دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

من الزمان ، فالأصل عدم انقطاعه.

وكذا لو شكّت في اليأس فرأت الدم ، فإنّه قد يقال باستصحاب الحيض نظرا إلى كون الشكّ في انقضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر.

وحاصل وجه الاستصحاب ملاحظة كون الشكّ في استمرار الأمر الواحد الذي اقتضاه السبب الواحد ، وإذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلّا ، فالأصل عدم الزائد على المتيقّن وعدم حدوث سببه.

ومنشأ اختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه الموارد اختلاف أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمرّ حادثا واحدا أو حوادث متعدّدة.

____________________________________

(نظرا إلى أنّ الشكّ في اقتضاء طبيعة الرحم لقذف الدم في أيّ مقدار من الزمان ، فالأصل عدم انقطاعه ، وكذا لو شكّت في اليأس فرأت الدم) ، فشكّ في أنّه حيض أو غيره ، (فإنّه قد يقال باستصحاب الحيض نظرا إلى كون الشكّ في انقضاء ما اقتضته الطبيعة من قذف الحيض في كلّ شهر).

وحاصل الكلام في هذا المقام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ مجموع ما تبتلى به المرأة من الحيض في كلّ شهر مرّة مثلا إلى زمن اليأس يعدّ أمرا واحدا لوحدة المنشأ وهو اقتضاء الطبيعة لذلك في مدّة من العمر ، فالشكّ في حيضيّة الدم ناشئ عن الشكّ في مقدار الاقتضاء ، كالشكّ في مقدار اقتضاء الحيوان للبقاء ، فيجري الاستصحاب عند من يقول بحجيّته في الشكّ في المقتضى.

(وحاصل وجه الاستصحاب ملاحظة كون الشكّ في استمرار الأمر الواحد) وهو الحيض في أيّام معدودة ، والحيض إلى مدّة من العمر على ما في شرح الاعتمادي ، (الذي اقتضاه السبب الواحد ، وإذا لوحظ كلّ واحد من أجزاء هذا الأمر حادثا مستقلّا) بأن يقال سيلان دم الحيض ثلاثة أيّام مثلا حادث مستقلّ ، وعوده ثانيا حادث آخر ، وكذا الحيض في شهر حادث مستقلّ ، وفي شهر آخر حادث آخر.

(فالأصل عدم الزائد) جواب لقوله : (وإذا لوحظ ... إلى آخره).

(ومنشأ اختلاف بعض العلماء في إجراء الاستصحاب في هذه الموارد اختلاف أنظارهم في ملاحظة ذلك المستمرّ حادثا واحدا أو حوادث متعدّدة) فمن يرى حادثا واحدا مستمرا

٤٦١

والإنصاف : وضوح الوحدة في بعض الموارد وعدمها في بعض ، والتباس الأمر في ثالث. والله الهادي إلى سواء السبيل ، فتدبّر.

وأمّا القسم الثالث ـ وهو ما كان مقيّدا بالزمان ـ فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه.

____________________________________

يجري الاستصحاب ، ومن يرى حوادث متعدّدة لا يقول بالاستصحاب.

(والإنصاف : وضوح الوحدة في بعض الموارد) ، كتكلّم الواعظ في منبر واحد وجريان دم الحيض بلا انقطاع مثلا(وعدمها في بعض) ، أي : عدم الوحدة في بعض الموارد الأخر ، كتكلّم الواعظ في منبرين.

(والتباس الأمر في ثالث) ، كرؤية الدم في كلّ شهر وعوده ثانيا ، ومقتضى القاعدة هو جريان الاستصحاب في الأول دون الآخرين ؛ لأن مناط الاستصحاب هو إحراز الموضوع ولا يحرز في التدريجات إلّا باعتبار الوحدة ، وهو في الأوّل ثابت وفي الثاني والثالث منفيّ ، ومقتضى الأصل فيهما عدم الحدوث.

(فتدبّر) لعلّه إشارة إلى أنّ الشكّ في بعض الأمثلة المذكورة كمثال الحيض مثلا شكّ في المقتضي فلا يجري الاستصحاب على مذهب المصنّف قدس‌سره.

هذا تمام الكلام في المقام الثاني أو القسم الثاني.

وقد أشار إلى المقام الثالث بقوله :

(وأمّا القسم الثالث ـ وهو ما كان مقيّدا بالزمان ـ فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه) ؛ لأنّ أخذ الزمان قيدا للموضوع موجب لتعدّد الموضوع ، فلا يجري الاستصحاب ، إذ تحقّق الاستصحاب مبني على وحدة الموضوع ، وتفصيل الكلام في المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي هو أنّ للشكّ في البقاء من جهة الزمان ثلاث صور :

أحدها : أن يكون ثبوت الحكم في زمن متيقّنا وفي الزائد مشكوكا ، كما في خيار الغبن ، فإنّ المتيقّن منه أوّل زمن الاطّلاع وبعده يحتاج إلى الاستصحاب.

ثانيها : أن يكون الزمان مبيّنا في الدليل وشكّ في انقضائه ، كما إذا قال المولى لعبده : اجلس إلى الليل ، فشكّ في تمام النهار ، وحينئذ فإن فرض النهار ظرفا للوجوب أو

٤٦٢

ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاصّ لا يعقل فيه البقاء ، لأنّ البقاء وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني.

وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة لكون متعلّقاتها

____________________________________

الجلوس يستصحب الوجوب ، وإن لوحظ قيدا للوجوب أو الجلوس يستصحب نفس القيد ، أعني : النهار.

ثالثها : أن يعلم انقضاء الزمان المبيّن في الدليل واحتمل مع ذلك بقاء الحكم ، كاحتمال وجوب الجلوس في المثال بعد النهار أيضا ، فإن فرض كون النهار ظرفا للوجوب أو الجلوس فيستصحب الوجوب ، وإن فرض قيدا لأحدهما فيرجع إلى عدم الوجوب الثابت قبل الأمر بالجلوس. وإلى صورة القيديّة أشار بقوله :

(فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه).

