دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

تعبّدا فالأمر أوضح ، لكونه حكما كلّيّا في شريعتنا بإبقاء ما ثبت في السابق.

ومنها : ما ذكره في القوانين من : «أنّ جريان الاستصحاب مبني على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار».

وفيه : إنّه إن اريد ب «الذاتي» المعنى الذي ينافيه النسخ ، وهو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ، فهذا المعنى ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا

____________________________________

باعتباره من باب الظنّ أو التعبّد.

أمّا على الأوّل ، فنقول : إنّ ثبوت الحكم سابقا يوجب الظنّ بثبوته لا حقا ، بمعنى أنّه يظنّ بأنّه ممّا جاء به نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيلتزم به بهذا العنوان.

وأمّا على الثاني ، فقد حكم الشارع بنحو الكلّي بإبقاء ما كان على ما كان ، فالحكم الثابت في الشريعة السابقة بعد الاستصحاب يكون حكما ظاهريا في شريعتنا ، فيلتزم به بهذا العنوان على ما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منا.

ومنها : ما ذكره في القوانين من : أنّ جريان الاستصحاب مبني على القول بكون حسن الأشياء ذاتيّا ، وهو ممنوع ، بل التحقيق أنّه بالوجوه والاعتبار.

وحاصل ما ذكره القمّي قدس‌سره على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ أحكام الشرع تابعة للحسن والقبح العقليين ، وكلّ واحد منهما ؛ تارة ذاتي كحسن العدل وقبح الظلم ، واخرى بالوجوه والاعتبارات كضرب اليتيم تأديبا أو إيذاء.

والاستصحاب إنّما يتمّ على الأوّل ؛ لأنّ الذاتي لا يتغيّر باختلاف الأزمنة والحالات ، فيستعدّ الحكم للبقاء لا على الثاني ، لإمكان اختلاف الفعل في الحسن والقبح باختلاف الأزمنة ، ونحن لا نقول بكونهما ذاتيين ؛ لأنّه يستلزم امتناع النسخ مع أنّ وقوعه ضروري ، بل نقول بكونهما بالوجوه والاعتبارات ، فلا يجري الاستصحاب.

وفيه : إنّه إن اريد ب «الذاتيّ» المعنى الذي ينافيه النسخ وهو ما لا يمكن تخلّفه عن الشيء عقلا ، فذاتي الفعل ما يكون ذات الفعل علّة تامّة له كالعدل والظلم.

والذاتي بهذا المعنى هو الذي أبطلوه بوقوع النسخ ؛ لأنّ النسخ هو الرفع ولا يعقل رفع المعلول مع وجود العلّة.

فهذا المعنى ليس مبنى الاستصحاب ، بل هو مانع عنه ، أي : الذاتي بهذا المعنى مانع عن

٤١

يحتمل الارتفاع. وإن اريد غيره ، فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات.

فإنّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة.

ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشكّ ـ تبعا لتمهيد القواعد ـ ثمرات : منها : إثبات وجوب نيّة الإخلاص في العبادة ، بقوله تعالى ، حكاية عن تكليف أهل الكتاب : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ

____________________________________

الاستصحاب ؛ وذلك للقطع بعدم النسخ حينئذ ، فلا يحتمل الارتفاع حتى يحتاج إلى الاستصحاب ، فكيف يكون الاستصحاب مبنيّا على الذاتي بالمعنى المذكور؟!

وإن اريد غيره بأن يكون مراده من الذاتي ما يكون الذات مقتضيا له وإن أمكن تخلّفه عنه من جهة المانع ، كما في الصدق والكذب ، حيث يكون الأوّل مقتضيا للحسن لو لا المانع ، والثاني مقتضيا للقبح كذلك.

فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه والاعتبارات في عدم جريان الاستصحاب.

إذ على كلا القولين يمكن تخلّف الفعل عن الحسن والقبح ، فلو كان هذا مانعا عن الاستصحاب لكان مانعا عنه على كلا القولين ، وإلّا فيجري الاستصحاب على كلا القولين من دون فرق بينهما أصلا ، وذلك أنّه كما يمكن كون فعل حسنا باعتبار زمان وقبيحا باعتبار زمان آخر ، كذلك يمكن كون فعل مقتضيا للحسن في زمان ، ويحصل المانع عنه في زمان آخر.

وأنت أيّها القمّي تجوّز الاستصحاب على القول بالاقتضاء ، إذ المفروض أنّ المراد بالذاتي هو ذلك ، فلا بدّ لك من أنّ تجوّزه على القول بالوجوه أيضا.

فإنّ القول بالوجوه لو كان مانعا عن الاستصحاب لم يجر الاستصحاب في هذه الشريعة ، والحال أنّك أيّها القمّي مع قولك بالوجوه تتمسّك بالاستصحاب فى شريعتنا ، على ما في شرح الاعتمادي.

ثمّ إنّ جماعة رتّبوا على إبقاء الشرع السابق في مورد الشّك ـ تبعا لتمهيد القواعد ـ ثمرات : منها : إثبات وجوب نيّة الإخلاص في العبادة ، بقوله تعالى ، حكاية عن تكليف أهل الكتاب : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ).

أي : طالبين دينا مستقيما ؛ لأنّ الحنفاء هو جمع الحنيف ، والحنيف هو المسلم الذي

٤٢

ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(١).

____________________________________

تحرّى الدين المستقيم.

ومنه قوله عليه‌السلام : دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله حنيف (٢) أي : مستقيم لا عوج فيه ، والحنيف عند العرب من كان على دين ابراهيم عليه‌السلام ، كما في الأوثق مع تلخيص منّا.

وكيف كان ، فقد استدلّ بالآية المذكورة ؛ تارة على اعتبار قصد القربة ونيّة الإخلاص في العبادات ، بمعنى أنّ المستفاد منها هو ثبوت الملازمة بين وجوب شيء واشتراط قصد القربة والإخلاص في صحّته في الشريعة السابقة ، فتستصحب الملازمة المذكورة ، ويحكم ببقائها في شريعتنا أيضا.

واستدلّ بها اخرى على أنّ الأصل في كلّ أمر أن يكون تعبّديا.

