دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

لكنّه مقدّم على ما عداه عند العلّامة وبعض من تأخّر عنه ، ومكافئ لأصالة عدم الضمان من غير ترجيح عند الشيخ في المبسوط. وترجّح عليه أصالة عدم الضمان عند المحقّق والشهيد في المسالك.

ومنها : ما في التحرير بعد هذا الفرع : «ولو ادّعى الجاني نقصان يد المجني عليه بإصبع ، احتمل تقديم قوله ، عملا بأصالة عدم القصاص ، وتقديم قول المجني عليه ، إذ الأصل السلامة. هذا إن ادّعى الجاني نفي السلامة أصلا ، وأمّا لو ادّعى زوالها طارئا ، فالأقرب أنّ القول قول المجني عليه». انتهى.

____________________________________

والمستفاد من الكلّ نهوض الأصل المثبت وهو استصحاب الحياة لإثبات القتل الذي هو سبّب الضمان على ما هو التحقيق من أنّ موضوع الضمان هو تحقّق القتل.

غاية الأمر أنّ بعضهم سوّى بين الاحتمالين ، وبعضهم رجّح عدم الضمان ، وبعضهم تنظّر فيه ، وبعضهم قوّى الضمان ، على ما في شرح الاعتمادي.

ومنها : ما في التحرير بعد هذا الفرع : «ولو ادّعى الجاني نقصان يد المجني عليه بإصبع ، احتمل تقديم قوله ، عملا بأصالة عدم القصاص ، وتقديم قول المجني عليه ، إذ الأصل السلامة.

وحاصل ما في التحرير على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّه لو قطع الجاني يد المجني عليه ، ثمّ اختلفا ، فادّعى المجني عليه تماميّة يده وأنّ له القصاص.

وادّعى الجانيّ نقصان يد المجني عليه بإصبع وأنّ له الدية ، احتمل تقديم قول الجاني بمقتضى أصالة عدم القصاص ، واحتمل ـ أيضا ـ تقديم قول المجني عليه بمقتضى أصالة السلامة ، إذ مقتضى الظاهر هو السلامة.

هذا إن ادّعى الجاني نفي السلامة أصلا ، أي : رأسا من الأوّل.

وأمّا لو ادّعى زوالها أي : السلامة طارئا بعد الاعتراف بثبوتها من الأوّل ، فالأقرب أنّ القول قول المجني عليه عملا بأصالة عدم زوال الإصبع المثبتة للّازم العقلي وهو وقوع الجناية على اليد التامة الموجب للقصاص ، فيكون الأصل المذكور مثبتا. وحكمه ـ بأقربيّة قول المجني عليه ـ صريح في اعتبار الأصل المثبت عنده ، كما أشار إليه المصنف قدس‌سره بقوله :

٨١

ولا يخفى صراحته في العمل بأصالة عدم زوال الإصبع في إثبات الجناية على اليد التامة. والظاهر أنّ مقابل الأقرب ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله ، في الخلاف في نظير المسألة ، وهو ما إذا اختلف الجاني والمجني عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه ، فإنّه قوّى عدم ضمان الصحيح.

ومنها : ما ذكره جماعة ، تبعا للمبسوط والشرائع ، في اختلاف الجاني والولي في موت المجني عليه بعد الاندمال أو قبله. إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه ، خصوصا كتب الشيخ والفاضلين والشهيدين.

لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب عدم العمل بكلّ أصل مثبت. فإذا تسالم

____________________________________

ولا يخفى صراحته في العمل بأصالة عدم زوال الإصبع في إثبات الجناية على اليد التامة ، مع أنّ أصالة عدم زوال الإصبع تكون من الاصول المثبتة.

والظاهر أنّ مقابل الأقرب ما يظهر من الشيخ رحمه‌الله ، في الخلاف في نظير المسألة ، وهو ما إذا اختلف الجاني والمجني عليه في صحّة العضو المقطوع وعيبه ، فإنّه قوّى عدم ضمان الصحيح ، مع أنّ مقتضى أصالة السلامة هو ضمان الصحيح.

ومنها : ما ذكره جماعة ، تبعا للمبسوط والشرائع ، في اختلاف الجاني والولي في موت المجني عليه بعد الاندمال أو قبله.

وحاصله على ما في شرح الاعتمادي ، إنّه إذا قطع الجاني خطأ يدي المجني عليه ورجليه ، فادّعى الولي أنّه مات بعد برء الجراحات ، فيجب على الجاني دفع ديتين كاملتين : إحداهما لليدين والاخرى للرجلين.

وادّعى الجاني أنّه مات بسراية الجناية ، وليس عليه إلّا دية القتل خطأ ، فالاحتمالان فيه سواء ؛ لأن أصالة عدم الاندمال تقتضي الموت بالسراية الموجب لدية القتل ، وأصالة عدم السراية تقتضي الموت بعد الاندمال الموجب لديتين ، مع أنّ كلّ من الأصلين مثبت ، كما لا يخفى.

إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع في كتب الفقه ، خصوصا كتب الشيخ والفاضلين ، أي : العلّامة والمحقّق قدس‌سرهما.

لكنّ المعلوم منهم ومن غيرهم من الأصحاب عدم العمل بكلّ أصل مثبت.

٨٢

الخصمان ـ في بعض الفروع المتقدّمة ـ على ضرب اللفاف بالسيف ، على وجه لو كان زيد الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف لقتله ، إلّا أنّهما اختلفا في بقائه ملفوفا أو خروجه عن اللّف ، فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم ، بأنّ الأصل بقاء لفّه فيثبت القتل ، إلّا أن يثبت الآخر خروجه ، أو تجد فرقا بين بقاء زيد على اللّف وبقائه على الحياة لتوقّف تحقّق عنوان القتل عليهما؟

وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شكّ في بقائه فيه ، فهل يحكم أحد بطهارة الثوب بثبوت انغساله بأصالة بقاء الماء؟

____________________________________

أي : المعلوم من الشيخ والفاضلين والشهيدين وغيرهم هو عدم العمل بكلّ أصل مثبت على نحو الإيجاب الكلّي ، بل يعملون به في بعض الموارد على نحو الإيجاب الجزئي ، حيث تكون موارد عدم تمسّكهم بالاصول المثبتة في مقابل موارد تمسّكهم بها قليلة جدّا.