(ووجهه : أنّ الشيء المقيّد بزمان خاصّ لا يعقل فيه البقاء ، لأنّ البقاء وجود الموجود الأوّل في الآن الثاني) وهو غير متحقّق في الشيء المقيّد بزمان خاصّ ؛ لأنّ المتيقّن وهو وجوب الجلوس مقيّدا بالنهار قد ارتفع بارتفاع النهار ، والمشكوك وهو وجوب الجلوس في الليل مشكوك الحدوث فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه ، سواء كان الزمان قيدا للحكم أو الموضوع.

أمّا إذا كان الزمان قيدا للموضوع فعدم جريان الوجوب واضح ، وذلك لتعدّد الموضوع ، لأنّ الجلوس في الليل موضوع آخر غير الجلوس في النهار ، وأمّا إذا كان قيدا للحكم ، فلانتفائه بعد حصول الغاية ، إذ لا يعقل بقاء الحكم المغيّى بعد حصول الغاية كي يستصحب.

(وقد تقدّم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في المقام على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، أنّه قد تقدّم في دليل القول السابع الاستشكال في استصحاب الأحكام بوجهين :

أحدهما : ما ذكره التوني رحمه‌الله من أنّ حدود الأحكام حدوثا وبقاء وارتفاعا معلومة بأدلّتها ، فلا يعقل فيها شكّ كي يحتاج فيها إلى الاستصحاب ، نعم يتصوّر الشكّ في الامور غير المجعولة كالحياة والرطوبة ، وقد مرّ جواب هذا الوجه.

٤٦٣

هي الأفعال المتشخّصة بالمشخّصات التي لها دخل ـ وجودا وعدما ـ في تعلّق الحكم ، ومن جملتها الزمان.

وممّا ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين ، من تخيّل جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا ومعارضته مع استصحاب وجوده ، بزعم أنّ المتيقّن وجود

____________________________________

ثانيهما : إنّ الشكّ في الأحكام ناشئ أبدا عن حصول تغيّر في موضوعاتها ؛ (لكون متعلّقاتها هي الأفعال المتشخّصة بالمشخّصات التي لها دخل وجودا) ، كما في حكم الشارع بنجاسة الماء الكثير المتغيّر أحد أوصافه ، فإنّ للتغيّر مدخلا في ذلك.

(وعدما) ، كما في حكم الشارع بجواز الدخول في الصلاة للمتيمّم الفاقد للماء ، فإنّ لعدم الماء مدخليّة في ذلك.

وبالجملة إنّ موضوع الأحكام مقيّد بقيود لها مدخليّة (في تعلّق الحكم ، ومن جملتها الزمان) ، كما في الأمر بالصوم إلى الليل ، والشكّ في الحكم لا يحصل إلّا من جهة انتفاء شيء من مشخّصات الموضوع ، وقد عرفت أنّ شرط الاستصحاب هو بقاء الموضوع ، فلا يجري الاستصحاب في الأحكام ، إذ الشكّ فيها دائما يكون من جهة انتفاء قيد من قيود الموضوع فلا يبقى الموضوع كي يجري الاستصحاب ، وقد مرّ الجواب عن هذا الوجه ـ أيضا ـ في ذيل دليل القول السابع.

وهو أنّ المناط في بقاء الموضوع في الاستصحاب هو بقاؤه بنظر العرف المسامحي ، لا بالنظر الدّقي العقلي.

وكيف كان ، فغرض المصنّف قدس‌سره من ذكر هذا الكلام تأييد مطلبه ، وهو أنّ الحكم إذا تعلّق بموضوع مقيّد بقيد يتعدّد الموضوع بوجوده وعدمه ، فلا يجري فيه الاستصحاب.

والمتحصّل من الجميع أنّ المصنّف قدس‌سره قد ذهب إلى أنّ الزمان إذا اخذ قيدا للفعل فلا يجري الاستصحاب فيه ، وإذا اخذ ظرفا فلا مانع من جريان الاستصحاب.

(وممّا ذكرنا) من عدم جريان الاستصحاب فيما إذا اخذ الزمان قيدا وجريانه فيما إذا أخذ ظرفا(يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين).

أي : الفاضل النراقي قدس‌سره (من تخيّل جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقّن سابقا) ، كاستصحاب عدم وجوب الجلوس المتيقّن قبل الأمر بالجلوس يوم الجمعة.

٤٦٤

ذلك الأمر في القطعة الاولى من الزمان ، والأصل بقاؤه ـ عند الشكّ ـ على العدم الأزلي الذي لم يعلم انقلابه إلى الوجود ، إلّا في القطعة السابقة من الزمان.

قال في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين :

«إنّه إذا علم أنّ الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة وعلم أنّه واجب إلى الزوال ، ولم يعلم وجوبه فيما بعده ، فنقول : كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة ـ وفيه ـ إلى الزوال وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع ، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة ، وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال ، وصار بعده موضع الشكّ. فهنا شكّ ويقينان ، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.

فإن قلت : يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس.

____________________________________

(ومعارضته) ، أي : معارضته استصحاب عدم وجوب الجلوس (مع استصحاب وجوده) ، أي : وجوب الجلوس بعد زوال يوم الجمعة.

إذ حينئذ كما يجري استصحاب عدم وجوب الجلوس كذلك يجري استصحاب وجوب الجلوس فيتعارضان ، فإنّ مقتضى استصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل زوال يوم الجمعة هو وجوب الجلوس بعد الزوال أيضا ، ومقتضى استصحاب عدم وجوب الجلوس الأزلي ـ الذي لم يعلم بانقلابه إلى الوجود إلّا يوم الجمعة إلى الزوال لا بعد الزوال ـ هو عدم وجوبه بعد الزوال أيضا ، فهنا شكّ واحد وهو الشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال مسبوق بيقينين :

أحدهما : اليقين بوجوب الجلوس قبل الزوال.