فالمستفاد من الآية هو الملازمة بين الأمر بشيء ، وبين تعبديّته ، فتستصحب هذه الملازمة في شرعنا ، فإذا شكّ في واجب أنّه تعبّدي أو توصلي يرجع إلى أصالة التعبّديّة.

ثمّ المصنّف قدس‌سره تعرّض للثمرة الاولى وهي اعتبار نيّة الإخلاص في العبادة ، ويتعرّض للثمرة الثانيّة وهي كون الأصل في كلّ أمر هو التعبّديّة في مقام الردّ ، والجواب عن الثمرة الاولى ، فلا بدّ أوّلا من تقريب دلالة الآية على الثمرتين ، وثانيا من بيان ما يردّ عليها.

فنقول : إنّ دلالة الآية على الثمرتين تتوقف على إثبات امور :

الأوّل : أن يكون اللّام في قوله تعالى : ((لِيَعْبُدُوا ...) إلى آخره) للغاية كي يفيد أنّ الغرض والغاية من الأوامر مطلقا هو إبقاءها على وجه العبادة ، حتى يكون مفاد الآية : وما امروا بشيء لغاية من الغايات إلّا لغاية التعبّد والعبوديّة ، فيكون المفعول ـ حينئذ ـ محذوفا.

والثاني : أن يكون المراد بالعبادة في الآية معناها المصطلح ، أعني : ما يشترط في صحّته قصد القربة في مقابل المعاملة بالمعنى الأعمّ.

والثالث : أن يكون الإخلاص بمعنى قصد القربة والإخلاص في نيّة العبادة.

والرابع : أن يكون الدين في قوله تعالى : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) بمعنى القصد ، حتى يكون المعنى هو الإخلاص في القصد.

__________________

(١) البينة : ٥.

(٢) الكافي ٣ : ٣٩٥ / ٨. الوسائل ٤ : ٣٩٣ ، أبواب لباس المصلّي ، ب ٢٣ ، ح ١. والحديث عن أبي جعفر عليه‌السلام.

٤٣

ويردّ عليه ـ بعد الإغماض عن عدم دلالة الآية على وجوب الإخلاص بمعنى القربة في كلّ واجب ، وإنّما تدلّ على وجوب عبادة الله خالصة عن الشرك ، وبعبارة اخرى : وجوب

____________________________________

وبعد إثبات هذه الامور يكون مفاد الآية المباركة : وما امروا بعمل إلّا لغاية إتيانه متقرّبا مخلصا للقصد عن الرياء ، فتدلّ الآية على كلتا الثمرتين والحكمين في الشريعة السابقة ، ثمّ يثبت الحكمان بالاستصحاب في شريعتنا. هذا تمام الكلام في تقريب دلالة الآية.

أمّا بيان ما يردّ عليها ، فهو مبني على عدم إثبات الامور المذكورة والأمر كذلك ، بل الكلّ فاسد ، وذلك فإنّ اللّام ـ في قوله تعالى : (لِيَعْبُدُوا) نظير اللّام ـ في قوله تعالى : (لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ)(١) الآية ، وقوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ)(٢)(لِيُطَهِّرَكُمْ)(٣) زائدة في المفعول به على تقدير أن المصدرية ، فتكون للتأكيد والتقويّة ، وليست للغاية.

وكون اللّام في هذه الموارد زائدة لا للغاية معروف من المفسّرين والنحويين ، فيكون التقدير ـ حينئذ ـ : وما امروا إلّا لعبادة الله ، كما يكون التقدير في قوله تعالى (لِيُطْفِؤُا) : إطفاء ، وفي قوله تعالى (لِيُذْهِبَ) : إذهاب ، وهكذا.

ومن هنا يظهر أنّ العبادة ليست بمعناها المصطلح في مقابل المعاملة ، بل بالمعنى الأصلي المصدري ، أعني : العبوديّة.

وكذا الإخلاص ليس بمعنى الإخلاص في نيّة العبادة عن الرياء ، بل يكون بمعنى التوحيد ونفي الشريك له تعالى ، وذلك بشهادة استعمالاته كقوله تعالى : (قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً)(٤) ، وقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً)(٥) وغير ذلك.

حيث لم يكن الإخلاص في هذه الموارد بمعنى خلوص النيّة عن الرياء في العبادة ، بل بمعنى نفي الشريك ، والدين لم يوجد بمعنى القصد.

فلم يثبت شيء من الامور ، فيكون مفاد الآية حينئذ : أنّه ما امروا إلّا للعبوديّة له تعالى

__________________

(١) الصف : ٨.

(٢) الأحزاب : ٣٣.

(٣) المائدة : ٦.

(٤) الزمر : ١٤.

(٥) الزمر : ٢.

٤٤

التوحيد ، كما أوضحنا ذلك في باب النيّة من الفقه ـ أنّ الآية إنّما تدلّ على اعتبار الإخلاص ، لا على وجوب الإخلاص عليهم في كلّ واجب.

وفرق بين وجوب كلّ شيء عليهم لغاية الإخلاص ، وبين وجوب قصد الإخلاص عليهم

____________________________________

وحده وإقامة الصلاة والزكاة ، فكان المأمور به في الآية منحصرا في التوحيد وهو أصل الاصول والصلاة والزكاة وهما ركن الفروع ، فالحصر حينئذ ليس بحقيقي حقيقة ، بل حقيقي مبالغة. هذا تمام الكلام في مفاد الآية المباركة.

أمّا شرح ما يحتاج إليه من المتن ، فنكتفي بما ذكره الشارح الماهر الاستاذ الاعتمادي دام ظلّه العالي ، حيث قال :

وعلى تقدير الإغماض عمّا ذكر أنّ الآية إنّما تدلّ على اعتبار الإخلاص في واجباتهم ، أي : عباداتهم ، فإن وجبت هذه العبادات علينا وجب فيها الإخلاص لا على وجوب الإخلاص عليهم في كلّ واجب.

وحاصل الجواب عن الثمرة المذكورة ، هو أنّ كون اللّام للغاية فاسدا لا يمكن الإغماض عنه ، وأمّا كون العبادة مقابل المعاملة ، والإخلاص بمعنى إخلاص العبادة ، والدين بمعنى القصد ، فيمكن تسليمه والإغماض عمّا فيه.