وكيف كان ، فقد أشار إلى بعض موارد عدم تمسّكهم بالاصول المثبتة بقوله :

فإذا تسالم الخصمان في بعض الفروع المتقدّمة ، كقدّ الملفوف بنصفين على ضرب اللفاف بالسيف ، على وجه لو كان زيد الملفوف به سابقا باقيا على اللفاف لقتله ، إلّا أنّهما اختلفا في بقائه ملفوفا أو خروجه عن اللّف ، فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم ، بأنّ الأصل بقاء لفّه فيثبت اللّازم العادي ، أعني : القتل الموجب للضمان ، إلّا أن يثبت الآخر خروجه عن اللّف.

والحاصل أنّه لم تجد أحدا أن يقول بالأصل المذكور أو نسبه إلى أحد ، كما هو مقتضى الاستفهام الإنكاري. وهكذا لا تجد فرقا بين بقاء زيد على اللّف وبقائه على الحياة ؛ لأنّ الأصل في كليهما مثبت لعنوان القتل الموجب للقصاص ، كما قال :

لتوقّف تحقّق عنوان القتل عليهما ، فلا فرق بينهما من حيث كونهما من الاصول المثبتة ، ومع ذلك إنّا نرى أنّهم عملوا بالثاني ، كما عرفت ، ولم يعملوا بالأصل المثبت الأوّل ، أعني : أصالة بقاء زيد على اللّف ، ولم يحكموا بالقتل به وقد أثبتوا القتل باستصحاب الحياة. وهو الأصل المثبت الثاني.

وكذا لو وقع الثوب النجس في حوض كان فيه الماء سابقا ، ثمّ شكّ في بقائه فيه ، فهل يحكم أحد بطهارة الثوب بثبوت انغساله بأصالة بقاء الماء؟.

٨٣

وكذا لو رمى صيدا أو شخصا على وجه لو لم يطرأ حائل لأصابه ، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل؟ إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لإثبات الموضوعات الخارجيّة التي تترتّب عليها الأحكام الشرعيّة.

وكيف كان ، فالمتّبع هو الدليل. وقد عرفت أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعيّ ـ كما هو ظاهر أكثر القدماء ـ فهو كإحدى الأمارات الاجتهاديّة يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابي.

وأمّا على المختار من اعتباره من باب الأخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب.

نعم ، هنا شيء ، وهو أنّ بعض الموضوعات الخارجيّة المتوسّطة بين المستصحب وبين

____________________________________

أي : لا يحكم أحد باستصحاب الماء لإثبات لازمه العادي ، أعني : الانغسال الموجب لطهارة الثوب كما هو مقتضى الاستفهام الإنكاري.

وكذا لو رمى صيدا أو شخصا على وجه لو لم يطرأ حائل لأصابه ، فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص بأصالة عدم الحائل؟ ، أي : لا يحكم بذلك أحد ، كما هو مقتضى الاستفهام الإنكاريّ.

إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لإثبات الموضوعات الخارجيّة من القتل والانغسال وغيرهما.

وكيف كان ، فالمتّبع هو الدليل. وقد عرفت أنّ الاستصحاب إن قلنا به من باب الظنّ النوعيّ ـ كما هو ظاهر أكثر القدماء ـ فهو كإحدى الأمارات الاجتهاديّة يثبت به كلّ موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظنّ الاستصحابي ، لما عرفت من الفرق بين الأمارات والاصول بأنّ مثبتات الأمارات حجّة دون مثبتات الاصول.

وأمّا على المختار من اعتباره من باب الأخبار ، فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب ، كما تقدّم وجه ذلك ، فلا نعيده تجنّبا عن تطويل بلا طائل.

نعم ، هنا شيء ، وهو الفرق بين ما إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي في الاصول المثبتة جليّة واضحة ، بحيث ، يعدّ الأثر الشرعي من آثار الواسطة ، سواء كانت عقليّة أو عاديّة ، وبين ما إذا كانت الواسطة خفيّة بحيث يعدّ الأثر الشرعي من آثار نفس

٨٤

الحكم الشرعي ، من الوسائط الخفيّة بحيث تعدّ في العرف الأحكام الشرعيّة المترتّبة عليها أحكاما لنفس المستصحب ، وهذا المعنى يختلف وضوحا وخفاء باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف.

منها : ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها بحيث توجد في الثوب رطوبة متنجّسة.

____________________________________

المستصحب بالمسامحة العرفيّة دون الواسطة.

وحاصل الفرق هو حجّيّة الأصل المثبت فيما إذا كانت الواسطة خفيّة دون ما إذا كانت جليّة.

ثمّ الوجه في عدم حجّيّته فيما إذا كانت الواسطة جليّة ؛ هو عدم صدق نقض اليقين بالشكّ في صورة عدم ترتّب الأثر الشرعي على المستصحب وإن كان مرتّبا على الواسطة ، إلّا أنّ الواسطة غير ثابتة بالأصل بعد فرض عدم كونها بنفسها موردا لتنزيل الشارع ، حتى يترتّب عليها أثرها الشرعي بهذا التنزيل.

وهذا الوجه غير جار مع خفاء الواسطة ، وعدّ الأثر من آثار المستصحب بالمسامحة العرفيّة لوضوح صدق النقض ـ حينئذ ـ عرفا ؛ لكونه بمنزلة ما كان الأثر من آثار نفس المستصحب في الواقع ، كما في الأوثق مع تصرّف وتوضيح منّا.

وهذا المعنى ، أي : كون الأحكام المترتّبة على الوسائط مترتّبة على نفس المستصحب في نظر العرف يختلف وضوحا وخفاء باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن أنظار العرف ، فكلّ مورد كان خفاء الواسطة على حدّ يعدّ الأثر أثرا لنفس المستصحب عند العرف لا للواسطة يكون الاستصحاب حجّة ، وإلّا فلا.

منها : ، أي : من الوسائط الخفيّة ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر.

كما إذا كان هناك شيء رطب نجس وشيء آخر يابس طاهر ، فيلاقي النجس الطاهر ، فشكّ في بقاء الرطوبة المسرية حين الملاقاة وعدمه.

فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته ، مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل

٨٥

ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس ، الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير ، لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه بها. فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض المثبت لانغسال الثوب به.

وحكى في الذكرى عن المحقّق تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه.

____________________________________

من أحكام لازمه العادي ، أعني : سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها بحيث توجد في الثوب رطوبة متنجّسة.

والوجه للحكم بنجاسة الملاقى بالفتح من جهة استصحاب بقاء رطوبة النجس مع كونه أصلا مثبتا هو خفاء الواسطة ؛ لأن التنجّس في نظر العرف مترتّب على مجرّد ملاقاة النجس رطبا ، ولا يدركون الواسطة ، وهي انتقال الرطوبة النجسة إلى الملاقى بالفتح لكونها خفيّة.

فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض المثبت لانغسال الثوب به.

وجه الأشبهيّة أنّ كلّ واحدة ـ من النجاسة في مسألة الملاقاة ، والطهارة في مسألة بقاء الماء في الحوض ـ مترتّبة على الملاقى بالفتح ، والثوب بواسطة سراية رطوبة النجس في المسألة الاولى وسراية الماء في الثوب النجس في المسألة الثانيّة.

إلّا أنّ الواسطة في الاولى خفيّة ، وفي الثانية جليّة عرفا. ولو لم يكن الأمر كذلك لم يكن وجه لحجّيّة الأصل المثبت في المسألة الاولى دون الثانيّة.

إلّا أنّ اكتفاء المصنف قدس‌سره بمجرّد التشبيه من دون بيان الفرق بينهما لا يناسب ما هو في مقام بيانه ، أعني حجّيّة الأصل المثبت فيما إذا كانت الواسطة خفيّة ، فعليه أن يبيّن ويقول بأنّ وجه الشبه بينهما ليس هو خفاء الواسطة ، بل وجود نفس الواسطة فيهما ، كما عرفت.

وحكى في الذكرى عن المحقّق قدس‌سره تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه ، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة ، وارتضاه ، أي : ارتضى الشهيد لما ذكره المحقّق من الحكم بطهارة الثوب المذكور.

ثمّ الحكم بطهارة الثوب لأحد وجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله :

٨٦

فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا ، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب ، إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض ، كما يظهر من المحقّق ، حيث عارض استصحاب طهارة الشاكّ في الحدث باستصحاب اشتغال ذمّته بالعبادة.

____________________________________

فيحتمل أن يكون لعدم اثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا من أنّ الاستصحاب لا يثبت به ما عدا الآثار الشرعيّة المترتّبة على نفس المستصحب.

فلا يثبت باستصحاب رطوبة رجل الذباب اللّازم العاديّ ، أعني : سراية الرطوبة إلى الثوب الموجبة لتنجسّه ، فتجري أصالة الطهارة. هذا هو الوجه الأوّل للحكم بطهارة الثوب.

وثانيهما : ما أشار إليه بقوله : ويحتمل أن يكون لمعارضته ، أي : معارضة استصحاب رطوبة رجل الذباب باستصحاب طهارة الثوب ، فيتساقطان بالتعارض ويرجع إلى قاعدة الطهارة.

غاية الأمر أنّ الحكم بتساقطهما بالتعارض في خصوص المقام إنّما يتمّ بعد الإغماض عن قاعدة حكومة الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، وإلّا فاستصحاب الرطوبة يتقدّم بالحكومة على استصحاب الطهارة ، لكون الأوّل أصلا سببيّا ، والثاني أصلا مسبّبيّا ، كما أشار إليه بقوله : إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات ، كالاستصحاب السببي على بعض ، كالاستصحاب المسبّبي ، كما في شرح الاعتمادي.

كما يظهر ، أي : الإغماض من المحقّق ، حيث عارض استصحاب طهارة الشاكّ في الحدث باستصحاب اشتغال ذمّته بالعبادة. مع أنّ الاستصحاب الأوّل سببي والثاني مسبّبي ؛ لأن الشكّ في الاشتغال والبراءة مسبّب عن الشكّ في بقاء الطهارة ، فإذا احرزت الطهارة بالاستصحاب لا يبقى شكّ في اشتغال الذمّة ، بل يحصل اليقين بالبراءة ، وذلك لصحّة العبادة بعد إحراز الطهارة.

فحينئذ يتقدّم استصحاب الطهارة على استصحاب اشتغال الذمّة بالحكومة ، ومع ذلك أغمض المحقّق قدس‌سره عن ذلك وعارض بينهما ، فكذلك في المقام يمكن أن يقال بتعارض استصحاب الرطوبة مع استصحاب الطهارة بعد الإغماض عن حكومة الأوّل على

٨٧

ومنها : أصالة عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ المثبت لكون غده يوم العيد ، فتترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل وغيرهما ، فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريّة ولا أوّليّة غده للشهر اللّاحق. لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلّا ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر ، وأوّليّة غده لشهر آخر ، فالأوّل عندهم ما لم يسبق بمثله ، والآخر ما اتصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر ، وكيف كان ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي والعقلي بحيث تعدّ آثاره

____________________________________

الثاني ، ثمّ يحكم بطهارة الثوب بقاعدة الطهارة.

ومنها : ، أي : من الموارد التي يظهر منها عمل جماعة بالاصول المثبتة هو أصالة عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ المثبت للّازم العقلي ، أعني : لكون غده يوم العيد ، فتترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل وغيرهما ، فإنّ مجرّد عدم دخول الهلال في يوم لا يثبت آخريّة ـ أي : يوم ـ ولا أوّليّة غده للشهر اللّاحق. لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلّا ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر ، وأوّليّة غده لشهر آخر.

وملخّص الكلام في المقام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الأمر الشرعي من الصلاة والغسل مترتّب على الواسطة العاديّة ، أعني : أوّليّة الغد لشهر شوّال ، إلّا أنّ العرف لا يفرّقون بين عدم دخول شوّال ، وبين أوّليّة الغد لشوّال ، بمعنى أنّ الأحكام المترتّبة على الثاني تترتّب في نظرهم على الأوّل.