ثانيهما : اليقين بعدم وجوب الجلوس في الأزل قبل الجمعة. ولا ترجيح لأحد اليقينين على الآخر ، ومقتضى عدم الترجيح هو ما عرفت من الأصلين المتعارضين.

قوله : (فإن قلت : يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشكّ ، وهو اليقين بالجلوس) دفع لما يتوهّم من ترجيح أحد اليقينين على الآخر ، والمرجّح هو الاتصال ، فيحكم ببقاء ما هو المتيقّن باليقين المتصل بالشكّ وهو اليقين بالجلوس يوم الجمعة حيث يكون متصلا مع الشكّ في وجوبه بعد الزوال.

وهذا بخلاف اليقين الأوّل وهو اليقين بعدم وجوب الجلوس في الأزل قبل الأمر

٤٦٥

قلنا : إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصل ـ قبل مجيء يوم الجمعة ـ وقت ملاحظة أمر الشارع ، فشكّ في يوم الخميس ـ مثلا ـ حال ورود الأمر في أنّ الجلوس غدا هل هو مكلّف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتصل به هو عدم التكليف ، فيستصحب ويستمرّ ذلك إلى وقت الزوال». انتهى.

ثمّ أجرى ما ذكره من تعارض استصحابي الوجود والعدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ في بقاء وجوب الصوم معه.

____________________________________

بالجلوس يوم الجمعة ، حيث انقطع وانفصل عن الشكّ باليقين الثاني ، وهو اليقين بوجوب الجلوس يوم الجمعة فيستصحب وجوب الجلوس بعد الزوال لكون يقينه متصلا بالشكّ ، ولا يستصحب عدم وجوب الجلوس لعدم كون يقينه متصلا بالشكّ.

وحاصل الدفع أنّ كلا اليقينين متصل بالشكّ ، أمّا اتصال اليقين الثاني فقد علم في تقريب التوهّم فلا يحتاج إلى البيان أصلا.

وأمّا اتصال اليقين الأوّل ، فلأنّ الشكّ في بقاء وجوب الجلوس بعد الزوال كان موجودا في زمان اليقين الثاني المتصل مع اليقين الأوّل ، كما أشار إليه بقوله :

(قلنا : إنّ الشكّ في تكليف ما بعد الزوال حاصل ـ قبل مجيء يوم الجمعة ـ وقت ملاحظة أمر الشارع) ، إذ بعد ما امر المكلّف بالجلوس تحصل له ثلاث حالات يكون بعضها متصلا مع بعض :

أحدها : هو اليقين بعدم وجوب الجلوس.

وثانيها : اليقين بوجوب الجلوس يوم الجمعة إلى الزوال.

وثالثها : الشكّ في الوجوب بعد الزوال ، وهذا الشكّ متصل بكلا اليقينين ، فيستصحب عدم الوجوب ، كما يستصحب الوجوب ، فيتساقطان بالتعارض.

(انتهى) كلام الفاضل النراقي في مناهج الأحكام.

(ثمّ أجرى ما ذكره من تعارض استصحابي الوجود والعدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشكّ في بقاء وجوب الصوم معه).

ونكتفي بما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال في المثال المذكور : إنّ وجوب الصوم قبل زمان الأمر به معلوم العدم ، وبعده إلى زمان المرض معلوم الوجود ، وبعده

٤٦٦

وفي الطهارة إذا حصل الشكّ فيها لأجل المذي ، وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرّة.

فحكم في الأوّل بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى ، واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم ، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي.

وفي الثالث حكم بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصور ، إلّا أن يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم وهو عدم الرافع وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعيّة رافعا.

____________________________________

مشكوك.

(وفي الطهارة إذا حصل الشكّ فيها لأجل المذي ، وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرّة) ، فإنّ سببيّة الوضوء للطهارة قبل الشرع في المثال الأوّل كانت متيقّنة العدم ، وبعده قبل المذي معلومة الوجود ، وبعده مشكوكة الوجود ، وأنّ سببيّة الملاقاة للتنجّس قبل الشرع في المثال الثاني كانت متيقّنة العدم وبعده قبل الغسل مرّة متيقّنة الوجود وبعده مشكوكة الوجود.

(فحكم في الأوّل بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمّى ، واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم ، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي.

وفي الثالث حكم بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصور ، إلّا أن يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم) الثابت قبل الشرع (وهو) أصالة (عدم الرافع وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعيّة رافعا).

وغرضه أنّ ما ذكرنا من تعارض استصحاب العدم قبل الشرع مع استصحاب الوجود بعده إنّما يتمّ في مورد الشكّ في المقتضي ، كمثال الأمر بالجلوس والأمر بالصوم ، لا في مورد الشكّ في الرافع ، كمثال المذي والغسل مرّة ؛ لأنّ أصالة عدم الرافع تمنع عن إجراء

٤٦٧

قال : «ولو لم يعلم أنّ الطهارة ممّا لا يرتفع إلّا برافع ، لم نقل فيه باستصحاب الوجود».

ثمّ قال : «هذا في الامور الشرعيّة ، وأمّا الامور الخارجيّة ، كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ، فاستصحاب الوجود فيها حجّة بلا معارض ، لعدم تحقّق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها». انتهى.

أقول : الظاهر التباس الأمر عليه :

أمّا أوّلا : فلأنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه ، بأن لوحظ

____________________________________

العدم الأزلي ، فيجري استصحاب الوجود فقط من دون تعارض.

(قال : ولو لم يعلم أنّ الطهارة ممّا لا يرتفع إلّا برافع ، لم نقل فيه باستصحاب الوجود) فقط ، بل قلنا بتعارض الاستصحابين وتساقطهما.

(ثمّ قال : هذا) ، أي : ما ذكرنا من التعارض يكون (في الامور الشرعيّة) كالأمثلة المتقدّمة.

(وأمّا الامور الخارجيّة ، كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها ممّا لا دخل لجعل الشارع في وجودها ، فاستصحاب الوجود فيها حجّة بلا معارض).

