دروس في الرسائل - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٣

وعدمه عند العرف في حكم الحالات المتبادلة لذلك الواجب المشكوك في مدخليّتها ، وهذا نظير استصحاب الكرّيّة في ماء نقص منه مقدار فشكّ في بقائه على الكرّيّة ، فيقال : هذا الماء كان كرّا ، والأصل بقاء كرّيته ، مع أنّ هذا الشخص الموجود الباقي لم يعلم بكرّيّته ، وكذا استصحاب القلّة في ماء زيد عليه مقدار.

وهنا توجيه ثالث : وهو استصحاب الوجوب النفسي المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب ، على أن يكون المفقود جزء له مطلقا فيسقط الوجوب بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزء اختياريّا يبقى التكليف بعد تعذّره ، والأصل بقاؤه ، فيثبت به تعلّقه بالمركّب

____________________________________

كما إذا أمر الشارع مثلا بالصلاة المركّبة من عشرة أجزاء منها السورة ، تكون الصلاة الفاقدة للسورة في نظر العرف هي الصلاة الواجدة لها ، بمعنى أنّ الموضوع في نظر العرف هو المركّب الأعمّ من واجد السورة وفاقدها ، ووجود السورة وعدمها يكون من قبيل الحالات المتبادلة للموضوع ، كحصول زيد يوم الجمعة ويوم السبت وغيرهما.

وحينئذ يقال : إنّ هذا الجزء الذي وجوده وعدمه من قبيل الحالات المتبادلة للموضوع هل هو واجب مطلقا فيسقط الأمر بالصلاة بتعذّره ، أو واجب حال التمكّن فيبقى الأمر بها عند تعذّره فيستصحب الوجوب النفسي الثابت للصلاة قبل تعذّره؟.

وهذا نظير استصحاب الكرّيّة في كون الموضوع باقيا بالتسامح العرفي لا بالدقّة العقليّة وكذلك استصحاب القلّة.

فالمتحصّل من الجميع أنّ المستصحب في التوجيه الأوّل هو مطلق الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، وفي هذا التوجيه هو الوجوب النفسي. وقد أشار إلى التوجيه الثالث بقوله :

وهنا توجيه ثالث.

والفرق بين هذا التوجيه والتوجيه الأوّل هو نفس الفرق بينه وبين التوجيه الثاني ، من حيث كون المستصحب في الأوّل مطلق الوجوب ، وفيهما الوجوب النفسي ، ثمّ الفرق بين الثالث والثاني هو متعلّق الحكم في التوجيه الثاني ، كان مبيّنا ومعيّنا وهو الباقي ، ومتعلّق الحكم في الثالث يكون مجملا ، كما أشار إليه بقوله :

المردّد بين تعلّقه سابقا بالمركّب على أن يكون المفقود جزء له مطلقا فيسقط الوجوب

١٨١

على الوجه الثاني ، وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الإناء لإثبات كرّيّة الباقي فيه.

وتظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما إذا لم يبق إلّا قليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث ، دون الثاني.

____________________________________

بتعذّره ، وبين تعلّقه بالمركّب على أن يكون الجزء جزء اختياريّا يبقى التكليف بعد تعذّره.

ولازم ذلك هو كون ما بقي من الأجزاء واجبا بالوجوب النفسي ، بعد جريان الاستصحاب كما أشار إليه بقوله :

والأصل بقاؤه ، أي : بقاء التكليف ، فيثبت به بناء على اعتبار الأصل المثبت ملزومه وهو تعلّقه بالمركّب على الوجه الثاني ، وهذا نظير إجراء استصحاب وجود الكرّ في هذا الإناء لإثبات كرّيّة الباقي فيه في كون الأصل فيه مثبتا.

وتظهر فائدة مخالفة التوجيهات فيما إذا لم يبق إلّا قليل من أجزاء المركّب ، فإنّه يجري التوجيه الأوّل والثالث ، دون الثاني.

وحاصل الكلام أنّه لا تظهر ثمرة التوجيهات المذكورة فيما إذا تعذّر جزء من أجزاء المركّب ، كالسورة من الصلاة مثلا حيث يجري الاستصحاب ـ حينئذ ـ على جميع التوجيهات المذكورة.

بل إنّما تظهر الثمرة بينها فيما إذا تعذّر معظم أجزاء المركّب ، ولم يبق إلّا قليل منها ، فيجري حينئذ التوجيه الأوّل والثالث دون الثاني.

أمّا وجه جريان التوجيه الأوّل ؛ فلأن مبناه كان على المسامحة في نفس المستصحب وهو مطلق الوجوب الجامع بين النفسي والغيري ، بحيث يكون المشكوك عين المتيقّن.

وأمّا وجه جريان التوجيه الثالث ؛ فلأن مبناه لم يكن على المسامحة العرفيّة بالنسبة إلى بقاء الموضوع حتى يضرّه انتفاء معظم الأجزاء ، بل كان مبناه على بقاء الوجوب النفسي الذي كان للفعل في الزمان الثاني على المكلّف ، وهذا المبنى موجود فيما إذا كان الباقي قليلا من الأجزاء.

ومن هنا ظهر وجه عدم جريان التوجيه الثاني ؛ لأن مبناه كان على جعل الباقي من الأجزاء عين الكلّ الموجود في السابق بالمسامحة العرفيّة ، ومن المعلوم هو عدم جريان

١٨٢

لأن العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحة ، لأن هذه المسامحة مختصّة بمعظم الأجزاء الفاقد لما لا يقدح في إثبات الإسم والحكم له ، وفيما لو كان المفقود شرطا ، فإنّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ويجري على الآخرين.

(وحيث إنّ بناء العرف على الظاهر على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد الشرط لفاقد الجزء في هذا الحكم ، أمكن جعله كاشفا عن عدم استقامة التوجيه الأوّل).

____________________________________

المسامحة عند العرف فيما إذا كان المفقود معظم الأجزاء ، كما أشار إليه بقوله :

لأن العرف لا يساعد على فرض الموضوع بين هذا الموجود وبين جامع الكلّ ولو مسامحة ، فيما إذا كان الموجود قليلا من الأجزاء ، والمطلب واضح.

