دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

وجوب شيء عليه ، فلا وجه لوجوب تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

وبالجملة ، فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلّة الضرر ، كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة ، بناء على أنّ المثبت لإجراء العبادة هو النصّ.

____________________________________

كما هو الظاهر يتعيّن رفع اليد عنها لحكومتهما عليها ، كما عرفت.

وبالجملة ، إنّ قاعدة نفي الضرر إن كانت معتبرة في المقام كانت حاكمة على البراءة إلّا أنّه لا وجه لاختصاص الشرط بخصوص قاعدة نفي الضرر ، بل كلّ دليل اجتهادي آخر يوجب سقوط الأصل ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ من اشتراط فقد مطلق الدليل الاجتهادي في الرجوع إلى الأصل ، وإن لم تكن معتبرة فلا وجه لترك العمل بأصل البراءة.

ثمّ إنّ ما ذكر من العلم الإجمالي المقتضي للاشتغال فاسد ، لأنّ (المعلوم تعلّقه بالضار في ما نحن فيه) على تقدير الشكّ في شمول قاعدة الإتلاف (هو الإثم) الاخروي (والتعزير) الدنيوي كما في شرح الاستاذ الاعتمادي (إن كان متعمدا ، وإلّا فلا يعلم وجوب شيء عليه).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره هو أنّ الضارّ إن كان متعمّدا فهو آثم معاقب في الآخرة وللحاكم أن يعزّره في الدنيا ، فحينئذ كونه معاقبا معلوم ، وأمّا كونه ضامنا فهو محتمل ومشكوك والأصل البراءة ، وإن لم يكن متعمّدا ، فلا شيء عليه حتى العقاب ، فما ذكر من الترديد ـ وهو قوله : (ولكن لا يعلم أنّه مجرّد التغرير أو الضمان أو هما معا) ـ لا يرجع إلى محصّل صحيح ، فتأمّل.

(وبالجملة ، فلا يعلم وجه صحيح لما ذكره في خصوص أدلّة الضرر) ، بل الميزان في المانع عن البراءة هو مطلق الدليل الاجتهادي (كما لا وجه لما ذكره في تخصيص مجرى الأصل بما إذا لم يكن جزء عبادة ... إلى آخره).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره إشارة إلى الاعتراض على الشرط الثالث لأصل البراءة ، حيث قال في الوافية : «وثالثها : أن لا يكون الأمر المتمسّك فيه بالأصل جزء عبادة مركّبة ، ولا يجوز التمسّك به لو وقع الاختلاف في صلاة هل هي ركعتان أو أقلّ أو أكثر في نفي الزائد ، بل كلّ نصّ يبيّن فيه أجزاء ذلك المركّب كان دالا على عدم جزئيّته ما لم يذكر فيه ،

٢٢١

لأنّ النصّ قد يصير مجملا ، وقد لا يكون نصّ في المسألة ، فإن قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر فلا مانع منه ، وإلّا فلا مقتضي له ، وقد قدّمنا ما عندنا في المسألة.

____________________________________

فيكون نفي ذلك المختلف فيه منصوصا لا معلوما بالأصل ، كما لا يخفى». انتهى كلامه.

وملخّص هذا الشرط الثالث عند الفاضل التوني قدس‌سره هو أن لا يكون المشكوك جزء عبادة كالسورة مثلا ، بدعوى أنّ ماهيّة العبادات إنّما تثبت بالنصّ.

وأشار المصنّف قدس‌سره إلى وجه فساد هذا الشرط بقوله :

(لأنّ النصّ قد يصير مجملا ، وقد لا يكون نصّ في المسألة).

فلا بدّ ـ حينئذ ـ من الرجوع إلى أصل البراءة ، لا في إثبات الماهيّة لعدم الحاجة إليها ، بل في مجرّد نفي العقاب ، أو إلى الاحتياط ، فحينئذ لا مقتضي لأصل البراءة حتى يذكر له مانع.

وقد أشار إلى الأوّل بقوله : (فإن قلنا بجريان الأصل وعدم العبرة بالعلم بثبوت التكليف المردّد بين الأقلّ والأكثر فلا مانع منه).

وإلى الثاني بقوله : (وإلّا فلا مقتضي له) ، أي : وإن قلنا بوجوب الاحتياط فلا مقتضي للأصل كي يذكر له مانع.