ثمّ ما ذكره من تعارض الاستصحاب في الامور الشرعيّة دون الامور الخارجيّة مبني على الفرق بينهما.

وبيان الفرق أنّ الامور الشرعيّة امور اعتباريّة ، فانقلابها من العدم إلى الوجود دائما يكون بتعبّد الشرع واعتباره ، فيكتفي في الانقلاب الاعتباري بالقدر المتيقّن ، ويرجع في غيره إلى العدم الأزلي ، فيمكن التعارض فيها بين الأصل الوجودي والعدمي كما مرّ.

وهذا بخلاف الامور الخارجيّة حيث لا يكون انقلابها من العدم إلى الوجود اعتباريا بالتعبّد ، بل يكون خارجيّا بالتكوين من دون مدخليّة اعتبار معتبر فيها حدوثا وبقاء ، فلا يجوز فيها الاكتفاء بالمتيقّن والرجوع إلى الأصل الأزلي في غيره عند الشكّ ؛ (لعدم تحقّق استصحاب حال عقل) ، أي : العدم الأزلي بعد انقلابه إلى الوجود ، حتى يكون معارضا باستصحاب الوجود.

(انتهى) كلام الفاضل النراقي في مناهج الأحكام.

ثمّ يبدأ المصنّف في بيان فساد ما ذكره الفاضل النراقي بقوله : (الظاهر التباس الأمر عليه) من وجوه :

٤٦٨

وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلّقا للوجوب ، فلا مجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشكّ في حدوث ما عداه ، ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : «صم يوم الخميس» إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة ، وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس ، فلا مجال لاستصحاب العدم ، لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان وكونه أزيد. والمفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار العدم

____________________________________

(أمّا أولا ، فلأنّ الأمر الوجودي المجعول) كوجوب الجلوس إلى زوال الجمعة (إن لوحظ الزمان قيدا له) ، بأن يكون الوجوب إلى الزوال شيئا ، والوجوب بعده شيئا آخر(أو لمتعلّقه ، بأن) يكون الجلوس إلى الزوال شيئا ، والجلوس بعده شيئا آخر.

ومعنى التقييد هو إن (لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا ، والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلّقا للوجوب ، فلا مجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده ، والشكّ في حدوث ما عداه) ، كما عرفت عدم جريان استصحاب الكلّي (القسم الثالث).

وملخّص الجميع أنّ الزمان بالنسبة إلى الأمر الوجودي المجعول لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : أن لا يلاحظ قيدا له.

وثانيهما : أن يلاحظ قيدا له.

أمّا على الأوّل ، فلا مجرى لاستصحاب العدم ، وأمّا على الثاني ، فلا مجرى لاستصحاب الوجود ، فما ذكره الفاضل النراقي من جريان الاستصحابين وتساقطهما بالتعارض لا يرجع إلى محصّل صحيح.

(ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : «صم يوم الخميس» إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة) ؛ وذلك لظهور يوم الخميس في القيديّة.

(وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس ، فلا مجال لاستصحاب العدم ، لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان) ، كوجوب الجلوس يوم الجمعة إلى الزوال ، (وكونه أزيد ، والمفروض تسليم) حجّيّة الاستصحاب وهو (حكم

٤٦٩

السابق.

وما ذكر قدس‌سره ـ من أنّ الشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس ـ مدفوع بأنّ ذلك أيضا ـ حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ـ مهمل بحكم الشارع بإبقاء كلّ حادث لا يعلم مدّة بقائه ، كما لو شكّ قبل حدوث حادث في مدّة بقائه.

والحاصل : إنّ الموجود في الزمان الأوّل إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني ، فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأوّل ، فلا مجال لاستصحاب الموجود ، إذ لا يتصوّر البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان الأوّل من مقوّماته ، وإن لوحظ متّحدا مع الثاني لا مغايرا له إلّا من حيث ظرفه الزماني ، فلا معنى لاستصحاب عدم

____________________________________

الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ من إبقائه ، فلا وجه لاعتبار العدم السابق) ، بل لا بدّ من استصحاب الوجود بناء على حجّيّة الاستصحاب في الشكّ في المقتضي على ما في شرح الاعتمادي.

(وما ذكره قدس‌سره ـ من أنّ الشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال كان ثابتا حال اليقين بالعدم يوم الخميس ـ مدفوع بأنّ ذلك أيضا ـ حيث كان مفروضا بعد اليقين بوجوب الجلوس إلى الزوال ـ مهمل) ، أي : الشكّ المذكور مرتفع (بحكم الشارع بإبقاء كلّ حادث لا يعلم مدّة بقائه).

وحاصل الكلام على ما في شرح الاعتمادي ، هو أنّ الشكّ في وجوب الجلوس بعد الزوال وإن كان متصلا باليقين بالعدم ـ لأنّه حصل بمجرّد الأمر بالجلوس إلى الزوال ـ إلّا أنّه متصل به حال ترتّبه على اليقين بالوجوب ، إذ المفروض هو اليقين بالوجوب إلى الزوال والشكّ في الزائد ، فيحكم ببقاء الوجوب بمقتضى اليقين الثاني الذي ترتّب عليه الشكّ ، ولا يحكم ببقاء العدم بعد انقلابه إلى الوجود حتى يعارض استصحاب الوجود.

(والحاصل : إنّ الموجود في الزمان الأوّل إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني) ، بأن يكون الزمان الأوّل قيدا له ، (فلا مجال لاستصحاب الموجود) الأوّل إذ لا شكّ في بقائه ، بل الشكّ في حدوث مثله ؛ لأن الموجود الأوّل قد ارتفع بارتفاع قيده.

(وإن لوحظ متّحدا مع الثاني) ، بأن يكون الوجود الثاني استمرار الوجود الأوّل ، (فلا

٤٧٠

ذلك الموجود ، لأنّه انقلب إلى الوجود.