ويكون التقدير حينئذ : وما امروا إلّا بإيقاع العبادات بقصد الخلوص ، إلّا أنّ الآية ـ حينئذ ـ تدلّ على الثمرة الاولى والحكم الأوّل فقط ، أعني : اعتبار الإخلاص في العبادة.

وبعبارة اخرى : تدلّ الآية على ثبوت الملازمة بين وجوب شيء واشتراط قصد القربة والإخلاص فيه ، ولا تدلّ على الثمرة الثانية والحكم الثاني ، أعني : الملازمة بين وجوب شيء وتعبّديّته ؛ وذلك لظهور توجّه الحصر إلى القيد ـ أعني : مخلصين ـ لا المقيّد ، أعني : ليعبدوا.

فكأنّه قال : وما امروا بإتيان عباداتهم بوجه إلّا بوجه الإخلاص عن مثل الرياء ، بل الأمر كذلك حتى على فرض تسليم جميع الامور حتى الأمر الأوّل ، بأن تكون اللّام للغاية ، والعبادة مقابل المعاملة ، والإخلاص بمعنى عدم الرياء ، والدين بمعنى القصد.

بمعنى أنّ الآية تدلّ على الحكم الأوّل فقط ـ أعني : اعتبار الإخلاص في العبادة ـ دون الثاني ، أعني : الملازمة بين الوجوب والتعبّديّة على تقدير تسليم الامور المذكورة كلّها.

إذ فرق بين وجوب كلّ شيء عليهم لغاية الإخلاص ، بأن تكون الغاية في كلّ أمر مجرّد

٤٥

في كلّ واجب. وظاهر الآية هو الأوّل ، ومقتضاه أنّ تشريع الواجبات لأجل تحقّق العبادة على وجه الإخلاص ، ومرجع ذلك إلى كونها لطفا.

ولا ينافي ذلك كون بعضها ، بل كلّها توصّليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة.

ومقتضى الثاني كون الإخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب ، وهو المطلوب ، فتأمّل.

____________________________________

تمكّن الناس من إتيان العمل متقرّبا ومخلصا ، وإن لم يجب ذلك ، وبين وجوب قصد الإخلاص عليهم في كلّ واجب ، بأن تكون الغاية في كلّ أمر تعبّدية العمل واحتياجه إلى قصد القرب والخلوص.

وظاهر الآية هو الأوّل ، ومقتضاه أنّ تشريع الواجبات لأجل تحقّق العبادة ، أي : تمكّن المكلّف من الإتيان بقصد العبادة على وجه الإخلاص ، ومرجع ذلك ، أي : كون الغاية هو التمكّن من العبادة. إلى كونها ـ أي : الواجبات ـ لطفا في الواجب العقلي ومقرّبا إليه.

وبيان ذلك أنّ شكر المنعم واجب عقلا ويحصل بطاعته ، وهي متوقّفة على طلب المولى الحقيقي من العبد شيئا بأن يأمره بفعل ، فيأتي العبد ذلك الفعل المأمور به بقصد الطاعة الواجبة عقلا بعد صدور الأمر من المولى ، وهذا معنى كون الواجب الشرعي لطفا في الواجب العقلي ، حيث بالواجب الشرعي يتمكّن المكلّف من الواجب العقلي ، أي : الطاعة ، فيكون الواجب الشرعي مقرّبا إلى الواجب العقليّ ، حيث إنّه يوجب التمكّن منه.

فالحاصل ، هو أنّ غاية الأوامر هو تمكّن المكلّفين من الطاعة الواجبة عقلا ، وهي العبادة.

فمفاد الآية ـ حينئذ ـ هو : وما امروا بشيء إلّا لغاية التمكّن من العبادة والطاعة مخلصا.

ولا ينافي ذلك ، أي : كون الغاية التمكّن من التعبّد كون بعضها ، أي : الواجبات ، بل كلّها توصّليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة ؛ لأنّه إذا كانت الغاية مجرّد التمكّن من التعبّد ، فإن كان الواجب تعبّديا يجب فيه التقرّب والإخلاص لعدم سقوطه بدونه ، وإن كان توصليّا فهو متمكّن من التعبّد به ، بمعنى أنّ له أن يقصد القرب والإخلاص ، فيستحقّ الثواب وله الإتيان بلا نيّة ، فإنّه يسقط به بدون ثواب.

ومقتضى الثاني ، أي : كون الغاية في كلّ واجب كونه تعبّديا كون الإخلاص واجبا شرطيّا في كلّ واجب بحيث لا يسقط بدونه ، وهو المطلوب للمستدلّ ، إلّا أنّه خلاف

٤٦

هذا كلّه مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(١) بناء على تفسيرها بالثابتة التي لا تنسخ.

ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن مؤذّن يوسف عليه‌السلام : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)(٢) فدلّ على جواز الجهالة في مال الجعالة ، وعلى جواز ضمان ما لم يجب.

____________________________________

ظاهر الآية ، فلا يمكن الالتزام به إلّا مع القرينة وهي منتفية.

ولعلّ قوله : فتأمّل في بعض النسخ إشارة إليه.

هذا كلّه مع أنّه يكفي في ثبوت الحكم في شرعنا قوله تعالى : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) بناء على تفسيرها ـ أي : القيّمة ـ بالثابتة التي لا تنسخ. وهذا هو الجواب الثالث.

وحاصله أنّه على فرض دلالة الآية على ثبوت الحكمين في الشريعة السابقة لا يحتاج إثباتهما في شرعنا إلى الاستصحاب ، بل نفس الآية تكفي للإثبات إن كانت «القيّمة» بمعنى الثابتة لا بمعنى المستقيمة. هذا تمام الكلام في الثمرة الاولى. وقد أشار إلى الثمرة الثانية بقوله : ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن مؤذّن يوسف عليه‌السلام ويمكن أن يستدلّ بهذه الآية على إثبات امور وأحكام في الشريعة السابقة ، ثمّ إثباتها بالاستصحاب في شرعنا :

الأوّل : هو مشروعيّة أصل الجعالة.

والثاني : هو جواز الجهالة في مال الجعالة.

والثالث : هو صحّة ضمان مال الجعالة قبل العمل.

