسه. ففي الأوّل يستصحب عنوان الخاصّ ، وفي الثاني يستصحب حكمه. وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم دون الأوّل.

____________________________________

وهو تخصيص العمومات الاجتهاديّة بالاستصحاب لكون الشبهة فيهما حكميّة.

دون المثال الأوّل ، أعني : مسألة الشكّ في ذهاب الثلثين ، لأنه من قبيل الشكّ في موضوع الحكم الشرعيّ ، فتكون الشبهة فيه موضوعيّة ، ولا يمكن فيها التمسّك بالعموم ، فليس هناك تخصيص أصلا ، كي يقال أنّه بالاستصحاب.

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ الشكّ في حلّيّة العصير وطهارته في المثال الأوّل يكون لأجل الشكّ في ذهاب الثلثين. فتكون الشبهة موضوعيّة لا تجري فيها إلّا أصالتي الطهارة والحلّيّة الظاهرتين الثابتتين للشيء المشكوك بما هو مشكوك ، المستفادتين من قوله عليه‌السلام :

كلّ شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر (١) وكلّ شيء لك حلال حتى تعلم أنّه حرام (٢). وحينئذ يقدّم استصحاب العصيريّة عليهما من باب تقدّم الأصل الموضوعي على الحكمي.

وأمّا الشكّ في الحلّيّة والطهارة لاحتمال كفاية ذهاب الثلثين تقريبا أو كفاية صيرورته دبسا ، فهو شبهة حكميّة ، وحينئذ فإن تمسّكنا في الحلّ والطهارة بأصالتي الطهارة والحليّة ، فيقدّم ـ أيضا ـ استصحاب الحرمة والنجاسة عليهما من باب الحكومة.

وإن تمسّكنا فيهما بالعمومات الاجتهاديّة المبيّنة للحلّيّة الواقعيّة نحو (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ)(٣)(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٤) فربّما يتوهّم كون استصحاب الحرمة والنجاسة مخصّصا لهذه العمومات ، كما أشار إليه بقوله :

وفي الثاني ، أي : في الشكّ في كفاية الدبسيّة أو ذهاب الثلثين تقريبا يستصحب حكمه ، أي : الحرمة والنجاسة.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٥ / ٨٣٢ ، والوسائل ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠ ، والوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٣) المائدة : ٤.

(٤) البقرة : ٢٩.

١٧٤

ويمكن توجيه كلامه قدس‌سره : بأنّ مراده من العمومات بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف هي عمومات الاصول. ومراده بالتخصيص للعمومات ما يعمّ الحكومة كما ذكرنا في أوّل أصالة البراءة ، أو غرضه أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ

____________________________________

وهو الذي يتوهّم كونه مخصّصا للعموم الاجتهادي ، أعني : قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ).

دون الأوّل ، أعني : الشكّ في ذهاب الثلثين الراجع إلى الشبهة الموضوعيّة ، حيث يستصحب فيه عنوان الخاص ، أي : العصيريّة ، وقد عرفت أنّ الأصل الموضوعي حاكم على الحكمي وليس مخصّصا له.

ثمّ قول المصنف قدس‌سره : يتوهّم كونه مخصّصا للعموم. إشارة إلى فساد ذلك ؛ لأن العموم الزماني في (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) استمراري مستفاد من مقدّمات الحكمة. وبيّنا أنّه حينئذ يستصحب حكم المخصّص ، ولا يرجع إلى العام وإن لم يكن هناك استصحاب.

وبالجملة ، لا يصحّ الرجوع هنا إلى العام ، حتى يبحث في أنّ الاستصحاب مقدّم عليه أم لا ، ويتوهّم أنّه مخصّص له ، كما في شرح الاعتمادي.

ويمكن توجيه كلامه قدس‌سره ، بأنّ مراده من العمومات ـ في قوله : بأنّ الاستصحاب المخالف للأصل دليل شرعيّ مخصّص للعمومات بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف للأصل ـ هي عمومات الاصول.

نحو كلّ شيء مطلق (١) وكلّ شيء لك حلال ، لا عمومات الأدلّة نحو أكرم العلماء كلّ يوم.