وكأنّ المتوهّم ينظر في دعوى جريان استصحاب الوجود إلى كون الموجود أمرا واحدا قابلا للاستمرار بعد زمان الشكّ ، وفي دعوى جريان استصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود ، وجعل كلّ واحد منها بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر ، فيؤخذ بالمتيقّن منها ويحكم على المشكوك منها بالعدم.

وملخّص الكلام في دفعه : إنّ الزمان إن اخذ ظرفا للشيء فلا يجري إلّا استصحاب وجوده ، لأنّ العدم انتقض بالوجود المطلق ، وقد حكم عليه بالاستمرار بمقتضى أدلّة الاستصحاب ، وإن أخذ قيدا له فلا يجري إلّا استصحاب العدم ، لأنّ انتقاض عدم وجود

____________________________________

معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود ، لأنّه انقلب إلى الوجود).

والمتحصّل من الجميع أنّ الزمان لا يخلو عن أحد احتمالين ؛ إمّا قيد ، أو ظرف ، وعلى الأوّل لا يجري استصحاب الوجود ، وعلى الثاني لا يجري استصحاب العدم.

(وكأنّ المتوهّم ينظر في دعوى جريان استصحاب الوجود إلى كون الموجود) وهو وجوب الجلوس في المثال المتقدّم (أمرا واحدا قابلا للاستمرار بعد زمان الشكّ) بأن يكون الزمان ظرفا.

وينظر(في دعوى جريان استصحاب العدم إلى تقطيع وجودات ذلك الموجود ، وجعل كلّ واحد منها بملاحظة تحقّقه في زمان مغايرا للآخر) باعتبار الزمان فيكون الزمان قيدا ، (فيؤخذ بالمتيقّن منها) ، كوجوب الجلوس إلى زوال الجمعة في المثال المعروف (ويحكم على المشكوك منها بالعدم.

وملخّص الكلام في دفعه : إنّ الزمان إن اخذ ظرفا للشيء فلا يجري إلّا استصحاب وجوده).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره ، هو أنّ الزمان لا يمكن أن يؤخذ ظرفا وقيدا معا ، فحينئذ إمّا أن يؤخذ ظرفا أو قيدا ، أمّا على الأوّل فلا يجري إلّا استصحاب الوجود ؛ لأنّ العدم الأزلي قد ارتفع بالوجود المطلق ، وقد حكم على هذا الوجود بالاستمرار بمقتضى أدلّة الاستصحاب ، كما أشار إليه بقوله :

(لأنّ العدم انتقض بالوجود المطلق ، وقد حكم عليه بالاستمرار ... إلى آخره).

٤٧١

المقيّد لا يستلزم انتقاض المطلق والأصل عدم الانتقاض ، كما إذا ثبت وجوب صوم يوم الجمعة ولم يثبت غيره.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره من استصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشكّ في الرافع غير مستقيم ، لأنّا إذا علمنا أنّ الشارع جعل الوضوء علّة تامّة لوجود الطهارة ، وشككنا في أنّ المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرّة بمقتضى استعدادها ، فليس الشكّ متعلّقا بمقدار سببيّة السبب. وكذا الكلام في سببيّة ملاقاة البول للنجاسة عند الشكّ في ارتفاعها بالغسل مرّة.

____________________________________

وأمّا على الثاني (فلا يجري إلّا استصحاب العدم ، لأنّ انتقاض عدم وجود المقيّد) بالوجود المقيّد على الفرض (لا يستلزم انتقاض المطلق) ، أي : العدم المطلق.

ففي مثال الأمر بالجلوس يوم الجمعة إلى الزوال كان وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال معدوما وكان وجوب الجلوس المطلق أيضا معدوما ، وبعد الأمر انتقض عدم وجوب الجلوس المقيّد بوجوب الجلوس المقيّد ، ولكن لم ينتقض عدم وجوب الجلوس المطلق فيستصحب العدم عند الشكّ ، كما أشار إليه بقوله :

(والأصل عدم الانتقاض). هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من وجوه الإشكال على النراقي. ثمّ أشار إلى الوجه الثاني بقوله :

(وأمّا ثانيا ، فلأنّ ما ذكره من استصحاب عدم الجعل والسببيّة في صورة الشكّ في الرافع غير مستقيم) ، ثمّ عدم استقامة الاستصحاب المذكور يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ هذا الإيراد ـ الثاني ـ كالإيراد الثالث الآتي مناقشة في الأمثلة التي ذكرها النراقي لفرض التعارض بين الاستصحاب الوجودي والعدمي ، لأنّ الأمثلة المذكورة كمثال الطهارة قبل المذي والنجاسة قبل الغسل مرّة تكون من أمثلة الشكّ في الرافع لا في المقتضي ، ومن البديهي والمعلوم أنّ وجود المقتضي في موارد الشكّ في الرافع دائما معلوم ومحرز لا يتعلّق به الشكّ.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك وجه عدم استقامة استصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي وعدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرّة ؛ لأنّ المفروض وجود القطع بالمقتضي وهو السببيّة في المثالين.

٤٧٢

فإن قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلا ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي قبل المذي ، وشككنا في الحكم بوجودها بعده ، والأصل عدم ثبوتها بالشرع.

قلت : لا بدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشكّ ـ في ثبوت الطهارة بعد المذي ـ الشكّ في مقدار تأثير المؤثّر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقّن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ، أو أنّا نعلم قطعا تأثير الوضوء في إحداث أمر مستمرّ لو لا ما جعله الشارع رافعا. فعلى الأوّل : لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، لأنّ المتيقّن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء ، والأصل عدم التأثير مع وجوده ، إلّا أن يتمسّك باستصحاب وجود المسبّب.

____________________________________

وإنّما الشكّ من جهة الرافع ، أي : كون المذي رافعا للطهارة والغسل مرّة رافعا للنجاسة ، فلا يبقى مجال لاستصحاب العدم في المثالين فيجري استصحاب الوجود ؛ وهو استصحاب الطهارة بعد المذي واستصحاب النجاسة بعد الغسل مرّة من دون معارض أصلا.