ويدلّ على الأوّل والثاني قول المؤذّن : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) ودلالته على مشروعيّة أصل الجعالة واضحة لا تحتاج إلى البيان ، وأمّا دلالته على جواز الجهالة في مال الجعالة ، فلأجل أنّ حمل البعير الذي جعل مال الجعالة مجهول جنسا وقدرا ، أمّا كونه مجهولا بحسب الجنس فواضح ، وأمّا كونه مجهولا بحسب المقدار ، فلاختلافه بالزيادة والنقصان.

ويدلّ على الثالث قوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، أي : ضامن ، حيث يدلّ على جواز ضمان ما لم يستقرّ في الذمّة بالعمل ، وهو معنى قول المصنّف قدس‌سره : جواز ضمان ما لم يجب ، ثمّ تثبت هذه الأحكام في شرعنا بالاستصحاب. هذا تمام الكلام فيما يرتبط بالمقام.

__________________

(١) البيّنة : ٥.

(٢) يوسف : ٧٢.

٤٧

وفيه : إنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم ، مع احتمال كونه مجرّد وعد ، لا جعالة ، مع أنّه لم يثبت الشرع بمجرّد فعل المؤذّن ، لأنّه غير حجّة ، ولم يثبت إذن يوسف عليه‌السلام

____________________________________

ولا بأس بذكر ما لا يرتبط بالمقام ، وهو ملخّص تفسير الآية المباركة : وهو أنّ يوسف عليه‌السلام أراد أن يفصل بنيامين عن إخوته ويبقيه عنده ، ولم يكن ذلك ممكنا إلّا بمبرّر ، فأمر غلمانه بإخفاء الصاع ـ وهو آلة الكيل أو جام شرب الماء ـ في رحل أخيه بنيامين حيلة لإبقائه عنده.

ثم نادى المنادي في أولاد يعقوب : يا أصحاب العير إنّكم سارقون ، فلا ترحلوا حتى ننظر في أمركم ، فدهش أولاد يعقوب لهذه المفاجأة العنيفة.

(قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ)(١) قالوا هذا وهم على يقين من براءتهم.

وهذه هي المرّة الاولى التي يسمعون فيها مثل هذه التهمة.

(قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ)(٢) ، أي : غلمان يوسف فقدنا صواع الملك (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ).

وفيه : إنّ حمل البعير لعلّه كان معلوم المقدار عندهم بحسب عرفهم وكان معلوم الجنس بالقرائن ، فلا يمكن الاستدلال على جواز الجهالة في مال الجعالة ، وذلك لما هو المعروف من أنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال ، فلا تدلّ الآية على الحكم الثاني وهو جواز الجهالة في مال الجعالة ، كما لا تدلّ على الحكم الأوّل وهو مشروعيّة أصل الجعالة ، كما أشار اليه بقوله : مع احتمال كونه مجرّد وعد لا جعالة ، أي : مع احتمال قول المؤذّن : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) مجرّد وعد فقط.

إذ كما أنّ مجرّد طلب فعل من شخص معيّن بلا تعيين اجرة لا يكون إجارة اصطلاحية ، إلّا أنّ العامل يستحق أجرة المثل ، كذلك طلب فعل من شخص مبهم من دون تعيين مال الجعالة لا يكون جعالة اصطلاحية ، إلّا أنّ العامل يستحق الاجرة ، كما في شرح الاعتمادي ، هذا مع ضميمة ما ذكرنا من أنّ الاحتمال يمنع عن الاستدلال ، يكفي في ردّ دلالة الآية على مشروعيّة أصل الجعالة.

__________________

(١) يوسف : ٧١.

(٢) يوسف : ٧٢.

٤٨

في ذلك ولا تقريره.

ومنه يظهر عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور.

خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان صوريّا قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف. ولا بأس بذكر معاملة فاسدة يحصل به الغرض مع احتمال إرادة أنّ الحمل في ماله وأنّه ملتزم به ، فإنّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغة مطلق الالتزام ، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير. فتكون الفقرة الثانية تأكيدا لظاهر الاولى ، ودفعا لتوهّم كونه من الملك فيصعب تحصيله.

____________________________________

هذا مع أنّه لم يثبت الشرع بمجرّد فعل المؤذّن ، لأنّه غير حجّة ، ولم يثبت إذن قبلي من يوسف عليه‌السلام في ذلك ولا تقريره بعده.

إلّا أن يقال : بأنّ قوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ)(١) الآية ، قد يدلّ على كون ذلك بإذن يوسف عليه‌السلام.

إذ معنى قوله تعالى : (كِدْنا لِيُوسُفَ) ، أي : أوحينا إليه بهذا التدبير ، كما في بعض التفاسير ، أو ألهمناه هذا الكيد والحيلة ليكون ذلك سببا لما هو المقصود.

وكيف كان ، فقد سمّي هذا كيدا ؛ لأنّ ظاهره غير واقعه ، وجاز شرعا لأنّه لا يحلّل حراما ولا يحرّم حلالا.

ومنه يظهر عدم ثبوت شرعيّة الضمان المذكور ، أي : ضمان ما لم يجب. خصوصا مع كون كلّ من الجعالة والضمان صوريّا قصد بهما تلبيس الأمر على إخوة يوسف. ولا بأس بذكر معاملة فاسدة يحصل به الغرض وهو تلبيس الأمر مع احتمال إرادة أنّ الحمل في ماله ، أي : المؤذّن ، وقوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) تأكيد له ، ومعناه ما أشار إليه بقوله :

وأنّه ملتزم به ، فإنّ الزعيم هو الكفيل والضامن ، وهما لغة مطلق الالتزام ، أي : سواء كان عن نفسه أو عن غيره ، ولم يثبت كونهما في ذلك الزمان حقيقة في الالتزام عن الغير ... إلى آخره.

والحاصل أنّه لم تثبت إرادة المؤذّن كون الحمل من مال يوسف عليه‌السلام ، ليكون ضمان المؤذّن

__________________

(١) يوسف : ٧٦.

٤٩

ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن أحوال يحيى على نبيّنا وعليه‌السلام : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)(١) ، فإنّ ظاهره يدلّ على مدح يحيى بكونه حصورا ، أي : ممتنعا عن مباشرة النسوان ، فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج.

وفيه : إنّ الآية لا تدلّ على حسن هذه الصفة ، لما فيه من المصالح والتخلّص عمّا يترتّب عليه. ولا دليل فيه على رجحان هذه الصفة على صفة أخرى ، أعني : المباشرة لبعض المصالح الاخرويّة.