ومراده بالتخصيص للعمومات ليس معناه المصطلح المقابل للحكومة ، كتخصيص عموم أكرم العلماء كلّ يوم باستصحاب حكم المخصص.

بل ما يعمّ الحكومة ، بمعنى أنّ المراد بالتخصيص هو مطلق تقديم الأخصّ على الأعمّ ، سواء كان من باب التخصيص المصطلح أو من باب الحكومة ، كتقديم الاستصحاب على سائر الاصول.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٠٨ / ٩٣٧ ، والوسائل ٦ : ٢٨٩ ، أبواب القنوت ، ب ١٩ ، ح ٣.

١٧٥

مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشكّ ، فلمّا كان دليل المستصحب أخصّ من الاصول سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللّاحق. فكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهاديّة ، فإنّه إذا خرج المستصحب من العموم بدليله ، والمفروض أنّ الاستصحاب مجر لحكم ذلك

____________________________________

وبالجملة ، مراده من كون الاستصحاب مخصّصا للعمومات أنّه مقدّم على عمومات الاصول ، لا أنّه مخصّص اصطلاحي لعمومات الأدلّة بقرينة تخصيصه الكلام بالاستصحاب المخالف ، إذ لو كان مراده أنّ الاستصحاب مخصّص اصطلاحي لعمومات الأدلّة لم يفرّق بين كون الاستصحاب مخالفا للأصل وكونه موافقا له.

أمّا الأوّل ، فكما إذا قال : أكرم العلماء كلّ يوم ولا تكرم زيدا يوم الجمعة ، فإنّ استصحاب الحرمة المخالف لأصل البراءة مخصّص للعام.

وأمّا الثاني ، فكما إذا قال : أكرم العلماء كلّ يوم ولا يجب إكرام زيد العالم يوم الجمعة ، فإنّ استصحاب عدم الوجوب الموافق لأصل البراءة مخصّص للعام.

فمراده أنّ الاستصحاب المخالف للاصول مخصّص لعمومات الاصول ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دام ظلّه.

كما ذكرنا في أوّل أصالة البراءة من أنّه قد يتسامح في اطلاق التخصيص.

أو غرضه أنّ مؤدّى الاستصحاب في كلّ مستصحب إجراء حكم دليل المستصحب في صورة الشكّ ، فلمّا كان دليل المستصحب أخصّ من الاصول سمّي تقدّمه عليها تخصيصا ، فالاستصحاب في ذلك متمّم لحكم ذلك الدليل ومجريه في الزمان اللّاحق.

بمعنى أنّ قوله : ـ مثلا ـ كلّ شيء لك حلال وكلّ شيء لك طاهر ... إلى آخره شامل لكلّ مشكوك ، والنصّ الدالّ على حرمة العصير بالغليان مختصّ بمورده ، وحينئذ يتسامح في إطلاق التخصيص ويقال يخصّص الأصل بالدليل.

والحال أنّ الدليل إمّا وارد على الأصل وإمّا حاكم عليه ، ثمّ إذا شكّ في بقاء الحرمة يستصحب الحرمة المستفادة من ذلك النصّ ، فيطلق عليه أيضا التخصيص ، والحال أنّ الاستصحاب حاكم على سائر الاصول ، كما في شرح الاعتمادي.

فكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهاديّة ، فإنّه إذا خرج المستصحب ،

١٧٦

الدليل في اللّاحق ، فكأنّه ـ أيضا ـ مخصّص ، يعني : موجب للخروج عن حكم العامّ ، فافهم.

____________________________________

أعني : العصير من العموم ، أعني : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) بدليله وهو النصّ الدالّ على حرمة العصير بالغليان.

والمفروض أنّ الاستصحاب مجر لحكم ذلك الدليل في اللّاحق ، فكأنّه ـ أيضا ـ مخصّص ، بمعنى أنّ قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) عامّ يدلّ على حلّ كلّ طيّب ، ودليل حرمة العصير مختصّ بمؤدّاه ، وتخصيص العموم بهذا الدليل تخصيص اصطلاحي.