* * *

٢٢٢

قاعدة لا ضرر

وحيث جرى ذكر حديث نفي الضرر والضرار ، ناسب بسط الكلام في ذلك في الجملة ، فنقول : قد ادّعى فخر الدين في الإيضاح ـ في باب الرهن ـ تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلّا لما هو أصحّ ما في الباب سندا وأوضحه دلالة.

وهي الرواية المتضمّنة لقصّة سمرة بن جندب مع الأنصاري ، وهي ما رواه غير واحد

____________________________________

قاعدة لا ضرر

وقد جعل المصنّف قدس‌سره الكلام فيها في مقامات :

الأوّل : في بيان مدركها.

والثاني : في بيان معنى الضرر والضرار بحسب المادة.

والثالث : في بيان معناهما بحسب الهيئة التركيبيّة.

والرابع : في بيان نسبة هذه القاعدة إلى أدلّة التكليف المعارضة لها بحسب الظاهر.

أمّا الكلام في المقام الأوّل ، فقد استدلّ لإثبات هذه القاعدة بالأدلّة الأربعة.

أمّا الإجماع فواضح لا يحتاج إلى البيان ، وأمّا العقل ، فإنّه قد يحكم مستقلّا بأنّ الضرر والضرار مناف للعدل واللطف فلا يجوز ، وأمّا الكتاب فقد استدلّ له بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً)(١).

وأمّا السنّة فقد أشار إليها المصنّف قدس‌سره بقوله : (فنقول : قد ادّعى فخر الدين في الايضاح ـ في باب الرهن ـ تواتر الأخبار على نفي الضرر والضرار ، فلا نتعرّض من الأخبار الواردة في ذلك إلّا لما هو أصحّ ما في الباب سندا وأوضحه دلالة ، وهي الرواية المتضمّنة لقصة سمرة بن جندب مع الأنصاري).

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٢٢٣

عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام : (إنّ سمرة بن جندب كان له عذق ، وكان طريقه إليه في جوف منزل لرجل من الأنصار ، وكان يجيء إلى عذقه بغير إذن من الأنصاري ، فقال الأنصاري : يا سمرة ، لا تزال تفجأنا على حال لا نحبّ أن تفجأنا عليها ، وإذا دخلت فاستأذن. فقال : لا استأذن في طريقي إلى عذقي. فشكاه الأنصاريّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأتاه ، فقال : إنّ فلانا قد شكاك وزعم أنّك تمرّ عليه وعلى أهله بغير إذنه ، فاستأذن عليه إذا أردت أن تدخل ، فقال : يا رسول الله ، أستأذن في طريقي إلى عذقي؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ عنه ولك عذق في مكان كذا ، قال : لا ، قال : فلك اثنان فقال : لا اريد ، فجعل صلى‌الله‌عليه‌وآله يزيد حتى بلغ عشرة أعذق ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلّ عنه ولك عشرة أعذق في مكان كذا ، فأبى ، فقال : خلّ عنه ولك بها عذق في الجنّة ، فقال : لا اريد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، قال عليه‌السلام : ثمّ أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلعت ، ثمّ رمي بها إليه ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : انطلق فاغرسها حيث شئت) (١) الخبر.

وفي رواية اخرى موثّقة : (إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط رجل من الأنصار وكان منزل الأنصاري بباب البستان ـ وفي آخرها قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصاري : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار) (٢) الخبر.

____________________________________

وتفصيل القصّة موجود في المتن فلا يحتاج إلى مزيد من البيان.

هذا والقصّة تكشف عن شقاوة سمرة بن جندب ، وكفى في شقاوته أنّ معاوية أعطاه مائة ألف درهم ليضع روايات كاذبة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكان منها قوله بأنّ آية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ)(٣) نزلت في علي عليه‌السلام ، وآية (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ)(٤) نزلت في ابن ملجم لعنة الله عليه. هذا تمام الكلام في المقام الأوّل.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٢٩٤ / ٨. الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ ، كتاب إحياء الموات ، ب ١٢ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٣ / ٢. الفقيه ٣ : ١٤٧ / ٦٤٨. التهذيب ٧ : ١٤٧ / ٦٥١. الوسائل ٢٥ : ٤٢٩ ، كتاب إحياء الموات ، ب ١٢ ، ح ٣.

(٣) البقرة : ٢٠٤.

(٤) البقرة : ٢٠٧.

٢٢٤

وأمّا معنى اللفظين ، فقال في الصحاح : «الضرّ خلاف النفع ، وقد ضرّه وضارّه بمعنى ، والاسم : الضّرر ـ ثمّ قال ـ والضّرار : المضارّة» (١).