____________________________________

له ضمانا اصطلاحيا وضمانا لما لم يجب ، فلا تدلّ الآية على شيء من الأحكام المذكورة حتى يقال باستصحابها في شرعنا.

ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن أحوال يحيى على نبيّنا وعليه‌السلام : (وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) ، فإنّ ظاهره يدلّ على مدح يحيى بكونه حصورا ، أي : ممتنعا عن مباشرة النسوان بعقد أو شراء.

فكان التعفّف أولى من التزويج في الشريعة السابقة ، فيمكن أن يرجّح في شريعتنا لتعفّف على التزويج بالاستصحاب.

وفيه : إنّ الآية لا تدلّ على حسن هذه الصفة على تقدير كون الحصور بمعنى التعفّف.

بل قيل : إنّ الحصور هو من يملك زمام نفسه ويمنعها عن الذنوب ، فدلالة الآية على كون لتعفّف أولى من التزويج ، مبنيّة على كون الحصور بمعنى الامتناع عن مباشرة النسوان لا عن مباشرة الذنوب.

بل يمكن أنّ الآية لا تدلّ على ترجيح التعفّف بالنسبة إلى التزويج حتى بناء على كون الحصور بمعنى الامتناع عن مباشرة النساء ، بل أنّها لا تدلّ على حسن هذه الصفة ، لما فيه من المصالح والتخلّص عمّا يترتّب عليه من التكاليف.

ولا دليل فيه على رجحان هذه الصفة على صفة اخرى ، أعني : المباشرة لبعض المصالح الاخرويّة.

وقد قيل : من أنكح قد أحرز نصف دينه (٢).

__________________

(١) آل عمران : ٣٩.

(٢) الكافي ٥ : ٣٢٩ / ٢. الفقيه ٣ : ٢٤١ / ١١٤١. الوسائل ٢٠ : ١٧ ، أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، ب ١ ، ح ١١.

٥٠

فإنّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الإفطار في النهار ، وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منها.

ومنها : قوله تعالى : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ)(١) دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحق مائة بالضرب بالضغث. وفيه ما لا يخفى.

____________________________________

وبالجملة ليس التعفّف ولا التزويج علّة تامّة للحسن ، بل حسنهما إنّما هو بالوجوه والاعتبارات ، فيتفاوت باختلاف الأشخاص والأحوال ، كما في شرح الاعتمادي.

فمدح يحيى عليه‌السلام بكونه متعفّفا عن التزويج لا يدلّ على رجحان صفة التعفّف على صفة التزويج ، كما أشار إلى نظيره بقوله :

فإنّ مدح زيد بكونه صائم النهار متهجّدا لا يدلّ على رجحان هاتين الصفتين على الإفطار في النهار ، وترك التهجّد في الليل للاشتغال بما هو أهمّ منها.

ومنها : قوله تعالى : في قصّة أيّوب عليه‌السلام حيث حلف على زوجته بضرب المائة وخذ بيدك ضغثا ، أي : ربطة من الخشب فاضرب به الآية إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحق مائة ، أي : يجوز لمن حلف على ضرب المقصّر مائة ضربة أن يعمل بحلفه بطريق أسهل ، أي : بالضرب بالضغث ، كما في شرح الاعتمادي.

ونكتفي بما أفاده الاستاذ من الشرح في هذا المقام :

وفيه ما لا يخفى.

أي : في الاستدلال بالآية على حصول برّ اليمين بضرب المستحق مائة بالضغث ما لا يخفى ، فإنّ مقتضى القاعدة في الحلف بضرب المائة ملاحظة العدد في الضرب ، فلعلّ هذا من خواص أيّوب عليه‌السلام ترحّما على امرأته ، فجعل الضرب بالضغث بدلا عمّا يحصل به برّ اليمين ، كما ثبت مثله في حدود المرضى ونحوها على ما في شرح الاعتمادي.

وبالجملة جعل الله هذا الضرب بدلا عن منذوره حتى لا يحنث نذره ، ولم يثبت في حقّ امّته حتى يستصحب.

__________________

(١) ص : ٤٤.

٥١

ومنها : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ)(١) إلى آخر الآية ، استدلّ بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة.

ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن شعيب : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ)(٢).

وفيه : إنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصات الواردة فيها ، فلا ثمرة في الاستصحاب.

نعم ، في بعض تلك الأخبار إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لو لا المنع عنه ، فراجع وتأمّل.

____________________________________

ومنها : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى آخر الآية ، استدلّ بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة.

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما هو في شرح الاعتمادي ، هو أنّ للمجني عليه أخذ دية كاملة ، إلّا أنّه لو اقتصّ بقلع عين الجاني هل له أخذ نصف الدّية أيضا أم لا؟ مقتضى ظاهر الآية هو العدم فيستصحب.

ومنها : قوله تعالى ، حكاية عن شعيب عليه‌السلام : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ، حيث يكون ظاهر كلام شعيب عليه‌السلام جواز جعل المنفعة صداقا فيستصحب.

وفيه : إنّ حكم المسألة وهو جواز جعل المنفعة صداقا قد علم من العمومات والخصوصات الواردة فيها ، فلا ثمرة في الاستصحاب ؛ وذلك لعدم الحاجة إليه مع الدليل الاجتهادي.

نعم ، في بعض تلك الأخبار الدالّة على جواز جعل العمل صداقا إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق من جهة الاستشهاد بقصة شعيب لو لا المنع عنه بالنسخ ، فراجع وتأمّل حتى تعرف أنّ الاستشهاد بقصة شعيب على جواز العمل بذلك الحكم يكون من جهة عدم ثبوت النسخ لا من باب الاستصحاب.

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) القصص : ٢٧.

٥٢

الأمر السادس

____________________________________

الأمر السادس : الذي يبحث فيه عن الأصل المثبت ، وقد اختلف الاصوليون في اعتباره وعدم اعتباره بعد اتفاقهم ظاهرا على اعتبار مثبتات الأمارات ، والمصنّف قدس‌سره ممّن يقول بعدم اعتبار مثبتات الاصول ، ثمّ الوجه في عدم اعتبار مثبتات الاصول يتّضح بعد بيان أمرين :

الأوّل : بيان ما هو المراد بالمثبت في المقام.