ثمّ إذا شكّ في بقاء الحرمة للشكّ في ذهاب الثلثين التقريبي يستصحب حكم المخصّص ، فيشبه بالتخصيص ، كما في شرح الاعتمادي. كما أشار إليه بقوله :

يعني : موجب للخروج عن حكم العام ، وليس بتخصيص في الحقيقة ، إذ لا يصحّ الرجوع إلى العامّ حتى يدخل في باب التعارض ، كي يبحث عن تقديم أحدهما على الآخر ، فيقال بأنّ العام يخصّص بالاستصحاب.

فافهم لعلّه إشارة إلى أنّ الاستصحاب لا يمكن أن يكون مخصّصا اصطلاحيّا ، وذلك فإنّ الثابت بالدليل المخصّص هو الحكم الواقعي ، وبالاستصحاب هو مثل الحكم الواقعي لا عينه ، فيكون الاستصحاب مخصّصا بالتسامح ، وإلّا فإنّه حاكم على الاصول كما مرّ. هذا تمام الكلام في التنبيه العاشر.

١٧٧

الأمر الحادي عشر

قد أجرى بعضهم الاستصحاب في ما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فيستصحب وجوب الباقي الممكن.

وهو بظاهره ـ كما صرّح به بعض المحقّقين ـ غير صحيح ، لأن الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء وجوب هذه الأجزاء الباقية تبعا لوجوب الكلّ ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا. والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو الوجوب النفسيّ الاستقلالي ، وهو معلوم الانتفاء سابقا.

____________________________________

الأمر الحادي عشر : قد أجرى بعضهم الاستصحاب في ما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب ، فيستصحب وجوب الباقي الممكن.

ومحلّ الكلام في هذا الأمر الحادي عشر هو : أنّه إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب كتعذّر السورة مثلا في الصلاة ، حيث يكون تعذّر بعض الأجزاء موجبا للشكّ في وجوب الباقي ، هل يرجع إلى البراءة ، أو يستصحب وجوب الباقي؟.

فيقال بأنّ المورد وإن كان مورد أصل البراءة إلّا أنّ استصحاب وجوب الباقي حاكم عليه على فرض جريانه ، إلّا أنّ جريانه مع قطع النظر عن التوجيهات الآتية غير صحيح ، كما أشار إليه بقوله :

وهو بظاهره ، كما صرّح به بعض المحقّقين وهو المحقّق الخوانساري على ما حكي عنه ، كما في الأوثق وشرح التنكابني غير صحيح ، لأن الثابت سابقا قبل تعذّر بعض الأجزاء وجوب هذه الأجزاء الباقية تبعا لوجوب الكلّ ومن باب المقدّمة ، وهو مرتفع قطعا. والذي يراد ثبوته بعد تعذّر البعض هو الوجوب النفسيّ الاستقلالي ، وهو معلوم الانتفاء سابقا.

وحاصل الإشكال على الاستصحاب المذكور على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّه يستفاد من أدلّة الاستصحاب اعتبار اتحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة موضوعا ومحمولا ، بأن يكون الشكّ في بقاء المتيقّن السابق سواء كان حكما أو موضوعا ، لا في حدوث مثله.

١٧٨

ويمكن توجيهه ، بناء على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا.

بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحقّقة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة الكلّ ، إلّا أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه.

____________________________________

والشكّ فيما نحن فيه إنّما هو في الحدوث لا في البقاء ؛ لأن المتيقّن السابق الثابت لهذه الأجزاء الباقية هو الوجوب التبعي المقدّمي ، وقد انتفى قطعا ، إذ بعد تعذّر الجزء لا يجب الكلّ حتى تجب هذه الأجزاء مقدّمة له ، والذي يراد إبقاؤه بالاستصحاب هو الوجوب النفسي لهذه الأجزاء وهو مشكوك الحدوث.

وبعبارة اخرى : إنّ المقصود بالاستصحاب إمّا الوجوب التبعي أو الوجوب النفسي. فإن كان الأوّل ، فهو معلوم الانتفاء لاحقا ، فكيف يستصحب؟! وإن كان الثاني ، فهو معلوم الانتفاء سابقا ؛ لأن الموجود في السابق هو الوجوب التبعي لهذه الأجزاء الباقية ، ثمّ يذكر المصنف توجيهات لاستصحاب وجوب الأجزاء الباقية. والتوجيه الأوّل ما أشار إليه بقوله :

ويمكن توجيهه ، بناء على ما عرفت في التنبيه الأوّل من جواز إبقاء القدر المشترك في بعض الموارد ولو علم بانتفاء الفرد المشخّص له سابقا.