إن قلت : الواسطة هنا جليّة ؛ لأن أوّليّة الغد عبارة عن كونه زمانا يصل فيه الهلال إلى درجة يمكن رؤيته. وأين هذا من عدم دخول هلال شوّال؟ وكذا آخريّة هذا اليوم عبارة عن كونه زمانا يصل فيه الهلال الى درجة لا يمكن رؤيته. وأين هذا من عدم انقضاء رمضان؟.

قلت : الأوّل والآخر عندهم ليس بهذا المعنى ، بل بمعنى آخر. كما أشار إليه بقوله فالأوّل عندهم ما لم يسبق بمثله ، والآخر ما اتصل بزمان حكم بكونه أوّل الشهر الآخر.

وهذه الواسطة خفيّة ، بمعنى أنّ الأثر المترتّب على أوّل الشهر بمعنى ما لم يسبق بمثله مترتّب في نظر العرف على عدم دخول هلال شوّال مثلا ، والأثر المترتّب على آخر الشهر

٨٨

آثارا لنفس المستصحب.

وربّما يتمسّك في بعض موارد الاصول المثبتة بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك ، مثل إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشكّ في وجوده على محلّ الغسل ، أو المسح لإثبات غسل البشرة ومسحها ، المأمور بهما في الوضوء والغسل ، وفيه نظر.

____________________________________

بمعنى ما اتصل بزمان هو أوّل الشهر اللّاحق مترتّب في نظرهم على عدم انقضاء رمضان ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وكيف كان ، فالمعيار خفاء توسّط الأمر العادي كتأثّر الثوب والعقلي كأوّليّة الغد ، على ما في شرح الاعتمادي.

وربّما يتمسّك في بعض موارد الاصول المثبتة بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك ، مثل إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشكّ في وجوده على محلّ الغسل ، أو المسح لإثبات اللّازم العادي ، أعني : غسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغسل.

وفيه نظر.

وملخّص وجه النظر ، هو أنّ الشكّ في وجود الحاجب إمّا أن يكون في أثناء العمل ، وإمّا أن يكون بعد الفراغ عنه.

أمّا على الأوّل ، فيمنع الإجماع والسيرة على عدم الاعتناء بالشكّ نظرا إلى جريان أصالة عدم الحاجب ، بل السيرة قد جرت بالفحص عن الحاجب ما لم يحصل الاطمئنان بعدمه.

وأمّا على الثاني ، فعدم الاعتناء بالشكّ لأجل قاعدة الفراغ لا لأجل الأصل المثبت ، هذا مضافا إلى عدم تماميّة دعوى الإجماع ؛ لأن المسألة ليست معنونة في كلمات العلماء ، فكيف يدّعى الإجماع عليها؟!.

وكذا لا يتمّ التمسّك بالسيرة ما لم يحرز عدم كونها من باب المسامحة وقلّة المبالاة ، فحينئذ لا عبرة بسيرة العوام مع احتمال ذلك فيها إن لم نقل باشتراط القطع بوصولها إلى زمان الإمام عليه‌السلام والقطع برضاه عليه‌السلام.

٨٩

الأمر السابع

لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللّاحق رأسا ، وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللّاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء.

فإذا شكّ في بقاء حياة زيد في جزء من الزمان اللّاحق ، فلا يؤثّر في جريان استصحاب حياته علمنا بموته بعد ذلك الجزء من الزمان وعدمه ، وهذا هو الذي يعبّر عنه بأصالة تأخّر الحادث ، يريدون به أنّه إذا علم بوجود حادث في زمان وشكّ في وجوده قبل ذلك الزمان ،

____________________________________

الأمر السابع : لا فرق في المستصحب بين أن يكون مشكوك الارتفاع في الزمان اللّاحق رأسا ، كالشكّ في ارتفاع الحياة أو عدم الموت ، وبين أن يكون مشكوك الارتفاع في جزء من الزمان اللّاحق مع القطع بارتفاعه بعد ذلك الجزء كالشكّ في ارتفاع الحياة أو عدم الموت يوم الخميس مثلا ، مع اليقين بارتفاعهما يوم الجمعة على ما في شرح الاعتمادي.

وقبل الخوض بالبحث عمّا هو المقصود بالبحث في هذا الأمر السابع ينبغي تحرير محلّ الكلام فيه ، فنقول :

إنّ محلّ الكلام فيه يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

أنّ من أركان الاستصحاب على ما مرّ غير مرّة هو اليقين بتحقّق المستصحب في زمان والشكّ في بقائه وارتفاعه في زمان آخر ، ثمّ الشكّ في الارتفاع في الزمان اللّاحق على قسمين :

أحدهما : هو الشكّ في الارتفاع في الزمان اللّاحق رأسا ، أعني : في جميع أجزاء الزمان اللّاحق ، كالشكّ في ارتفاع الطهارة مثلا في الزمان اللّاحق كذلك بعد العلم بتحقّقها في الزمان السابق.

وثانيهما : هو الشكّ في ارتفاع المستصحب في جزء من الزمان مع العلم بالارتفاع بعد ذلك الزمان ، كالشكّ في بقاء حياة زيد في يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة.

وبعبارة اخرى : يكون الشكّ في تقدّم الارتفاع وتأخّره بعدم العلم بأصل الارتفاع. إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك أنّ محلّ الكلام في هذا الأمر ـ السابع ـ هو القسم الثاني لا الأوّل ؛ لأن القسم الأوّل ممّا لا كلام في اعتبار الاستصحاب فيه ، فالمقصود بالبحث في هذا

٩٠

فيحكم باستصحاب عدمه قبل ذلك ، ويلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث. فإذا شكّ في مبدأ موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ، فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب مستلزمة عقلا لكون مبدأ موته يوم الجمعة.

وحيث تقدّم في الأمر السابق أنّه لا يثبت بالاستصحاب ـ بناء على العمل به من باب الأخبار ـ لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة لا على مجرّد حياته قبل الجمعة حكم شرعي ، لم يترتّب على ذلك.

____________________________________

الأمر ـ السابع ـ هو القسم الثاني من دون فرق بين أن يكون المستصحب أمرا وجوديّا أو عدميّا.