والثاني : بيان الفرق بين الأمارات والاصول من حيث مناط الحجّيّة والاعتبار.

وأمّا الأمر الأوّل ، فملخّصه أنّ المراد بالمثبت في خصوص المقام أمارة كان أو أصلا على ما يظهر من كلماتهم ؛ هو ترتيب الآثار الشرعيّة على مؤدّى الأمارة أو الأصل بواسطة الآثار واللوازم العقليّة أو العاديّة.

وأمّا الأمر الثاني ، وهو الفرق بينهما من حيث مناط الحجّيّة ، فحاصله أنّ المناط في اعتبار الأمارات إنّما هو جهة طريقيّتها إلى الواقع وكشفها وحكايتها عمّا تؤدّي إليه ، بمعنى أنّ الشارع نزّلها بمنزلة القطع وألغى احتمال الخلاف.

وتوضيح ذلك : إنّ القطع كاشف عن الواقع بالكشف التامّ لا يجتمع مع احتمال الخلاف ، والأمارة كاشفة بالكشف الناقص يجتمع مع احتمال الخلاف ، ثم الشارع أكمل كشفها الناقص بأدلّة اعتبارها ، فصارت بعد ذلك كالقطع والعلم.

غاية الأمر تكون طريقيّة القطع ذاتيّة لا تنالها يد الجعل ، كما عرفت في بحث القطع ، وتكون طريقيّة الأمارات مجعولة بنحو تتميم الكشف ، وبعد انكشاف المؤدّى بها يترتّب عليه جميع ما للمؤدّي من الخواص والآثار.

وأنّ المناط في اعتبار الاصول ليس جهة الكشف ولو كانت لها جهة الكشف كالاصول المحرزة ، بل المناط فيها هو مجرّد تطبيق العمل على المؤدّى ، وهو لا يقتضي أزيد من إثبات نفس المؤدّى أو ما يترتّب عليه من الحكم الشرعي بلا واسطة أصلا ، والأوّل فيما إذا كان نفس المستصحب حكما شرعيا ، والثاني فيما إذا كان من الموضوعات.

إذا عرفت هذين الأمرين يتّضح لك الوجه فيما ذهب إليه المصنّف قدس‌سره وهو المشهور بين

٥٣

قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن ، ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء ، لأنّها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة ، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشكّ هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع.

____________________________________

المتأخّرين من اعتبار مثبتات الأمارات دون مثبتات الاصول ، وذلك لما عرفت في الفرق بينهما من أنّ مناط الحجّيّة في باب الأمارات هو ما يقتضي اعتبار مثبتاتها ، بخلاف ما هو المناط في باب الاصول العمليّة ، حيث لا يقتضي أزيد من اعتبار نفس مؤدّى الاصول أو ما يترتّب عليه من الأحكام الشرعيّة بلا واسطة أصلا ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين.

أي : قد عرفت سابقا في تقريب دلالة الأخبار على حجّيّة الاستصحاب أنّ حرمة نقض اليقين بالشكّ كناية عن لزوم الالتزام بالمتيقّن عملا ، بمعنى الالتزام بمثل الحكم السابق ظاهرا فيما إذا كان المستصحب المتيقّن حكما شرعيّا. وترتيب الآثار الشرعيّة الثابتة للمتيقّن بواسطة اليقين السابق فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات ، كما أشار إليه بقوله :

هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن ، ثمّ المراد من آثار اليقين هي الآثار الشرعيّة ، لأنّها القابلة للجعل الشرعي دون غيرها ، كما أشار إليه بقوله :

ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء كوجوب نفقة الزوجة على زيد في استصحاب حياته.

لأنّها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقليّة والعادّية ، فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشكّ هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لكونها من الآثار الشرعيّة ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ، لكونهما من الآثار العاديّة ، ولا حكمه بالتنفّس والتحيّز ، لكونهما من الآثار العقليّة.

والجامع بين الآثار العاديّة والعقليّة هو أنّها غير قابلة لجعل الشارع ، كما أشار إليه بقوله : لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع ، أي : لأنّ الآثار العاديّة كالعقليّة غير قابلة لجعل

٥٤

نعم ، لو وقع نفس النّمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة ، أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب.

____________________________________

الشارع فلا يجوز ترتيب هذه الآثار على المستصحب فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات ، كحياة زيد مثلا.

نعم ، لو وقع نفس النّمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة ، أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة.

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ مفاد حرمة نقض اليقين بحياة زيد هو جعل آثارها الشرعيّة وترتيبها عليها كما عرفت.

أمّا غيرها فإن كان له حالة سابقة كالتنفّس والتحيّز والنّمو ، فيكون هو بنفسه موردا للاستصحاب وتنزيل المشكوك منزلة المتيقّن ، فيترتّب عليه أثره الشرعي ، كما لو نذر درهما للفقير كلّ يوم ما دام زيد ناميا ، فإذا شكّ في نموّه يستصحب ويترتّب عليه أثره الشرعي وهو وجوب إعطاء الدرهم للفقير ، وكذا في غير الاستصحاب من التنزيلات ، كما إذا قال الشارع : يستحب العقيقة للولادة ثمّ قال : نمو الولد بمنزلة ولادته في استحباب العقيقة ، وهو الأثر الشرعي.

وبعبارة أخرى : لو نزّل الشارع نموّ الولد بمنزلة ولادته في الأثر الشرعي كاستحباب العقيقة يترتّب عليه ذلك الأثر الشرعي فقط ، هذا فيما إذا كان للأثر العادي حالة سابقة حيث يستصحب ويترتّب أثره الشرعي.

وأمّا إذا لم يكن له حالة سابقة كإنبات اللحية مثلا ، فلا يترتّب عليه الأثر الشرعي ، وذلك لعدم ثبوته في ظرف الشكّ لا باستصحابه ؛ لعدم كونه موردا للاستصحاب على الفرض ، ولا باستصحاب الحياة لما عرفت من أنّ ما يترتّب على استصحاب الحياة هو الأثر الشرعي دون غيره.