وحاصل هذا التوجيه يرجع إلى المسامحة العرفيّة في المستصحب كما مرّ في التنبيه الأوّل ، حيث عرفت فيه أنّ استصحاب الكلّي ـ القسم الثالث ـ غير جار إلّا إذا كان الفرد اللّاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد في نظر العرف ، كما إذا علم انتفاء المرتبة الموجودة من السواد ، فاحتمل حدوث لون آخر واحتمل تبدّله بمرتبة اخرى من السواد ، فإنّه يجوز ـ حينئذ ـ استصحاب كلّي السواد.

وكذا فيما نحن فيه ، فإنّ الوجوب النفسي على تقدير حدوثه في هذه الأجزاء يعدّ في نظر العرف مع الوجوب المقدّمي الثابت لها سابقا كالمستمر الواحد ، فيجوز استصحاب كلّي الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف ما. فيكون المستصحب مطلق المطلوبيّة ، كما أشار إليه بقوله :

بأنّ المستصحب هو مطلق المطلوبيّة المتحقّقة سابقا لهذا الجزء ولو في ضمن مطلوبيّة

١٧٩

ويمكن توجيهه بوجه آخر ، يستصحب معه الوجوب النفسي ، بأن يقال :

إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار إليه بقولنا : «هذا الفعل كان واجبا» هو الباقي ، إلّا أنّه يشكّ في مدخليّة الجزء المفقود في اتصافه بالوجوب النفسي مطلقا ، أو في اختصاص المدخليّة بحال الاختيار ، فيكون محلّ الوجوب النفسي هو الباقي. ووجود ذلك الجزء المفقود

____________________________________

الكلّ ، إلّا أنّ العرف لا يرونها.

أي : المطلوبيّة الكلّيّة مغايرة في الخارج لمطلوبيّة الجزء في نفسه.

فيكون ما هو المشكوك في اللّاحق عين ما هو المتيقّن في السابق في نظر العرف ، فلا يرد الإشكال على استصحاب وجوب الأجزاء الباقية إلّا أن يقال بأنّ استصحاب كلّي الوجوب لا يثبت الوجوب النفسي الذي هو المطلوب ؛ لأنه أصل مثبت.

فإنّه يقال بأنّ الاستصحاب ـ حينئذ ـ وإن كان مثبتا ، إلّا أنّه لا إشكال في اعتبار الأصل المثبت فيما إذا كانت الواسطة خفيّة كما عرفت ، وما نحن فيه يكون من هذا القبيل ، حيث تكون الواسطة خفيّة ، لما عرفت من أنّ كلّي الوجوب متحد مع الوجوب النفسي في نظر العرف ، وأنّ الآثار المترتّبة على الثاني مترتّبة على الأوّل في نظرهم. هذا تمام الكلام في التوجيه الأوّل.

وأشار إلى التوجيه الثاني بقوله :

ويمكن توجيهه بوجه آخر.

أقول : الفرق بين هذا التوجيه والتوجيه السابق هو أنّ المسامحة في التوجيه السابق تكون راجعة إلى نفس المستصحب كما عرفت ، وفي هذا التوجيه تكون راجعة إلى موضوع الحكم ، والمستصحب هو نفس الوجوب النفسي ، كما أشار إليه بقوله :

بأن يقال : إنّ معروض الوجوب سابقا والمشار إليه بقولنا : «هذا الفعل كان واجبا» هو الباقي.

فيقال : إنّ الفعل الباقي كان واجبا نفسيّا في السابق ، فيستصحب وجوبه النفسي عند الشكّ في مدخليّة الجزء المفقود في اتّصافه بالوجوب النفسي مطلقا أو في حال التمكّن والاختيار ، بعد جعل وجود الجزء المفقود وعدمه بمنزلة الحالات المتبادلة عند العرف من دون مدخليّتها في موضوع الحكم.

١٨٠