وتظهر فائدة مخالفة التوجيهات ـ أيضا ـ فيما إذا كان المفقود شرطا ، كما أشار إليه بقوله : وفيما لو كان المفقود شرطا كما إذا تعذّرت الطهارة ، فإنّه لا يجري الاستصحاب على الأوّل ويجري على الآخرين.

أمّا عدم جريان الاستصحاب على الأوّل ، فلأن المتيقّن السابق الثابت للمشروط وجوب نفسي ، والذي يراد إثباته في الزمان اللّاحق ـ أيضا ـ وجوب نفسي ، إلّا أنّ المتيقّن الأوّل وهو الوجوب النفسي الثابت للصلاة بشرط الطهارة قد ارتفع قطعا.

والثاني وهو الوجوب النفسي المتعلّق بالصلاة بلا طهارة قد شكّ في حدوثه ، ولم يكن متيقّنا في السابق ، فلا يجري استصحاب كلّي الوجوب ، كما لا يخفى.

وأمّا جريان الاستصحاب على الآخرين ، فلأجل ما يمكن أن يقال : بأنّ موضوع الوجوب النفسي في نظر العرف هو المركّب الأعمّ من واجد الشرط وفاقده ، فانتفاء الشرط لا يضرّ بما هو المعتبر في جريان الاستصحاب من بقاء الموضوع ولو بالمسامحة العرفيّة.

وحيث إنّ بناء العرف عملا على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء ، وإجرائه في فاقد الشرط كشف عن فساد التوجيه الأوّل بالنسبة إلى فاقد الأجزاء مطلقا ، أي : كان الفاقد معظم الأجزاء أو غيره.

وذلك فإنّ التوجيه وإن كان صحيحا كما عرفت مع قطع النظر عن بناء العرف عملا على خلاف ذلك ، إلّا أنّ بناء العرف عملا على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد الأجزاء

١٨٣

وحيث إنّ بناء العرف على عدم إجراء الاستصحاب في فاقد معظم الأجزاء ، وإجرائه في فاقد الشرط كشف عن فساد التوجيه الأوّل.

وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكرّيّة دون الذات المتّصفة بها كشف عن صحّة الأوّل من الأخيرين ، وقد عرفت أنّه لو لا المسامحة العرفيّة في المستصحب وموضوعه لم يتمّ شيء من الوجهين.

____________________________________

وإجرائه في فاقد الشرط ، يكشف عن فساد التوجيه الأوّل في فاقد الأجزاء مطلقا.

بل يكشف عن فساد التوجيه الثالث ـ أيضا ـ مضافا إلى ما سيأتي في كلام المصنف من وجه الفساد ؛ لأن الاستصحاب على التوجيه الثالث يجري في فاقد معظم الأجزاء كما عرفت مع أنّ بناء العرف على عدم جريانه فيه.

وحيث إنّ بناءهم على استصحاب نفس الكريّة دون الذات المتّصفة بها في مسألة الشكّ في الكريّة لنقص مقدار من الماء.

وحاصل الكلام هو أنّ بناء العرف في تلك المسألة لمّا كان على استصحاب الوصف ـ أعني : الكريّة بعد إبقاء الموضوع بالمسامحة دون استصحاب الذات المتّصفة به ، أعني : الماء الكرّ ـ فلا محالة يكشف بناؤهم هذا عن صحّة التوجيه الثاني دون الثالث ، كما أشار إليه بقوله :

كشف عن صحّة الأوّل من الأخيرين ، لأن الأوّل من الأخيرين ـ أعني : التوجيه الثاني ـ يكون الاستصحاب فيه من قبيل استصحاب الكريّة ، والاستصحاب في التوجيه الثالث يكون من قبيل استصحاب وجود الماء الكرّ.

وبالجملة ، أنّه يصحّ استصحاب الوجوب النفسي المتعلّق بهذه الأجزاء كما في التوجيه الثاني لكونه من قبيل استصحاب الكريّة ، ولا يصحّ استصحاب الوجوب النفسي المتعلّق بالموضوع المجمل كما في التوجيه الثالث لكونه من قبيل استصحاب وجود الكرّ. وقد عرفت بناء العرف على إجراء الأوّل دون الثاني.

إلّا أن يقال : بأنّ عدم جريان التوجيه الثالث ليس لأجل كون بناء العرف على خلافه ، بل لأجل كون الأصل فيه مثبتا وهو ليس بحجّة على تقدير القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، كما ، أشار إليه بقوله :

١٨٤

وأمّا الوجه الثالث فهو مبنيّ على الأصل المثبت وستعرف بطلانه ، فتعيّن الوجه الثاني. لكنّ الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، إلّا أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّيّة من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق.

ثمّ إنّه لا فرق ، بناء على جريان الاستصحاب ، بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ، كما إذا زالت الشمس ، متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما إذا فقده قبل الزوال ، لأن المستصحب هو الوجوب النوعيّ المنجّز ـ على تقدير اجتماع شرائطه ـ لا الشخصيّ المتوقّف على تحقّق الشرائط فعلا ، نعم هنا أوضح. وكذا لا فرق ، بناء على عدم الجريان ، بين

____________________________________

وأمّا الوجه الثالث ، فهو مبنيّ على الأصل المثبت.

وكيف كان ، فقد عرفت أنّ التوجيهات المذكورة مبنيّة على المسامحة العرفيّة الراجعة إمّا إلى المستصحب كالتوجيه الأوّل أو إلى الموضوع كالثاني والثالث.

لكنّ الإشكال بعد في الاعتماد على هذه المسامحة العرفيّة المذكورة ، وذلك لعدم الجزم بتحقّق هذه المسامحة منهم.

إلّا أنّ الظاهر أنّ استصحاب الكرّيّة من المسلّمات عند القائلين بالاستصحاب ، والظاهر عدم الفرق بين استصحاب الكريّة واستصحاب الوجوب النفسيّ للأجزاء الباقية ، كما هو المفروض في المقام ، إذ في كليهما استصحاب الوصف مع الالتزام ببقاء الموضوع من جهة المسامحة العرفيّة ، فلا بدّ للقائل ـ بجريان استصحاب الكريّة ـ الالتزام بجريان استصحاب الوجوب النفسيّ للأجزاء الباقية لوجود المناط في كليهما.