(فإن قلت : إنّا نعلم أنّ الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلا ، وعلمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي قبل المذي ، وشككنا في الحكم بوجودها بعده ، والأصل عدم ثبوتها بالشرع).

فيكون هذا السؤال ردّا لما ذكر من عدم جريان استصحاب عدم الجعل والسببيّة ، بل يجري استصحاب العدم ، كما يجري استصحاب الطهارة فيتعارض الأصلان.

(قلت : لا بدّ من أن يلاحظ حينئذ أنّ منشأ الشكّ ـ في ثبوت الطهارة بعد المذي ـ الشكّ في مقدار تأثير المؤثّر وهو الوضوء ، وأنّ المتيقّن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده ... إلى آخره).

وحاصل الجواب يتّضح بعد مقدّمة وهي :

إنّ النراقي قد فرض التعارض بين الأصلين وتساقطهما ، ثمّ قال بالتساقط لو لا الأصل الثالث ، وهو أصل عدم الرافع الحاكم على استصحاب العدم ، فيسقط حينئذ استصحاب العدم فقط.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك عدم صحّة الجمع بين استصحابي عدم الجعل

٤٧٣

فهو نظير ما لو شكّ في بقاء تأثير الوضوء المبيح ، كوضوء التقيّة بعد زوالها ، لا من قبيل الشكّ في ناقضيّة المذي. وعلى الثاني : لا معنى لاستصحاب العدم ، إذ لا شكّ في مقدار تأثير

____________________________________

والسببيّة وعدم الرافع ، كي يقال بأنّ الثاني حاكم على الأوّل ، وذلك إن فرض المثال المذكور من قبيل الشكّ في المقتضي ، فلا مجال للأصل الثالث الحاكم لانتفاء موضوعه ، وإن فرض من قبيل الشكّ في الرافع ، فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل والسببيّة كما عرفت ، حتى يكون معارضا مع استصحاب الطهارة والنجاسة.

وبالجملة ، إنّه إن كان الشكّ في المقتضي ومقدار تأثير المؤثّر ، فلا يجري استصحاب عدم الرافع ، وإن كان الشكّ في الرافع فلا يجري استصحاب العدم الأزلي ، كما مرّ.

(إلّا أن يتمسّك باستصحاب وجود المسبّب).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره ، هو التعارض بين استصحاب العدم واستصحاب وجود المسبّب لا بين استصحاب العدم واستصحاب عدم الرافع ، كي يقال بما تقدّم من عدم صحّة الجمع بينهما.

وتقريب التعارض ، هو أنّه إذا كان الشكّ في المقتضي يجري استصحاب العدم الأزلي ، ولا يجري استصحاب عدم الرافع ، إلّا أنّه يجري استصحاب وجود المسبّب كالطهارة المسبّبة عن الوضوء ، فيتعارض الأصلان ويتساقطان.

(فهو) ، أي : الشكّ في المقتضي ومقدار تأثير المؤثّر(نظير ما لو شكّ في بقاء تأثير الوضوء المبيح ، كوضوء التقيّة بعد زوالها ، لا من قبيل الشكّ في ناقضيّة المذي).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره ، هو أنّ ما ذكر من فرض الشكّ في المقتضي ومقدار تأثير الوضوء في الطهارة إنّما يتمّ في بعض الوضوءات وهو الوضوء المبيح للصلاة غير الرافع للحدث ، كوضوء التقيّة والمستحاضة والمسلوس والمبطون ، فإنّا نعلم إجمالا أنّها تبيح الصلاة ، ولا نعلم تفصيلا بأنّها تبيح الصلاة وإن زال العذر ، أو تبيحها ما دام معذورا ، فيرجع حينئذ إلى أصالة عدم التأثير بعد زوال العذر. هذا حكم الوضوء غير الرافع للحدث.

أمّا الوضوء الرافع للحدث الموجب للطهارة ، فلا شكّ في مقدار تأثيره ، فإنّ الطهارة مستعدة للبقاء أبدا ، ولا ترتفع إلّا برافع ، فعند الشكّ في رافعيّة المذي يستصحب بقاء الطهارة.

٤٧٤

المؤثّر حتى يؤخذ بالمتيقّن.

وأمّا ثالثا : فلو سلّم جريان استصحاب العدم حينئذ ، لكن ليس استصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، حاكما على هذا الاستصحاب.

لأنّ الشكّ في أحدهما ليس مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، بل مرجع الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو الحدث أو الطهارة.

____________________________________

(وعلى الثاني) وهو فرض العلم بتأثير الوضوء في الطهارة المستمرة (لا معنى لاستصحاب العدم) ؛ لأنّ استصحاب العدم ينافي العلم المذكور ، كما أشار إليه بقوله :

(إذ لا شكّ في مقدار تأثير المؤثّر حتى يؤخذ بالمتيقّن) ، بل الشكّ إنّما هو في الرافع ، فيستصحب الطهارة على ما في شرح الاستاذ الاعتمادي. وقد أشار إلى الوجه الثالث من وجوه الإيراد بقوله :

(وأمّا ثالثا : فلو سلّم جريان استصحاب العدم حينئذ) ، أي : حين الشكّ في الرافع ، (لكن ليس استصحاب عدم جعل الشيء رافعا ، حاكما على هذا الاستصحاب).

وهذا الإيراد ـ الثالث ـ ردّ لما تقدّم عن النراقي قدس‌سره من كون استصحاب عدم الرافع حاكما على استصحاب عدم الجعل والسببيّة بوجه آخر.

والردّ بالوجه الأوّل قد تقدّم في الإيراد الثاني ، حيث قال المصنّف قدس‌سره بعدم جريان استصحاب العدم في مورد الشكّ في الرافع ، كي يقال بأنّ استصحاب عدم الرافع حاكم عليه. هذا ملخّص الردّ بالوجه الأوّل الذي تقدّم في الإيراد الثاني.