وعن النهاية الأثيريّة : «في الحديث : (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) ، الضرّ ضدّ النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا ، وأضرّ به يضرّه إضرارا ، فمعنى قوله : لا ضرر : لا يضرّ الرجل أخاه بنقصه شيئا من حقّه ، والضرار فعال من الضرّ ، أي : لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه ، والضّرر فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه ، وقيل : الضّرر ما تضرّ به صاحبك وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه بغير أن تنفع ، وقيل : هما بمعنى ، والتكرار للتأكيد» (٢) ، انتهى.

وعن المصباح : «ضرّه يضرّه» ـ من باب قتل ـ : إذا فعل به مكروها وأضرّ به ، يتعدّى بنفسه ثلاثيّا وبالباء رباعيّا ، والاسم : الضّرر ، وقد يطلق على نقص في الأعيان ، وضارّه مضارّة وضرارا بمعنى ضرّه» (٣) ، انتهى.

____________________________________

وأمّا المقام الثاني ، فقد أشار المصنّف قدس‌سره إليه بقوله : (وأمّا معنى اللفظين) ، أي : ضرر وضرار(فقال في الصحاح : الضّر) بالفتح (خلاف النفع) ، لأنّ الضّر مصدر فيكون مقابله مصدر ـ أيضا ـ وهو النفع ، إلى أنّ قال : (وقد ضرّه وضارّه بمعنى) واحد(والاسم : الضرر) ، أي : اسم المصدر هو الضرر في مقابل اسم المصدر من النفع وهو المنفعة ، والفرق بين المصدر واسمه هو أنّ معنى المصدر هو نفس الفعل الصادر من الفاعل ، ومعنى اسم المصدر هو الحاصل من معنى المصدر كالوضوء من التوضؤ مثلا ، ثمّ إنّ مادة الضرر تستعمل متعدّية إذا كانت مجرّدة ، فيقال : ضرّه ويضرّه ، ومتعدّية بالباء إذا كانت من باب الأفعال فيقال حينئذ : أضرّ به ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (يتعدّى بنفسه ثلاثيا وبالباء رباعيّا).

والحاصل : إنّ معنى الضرر في مقابل المنفعة هو مطلق النقص سواء كان في المال ، كما إذا خسر التاجر في تجارته ، أو في العرض ، كما إذا حدث شيء أوجب هتكه ، أو في البدن بالكيفيّة كما إذا أكل شيئا فصار مريضا ، أو بالكميّة كما إذا قطع يده مثلا ، فيكون المراد

__________________

(١) الصحاح ٢ : ٧١٩ ، ٧٢٠ ـ ضرر.

(٢) النهاية ٣ : ٨١ ـ ضرر.

(٣) المصباح المنير : ٣٦٠ ـ ضرر.

٢٢٥

وفي القاموس : «الضرّ ضدّ النفع ، وضارّه يضارّه ضرارا ـ ثمّ قال : ـ والضرر : سوء الحال ـ ثمّ قال ـ : الضرار : الضيق» (١) ، انتهى.

____________________________________

بالمنفعة مطلق الزيادة ، سواء كانت من حيث المال كما إذا ربح التاجر في تجارته ، أو من حيث العرض كما إذا حصل شيئا أوجب تعظيمه ، أو من حيث البدن كما إذا أكل المريض دواء فعوفي منه ، وبين الضرر والمنفعة واسطة وهي تساوي الضرر والمنفعة إن صحّ التعبير ، كما إذا لم يربح التاجر في تجارته ولم يخسر فلم يتحقّق ـ حينئذ ـ ضرر ولا منفعة.

ومن هنا ظهر أنّ التقابل بينهما من قبيل تقابل التضاد لا من قبيل تقابل العدم والملكة ، كما توهّم في الكفاية كما في تقريرات الاستاذ السيد الخوئي ـ دام ظله ـ بتصرّف منّا. هذا تمام الكلام في معنى الضرر.