فالمتحصّل من الجميع أنّ الكلام إنّما هو في عدم إثبات النمو والإنبات باستصحاب الحياة ، أمّا كون النّمو موردا للاستصحاب ، فخارج عن محلّ الكلام. كما أشار إليه بقوله :

لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب الحياة دون النّمو.

٥٥

والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق ، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة لعدم قابليّتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار ، لأنّها ليست آثار نفس المتيقّن ، ولم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي عليه.

____________________________________

والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات الشرعيّة ، مثل قوله : الطواف بالبيت صلاة (١) والمطلقة رجعيّة زوجة (٢) ، والفقاع خمر (٣) ، كما في شرح الاعتمادي.

إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة بلا واسطة أصلا على المتيقّن السابق.

وذلك كوجوب نفقة الزوجة حيث يكون من الآثار الشرعيّة المترتّبة على حياة زيد مثلا من دون واسطة عقليّة أو عاديّة.

فلا دلالة فيها ، أي : في التنزيلات الشرعيّة على جعل غيرها ، أي : غير الآثار الشرعيّة من الآثار العقليّة والعاديّة ، وذلك لعدم قابليّتها للجعل الشرعي كما مرّ غير مرّة.

ولا دلالة في التنزيلات الشرعيّة أيضا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار العاديّة ، مثل وجوب إعطاء الدرهم بالنذر المترتّب على النّمو المترتّب على الحياة.

لأنّها ، أي : الآثار الشرعيّة المترتّبة على الآثار الغير الشرعيّة ليست آثار نفس المتيقّن وهو الحياة في المثال المتقدّم ، حيث لا يكون وجوب إعطاء الدرهم بالنذر المترتّب عليها بواسطة النّمو من آثار نفس الحياة حتى يترتّب على استصحابها.

ولم يقع ذوها ، أي : صاحب الآثار كالنّمو مثلا موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٢ : ١٦٧ / ٣. والمعجم الكبير (الطبراني) ١١ : ٢٩ / ١٠٩٥٥.

(٢) الكافي ٦ : ٧٤ / ٢. الوسائل ٢٢ : ١٣٧ ، أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ب ١٥ ، ح ١. وفيهما : (إذا أشهد على رجعته فهي زوجته).

(٣) الكافي ٦ : ٤٢٤ / ١٣. الوسائل ٢٥ : ٣٦٠ ، أبواب الأشربة المحرّمة ، ب ٢٧ ، ح ٤.

٥٦

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ المستصحب إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعيّة المجعولة ، كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها ، وإمّا أن يكون من غير المجعولات ، كالموضوعات الخارجيّة واللغويّة. فإن كان من الأحكام الشرعيّة فالمجعول في زمان الشكّ حكم ظاهري مساو للمتيقّن السابق في جميع ما يترتّب عليه ، لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن السابق ووجوب المضيّ عليه والعمل به ، وإن كان من غيرها فالمجعول في زمان الشكّ هي لوازمه الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، ودون ملزومه ، شرعيّا كان أو غيره ، ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث.

____________________________________

ـ آثار ـ عليه ، أي : ذي الآثار ، كما في شرح الاعتمادي.

وبالجملة ، إنّ ما هو موردا للتنزيل ليس ذا الأثر ، وما هو ذو الأثر ليس موردا للتنزيل.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنّ المستصحب إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعيّة المجعولة ، كالوجوب والتحريم والإباحة.

ومثال الأوّل ، كوجوب الظهر إذا شكّ في إتيانه قبل خروج الوقت ، والثاني كحرمة وطء الزوجة لو شكّ فيها بعد النقاء قبل الغسل. والثالث كإباحة التتن الثابتة قبل الشرع فرضا إذا شكّ فيها بعد الشرع ، وغيرها من الشرعيّات كما في شرح الاعتمادي ، ونكتفي دائما في توضيح المتن من حيث العبارات بما أفاده الاستاذ من الشرح والتوضيح.

وإمّا أن يكون من غير المجعولات ، كالموضوعات الخارجيّة كالحياة واللغويّة ككون لفظ معيّن حقيقة في معنى معيّن ، ثمّ يستصحب عدم النقل فيما إذا شكّ في نقله عنه إلى غيره من المعاني الشرعيّة.

فإن كان من الأحكام الشرعيّة فالمجعول في زمان الشكّ حكم ظاهري مساو للمتيقّن السابق في جميع ما يترتّب عليه ، لأنّه ، أي : جعل مثل الحكم الواقعي ظاهرا بالاستصحاب مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن السابق ووجوب المضيّ عليه والعمل به ، كما عرفت سابقا في بيان معنى حرمة نقض اليقين بالشكّ.

وإن كان من غيرها فالمجعول في زمان الشكّ هي لوازمه الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، ودون ملزومه ، شرعيّا كان أو غيره ، ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث.

وغرض المصنّف قدس‌سره من تفصيل الكلام في المقام هو امتياز الأصل المثبت عن غيره ،

٥٧

____________________________________

وهذا الامتياز يتوقّف على تقسيم المستصحب ؛ إلى الحكم والموضوع تارة ، وتقسيم ما يترتّب عليه إلى الآثار الشرعيّة والعقليّة والعاديّة اخرى.

وملخّص التقسيم الأوّل ، هو أنّ المستصحب ؛ تارة يكون من الأحكام الشرعيّة واخرى من الموضوعات ، كما تقدّم في المتن ، ثمّ ما يترتّب على كلّ واحد منهما على أقسام ، فلا بدّ من بيان أقسام ما يترتّب عليهما ، فنقول :

إنّ ما يراد ترتّبه على المستصحب فيما إذا كان المستصحب من الأحكام الشرعيّة لا يخلو عن أحد امور :

الأوّل : أن يكون أثرا شرعيّا.

والثاني : أن يكون أثرا عقليّا.

والثالث : أن يكون أثرا عاديّا.

وعلى جميع التقادير ؛ إمّا أن يكون بين المستصحب والأمر المذكور علقة ولزوم أم لا ، بأن يكون اجتماعهما من باب الاتفاق المسبّب عن العلم الإجمالي ، كاستصحاب إباحة أحد الماءين لإثبات حرمة الآخر فيما إذا علم إجمالا بنجاسة أحدهما.