ثمّ إنّه لا فرق ، بناء على جريان الاستصحاب ، بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف ، كما إذا زالت الشمس ، متمكّنا من جميع الأجزاء ففقد بعضها ، وبين ما إذا فقده قبل الزوال ، لأن المستصحب هو الوجوب النوعيّ المنجّز ـ على تقدير اجتماع شرائطه ـ لا الشخصيّ المتوقّف على تحقّق الشرائط فعلا.

وقول المصنّف قدس‌سره بعدم الفرق في جريان الاستصحاب بين تعذّر الجزء بعد تنجّز التكليف أو قبله ، دفع لتوهّم الفرق بين تعذّر الجزء بعد التنجّز وبين تعذّره قبل التنجّز بجريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني.

فلا بدّ أوّلا من وجه توهّم الفرق المذكور ، وثانيا من دفع التوهّم المذكور ، فنقول :

١٨٥

ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي ، وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال.

وربّما يتخيل : أنّه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني ، لأن وجوب الإتيان بذلك الجزء لم يكن إلّا لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا بعينه مقتض لوجوب الإتيان

____________________________________

إنّ حاصل وجه توهّم الفرق أنّ توجّه التكليف إلى المكلّف معلوم في صورة تنجّز التكليف بدخول الوقت ، فيشكّ في بقاء التكليف المذكور بعد عروض تعذّر بعض الأجزاء فيستصحب بقاؤه. وهذا بخلاف ما إذا حصل التعذّر قبل تنجّز التكليف بدخول الوقت ، إذ ـ حينئذ ـ يكون أصل توجّه التكليف إلى المكلّف مشكوكا ، فكيف يستصحب؟!.

وحاصل الدفع أنّ ما ذكر في التوهّم من الفرق مبنيّ على أن يكون المراد بالمستصحب هو التكليف الشخصي الفعلي ، وليس الأمر كذلك ، بل المراد منه هو الوجوب النوعي ، وهذا القسم من التكليف يتوجّه قبل دخول الوقت إلى نوع المكلّفين.

غاية الأمر يكون تنجّزه معلّقا على اجتماع الشرائط من الوقت وغيره. والوجود التعليقي نوع من الوجود ، قابل للاستصحاب ، وهو المستصحب في المقام ، لا التكليف المنجّز الشخصيّ ، كي يقال أنّه مشكوك.

فالحاصل أنّه لا فرق بناء على جريان الاستصحاب بين تعذّر الجزء قبل تنجّز التكليف أو بعده.

نعم هنا أوضح ، أي : جريان الاستصحاب في فرض حصول التعذّر بعد تنجّز التكليف بدخول الوقت أوضح.

وكذا لا فرق ، بناء على عدم الجريان ، بين ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي ، كما إذا فرض قيام الإجماع على جزئيّته ، وبين ثبوتها بقاعدة الاشتغال ، كما إذا فرض الشكّ في جزئيّة السورة للصلاة ، ثمّ حكم بجزئيّتها باشتغال الذمّة مع الصلاة بدونها. وربّما يتخيّل أنّه لا إشكال في الاستصحاب في القسم الثاني ، وهو ما ثبتت جزئيّته بقاعدة الاشتغال.

لأن وجوب الإتيان بذلك الجزء لم يكن إلّا لاستصحاب التكليف المقتضي لوجوب الخروج عن عهدة التكليف ، وهذا ـ أعني : الاستصحاب المقتضي لوجوب الخروج ـ

١٨٦

بالباقي بعد تعذّر الجزء.

وفيه : ما تقدّم من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل ، لا بالاستصحاب ، والاستصحاب لا ينفع إلّا بناء على الأصل المثبت. ولو قلنا به لم يفرّق بين

____________________________________

بعينه مقتض لوجوب الإتيان بالباقي بعد تعذّر الجزء.

وذلك فإنّ المفروض أنّ مدرك قاعدة الاشتغال عند المتخيّل هو الاستصحاب وهو بعينه موجود في صورة تعذّر الجزء. نعم لا يجري الاستصحاب على فرض ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهاديّ ، لما مرّ غير مرّة من أنّ المتيقّن قبل تعذّر الجزء هو وجوب الأجزاء الباقية بالوجوب الغيري وهو قد انتفى ، والوجوب النفسي لها مشكوك الحدوث ، فكيف يستصحب؟!.

ثمّ عدم جريان الاستصحاب على فرض ثبوت جزئيّة المفقود بالدليل الاجتهادي لا يحتاج إلى الجواب ؛ لأن المفروض هو عدم جريان الاستصحاب مطلقا ، وإنّما المحتاج إلى الجواب هو جريان الاستصحاب على تقدير ثبوت جزئيّة المفقود بقاعدة الاشتغال ، ولهذا أشار إليه بقوله :

وفيه : ما تقدّم من أنّ وجوب الخروج عن عهدة التكليف بالمجمل إنّما هو بحكم العقل ، لا بالاستصحاب.

وحاصل الجواب أنّ ما ذكر من جريان الاستصحاب في صورة ثبوت جزئيّة المفقود بقاعدة الاشتغال مبنيّ على أن يكون مدرك قاعدة الاشتغال هو الاستصحاب ، كما عرفت وليس الأمر كذلك.

بل التحقيق هو أنّ مدرك قاعدة الاشتغال هو حكم العقل بالاشتغال من باب دفع الضّرر المحتمل ، وهذا الحكم منه بعينه موجود عند تعذّر بعض الأجزاء من دون حاجة إلى الاستصحاب أصلا.

والاستصحاب لا ينفع إلّا بناء على الأصل المثبت ، وذلك لما مرّ في مسألة دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر ، من أنّ وجوب الإتيان بالأكثر لا يثبت باستصحاب التكليف ، لأنه أصل مثبت ، بل يثبت بقاعدة الاشتغال للشكّ في المكلّف به أنّه الأقلّ أو الأكثر ، وهي لا تجري في المقام عند الشكّ في وجوب الباقي ، لأن الشكّ في وجوب الباقي شكّ في

١٨٧

ثبوت الجزء بالدليل أو بالأصل ، لما عرفت من جريان استصحاب بقاء أصل التكليف.