وأمّا الضرار ـ كما في تقريرات سيدنا الاستاذ ـ فيمكن أن يكون مصدرا للفعل المجرّد كالقيام ، ويمكن أن يكون مصدر باب المفاعلة ، لكنّ الظاهر هو الثاني ، إذ لو كان مصدر المجرّد لزم التكرار في الكلام بحسب المعنى بلا موجب ، ويكون بمنزلة قوله : (لا ضرر ولا ضرار) مع أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمرة بن جندب : (إنّك رجل مضارّ) يؤيّد كونه مصدر باب المفاعلة ، والمسلّم عند الصرفيين والنحويين أنّ باب المفاعلة فعل للاثنين ، لكن التتبع في موارد الاستعمالات يشهد بخلاف ذلك ، وأوّل من تنبّه لهذا الاشتباه هو المرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني قدس‌سره ، والذي يشهد به التتبع ، إنّ هيئة المفاعلة وضعت لقيام الفاعل مقام إيجاد المادة ، وكون الفاعل بصدد إيجاد الفعل ، وأقوى شاهد على ذلك هي الآيات الشريفة :

منها : قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)(٢) حيث ذكر سبحانه وتعالى أنّ المنافقين بصدد إيجاد الخدعة ، ولكن لا تقع خدعتهم إلّا على أنفسهم ، ومن ثمّ عبّر في الجملة الاولى بهيئة المفاعلة ، لأنّ الله تعالى لا يكون مخدوعا بخدعتهم ، لأنّ المخدوع هو الجاهل بل الخدعة لازمة للجهل ، وتعالى الله عنه علوّا كبيرا.

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ : ١٠٧ ، باب الراء ، فصل الضاد.

(٢) البقرة : ٩.

٢٢٦

إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ المعنى بعد تعذّر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى أنّ الشارع لم يشرّع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيّا كان أو وضعيّا ، فلزوم البيع مع الغبن حكم يلزم منه ضرر على المغبون ، فينتفي بالخبر ، وكذلك لزوم البيع من غير شفعة للشريك ، وكذلك وجوب الوضوء على من لا يجد الماء إلّا بثمن كثير ، وكذلك سلطنة المالك على الدخول إلى عذقه ، وإباحته له من دون استئذان من الأنصاري.

____________________________________

وكما عبّر في الجملة الثانية بهيئة الفعل المجرّد ، لوقوع ضرر خدعتهم على أنفسهم لا محالة.

ومنها : قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ)(١) ووجه الدلالة واضح لا يحتاج إلى البيان ، وكيف كان ، فالشواهد على ذلك كثيرة في الآيات.

وأمّا المقام الثالث فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إذا عرفت ما ذكرناه ، فاعلم أنّ المعنى) ، أي : معنى اللفظين بعد كلمة (لا) الداخلة عليهما في الجملتين.

وبعبارة اخرى : معنى هذه الهيئة التركيبيّة (بعد تعذّر إرادة الحقيقة) ، لأنّ إرادة المعنى الحقيقي مستلزم للكذب ، إذ وجود الضرر فوق حدّ الإحصاء ، والاحتمالات الواردة في معنى الهيئة التركيبيّة وإن كانت كثيرة قد ذكر بعض لها سبعة أو ثمانية احتمالات ، إلّا أنّ العمدة منها ثلاثة وقد قال بكلّ قائل ، وأمّا سائر الاحتمالات ، فهي إمّا تعود إليها بالنتيجة أو ضعيفة يجب الإعراض عنها ، كما في بحر الفوائد بتلخيص ، وذكر المصنّف قدس‌سره احتمالين منها :

أمّا الاحتمال الأوّل ، فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إنّ المعنى بعد تعذّر إرادة الحقيقة عدم تشريع الضرر ، بمعنى أنّ الشارع لم يشرّع حكما يلزم منه ضرر على أحد ، تكليفيّا كان أو وضعيّا ... إلى آخره).

وحاصل الكلام في هذا المقام ، هو أنّ المراد من نفي الضرر في الشرع هو نفي الحكم

__________________

(١) التوبة : ١١١.

٢٢٧

وكذلك حرمة الترافع عند حكّام الجور إذا توقّف أخذ الحقّ عليه ، ومنه براءة ذمّة الضارّ من تدارك ما أدخله من الضرر ، إذ كما أنّه تشريع حكم يحدث معه الضرر منفيّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث ، بل يجب أن يكون الحكم المشروع في تلك الواقعة على وجه يتدارك ذلك الضرر كأن لم يحدث ، إلّا أنّه قد ينافي هذا قوله : (لا ضرار) ، بناء على أنّ معنى الضرار المجازاة على الضرر.

وكذا لو كان بمعنى المضارّة التي هي من فعل الاثنين ، لأنّ فعل البادئ منهما ضرر قد نفي بالفقرة الاولى ، فالضرار المنفي بالفقرة الثانية إنّما يحصل بفعل الثاني ، وكأنّ من فسّره بالجزاء على الضرر أخذه من هذا المعنى ، لا على أنّه معنى مستقلّ.