وعلى الأوّل ـ وهو ما إذا كان بين المستصحب وذلك علقة ولزوم ـ فذلك الأمر إمّا لازم المستصحب أو ملزوم له أو ملازم معه لملزوم ثالث ، ثمّ اللّازم إمّا شرعي كحرمة النافلة المترتّبة على وجوب الفريضة الثابت بالاستصحاب ، بناء على حرمتها وقت مطلق الفريضة ، أي : ظاهريّة كانت أو واقعيّة ، أو عقلي كوجوب مقدّمتها ، أو عاديّ كالخوف عن مخالفتها.

والملزوم للمستصحب كاستحقاق العقاب على ترك فعل حيث يكون لازمه وجوب ذلك الفعل ، والملازمة معه لملزوم ثالث ، كطهارة البدن فيما إذا توضأ غفلة بمائع مردّد بين طاهر ونجس ، أو بين الماء والبول حيث يكون ملازما مع زوال الحدث ، وهما لازمان لأمر ثالث وهو كون المائع طاهرا أو ماء.

هذا تمام الكلام فيما إذا كان المستصحب من الأحكام الشرعيّة ، حيث يترتّب عليه في زمان الشكّ جميع لوازمه من الشرعيّة والعقليّة والعاديّة بشرط أن تكون هذه اللوازم لوازم

٥٨

____________________________________

مطلق الحكم الشرعي الشامل للواقعي والظاهري ؛ وذلك لما عرفت من أنّ المجعول في زمان الشكّ هو المماثل للحكم المتيقّن ، فيترتّب عليه جميع ما يترتّب على الحكم الواقعي المتيقّن المستصحب.

وأمّا إذا كان المستصحب من الموضوعات ، فلا يترتّب عليه إلّا لوازمه الشرعية ؛ لأنّها القابلة للجعل كما عرفت ، ومثال ذلك هو استصحاب الحياة لإثبات وجوب نفقة الزوجة ، ولا تترتّب عليه لوازمه العقليّة والعاديّة كالتنفّس والنّمو ، وذلك لما عرفت من عدم قابليّتها للجعل شرعا.

ولا يترتّب على استصحاب غير الحكم الشرعي ملزومه شرعيّا كان كترتّب وجوب الظهر على استصحاب استحقاق العقاب على تركها ، أو عقليّا كترتّب الحياة على استصحاب النّمو.

ولا يترتّب عليه ما هو ملازم معه لملزوم ثالث ، كاستصحاب النّمو لإثبات الإنبات ، وهما لازمان لملزوم ثالث وهو الحياة.

ولا يترتّب عليه ما يقارنه اتفاقا كاستصحاب حياة زيد لإثبات موت عمرو إذا علم إجمالا موت أحدهما.

وذلك لما عرفت من أنّ المفهوم عرفا من حرمة نقض اليقين هو وجوب ترتيب اللوازم الشرعيّة دون غيرها ، كما في شرح الاعتمادي مع توضيح منّا.

فالحاصل أنّ الأصل فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات مثبت ، إلّا في صورة واحدة وهي فيما إذا كان ما يترتّب عليه أثرا شرعيّا فقط وكان لازما له ، فالأصل المثبت هو ما إذا لم يكن المستصحب حكما شرعيّا ، ولا يترتّب عليه حكم شرعي بلا واسطة فيما إذا كان من الموضوعات ، والأصل المثبت لا يكون حجّة إلّا فيما إذا كانت الواسطة خفيّة ، بحيث يعدّ عرفا ـ الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب ـ أثرا لنفس المستصحب.

وبالجملة ، إنّ مراد المصنّف قدس‌سره من الأصل المثبت هو استصحاب الموضوع لإثبات اللوازم العقليّة أو العاديّة ، أو الشرعيّة مع الواسطة.

وقد يطلق الأصل المثبت على مثبت الماهيّة ، كإجراء أصالة عدم وجوب السورة لتعيين

٥٩

ولعلّ هذا هو المراد بما اشتهر على ألسنة أهل العصر من نفي الاصول المثبتة ، فيريدون به أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي ، بل مؤدّاه أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا.

فإن قلت : الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقّن ، بأن يفرض نفسه متيقّنا ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك ، سواء كان ترتّبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي ، أو عقلي مترتّب على ذلك المتيقن.

قلت : الواجب على الشاكّ عمل المتيقّن بالمستصحب من حيث تيقّنه به ، وأمّا ما يجب

____________________________________

أنّ الصلاة ماهيّة مركّبة من الأجزاء المعلومة ، وبعبارة اخرى كأصالة عدم الجزئيّة لتعيين كون الماهيّة مركّبة من الأجزاء المعلومة.

وقد يطلق على مثبت الموضوع ، كاستصحاب الحياة لإثبات نفس الحياة ، والأصل المثبت بجميع هذه المعاني ليس بحجّة إلّا المراد به عند المصنّف قدس‌سره وغيره هو المعنى الأوّل.

ولتعدّد إطلاقاته عبّر المصنّف قدس‌سره بكلمة لعلّ في قوله :

ولعلّ هذا هو المراد بما اشتهر على ألسنة أهل العصر من نفي الاصول المثبتة ، فيريدون به أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج ، كالنّمو مثلا حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي ، كوجوب الدرهم المنذور للنّمو.

بل مؤدّاه أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا ، والعمل على طبق مجرى الأصل إنّما هو ترتيب الآثار الشرعيّة عليه.

فإن قلت : إنّ الأخبار وإن كانت لا تدلّ على ترتيب اللوازم غير الشرعيّة فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات ، إلّا أنّها تدلّ على ترتيب اللوازم الشرعيّة مطلقا ، أي : سواء كانت بلا واسطة كوجوب نفقة الزوجة في المثال المتقدّم ، أو بواسطة أمر عقلي أو عادي.

وذلك فإنّ الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقّن ، بأن يفرض نفسه متيقّنا ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك ، سواء كان ترتّبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي ، أو عقلي مترتّب على ذلك المتيقّن ، فكما أنّ المتيقّن بحياة زيد يحكم بوجوب الدرهم المنذور للنّمو ، كما يحكم بوجوب نفقة زوجته كذلك الشاكّ.

قلت : الواجب على الشاكّ عمل المتيقّن بالمستصحب من حيث تيقّنه به ، وأمّا ما يجب

٦٠