وإن كان بينهما فرق من حيث إنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّيّ المتحقّق سابقا في ضمن فرد معيّن ، بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن ،

____________________________________

التكليف ، لا في المكلّف به.

ولو قلنا به لم يفرّق بين ثبوت الجزء بالدليل أو بالأصل.

أي : لو قلنا باعتبار الأصل المثبت ، يجري استصحاب التكليف في جميع الموارد الثلاثة ، أعني : في باب الأقلّ والاكثر ، وفي مورد تعذّر الجزء الثابت بقاعدة الاشتغال ، وفي مورد تعذّر الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي.

أمّا في الأوّل ، فبأن يقال : إنّا لنعلم أنّ الوجوب تعلّق بالأقلّ أو بالأكثر ، فيستصحب بقاء الوجوب بعد إتيان الأقلّ ، ويثبت به أنّ الواجب هو الأكثر.

وأمّا في الثاني ، فبأن يقال : إنّا لا نعلم أنّ الوجوب تعلّق من الأوّل بهذه الأجزاء الباقية التي يتمكّن المكلّف من الإتيان بها ، أو تعلّق بها مع السورة ، وعلى التقدير الثاني وجبت السورة مطلقا حتى يسقط التكليف بتعذّرها ، أو عند التمكّن حتى يجب الباقي ، فيستصحب كلّي الوجوب ويثبت به وجوب الباقي.

وأمّا في الثالث ، فإن يقال : إنّه كان باقي الأجزاء واجبا مقدّمة للكلّ عند التمكّن من السورة ، ويحتمل كونها واجبا نفسيّا عند تعذّرها ، فيستصحب مطلق الوجوب المشترك بين النفسي والمقدّمي ، ويثبت به وجوب الباقي بالوجوب النفسي. كما في شرح الاعتمادي مع تصرّف منّا.

وإن كان بينهما أي : بين استصحاب التكليف في باب الأقلّ والأكثر واستصحاب التكليف عند تعذّر الجزء الثابت بالدليل الاجتهادي فرق من حيث إنّ استصحاب التكليف في المقام من قبيل استصحاب الكلّي ـ القسم الثالث وهو استصحاب الكلّي المتحقّق سابقا في ضمن فرد معيّن ، بعد العلم بارتفاع ذلك الفرد المعيّن.

فإنّ استصحاب كلّي الوجوب ـ مع تردّده بين المقدّمي المرتفع قطعا والنفسي المشكوك حدوثه ـ نظير استصحاب الإنسان المردّد بين زيد المرتفع قطعا ، وعمرو المشكوك حدوثه مكان زيد ، كما في شرح الاعتمادي.

١٨٨

وفي استصحاب الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّيّ المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي.

وقد عرفت عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، إلّا في بعض مواردها بمساعدة العرف.

ثمّ اعلم أنّه نسب إلى الفاضلين قدس‌سرهما التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة وفي مسألة الأقطع. والمذكور في المعتبر والمنتهى : «الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق ، إنّ غسل الجميع بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فاذا زال البعض لم بسقط الآخر». انتهى.

____________________________________

وفي استصحاب الاشتغال في باب الأقلّ والأكثر ، وعند تعذّر الجزء الثابت بقاعدة الاشتغال من قبيل استصحاب الكلّي ـ القسم الثاني وهو استصحاب الكلّي ـ المتحقّق في ضمن المردّد بين المرتفع والباقي.

نظير استصحاب الحيوان المردّد بين كونه عصفورا لا يعيش إلّا سنة مثلا ، وغنما يعيش عشر سنين مثلا ، كما في شرح الاعتمادي.

وقد عرفت في التنبيه الأوّل جريان الاستصحاب في القسم الثاني من استصحاب الكلّي ، إلّا أنّه لا يثبت به الخصوصيّة ، إلّا على القول بالأصل المثبت.

عدم جريان الاستصحاب في الصورة الاولى ، أي : في القسم الثالث من استصحاب الكلّي.

إلّا في بعض مواردها بمساعدة العرف ، وهو ما إذا كان الفرد اللّاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، كما مرّ في مثال السواد ، وكما في ما نحن فيه ، فإنّه يصحّ استصحاب الكلّي في هذه الموارد ، إلّا أنّه لا يثبت به خصوص الفرد اللّاحق إلّا على القول بالأصل المثبت أو فرض خفاء الواسطة ، كما مرّ احتماله ، على ما في شرح الاعتمادي.

ثمّ اعلم أنّه نسب إلى الفاضلين قدس‌سرهما التمسّك بالاستصحاب في هذه المسألة ، أعني : مسألة تعذّر الجزء وفي مسألة الأقطع الذي قطعت يده.

والمذكور في المعتبر والمنتهى ـ والأوّل للمحقّق والثاني للعلّامة قدس‌سرهما ـ : الاستدلال على وجوب غسل ما بقي من اليد المقطوعة ممّا دون المرفق بحيث بقي شيء من محلّ الغسل ،

١٨٩

وهذا الاستدلال يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ، ولذا أبدله في الذكرى بنفس القاعدة ، ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب ، بأن يراد منه هذا الموجود بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب ، فإذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي والأصل عدمه.

أو لم يسقط بحكم الاستصحاب ، ويحتمل أن يراد به التمسّك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع ، لكنّه ضعيف احتمالا ومحتملا.

____________________________________

إنّ غسل الجميع ، أي : جميع اليد بتقدير وجود ذلك البعض واجب ، فإذا زال البعض لم يسقط الآخر. انتهى.

وهذا الاستدلال له ثلاثة محامل ، على ما في شرح الاعتمادي :

أحدها : التمسّك بالقاعدة المستفادة من الأخبار الواردة في خصوص باب تعذّر بعض الشيء.

ثانيها : التمسّك بالأصل العملي.