____________________________________

الناشئ من قبله الضرر ونفي تشريعه ، من دون فرق بين حكمه التكليفي أو الوضعي.

فحينئذ كلّ حكم ـ تكليفيّا كان أو وضعيّا ـ يلزم من جعله ، أو إمضائه شرعا ضرر على أحد ، سواء كان الضرر من قبل الجعل الشرعي ، أو من قبل العباد ، فهو منفي شرعا وغير مجعول للشارع ، ولا ممضى من قبله ، فكما أنّ لزوم البيع ـ مع الغبن والعيب وبدون حقّ الشفعة للشريك ـ منفي لكونه ضرريّا ، كذلك وجوب الغسل والوضوء والصوم والحجّ وغير ذلك من العبادات منفي إذا لزم منه التضرر.

(وكذلك حرمة الترافع عند حكّام الجور إذا توقّف أخذ الحقّ عليه).

أي : ترتفع حرمة الترافع عند حكّام الجور إذا توقّف استرداد الحقّ على الترافع عندهم.

(ومنه براءة ذمّة الضارّ من تدارك ما أدخله من الضرر).

وممّا يرتفع شرعا بأدلّة نفي الضرر أيضا براءة ذمّة الضارّ ، (إذ كما أنّه تشريع حكم يحدث معه الضرر منفيّ بالخبر ، كذلك تشريع ما يبقى معه الضرر الحادث) كبراءة الذمّة منفي به.

(إلّا أنّه قد ينافي هذا) ، أي : نفي تشريع ما يبقى معه الضرر كبراءة ذمّة الضارّ في المثال الأخير(قوله : (لا ضرار) ، بناء على أنّ معنى الضرار المجازاة على الضرر ، وكذا لو كان بمعنى المضارّة التي هي من فعل الاثنين) فلا تنافي بين نفي تشريع ما يبقى معه الضرر ، وبين الضرار بمعنى الضرر ، لأنّ الضرار بمعنى الضرر تأكيد للضرر ، ونفيه تأكيد لنفيه.

٢٢٨

ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن إضرار النفس أو الغير ابتداء أو مجازاة ،

____________________________________

فلا بدّ ـ حينئذ ـ من بيان التنافي بين الصدر والذيل ؛ تارة : على تقدير كون الضرار بمعنى المجازاة ، واخرى : على تقدير كونه بمعنى المضارّة.

أمّا التنافي على التقدير الأوّل ، فملخّصه : إنّ براءة ذمّة الضارّ عن تدارك ما أضرّ به غيره ، منفيّة بالصدر والفقرة الاولى ، ولازمه وجوب الغرامة عليه ، ووجوب الغرامة بمعنى المجازاة منفي بالذيل والفقرة الثانية ، ولازمه عدم وجوب الغرامة على الضارّ ، بل حرمتها عليه ، هذا ملخّص بيان التعارض والتنافي بين الصدر والذيل على التقدير الأوّل.

وأمّا التنافي على التقدير الثاني ، وهو أن يكون الضرار بمعنى المضارّة ، فحاصله : إنّ شخصين إذا أضرّ كلّ منهما بالآخر ، ففعل البادئ منهما ضرر منفي بالفقرة الاولى ، ولازمه وجوب الغرامة على من بدأ بالضرر.

ثمّ إنّ الضرار ـ بمعنى إضرار الثاني على الأوّل الحاصل بفعل الثاني ـ منفيّ بالفقرة الثانية أيضا ، ولازم نفي الضرار بهذا المعنى هو حرمة أخذ الغرامة من الضارّ ، فيقع التنافي والتعارض بين الفقرتين ، وذلك لأنّ لازم نفي الضرر بالفقرة الاولى وجوب الغرامة على الضارّ ، ولازم نفي الضرار بالثانية هو حرمة أخذ الغرامة منه. هذا تمام الكلام في الإشكال الأوّل.

ويمكن الجواب عنه بأحد وجهين :

الأوّل : إنّ الإشكال مبنيّ على أن يكون الضرار بمعنى المجازاة أو المضارّة ، وليس الأمر كذلك بل الضرار والضرر بمعنى واحد ، وما ذكر من تغايرهما غير ثابت.