غاية الأمر يعبّر عن هذا الاستصحاب بأصالة تأخّر الحادث ؛ لأن المراد به هو استصحاب عدم حدوث ما علم حدوثه في الجملة في زمان الشكّ ، فيلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث عن زمان الشكّ فيه ، كما أشار إليه بقوله :

ويلزمه عقلا تأخّر حدوث ذلك الحادث. فإذا شكّ في مبدأ موت زيد مع القطع بكونه يوم الجمعة ميّتا ، فحياته قبل الجمعة الثابتة بالاستصحاب مستلزمة عقلا لكون مبدأ موته يوم الجمعة.

إلّا أنّ الأصل على فرض ترتّب الأثر الشرعي على حدوث الموت يوم الجمعة مثبت ، فلا يكون حجّة بناء على القول بحجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار. كما أشار إليه بقوله :

وحيث تقدّم في الأمر السابق أنّه لا يثبت بالاستصحاب ـ بناء على العمل به من باب الأخبار ـ لوازمه العقليّة ، فلو ترتّب على حدوث موت زيد في يوم الجمعة لا على مجرّد حياته قبل الجمعة حكم شرعي ، لم يترتّب على ذلك.

توضيح الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاعتمادي أنّ الأثر الشرعي في مثال الشكّ في الموت يوم الخميس مع العلم به يوم الجمعة إن ترتّب على مجرّد الحياة وعدم الموت يوم الخميس ، كنفقة الزوجة يصحّ الاستصحاب وترتّب الأثر.

وإن ترتّب على حدوث الموت يوم الجمعة ، كما لو نذر قراءة يس لمن مات يوم الجمعة لا يصحّ الاستصحاب ، لكونه مثبتا ؛ لأن الحياة إلى الخميس ، يلزمه عقلا حدوث الموت يوم الجمعة.

٩١

نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أو كان اللّازم العقلي من اللوازم الخفيّة جرى فيه ما تقدّم ذكره آنفا.

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ، كالمثال المتقدّم. فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فتترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ، إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه.

____________________________________

وإن ترتّب على وجود الموت يوم الجمعة ، كما لو نذر قراءة يس في الجمعة الأولى من موت زيد ، فتجب قراءتها يوم الجمعة من دون حاجة إلى الاستصحاب للعلم بوجود موته فيها.

وإنّ ترتّب على وجود الموت في زمان ما ، كما لو نذر قراءة يس بعد موت زيد ، فلا يبرّ النذر في يوم الخميس لاستصحاب الحياة ، ويبرّ النذر يوم الجمعة من دون حاجة الى الاستصحاب ؛ وذلك للعلم بالموت فيها.

نعم ، لو قلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظنّ أو كان اللّازم العقلي من اللوازم الخفيّة جرى فيه ما تقدّم ذكره آنفا من اعتبار الاستصحاب مطلقا ، أي : وإن كان مثبتا على القول باعتباره من باب الظنّ واعتبار الأصل المثبت فيما إذا كانت الواسطة خفيّة وإن قلنا باعتباره من باب الأخبار.

وتحقيق المقام وتوضيحه : أنّ تأخّر الحادث قد يلاحظ بالقياس إلى ما قبله من أجزاء الزمان ، كالمثال المتقدّم ، أعني : تأخّر حدوث الموت عن الخميس ، كما في شرح الاعتمادي.

فيقال : الأصل عدم موت زيد قبل الجمعة ، فتترتّب عليه جميع أحكام ذلك العدم ، كوجوب نفقة الزوجة يوم الخميس لا أحكام حدوثه يوم الجمعة ، إذ المتيقّن بالوجدان تحقّق الموت يوم الجمعة لا حدوثه.

فان كانت الآثار مترتّبة على تحقّق الموت يوم الجمعة لكانت مترتّبة عليه من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا.

وذلك لتحقق الموت يوم الجمعة بالوجدان ، وإن كانت مترتّبة على حدوث الموت يوم

٩٢

إلّا أن يقال : إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم. وإذا ثبت بالأصل عدم شيء سابقا وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللّاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل ، تحقّق مفهوم الحدوث.

وقد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزءي مفهومه بالأصل.

____________________________________

الجمعة ، فلا ينفع فيه الاستصحاب لكونه أصلا مثبتا كما عرفت على ما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منّا.

إلّا أن يقال : إنّ الحدوث هو الوجود المسبوق بالعدم. واذا ثبت بالأصل عدم الشيء سابقا وعلم بوجوده بعد ذلك ، فوجوده المطلق في الزمان اللّاحق إذا انضمّ إلى عدمه قبل ذلك الثابت بالأصل ، تحقّق مفهوم الحدوث ، فيترتّب عليه حكمه الشرعي.

وحاصل الإشكال على كون استصحاب عدم الموت يوم الخميس مثبتا ، هو أنّ الاستصحاب المذكور إنّما يكون مثبتا إذا كانت الواسطة لازما مغايرا للمستصحب وموضوعا مستقلّا لترتّب الأثر الشرعي ، كالانغسال اللّازم المغاير للمستصحب ، أعني : وجود الماء في الحوض حيث يكون موضوعا للحكم بالطهارة.

وأمّا إذا لم يكن الأمر كذلك ، بل كان المستصحب جزء من الموضوع وكان جزؤه الآخر محرزا بالوجدان كما فيما نحن فيه ، بناء على كون الحدوث مركّبا من أمرين ، أعني : وجود الموت يوم الجمعة وعدم وجوده يوم الخميس ، حيث يكون وجود الموت يوم الجمعة محرزا بالوجدان وعدم الموت قبلها محرزا بالاستصحاب ؛ لكونه عين المستصحب ، فلا يكون الاستصحاب مثبتا. هذا تمام الكلام في تقريب الإشكال.

وقد أشار إلى الجواب عنه بقوله :

وقد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزءي مفهومه بالأصل في التنبيه السابق في مثال إثبات القتل بالقدّ بعد استصحاب بقاء الحياة إلى القدّ ، حيث يكون المحرز بالاستصحاب جزء الموضوع ، أعني : الحياة ، والجزء الآخر ، أعني : القتل محرز بالوجدان ، ومع ذلك قلنا بفساد الاستصحاب المذكور من جهة كونه مثبتا.