ثالثها : التمسّك بالأصل اللفظيّ ، كما قال : يحتمل أن يراد منه مفاد قاعدة (الميسور لا يسقط بالمعسور) ، ولذا أبدله ، أي : الاستدلال ، الشهيد الأوّل في الذكرى بنفس القاعدة.

حيث قال : يجب غسل الباقي ؛ لأن الميسور لا يسقط بالمعسور.

ويحتمل أن يراد منه الاستصحاب ، بأن يراد منه هذا الموجود ، أي : بقية اليد بتقدير وجود المفقود في زمان سابق واجب ، فاذا زال البعض لم يعلم سقوط الباقي والأصل عدمه ، أي : عدم السقوط ، فيكون التمسّك حينئذ بالأصل العدمي.

أو لم يسقط بحكم الاستصحاب ، فيكون التمسّك حينئذ بالأصل الوجودي.

ويحتمل أن يراد به التمسّك بعموم ما دلّ على وجوب كلّ من الأجزاء من غير مخصّص له بصورة التمكّن من الجميع.

بمعنى أنّ الشارع أمر مثلا بغسل اليد اليمنى بنحو العموم ، أي : لا في خصوص صورة التمكّن من غسل الجميع.

لكنّه ضعيف احتمالا ومحتملا.

أمّا ضعفه بحسب الاحتمال ، فلأن الظاهر من كلماتهم هو التمسّك بقاعدة (الميسور

١٩٠

____________________________________

لا يسقط بالمعسور). نعم ، لا يبعد إرادتهما الاستصحاب ، ولا تساعد عبارتهما إرادة التمسّك بالعام.

أمّا ضعفه محتملا ، فلعدم الدليل في جميع الموارد بالنسبة إلى الباقي حتى يؤخذ بعمومه أو إطلاقه ، مع أنّ دليل وجوب الجزء تبعي غيري لذي المقدّمة ، أعني : وجوب الكلّ ، ومع وجوب الكلّ ، كما هو المفروض لا معنى لبقاء وجوب الجزء الذي هو تابع له. نعم ، لو كان الدليل الدالّ على وجوب الكلّ عامّا أو مطلقا شاملا لما وجد فيه جميع الأجزاء وما فقد فيه بعضها ، لكان للتمسّك بالعموم أو الإطلاق ـ حينئذ ـ مجال ، على ما في شرح التنكابني مع تلخيص منّا. هذا تمام الكلام في الامر الحادي عشر.

١٩١

الأمر الثاني عشر

إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة.

ويدلّ عليه وجوه :

الأوّل : الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

الثاني : إنّ المراد بالشكّ في الروايات معناه اللغوي ، وهو خلاف اليقين ، كما في الصحاح.

____________________________________

الأمر الثاني عشر : والغرض من البحث في هذا الأمر ـ الثاني عشر ـ هو بيان ما هو المراد من الشكّ المأخوذ في الاستصحاب ، هل هو الشكّ بمعنى تساوي الطرفين ، أو بمعنى اللّغوي ، أعني : عدم اليقين الشامل للظنّ غير المعتبر؟

فيكون المراد باليقين حينئذ هو الأعمّ من اليقين الوجداني كالعلم ، واليقين التعبّدي كالظنّ المعتبر. وما يظهر من المصنّف قدس‌سره هو المعنى الثاني ، أعني : المراد من الشكّ هو خلاف اليقين. حيث قال :

إنّه لا فرق في احتمال خلاف الحالة السابقة بين أن يكون مساويا لاحتمال بقائه أو راجحا عليه بأمارة غير معتبرة ، فيجري الاستصحاب حتى في صورة الظنّ غير المعتبر على خلاف الحالة السابقة. ثمّ يشير إلى ما يدلّ على كون المراد من الشكّ هو خلاف اليقين بقوله :

ويدلّ عليه وجوه : الأوّل : الإجماع القطعي على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

ومقتضى الإجماع على القول باعتبار الاستصحاب من باب الأخبار هو الرجوع إلى الاستصحاب حتى مع قيام الظنّ غير المعتبر على خلاف الحالة السابقة فضلا عن صورة تساوي الاحتمالين ؛ لأن الظاهر ، بل المقطوع عدم اعتبار حصول الظنّ من الاستصحاب على القول باعتباره من باب الأخبار ، إلّا أن يقال بمنع حصول الإجماع في المقام ، إذ ليست هذه المسألة معنونة في كلمات جميع من قال بحجّيّة الاستصحاب من باب الأخبار.

الثاني : إنّ المراد بالشكّ في الروايات معناه اللغوي ، وهو خلاف اليقين ، فيشمل الشكّ

١٩٢

ولا خلاف فيه ظاهرا.

ودعوى : «انصراف المطلق في الروايات إلى معناه الأخص ، وهو الاحتمال المساوي» لا شاهد لها ، بل يشهد بخلافها ـ مضافا إلى تعارف إطلاق الشكّ في الأخبار على المعنى الأعمّ ـ موارد من الأخبار :

منها : مقابلة الشكّ باليقين في جميع الأخبار.

ومنها : قوله في صحيحة زرارة الاولى : (فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به) (١) ، فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم.

____________________________________

معنى تساوي الطرفين والظنّ والوهم ، كما في الصحاح ، ولا خلاف فيه ، أي : لا خلاف في كون الشكّ لغة خلاف اليقين ؛ لأنه هو المتعارف في لغة العرب ، وجعل الظنّ مقابلا للشكّ واليقين اصطلاح مستحدث.

ودعوى : «انصراف المطلق في الروايات إلى معناه الأخص ، وهو الاحتمال المساوي» لا شاهد لها ؛ لأن استعماله فيه في كلام الشارع لم يقع إلّا نادرا ما ، كما في شكوك الصلاة على ما في شرح الاعتمادي.

بل يشهد بخلافها ـ مضافا إلى تعارف إطلاق الشكّ في الأخبار على المعنى الأعمّ ـ موارد من الأخبار الواردة في باب الاستصحاب.

منها : مقابلة الشكّ باليقين في جميع الأخبار ، وظاهر المقابلة هو التناقض بين الشكّ واليقين ، فيكون المراد من الشكّ عدم اليقين.

ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الاولى ـ الواردة في الحكم ببقاء الوضوء إلى اليقين بالنوم ـ : (فإن حرّك إلى جنبه شيء وهو لا يعلم به) ، فإنّ ظاهره فرض السؤال فيما كان معه أمارة النوم ، وهو حصول الظنّ بالنوم ؛ لأن عدم الشعور إلى حركة الشيء يفيد الظنّ بأنّه نام ، ومع ذلك حكم عليه‌السلام بالاستصحاب ، فيكون هذا الحكم شاهدا على جريان الاستصحاب في مورد الظنّ بارتفاع الحالة السابقة ، وهو المطلوب.

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

١٩٣

ومنها : قوله عليه‌السلام : (لا ، حتى يستيقن) (١) ، حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ومجيء أمر بيّن منه.

ومنها : قوله عليه‌السلام : (ولكن ينقضه بيقين آخر) (٢) ، فإنّ الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين باليقين.

ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الثانية : (فلعلّه شيء اوقع عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشّكّ) (٣) ، فإنّ كلمة «لعلّ» ظاهرة في مجرّد الاحتمال ، خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك ، كما في المقام ، فيكون الحكم متفرّعا عليه.

____________________________________

ومنها : قوله عليه‌السلام : (لا ، حتى يستيقن) ، حيث جعل غاية وجوب الوضوء الاستيقان بالنوم ومجيء أمر بيّن منه ، فيكون الظنّ كالشكّ بمعنى تساوي الاحتمالين والوهم داخلا في المغيّا ، فيحكم ببقاء الوضوء ما لم يحصل اليقين بالنوم وإن حصل الظنّ به ، وهو المطلوب.

ومنها : قوله عليه‌السلام : (ولكن ينقضه بيقين آخر) ، فإنّ الظاهر سوقه في مقام بيان حصر ناقض اليقين باليقين ، فلا يجب الوضوء ما لم يحصل اليقين بالنوم.

ومنها : قوله عليه‌السلام في صحيحة زرارة الثانية : (فلعلّه شيء أوقع عليك ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ) ، فإنّ كلمة «لعلّ» ظاهرة في مجرّد الاحتمال ولو كان احتمالا راجحا ، فيشمل الظنّ والشكّ والوهم.

غاية الأمر تارة : تكون كلمة «لعلّ» واردة في مقام الترجّي ، كما تقول للمريض : اشرب الدواء الفلاني لعلّه ينفعك.

واخرى : في مقام إبداء الاحتمال ، كما أشار إليه بقوله : خصوصا مع وروده في مقام إبداء ذلك ، أي : الاحتمال كما في المقام ، لأنّ غرض الإمام عليه‌السلام هو إبداء الاحتمال.

ومفاد الرواية أنّ رؤية الدّم في الثوب بعد الصلاة لا ينبغي أن يفيد القطع بوقوع الصلاة في النجس ، إذ يحتمل وقوعه بعد الصلاة.

فيكون الحكم متفرّعا عليه ، أي : فيكون حكم الإمام ببقاء الطهارة متفرّعا على مجرّد

__________________

(١) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٢) التهذيب ١ : ٨ / ١١ ، الوسائل ١ : ٢٤٥ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ١.

(٣) التهذيب ١ : ٤٢١ / ١٣٣٥ ، الوسائل ٣ : ٤٦٦ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ١.

١٩٤

ومنها : تفريع قوله عليه‌السلام : (صم للرّؤية وافطر للرّؤية) (١) على قوله عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشّكّ) (٢).

الثالث : إنّ الظنّ الغير المعتبر إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وإنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه ، فهو المترتّب على تقدير وجوده ، وإن كان ممّا شكّ في اعتباره ، فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل جدّا.

____________________________________

الاحتمال.

ومنها : تفريع قوله عليه‌السلام : (صم للرّؤية وافطر للرّؤية) على قوله عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ) ، فإنّ ظاهر التفريع المذكور في أنّ المراد هو أنّ اليقين لا يدخله غير اليقين سواء كان ظنّا أو شكّا أو وهما. وتفصيل البحث في هذه الرواية قد تقدّم ، فراجع.

الثالث : إنّ الظنّ الغير المعتبر الدالّ على ارتفاع الحالة السابقة إن علم بعدم اعتباره بالدليل ، كالظنّ الحاصل من القياس وخبر الفاسق.

فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وإنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه ، فهو المترتّب على تقدير وجوده.

بمعنى أنّ الاستصحاب ، كما يجري مع انتفاء الظنّ الحاصل من القياس مثلا ، كذلك يجري مع وجوده على خلاف الحالة السابقة.

وإن كان ممّا شكّ في اعتباره ، أي : إن كان الظنّ ممّا شكّ في اعتباره بأن لم يدلّ الدليل على عدم اعتباره ، كالظنّ الحاصل من الشهرة مثلا ، فيجري الاستصحاب في مورده من دون إشكال ؛ لأن رفع اليد عن اليقين بالحكم بهذا الظنّ نقض لليقين بالشكّ ، كما أشار إليه بقوله :

فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشكّ.

فإذا تنجّس الماء بالتغيّر ثمّ زال تغيّره بنفسه فكما أنّه لو شكّ في بقاء النجاسة من دون أمارة في البين يكون رفع اليد عن المتيقّن السابق نقضا لليقين بالشكّ ، فكذا إذا ظنّ بزوال

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٥٩ / ٤٤٥ ، الوسائل ١٠ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٣ ، ح ١٣.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٩ / ٤٤٥ ، الوسائل ١٠ : ٢٥٥ ـ ٢٥٦ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٣ ، ح ١٣.

١٩٥

هذا كلّه على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار ، وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم أنّه لا يقدح فيه ـ أيضا ـ وجود الأمارة الغير المعتبرة ، فتكون العبرة فيه عندهم بالظنّ النوعي وإن كان الظنّ الشخصي على خلافه. ولذا تمسّكوا به في مقامات غير محصورة على الوجه الكلّيّ من غير التفات إلى وجود الأمارات الغير المعتبرة في خصوصيّات الموارد.