والثاني : إنّه لو ثبت التغاير المذكور ، لقلنا بتخصيص (لا ضرار) بأدلّة ضمان المتلفات ، فيرتفع ـ حينئذ ـ التنافي. هذا تمام الكلام في الاحتمال الأوّل من الاحتمالات المتصوّرة في المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) (١).

وأمّا الاحتمال الثاني ، فلقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(ويحتمل أن يراد من النفي النهي عن إضرار النفس أو الغير ابتداء أو مجازاة).

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٧. الوسائل ٢٦ : ١٤ ، أبواب موانع الإرث ، ب ١ ، ح ١٠.

٢٢٩

لكن لا بدّ أن يراد بالنهي ـ زائدا على التحريم ـ الفساد وعدم المضي ، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء في الشروط والعقود ، فكلّ إضرار بالنفس أو الغير محرّم غير ماض على من أضرّه.

وهذا المعنى قريب من الأوّل ، بل راجع إليه ، والأظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظائرها

____________________________________

فيكون ـ حينئذ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار) بمعنى الإنشاء ، كما كان على الاحتمال الأوّل بمعنى الأخبار.

وحاصل الكلام في هذا الاحتمال ، هو أنّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار) نفي اريد به النهي ، فيكون بمنزلة قوله تعالى : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ)(١) وعلى هذا فيكون مفاد الفقرتين حرمة الإضرار بالنفس أو بالغير ، وحرمة القيام مقام الإضرار.

(لكن لا بدّ أن يراد بالنهي ـ زائدا على التحريم ـ الفساد وعدم المضي) في موارد إمكان الحكم بالفساد كالبيع الغبني ، حيث يكون حراما وغير ماض ، بمعنى أنّه متزلزل بخيار الغبن ، والوضوء مع الضرر حيث يكون حراما وفاسدا ، واتلاف مال الغير حيث يكون حراما وغير جائز ، بمعنى كون المتلف ضامنا.

وهكذا قال المصنّف قدس‌سره : (لكن لا بدّ أن يراد بالنهي ... إلى آخره).

(للاستدلال به) ، أي : لاستدلال الإمام بقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) (في كثير من رواياته على الحكم الوضعي) كثبوت حقّ الشفعة للشريك ، (فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء في الشروط والعقود) ، فكما أنّ الأمر بالوفاء بالعهود والعقود والشرائط يدلّ على الوجوب والصحّة ، فكذلك النهي هنا يدلّ على الحرمة والفساد.

(وهذا المعنى قريب من الأوّل).

أي : الاحتمال الثاني ـ في معنى لا ضرر ولا ضرار ـ قريب من الاحتمال الأوّل الذي تقدّم في معنى لا ضرر ولا ضرار ، وذلك لأنّه إذا حرم الإضرار وفسدت العبادات والمعاملات الضرريّة ، كان لازم ذلك عدم جعل الأحكام الضرريّة أيضا ، كما لا يخفى.

(بل راجع إليه) بأن يكون النهي لمجرّد الإرشاد إلى المعنى الأوّل ، أو يكون تشريعيّا

__________________

(١) البقرة : ١٩٧.

٢٣٠

وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء ، هو المعنى الأوّل.

____________________________________

بمعنى أنّ الشارع لم يجعل أحكاما ضرريّة ، فالالتزام والأخذ بها يكون تشريعا محرّما ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي والتنكابني.

(والأظهر بملاحظة نفس الفقرة) من جهة ظهورها في الإخبار عن نفي الضرر ، لا النهي عن الإضرار بالنفس أو بالغير الظاهر في إنشاء الحرمة (ونظائرها) كأدلّة نفي الحرج والنسيان والخطأ ، وغيرها ممّا دلّ على نفي الآثار الشرعيّة لا نفي الذات ، لامتناع نفي الذات فيها.

(وموارد ذكرها) ، أي : قاعدة لا ضرر(في الروايات) حيث استدلّ الإمام عليه‌السلام بها على ثبوت الشفعة وثبوت الضمان ونحوهما(وفهم العلماء) حيث استدلّوا بها على عدم لزوم المعاملات الضرريّة مع عدم تعلّق النهي والحرمة في بعضها كبيع المعيب مثلا ، كما استدلّوا بها ـ أيضا ـ على انتفاء الأحكام الضرريّة كوجوب الوضوء المضرّ ، مع أنّه لا معنى لحرمة هذه الأحكام بالنسبة للباري سبحانه (هو المعنى الأوّل) لأنّ هذه الامور إنّما تناسب المعنى الأوّل لا المعنى الثاني.