ثمّ يردّ المصنّف قدس‌سره بالوجه الآخر بأنّه لو سلّم جريان استصحاب العدم ، لم يكن استصحاب عدم الرافع حاكما عليه ، لانتفاء التسبيب بينهما ؛ لأنّ الأصل الحاكم لا بدّ من أن يكون أصلا سببيّا ، بأن يكون الشكّ في جانب الأصل الحاكم سببا عن الشكّ في جانب الأصل المحكوم ، والشكّ في أحدهما في المقام ليس مسبّبا عن الشكّ في الآخر.

فالشكّ في استصحاب العدم ليس مسبّبا عن الشكّ في استصحاب عدم الرافع ، كي يكون الثاني حاكما على الأوّل ، بل هما مسبّبان عن سبب آخر وهو العلم إجمالا بأنّ المجعول في حقّ المكلّف حال خروج المذي بعد الطهارة هو الطهارة أو الحدث ، كما أشار إليه بقوله :

٤٧٥

نعم ، يستقيم ذلك فيما إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجي ، أعني : وجود المزيل أو عدمه ، لأنّ الشكّ في كون المكلّف حال الشكّ مجعولا في حقّه الطهارة او الحدث مسبّب عن الشكّ في تحقّق الرافع.

إلّا أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غير جار.

____________________________________

(بل مرجع الشكّ فيهما إلى شيء واحد ، وهو أنّ المجعول في حقّ المكلّف في هذه الحالة هو الحدث أو الطهارة).

إذ معنى عدم تأثير الوضوء بعد خروج المذي هو حكم الشارع بالحدث في هذه الحالة ، ومعنى عدم رافعيّة الشيء للطهارة هو حكم الشارع عقيبه بالطهارة ، فاحتمال عدم تأثير الوضوء ورافعيّة المذي كلاهما مسبّبان عن الشكّ في المجعول الشرعي بعد خروج المذي ، فلا يتمّ ما ذكره النراقي من كون أحدهما حاكما على الآخر.

(نعم ، يستقيم ذلك) ، أي : فرض الحاكم والمحكوم (فيما إذا كان الشكّ في الموضوع الخارجي ، أعني : وجود المزيل أو عدمه) ، كما إذا شكّ في صدور البول أو بوليّة ما صدر عنه ، أو شكّ في خروج المذي أو كون الخارج مذيا مع فرض كون المذي رافعا للطهارة كالبول في الشرع ، فيكون حينئذ الشكّ في بقاء الطهارة مسبّبا عن الشكّ في وجود البول أو كون الخارج بولا ، ووجود المذي أو كون الخارج مذيا.

وبالجملة ، إنّ الشكّ في الطهارة والحدث مسبّبا عن الشكّ في تحقّق الرافع ، فيتعارض استصحاب الطهارة بعد الوضوء مع استصحاب عدم الطهارة قبل الوضوء على مذاق النراقي ، ويكون استصحاب عدم الرافع حاكما على استصحاب عدم الطهارة قبل الوضوء ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(إلّا أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الإجمالي بجعل أحد الأمرين في حقّ المكلّف غير جار) ؛ لأنّ العلم الإجمالي بجعل الطهارة أو الحدث في حقّ المكلّف مانع عن الأصلين المذكورين ، فلا يجري الأصلان ، كي يقال إنّهما يتعارضان ، ثم يقال بأنّ أصالة عدم الرافع حاكمة على أحدهما ويبقى الآخر سليما عن المعارض.

٤٧٦

فهرس

مقتضى الأصل في الشكّ في الركنيّة بعد ثبوت الجزئيّة.................................. ٧

التحقيق في معنى الركن............................................................ ٨

بطلان العبادة بترك الخبر سهوا.................................................... ١٠

ما يثبت به جزئيّة الجزء على أنحاء................................................. ١٢

اختلاف الحكم بحسب حال الغفلة والالتفات غير ممكن............................. ١٤

فساد توهّم كون المقام من صغريات مسألة الإجزاء................................... ١٧

توهّم حكومة استصحاب الصحّة على أصالة العدم................................. ٢٠

الفرق بين أصالة عدم الجزئيّة وبين حديث الرفع..................................... ٢٥

تحرير محلّ النزاع في زيادة الجزء عمدا............................................... ٢٨

أقسام الزيادة العمديّة........................................................... ٣٠

الاستدلال على البطلان بأنّ الزيادة تغيّر هيئة العبادة................................ ٣٢

الفرق بين القاطعيّة والمانعيّة....................................................... ٣٧

الإشكال على استصحاب الهيئة الاتصاليّة......................................... ٤٠

الاستدلال على صحّة العبادة بقوله تعالى : (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).................. ٤٢

الإشكال على الاستدلال بالآية وبيان المحتملات فيها................................ ٤٣

الأخبار الدالّة على بطلان الفريضة بالزيادة......................................... ٥٤

المسألة الثالثة في ذكر الزيادة سهوا................................................ ٥٥

ترجيح قاعدة الاشتغال على البراءة................................................ ٥٧

الاحتمالات في قوله عليه‌السلام : (لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة)......................... ٥٩

الاحتمالات في دلالة الجزء والشرط من حيث الإطلاق والإجمال...................... ٦٢

تصحيح استصحاب وجوب الباقي................................................ ٦٦

الميسور لا يسقط بالمعسور وما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.............................. ٦٨

٤٧٧

الإشكال على قاعدة الميسور..................................................... ٧٠

الجواب عن الإشكال المذكور..................................................... ٧٢

الإشكال على أنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه...................................... ٧٦

حمل لفظ(كلّ) في قوله : (ما لا يدرك كلّه) على العموم الأفرادي..................... ٨٠

الفرق بين عموم السلب وسلب العموم............................................ ٨٢

الكلام في الشروط.............................................................. ٨٤

جريان ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه في بعض الشروط................................ ٨٦

توضيح الإشكال في كلام صاحب الرياض......................................... ٨٧

الاستدلال برواية عبد الأعلى على عدم سقوط المشروط بعد تعذّر شرطه............... ٩٠

حكم دوران الأمر بين البدل الاضطراري والمبدل الناقص............................. ٩٢

مقتضى الأصل في صورة دوران الأمر بين الشرطيّة والجزئيّة............................ ٩٣