وأوضح من المثال المذكور هو مثال استصحاب عدم كون الدّم الموجود استحاضة المثبت لكونه حيضا ، بناء على أنّ كلّ دم إذا لم يكن استحاضة فهو حيض. والحاصل هو

٩٣

وممّا ذكرنا يعلم أنّه لو كان الحادث ممّا نعلم بارتفاعه بعد حدوثه ، فلا تترتّب عليه أحكام الوجود في الزمان المتأخّر أيضا ، لأن وجوده مساو لحدوثه.

نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان من الزمانين ، كما إذا علمنا أنّ الماء لم يكن كرّا قبل الخميس ، فعلم أنّه صار كرّا بعده وارتفعت كرّيّته بعد ذلك ، فنقول : الأصل عدم

____________________________________

عدم الفرق في الأصل المثبت بين كونه مثبتا لتمام الموضوع أو قيده الوجودي أو العدمي.

وممّا ذكرنا ـ من أنّ أصالة عدم الموت يوم الخميس لا تثبت حدوثه يوم الجمعة ـ يعلم أنّه لو كان الحادث ممّا نعلم بارتفاعه بعد حدوثه ، كما إذا علم بأنّ ماء الحوض صار كرّا في يوم الخميس أو الجمعة ، ثمّ ارتفعت كريّته وصار قليلا.

فلا تترتّب عليه أحكام الوجود ، أي : وجود الكريّة في الزمان المتأخّر ، أي : يوم الجمعة أيضا ، أي : كما لا يترتّب عليه أحكام الحدوث ، ثمّ الوجه على ذلك ما أشار إليه بقوله :

لأن وجوده مساو لحدوثه ، أي : لأن وجود الحادث ككريّة الماء ليس إلّا بحدوثه ، فكما أنّ حدوث الكرّيّة يوم الجمعة مشكوك لا يثبت بأصالة عدم الحدوث يوم الخميس ، فكذلك وجودها ، وذلك لاحتمال تحقّق الحدوث والوجود يوم الخميس.

نعم ، يترتّب عليه أحكام وجوده المطلق في زمان من الزمانين ، كما أشار إليه بقوله :

نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين ، حكم بطهارته.

أي : بطهارة الثوب النجس الواقع في الماء في كلّ من يوم الخميس والجمعة ، وذلك للعلم إجمالا بغسل الثوب النجس بماء الكرّ.

فإن كان الماء كرّا يوم الخميس صار الثوب طاهرا بالغسل فيه ، وغسله ثانيا يوم الجمعة بعد زوال الكريّة لا يوجب الانفعال.

وإن كان كرّا يوم الجمعة ، فغسله فيه يوم الخميس حين القلّة وإن كان يوجب الانفعال ، إلّا أنّ غسله فيه يوم الجمعة حين الكريّة يوجب الطهارة ، بناء على طهارة الماء النجس المتمّم كرّا بطاهر أو كان التتميم بواسطة الكرّ ، كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف ما.

ومن المعلوم إنّا نكتفي في توضيح العبارة على شرح الاستاذ الاعتمادي ، لكونه أجود الشروح في الرسائل عند المحصّلين ، فنرجع إلى توضيح العبارة طبقا لما في شرح الاستاذ

٩٤

كرّيّته في يوم الخميس ، ولا يثبت بذلك كرّيّته يوم الجمعة ، فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين ، لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه.

نعم ، لو وقع فيه في كلّ من اليومين ، حكم بطهارته من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين. وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فإمّا أن يجهل تاريخهما أو يعلم تاريخ أحدهما.

____________________________________

الاعتمادي.

فنقول : الأصل عدم كرّيّته في يوم الخميس ، فيترتّب أثر هذا العدم ، بمعنى أنّه لو غسل ثوب نجس فيه يوم الخميس يحكم ببقاء نجاسته.

ولا يثبت بذلك ، أي : بأصالة عدم الكريّة يوم الخميس لازمه العقلي الاتّفاقي.

أعني : كرّيّته يوم الجمعة ، حتى يترتّب عليه أثر الكريّة يوم الجمعة.

فحينئذ لو غسل ثوب نجس فيه يوم الجمعة يحكم ببقاء نجاسته ولا يحكم بطهارته ، كما أشار إليه بقوله :

فلا يحكم بطهارة ثوب نجس وقع فيه في أحد اليومين.

أمّا عدم الحكم بالطهارة لو وقع فيه يوم الخميس ، فلأصالة بقاء القلّة.

وأمّا في يوم الجمعة فلقوله : لأصالة بقاء نجاسته وعدم أصل حاكم عليه ؛ لأن أصالة عدم الكريّة يوم الخميس لا تثبت الكريّة يوم الجمعة. هذا تمام الكلام فيما إذا لوحظ التأخّر والتقدّم بالنسبة إلى أجزاء الزمان.

وأمّا إذا لوحظ تأخّر الحادث بالنسبة إلى حادث آخر فهو ما أشار إليه بقوله :

وقد يلاحظ تأخّر الحادث بالقياس إلى حادث آخر ، كما إذا علم بحدوث حادثين وشكّ في تقدّم أحدهما على الآخر ، فإمّا أن يجهل تاريخهما أو يعلم تاريخ أحدهما أو يعلم تاريخهما.

والصورة الثالثة خارجة عن المقام ، وذلك لعدم حاجة إلى الأصل أصلا ، مع العلم بتاريخ كلا الحادثين ، ولذا لم يذكرها المصنف قدس‌سره ، فيقع الكلام في الصورة الاولى ، والثانيّة.

فينبغي لنا أوّلا من ذكر الأقوال فيهما إجمالا ، ثمّ البحث عن كلّ واحدة منهما تفصيلا.

أمّا الأقوال فيهما ، فهي ثلاثة :

الأوّل : جريان الاستصحاب فيهما.

٩٥

فإن جهل تاريخهما ، فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ، لأن التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم مسبوقيّته باليقين.

____________________________________

الثاني : عدم جريان الاستصحاب فيهما.

الثالث : هو التفصيل بين ما هو مجهول التاريخ فيجري فيه الاستصحاب ، وبين ما هو معلوم التاريخ فلا يجري فيه الاستصحاب. ولازم ذلك جريان الاستصحاب في كلا الحادثين في الصورة الاولى وعدم جريانه فيما هو معلوم التاريخ من الصورة الثانية.