ثمّ إنّ ما تقدّم من تنظير النهي في المقام بالأمر بالوفاء بالعقود مردود بأنّ الصحّة في العقود لا تستفاد من الأمر ، بل من مادة الوفاء كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. هذا تمام الكلام في الاحتمالين اللذين ذكرهما المصنّف قدس‌سره.

وأمّا الاحتمال الثالث ، فهو أن يكون المراد من نفي الضرر هو نفي الضرر غير المستدرك ، ولازمه ثبوت المدارك في موارد ما مرّ من الشارع ، لأنّ الضرر المتدارك لا يكون ضررا حقيقة ، فلا ينافي وجوده في الخارج نفي الضرر ، إذ المنفي ليس الضرر المطلق ، ولعلّ إليه يشير ما تقدّم من الفاضل التوني قدس‌سره حيث كان مراده من نفي الضرر نفيه ادّعاء لا حقيقة حتى يلزم الكذب ، لأنّ الضرر المتدارك ليس بضرر ادّعاء ، إلّا أنّه يرد عليه :

أوّلا : إنّ الاستعمال الادّعائي مجاز يحتاج إلى القرينة.

وثانيا : إنّ التقييد خلاف الأصل ، فلا يصار إليه بلا دليل.

وثالثا : إنّ التنزيل إنّما يصحّ بعد التدارك خارجا لا بمجرّد حكم الشارع بالتدارك ، لأنّ التدارك الموجب لانتفاء الضرر هو التدارك الخارجي التكويني لا التشريعي.

٢٣١

ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كأدلّة لزوم العقود ، وسلطنة الناس على أموالهم ، ووجوب الوضوء على واجد

____________________________________

ورابعا : إنّ كلّ ضرر خارجي ليس ممّا حكم الشارع بتداركه تكليفا أو وضعا ، فإنّه لو تضرّر تاجر باستيراد تاجر آخر ، لا يجب عليه تدارك الضرر الذي سبّبه للتاجر الآخر مع أنّ التاجر الثاني هو الموجب للضرر على التاجر الأوّل ، كما في تقريرات سيدنا الاستاذ دام ظلّه. هذا تمام الكلام في المقام الثالث.

وأمّا المقام الرابع وهو حالها في قبال الأدلّة المعارضة لها ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(ثمّ إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ... إلى آخره).

وقبل بيان حكومة قاعدة لا ضرر على العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، لا بدّ من لحاظ تنافيها بكلّ واحد من معانيها الثلاثة مع العمومات الدالّة على تشريع الحكم الضرري ، فنقول :

إنّ اريد بها المعنى الثالث ، وهو أن يكون مفادها نفي الحكم الضرري الذي لم يتدارك ضرره ، فلا تنافي بينها وبين ما دلّ على ثبوت الحكم الضرري في الإسلام ، وذلك لأنّ الأحكام الشرعيّة عند العدليّة تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، فحينئذ إذا كان دليل دلّ على ثبوت الحكم الضرري لكان كاشفا عن تدارك ضرره بالمصلحة العائدة إلى المتضرّر ولو في الآخرة ، فلا تنافي إذن بين ما دلّ على ثبوت الحكم الضرري وبين هذه القاعدة ، وذلك لأنّ مفادها أنّ كلّ ضرر ناشئ من الحكم التكليفي أو الوضعي متدارك ، إمّا في الدنيا بزيادة المال ، أو في الآخرة بالمصلحة والثواب ، فتأمّل كي تعرف.

وإن اريد بها المعنى الثاني ، أي : تحريم الإضرار بالنفس أو بالغير ، فإن اريد بها مجرّد حرمة الضرر ، فلا تنافي بينها وبين ما دلّ على ثبوت الحكم الضرري في الإسلام أيضا ، كبراءة ذمة الضارّ فرضا ، وذلك لأنّ الحكم ببراءة ذمّة الضارّ وإن كان ضرريّا ، إلّا أنّه لا ينافي كون فعله ـ وهو الإضرار بالغير ـ حراما أيضا.

وإن اريد بها الحرمة مع الفساد وعدم المضي ، حصل التنافي بينها وبين ما دلّ على

٢٣٢

الماء ، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور ، وغير ذلك.