واعلم : إنّ الشهيد قدس‌سره في الذكرى ـ بعد ما ذكر مسألة الشكّ في تقدّم الحدث على الطهارة ـ قال :

____________________________________

الحالة السابقة بسبب الشهرة ، فإنّه وإن كان نقضا لليقين بالظنّ من جهة إفادة الشهرة الظنّ ، إلّا أنّه نقض لليقين بالشكّ من جهة الشكّ في اعتباره ، على ما في شرح الاعتمادي.

فتأمّل جدّا لعلّه إشارة إلى أنّ عدم إجراء الاستصحاب في مورد الظنّ المشكوك اعتباره مستلزم لرفع اليد عمّا هو متيقّن الحجّيّة ، أعني : الاستصحاب بما هو مشكوك الحجّيّة ، أعني : الظنّ وهو قبيح.

أو إشارة إلى ما في شرح الاعتمادي ، من أنّ صدق نقض اليقين بالشكّ في صورة وجود الظنّ غير المعتبر موقوف على كون الشكّ في أخبار الاستصحاب بالمعنى الأعمّ وهو أوّل الدعوى.

هذا كلّه على تقدير اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد المستنبط من الأخبار ، وأمّا على تقدير اعتباره من باب الظنّ الحاصل من تحقّق المستصحب في السابق ، فظاهر كلماتهم أنّه لا يقدح فيه ـ أيضا ـ وجود الأمارة الغير المعتبرة على ارتفاع الحالة السابقة ؛ لأن اعتبار الاستصحاب ـ حينئذ ـ يكون من باب الظنّ النوعي ، أعني : إفادة الاستصحاب الظنّ في نوع موارده لنوع من المكلّفين ، فلا ينافي حصول الظنّ غير المعتبر بالخلاف في بعض الموارد ، كما أشار إليه بقوله :

فتكون العبرة فيه عندهم بالظنّ النوعي وإن كان الظنّ الشخصي على خلافه.

فلا فرق في جريان الاستصحاب بين اعتباره من باب التعبّد وبين اعتباره من باب الظنّ ، إلّا أنّ الفرق بينهما من جهة اخرى وهي أنّ الثاني له نظر إلى الواقع بخلاف الأوّل.

واعلم : إنّ الشهيد قدس‌سره في الذكرى ـ بعد ما ذكر مسألة الشكّ في تقدّم الحدث على

١٩٦

«تنبيه : قولنا «اليقين لا يرفعه الشكّ» لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ، لامتناع ذلك ، ضرورة أنّ الشكّ في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر. بل المعنيّ به أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه بالشكّ في الزمان الثاني ، لأصالة بقاء ما كان على ما كان ، فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد ، فيرجّح الظنّ عليه ، كما هو مطّرد في العبادات وغيرها». انتهى.

ومراده من الشكّ معناه اللغوي ، وهو مجرّد الاحتمال المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان. فلا يرد ما اورد عليه من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ.

____________________________________

الطهارة ـ قال : تنبيه : معنى قولنا «اليقين لا يرفعه الشكّ» لا نعني به اجتماع اليقين والشكّ في زمان واحد ، لامتناع ذلك ، ضرورة أنّ الشكّ في أحد النقيضين يرفع يقين الآخر.

فإنّ احتمال انتفاء الحياة يرفع اليقين بها قطعا ، إذ اليقين ينافي احتمال الخلاف.

بل المعنيّ به أنّ اليقين الذي كان في الزمن الأوّل لا يخرج عن حكمه.

أي : عن كونه طريقا إلى ما كان طريقا إليه.

لأصالة بقاء ما كان على ما كان حيث يفيد الأصل المذكور الظنّ بالبقاء.

فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ في الزمان الواحد بعد إجراء أصالة بقاء ما كان على ما كان المفيد للظنّ بالبقاء ، فيرجّح الظنّ عليه أي : الشكّ كما هو مطّرد في العبادات ، كما في شكوك الصلاة مثلا. انتهى كلام الشهيد قدس‌سره في الذكرى.

ومراده من الشّك معناه اللغوي ، أي : خلاف اليقين الشامل للوهم ، كما أشار إليه بقوله :

وهو مجرّد الاحتمال الصادق على الوهم المنافي لليقين ، فلا ينافي ثبوت الظنّ الحاصل من أصالة بقاء ما كان ، فلا يرد ما اورد عليه من أنّ الظنّ كاليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ.

وحاصل الإيراد على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الشهيد قدس‌سره بعد ما ذكر امتناع اجتماع اليقين والشكّ ، حكم باجتماع الظنّ والشكّ ، والحال أنّه ـ أيضا ـ ممتنع.

١٩٧

نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه : إنّ الشهيد قدس‌سره ، في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : «اليقين لا يرفعه الشّكّ» ، ولا ريب أنّ الشكّ الذي حكم بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه الاحتمال الموهوم.

لأنه إنّما يصير موهوما بعد ملاحظة بقاء أصالة بقاء ما كان ، نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب ، فإنّه يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة.

____________________________________

وحاصل الجواب أنّ مراده من الشكّ المجامع مع الظنّ هو الوهم لا الاحتمال المتساوي ، وما هو اجتماعه مع الظنّ ممتنع هو الشكّ بمعنى تساوي الطرفين لا الشكّ بمعنى الوهم.

نعم ، يرد على ما ذكرنا من التوجيه : إنّ الشهيد قدس‌سره ، في مقام دفع ما يتوهّم من التناقض المتوهّم في قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ».

حيث يتوهّم منه جواز اجتماع اليقين مع الشكّ وهو من التناقض.

ولا ريب أنّ الشكّ الذي حكم بأنّه لا يرفع اليقين ، ليس المراد منه الاحتمال الموهوم ، بل هو الشكّ بمعنى تساوي الطرفين. غاية الامر أحد الطرفين يصير موهوما بعد ملاحظة أصالة بقاء ما كان على ما كان.

والحاصل أنّ الشكّ في كلام الشهيد ـ حيث قال : «فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ» ـ هو عين الشكّ في كلام القوم : «اليقين لا يرفعه الشكّ».