وأمّا البحث عن حكم الصورة الاولى ، فقد أشار إليه بقوله :

فإن جهل تاريخهما ، فلا يحكم بتأخّر أحدهما المعيّن عن الآخر ، توضيح كلام المصنف قدس‌سره في المقام يحتاج إلى تقديم مقدّمة وهي :

أنّ الأثر الشرعي في المقام تارة يترتّب على الوجود الخاص من التقدّم والتأخّر ، وأخرى يترتّب على العدم كذلك ، ثمّ على كلا التقديرين إمّا أن يكون الأثر مترتّبا على الوجود بما هو مفاد كان التامّة ، وعلى العدم بما هو مفاد ليس التامّة ، بمعنى أنّ الأثر يترتّب على نفس عنواني التقدّم والتأخّر ، أو على عدمهما كذلك.

أو يكون الأثر مترتّبا على الوجود والعدم بما هما مفاد كان ، وليس الناقصتين ، بأن يكون الأثر مترتّبا على الشيء المتّصف بالتقدّم والتأخّر أو على عدمهما كذلك.

وهنا احتمال خامس وهو أن يكون الأثر مترتّبا على عنوان التقارن بين الحادثين.

فالاحتمالات خمسة ، إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول :

إنّ الأثر إذا كان ممّا يترتّب على الوجود بما هو مفاد كان الناقصة ، بأن يكون موضوع الأثر هو تأخّر أحد الحادثين عن الآخر.

كما إذا علم بحدوث موت الأب وإسلام الولد وشكّ في التقدّم والتأخر ، ولم يعلم تاريخهما كما هو المفروض ، وكان إرث الولد مترتّبا على تأخّر موت الأب عن إسلامه ، لا يجري استصحاب تأخّر الموت عن الإسلام ، كي يرث الولد عنه.

وذلك لأنّ التأخّر في نفسه ليس مجرى الاستصحاب ، لعدم مسبوقيّته باليقين.

أي : لعدم سبق اليقين به على الفرض ، وكذا لا تجري أصالة عدم تقدّم الإسلام الموجب لعدم الإرث ، وذلك لعدم سبق اليقين به ، إذ لم يكن الإسلام موجودا في زمان

٩٦

وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين ، وسيجيء تحقيقه إن شاء الله.

____________________________________

متّصفا بعدم التقدّم حتى يستصحب.

وكذلك لا تجري أصالة عدم حدوث الموت إلى زمن الإسلام لإثبات تقدّم الإسلام على الموت ، وذلك لأحد وجهين :

الأوّل : لوجود احتمال التقارن بين الموت والإسلام ، فلا يثبت تقدّم الإسلام مع هذا الاحتمال.

والثاني : كون الأصل المذكور مثبتا على فرض عدم احتمال التقارن.

فالحاصل أنّ الأثر فيما إذا كان مترتّبا على الوجود والعدم بما هما مفاد كان ، وليس الناقصتين ، لا يجري الاستصحاب لا في جانب الوجود ولا في جانب العدم ، لما عرفت من عدم اليقين السابق بالمستصحب ، كما اختاره صاحب الكفاية قدس‌سره أيضا.

وأمّا لو كان الأثر مترتّبا على نفس العدم بما هو مفاد ليس التامّة ، بأن يكون إرث الولد في المثال المذكور مترتّبا على مجرّد عدم الموت إلى زمان الإسلام ، فيجري الاستصحاب ويثبت الإرث ، إلّا أنّه معارض بالمثل وهو استصحاب عدم الإسلام إلى زمان الموت ، وحكمه التساقط مع عدم ترجيح أحدهما على الآخر ، كما أشار إليه بقوله :

وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل ، وحكمه التساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد من الأصلين.

ثمّ وجه تقييده الحكم بالتعارض والتساقط بترتّب الأثر على كلا الأصلين واضح لا يحتاج إلى البيان ، إذ مع ترتّب الأثر على أحدهما دون الآخر ، يجري ما يترتّب عليه الأثر فقط ، فلا يجري ما لا يترتّب عليه الأثر حتى يقع التعارض بينهما.

نعم ، الحكم بالتساقط مع ترتّب الأثر على كلّ واحد منهما إنّما هو مع عدم حكومة أحدهما على الآخر ، وإلّا فيجري الحاكم دون المحكوم. فانتظر تفصيل ذلك في باب تعارض الاستصحابين. هذا تمام الكلام فيما إذا كان الأثر مترتّبا على غير عنوان التقارن.

وأمّا إذا كان مترتّبا على تقارن الحادثين ، فهل يحكم بتقارنهما بالأصل فيما يمكن التقارن؟ بأن لا يكون الحادثان متضادين كالطهارة والنجاسة مثلا ، واحتمل التقدّم والتأخّر

٩٧

وهل يحكم بتقارنهما في مقام يتصوّر التقارن ، لأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر؟ وجهان ، من كون التقارن أمرا وجوديّا لازما ، لعدم كون كلّ منهما قبل الآخر ، ومن كونه من اللوازم الخفيّة حتى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود ، وإن كان أحدهما معلوم التاريخ ، فلا يحكم على المجهول التاريخ إلّا بأصالة عدم وجوده في تاريخ ذلك ، لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده.

____________________________________

والتقارن جميعا ، إذ لو علم تقدّم أحدهما على الآخر هل يمكن الحكم بالتقارن أم لا؟ ففيه وجهان :

الأوّل ـ وهو عدم إثبات التقارن بأصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر ـ : ما أشار إليه بقوله :

من كون التقارن أمرا وجوديّا ووصفا خاصا لازما عقليّا ، لعدم كون كلّ منهما قبل الآخر ، فتكون أصالة عدم كلّ منهما قبل وجود الآخر من الاصول المثبتة التي لا يعتدّ بها.

والثاني ـ وهو إثبات التقارن بالأصل المذكور ـ : ما أشار إليه بقوله :

ومن كونه من اللوازم الخفيّة حتى كاد يتوهّم أنّه عبارة عن عدم تقدّم أحدهما على الآخر في الوجود.