حكم دوران الشيء بين كونه شرطا أو مانعا........................................ ٩٥

المطلب الثالث في اشتباه الواجب بالحرام.......................................... ١٠٣

شرائط العمل بالأصل......................................................... ١٠٧

عدم صحّة عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد................................... ١٠٩

الفرق بين إتيان الفعل لوجوبه وندبه وبين إتيانه لوجه وجوبه أو ندبه.................. ١١٢

الوجوه التي يمكن الاستدلال بها على عدم كفاية الاحتياط.......................... ١١٤

الوجوه التي يمكن أن يستدلّ بها على وجوب أصل الفحص......................... ١٢٠

الإشكال على وجوب الفحص.................................................. ١٢٦

الجواب عن الإشكال المذكور بما لا يخلو عن نظر.................................. ١٣٢

الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص................................... ١٣٤

العقاب عند المشهور على مخالفة الواقع لا على ترك التعلّم.......................... ١٣٦

الاستدلال بالإجماع على مؤاخذة الكفّار على الفروع............................... ١٤١

الاحتمالات الثلاث في كلام المشهور............................................ ١٤٤

الأقوال في صلاة من توسّط أرضا مغصوبة في حال الخروج عنها...................... ١٤٧

كون العلم واجبا نفسيا........................................................ ١٥٠

٤٧٨

الملاك في صحّة المعاملات عند المشهور مطابقة الواقع مطلقا......................... ١٥٣

اختلاف ترتّب الآثار على الحقائق الظاهريّة بالنسبة إلى الأشخاص.................. ١٥٥

الاحتمالات في نقض الفتوى................................................... ١٥٩

عدم الفرق بين الأحكام الوضعيّة على القول بتأصلها وبين الامور الخارجيّة............ ١٦٢

قياس الأسباب الشرعيّة بالامور الخارجيّة......................................... ١٦٤

توهّم الفساد في معاملة الجاهل من جهة انتفاء قصد الإنشاء........................ ١٦٧

تحقيق الكلام فيما هو الملاك في باب المؤاخذة..................................... ١٧١

الأقوى عند المصنف أنّ العبرة في المؤاخذة هو الواقع............................... ١٧٧

العبرة في المؤاخذة مخالفة الطرق الشرعيّة على القول بأنّ مؤدّياتها أحكام واقعيّة ثانويّة.... ١٧٩

استثناء القصر والإتمام والجهر والإخفات من عدم كون الجاهل معذورا................. ١٨١

الإشكال على الموضعين المذكورين............................................... ١٨٣

دفع إشكال سقوط الأمر بالتمام بالإتيان قصرا وبالعكس من وجوه.................. ١٨٤

قول كاشف الغطاء بترتّب الإتمام على معصية الأمر بالقصر........................ ١٨٨

وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة.................................... ١٩٣

كلمات الفقهاء في مورد الشكّ في نصاب الفضّة.................................. ١٩٣

الإشكال على وجوب الفحص في مورد الاشتباه في الموضوع......................... ١٩٦

الكلام في مقدار الفحص...................................................... ١٩٩

شروط أخر لأصل البراءة....................................................... ٢٠٣

كون أصل البراءة مستلزم لحكم آخر لا يوجب عدم جريان أدلّته.................... ٢٠٧

مقتضى أدلّة أصل البراءة هو نفي التكليف فقط.................................. ٢٠٩

سقوط الأصل لأجل المعارض................................................... ٢١١

أصالة عدم تقدّم الكرّيّة على الملاقاة............................................. ٢١٣

التقارن أمر عدمي وليس من الامور الوجوديّة..................................... ٢١٦

الإشكال على حكم المشهور بالطهارة............................................ ٢١٨

ومن شرائط أصل البراءة أن لا يكون موجبا للضرر................................. ٢١٩

قاعدة لا ضرر................................................................ ٢٢٣

٤٧٩

معنى لا ضرر ولا ضرار بحسب المادة............................................. ٢٢٥

التحقيق في معنى اللفظين بحسب الهيئة........................................... ٢٢٦

لا تنافي بين الصدر وذيل الرواية................................................ ٢٢٩

حكومة قاعدة لا ضرر على الأدلّة العامّة......................................... ٢٣٢

بيان معنى الحكومة عند الاصوليّين............................................... ٢٣٥

الحكومة على نحو التضييق..................................................... ٢٣٦

دفع الإشكال على التمسّك بالقاعدة............................................ ٢٣٧

الإشكال على القاعدة بأنّها موهونة بكثرة التخصيصات............................ ٢٤٠

استقرار السيرة على الاستدلال بها في مقابل العمومات............................. ٢٤١

الجواب عن الوهن المذكور...................................................... ٢٤٢

الضرر في بعض الأحكام حكمة................................................ ٢٤٥

تعارض الضررين.............................................................. ٢٤٦

بيان محتملات مسألة تعارض الضررين........................................... ٢٤٧

الإشكال على تقديم قاعدتي نفي الحرج والسلطنة على قاعدة لا ضرر................ ٢٥١

التفصيل بين أقسام التصرّف................................................... ٢٥٤

الكلام في فروع المسألة الثالثة من مسائل تعارض الضررين.......................... ٢٥٧

بحث الاستصحاب............................................................ ٢٦١

بيان المناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي...................................... ٢٦١

مقوّمات الاستصحاب......................................................... ٢٦٢

الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين........................................... ٢٦٣

تعريف الاستصحاب في اصطلاح الاصوليّين..................................... ٢٦٥

أسدّ التعاريف وأفضلها هو إبقاء ما كان......................................... ٢٦٦

وأزيف التعاريف من تعاريف الاستصحاب....................................... ٢٦٨

بقى الكلام في امور ستة....................................................... ٢٧١

الاستصحاب على تقدير الظنّ من الأدلّة العقليّة.................................. ٢٧٤

الاستصحاب على تقدير كونه من الأحكام العقليّة مسألة اصوليّة................... ٢٧٥

٤٨٠