غاية الأمر يكون هذا الكلام من الشهيد دفعا للتناقض المتوهّم في كلامهم ، فكأنّه قال : إنّ الاجتماع ليس هو بين الشكّ واليقين وإنّما هو بين الشكّ والظنّ فيرد عليه أنّ الشكّ كما لا يجوز اجتماعه مع اليقين لا يجوز اجتماعه مع الظنّ أيضا ، إذ ليس مرادهم من الشكّ هو خصوص الاحتمال الموهوم المجامع مع الظنّ كما تقدّم في التوجيه.

لأنه إنّما يصير موهوما بعد ملاحظة بقاء أصالة بقاء ما كان.

بمعنى أنّ الشكّ يكون في أوّل حدوثه متساوي الطرفين وبعد ملاحظة الحالة السابقة يصير موهوما ، فمرادهم من الشكّ هو الأعمّ من الاحتمال الموهوم والمتساوي ، كما في شرح الاعتمادي.

نظير المشكوك الذي يراد إلحاقه بالغالب ، فإنّه يصير مظنونا بعد ملاحظة الغلبة.

١٩٨

وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ، كما ذكره المدقّق الخوانساري ، فلا يندفع به توهّم اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل للثاني وإرادة اليقين السابق. والشكّ اللّاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشكّ.

____________________________________

فإذا كان اكثر أهل السوق مسلمين وبعضهم كفّارا ، فمجهول الحال يكون في بادئ الأمر مشكوكا بالتساوي ، وبعد ملاحظة غلبة المسلمين يصير إسلامه مظنونا وكفره موهوما.

وبالجملة ، إنّ مرادهم من الشكّ هو تساوي الاحتمالين ، فمراد الشهيد ـ أيضا ـ هو ذلك وحينئذ يرد ما ذكرنا من أنّ الظنّ كاليقين لا يجتمع مع الشكّ.

فما ذكره الشهيد قدس‌سره من رجوع الأمر إلى اجتماع الظنّ والشكّ لا يرجع إلى محصّل صحيح ؛ لأن ذلك كان مبنيّا على جعل الشكّ بمعنى الاحتمال الموهوم وهو خلاف ظاهر كلام القوم.

نعم ، يمكن توجيه كلام الشهيد بحيث لا يرد عليه شيء بأن يقال : إنّ المراد من الشكّ في كلا الموضعين بمعنى خلاف اليقين بعد رفع التناقض المتوهّم من جهة اجتماع الشكّ واليقين بتعدّد زمان الشكّ واليقين.

غاية الأمر تحقّق الكلّي في الموضع الأوّل في ضمن الاحتمال المساوي أو الأعمّ منه ومن الاحتمال

الموهوم ، وفي الموضع الثاني ـ أعني : «فيؤول إلى اجتماع الظنّ والشكّ» ـ في ضمن الاحتمال الموهوم ، إلّا أنّ التناقض المتوهّم من اجتماع اليقين والشكّ في كلامهم لا يعالج بحمل الشكّ على الوهم ، كما صنع الخوانساري. على ما أشار إليه بقوله :

وعلى تقدير إرادة الاحتمال الموهوم ، كما ذكره المدقّق الخوانساري ، فلا يندفع به توهّم اجتماع الوهم واليقين المستفاد من عدم رفع الأوّل للثاني.

مع أنّ اجتماع الوهم واليقين ممتنع ، فلا بدّ في علاج التناقض من الالتزام بتعدّد زمان الشكّ واليقين ، بأن يكون زمان اليقين قبل زمان الشكّ ، ومعه لا حاجة إلى حمل الشكّ بمعنى الوهم ، كما أشار إليه بقوله :

وإرادة اليقين السابق. والشكّ اللّاحق يغني عن إرادة خصوص الوهم من الشكّ ، فإيراد عدم جواز اجتماع اليقين مع الشكّ بأيّ معنى كان في محلّه ، كما أشار إليه بقوله :

١٩٩

وكيف كان ، فما ذكره المورد ـ من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ مطلقا ـ في محلّه ، فالاولى أن يقال : إنّ قولهم : «اليقين لا يرفعه الشكّ» لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ، إلّا من حيث الحكم في تلك القضيّة بعدم الرفع. ولا ريب أنّ هذا ليس إخبارا عن الواقع ، لأنه كذب ، وليس حكما شرعيا بإبقاء نفس اليقين أيضا ، لأنه غير معقول ، وإنّما هو حكم شرعي ، لعدم رفع آثار اليقين السابق بالشكّ اللّاحق ، سواء كان احتمالا متساويا أو مرجوحا.

____________________________________

وكيف كان ، فما ذكره المورد ـ من اشتراك الظنّ واليقين في عدم الاجتماع مع الشكّ مطلقا ـ في محلّه.

أي : سواء كان مرادهم ومراد الشهيد من الشكّ مطلق الاحتمال أو خصوص الاحتمال الموهوم ، أو كان مرادهم منه مطلق الاحتمال ، ومراده الاحتمال الموهوم ، فإيراد المورد في محلّه. وعلى الشهيد تقييد الشكّ بالاحتمال الموهوم لو كان مراده منه ذلك.

فالاولى أن يقال : إنّ قولهم : اليقين لا يرفعه الشكّ لا يوهم التناقض ، كي يحتاج إلى التوجيه ، إذ لا دلالة فيه على اجتماعهما في زمان واحد ، إلّا من حيث الحكم في تلك القضيّة بعدم الرفع ، أعني : اليقين لا يرفعه الشكّ.

ولا ريب أنّ هذا ليس إخبارا عن الواقع ، لأنه كذب ، وليس حكما شرعيّا بإبقاء نفس اليقين أيضا ، لأنه غير معقول ، لأنه تعبّد بالأمر الوجداني ، كما في شرح الاعتمادي.

وإنّما هو حكم شرعي ، لعدم رفع آثار اليقين السابق بالشكّ اللّاحق ، سواء كان احتمالا متساويا أو مرجوحا. هذا تمام الكلام في تنبيهات الاستصحاب.

٢٠٠