وقد تقدّم أنّ الأصل المثبت فيما إذا كانت الواسطة خفيّة حجّة عند المصنّف قدس‌سره ، فيمكن إثبات التقارن به حينئذ.

وبالجملة ، إذا فرضنا ترتّب الأثر على التقارن ، كما لو نذر أحد درهمين لمصلّيين متقارنين ، فشكّ في حصوله ، فلا إشكال في عدم جريان أصالة التقارن لما عرفت من عدم سبق اليقين به ، ولا في أصالة عدم التقارن لأنّه عدم أزليّ ، كما في شرح الاعتمادي.

وإنّما الإشكال في إجراء أصالة عدم كلّ منهما قبل الآخر لإثبات التقارن ، وعرفت ما فيه من الوجهين. هذا تمام الكلام في حكم الصورة الاولى. وأمّا حكم الصورة الثانية ، فقد أشار إليه بقوله :

وإن كان أحدهما معلوم التاريخ ، فلا يحكم على مجهول التاريخ إلّا بأصالة عدم وجوده في تاريخ ذلك ، لا تأخّر وجوده عنه بمعنى حدوثه بعده.

وحاصل الكلام أنّ الأصل لا يجري في معلوم التاريخ ؛ وذلك لعدم تصوّر الشكّ فيه

٩٨

نعم ، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت ، فإذا علم تاريخ ملاقاة الثوب للحوض ، وجهل تاريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته وعدم كرّيّته في زمان الملاقاة. وإذا علم تاريخ الكريّة حكم ـ أيضا ـ بأصالة عدم الملاقاة في زمان الكرّيّة ، وهكذا.

وربّما يتوهّم : جريان الأصل في طرف المعلوم ، بأن يقال : الأصل عدم وجوده في الزمان

____________________________________

حتى يتصوّر فيه الاستصحاب ، وإنّما يجري في مجهول التاريخ فيما إذا كان الأثر مترتّبا على عدم وجوده في زمان معلوم التاريخ ، كما في استصحاب قلّة الماء.

وأمّا إذا كان الأثر مترتّبا على عنوان تأخّر مجهول التاريخ عن معلوم التاريخ ، فلا يجري الأصل لكونه أصلا مثبتا ، كما أشار إليه بقوله :

نعم ، يثبت ذلك على القول بالأصل المثبت.

أي : يثبت عنوان التأخّر على القول بالأصل المثبت.

ثمّ يذكر المصنف قدس‌سره مثالا للصورة الثانية حيث يقول :

فإذا علم تاريخ ملاقاة الثوب للحوض ، وجهل تاريخ صيرورته كرّا ، فيقال : الأصل بقاء قلّته وعدم كرّيّته في زمان الملاقاة.

فيحكم بنجاسة الماء بناء على مانعيّة الكريّة ، وذلك لانتفاء المانع بالأصل بعد وجود المقتضي ـ وهي ملاقاة النجس بالماء ـ بالوجدان.

وإذا علم تاريخ الكرّية حكم ـ أيضا ـ بأصالة عدم الملاقاة في زمان الكرّيّة.

فلا يترتّب عليه طهارة الماء إلّا على القول بالأصل المثبت ، لتحقّق الملاقاة بعد الكريّة ؛ لأن الأثر الشرعي ـ وهو الطهارة في المقام ـ مترتّب على حصول الملاقاة بعد الكريّة ، ومجرى الأصل هو عدم الملاقاة في زمان الكريّة ، فلا تثبت به الملاقاة حال الكريّة فضلا عنها بعد الكريّة.

فما في شرح الاستاذ الاعتمادي من ترتّب الطهارة على الأصل المذكور لا يخلو عن الإشكال.

وربّما يتوهّم : جريان الأصل في طرف المعلوم أيضا ، إن ترتّب عليه الأثر الشرعي.

فإن وقع التعارض بينه وبين الأصل في طرف المجهول يسقط كلاهما به ، وإلّا فيعمل بهما ، كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف ما.

٩٩

الواقعي للآخر.

ويندفع : بأنّ نفس وجوده غير مشكوك في زمان ، أمّا وجوده في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم.

ثمّ إنّه يظهر من الأصحاب هنا قولان آخران :

أحدهما : جريان هذا الأصل في طرف مجهول التاريخ وإثبات تأخّره عن معلوم التاريخ بذلك ، وهو ظاهر المشهور ، وقد صرّح بالعمل به الشيخ ، وابن حمزة ، والمحقّق ، والعلّامة ،

____________________________________

بأن يقال : الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعي للآخر.

ومن المعلوم أنّ وجود ما هو المعلوم عند الله ـ بالنسبة إلى الزمان الواقعي للمجهول ـ مجهول ـ عندنا ، فيمكن جريان الأصل فيه.

وقد أجاب المصنف قدس‌سره عن هذا التوهّم بقوله :

ويندفع : بأنّ نفس وجوده غير مشكوك في زمان.

فلا يتصوّر فيه الاستصحاب وجودا وعدما ، وذلك أنّ تاريخ الوجود معلوم بالفرض والعلم به مستلزم للعلم بجانب العدم ، إذ قبل ذلك التاريخ كان معدوما قطعا وبعده كان موجودا كذلك ، فكيف يتصوّر فيه الاصل؟!.

أمّا وجوده في زمان الآخر ، فليس مسبوقا بالعدم حتى يستصحب عدمه في زمان الآخر.

إذ لم يكن هناك زمان كان الآخر موجودا وهذا معدوما ، فشكّ في بقاء العدم حتى يجري الأصل. هذا تمام الكلام فيما ذهب إليه المصنف قدس‌سره من جريان الأصل في مجهول التاريخ مطلقا ما لم يكن مثبتا.

وبقي هنا قولان آخران بين إفراط وتفريط :

والأوّل : جريان الأصل في مجهول التاريخ مطلقا ، أي : وإن كان مثبتا.

والثاني : عدم جريانه مطلقا ، أي : وإن لم يكن مثبتا.

وقد أشار إلى الأوّل بقوله :

أحدهما : جريان هذا الأصل في طرف مجهول التاريخ وإثبات تأخّره عن معلوم التاريخ بذلك ، أي : الأصل.

١٠٠