____________________________________

ثبوت الحكم الضرري ، إذ معنى القاعدة ـ حينئذ ـ هو الحرمة مع عدم المضي ، أي : كون الضار ضامنا ، فينافي هذا الحكم بالبراءة ، أي : براءة ذمّة الضارّ بمعنى كون إتلافه غير مضمون ، بمعنى أنّه لا يكون ضامنا ، فالحكم الضرري ، وهو براءة ذمّة الضارّ يتنافى مع القاعدة ، إذ لازم الأوّل أن لا يكون الضار ضامنا ، ومفاد الثاني أن يكون ضامنا.

وأمّا إن اريد بها المعنى الأوّل ، وهو عدم تشريع الأحكام الضرريّة ، فتتنافى ـ حينئذ ـ جميع الأدلّة الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري.

وكيف كان ، فيقع الكلام على فرض التنافي بينهما في تقدّم الأدلّة عليها بالحكومة ، أو حكومتها هي على سائر الأدلّة المعارضة الاخرى ، ومختار المصنّف قدس‌سره هو الأخير ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إنّ هذه القاعدة حاكمة على جميع العمومات الدالّة بعمومها على تشريع الحكم الضرري ، كأدلّة لزوم العقود ، وسلطنة الناس على أموالهم ، ووجوب الوضوء على واجد الماء ، وحرمة الترافع إلى حكّام الجور ، وغير ذلك).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في المقام ، هو أنّ معنى الحكومة كما سيأتي في كلامه هو كون أحد الدليلين ناظرا إلى الآخر ، بحيث لو لم يكن الدليل المحكوم لكان ورود الدليل الحاكم لغوا ، وقد تقدّمت أقسامها في أوّل بحث البراءة فراجع.

ومجمل الأقسام في المقام هو أنّ الدليل الحاكم ؛ تارة : يكون ناظرا إلى عقد وضع الدليل المحكوم. واخرى : إلى عقد حمله. وعلى كلا التقديرين ؛ تارة : تكون نظارته بالإثبات والتوسعة. واخرى : بالنفي والتضييق.

ودليل لا ضرر في المقام ناظرا إلى عقد حمل الدليل المحكوم بالنفي والتضييق ، وذلك لأنّ الوضوء واجب على واجد الماء ، والعقد لازم ، و (الناس مسلّطون على أموالهم) (١) والترافع إلى حكّام الجور حرام ما لم تكن الأحكام المذكورة ضرريّة ، ومفاد دليل (لا ضرر) أنّ الوضوء ليس واجبا على واجد الماء لو كان متوقّفا على بذل الثمن الكثير ، لكونه ضررا ،

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٣ : ٢٠٨ / ٤٩ ، البحار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

٢٣٣

وما يظهر ـ من غير واحد ـ من التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة ، ثمّ ترجيح هذه ، إمّا بعمل الأصحاب وإمّا بالاصول ، كالبراءة في مقام التكلّف وغيرها في غيره ، فهو خلاف ما يقتضيه التدبّر في نظائرها ، من أدلّة رفع الحرج ، ورفع الخطأ والنسيان ، ونفي السهو على كثير السهو ، ونفي السبيل على المحسنين ، ونفي قدرة العبد على شيء ، ونحوها.

____________________________________

والعقد ليس بلازم ـ أيضا ـ لو كان في لزومه ضرر ، والناس ليسوا بمسلّطين ـ على أموالهم ـ لو كان في سلطنتهم ضرر ، والترافع إلى حكّام الجور ليس بحرام إذا كان في تحريمه ضرر ، وحينئذ تكون هذه القاعدة حاكمة على أدلّة تلك الأحكام إذا كانت ضرريّة ، وذلك لأنّها ناظرة إلى عقد حملها بالنفي والتضييق ، كما عرفت.

ومن هنا يظهر عدم صحّة التعارض بين هذه القاعدة وسائر الأدلّة كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (وما يظهر ـ من غير واحد ـ من) أخذ(التعارض بين العمومات المثبتة للتكليف وهذه القاعدة ، ثمّ ترجيح هذه ، إمّا بعمل الأصحاب وإمّا بالاصول ، كالبراءة في مقام التكلّف) مثل البراءة عن وجوب الوضوء المضرّ(وغيرها في غيره) كأصالة عدم اللزوم في المعاملات الضرريّة وحرمة إيذاء المؤمن كما في قصة سمرة بن جندب ، وأدلّة احترام حقوق المؤمن في مثال الرجوع إلى الجائر ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(فهو خلاف ما يقتضيه التدبّر في نظائرها).

أي : ما يظهر من غير واحد من التعارض مخالف لما يقتضيه التدبّر في نظائر هذه القاعدة ، إذ مقتضى التدبّر في النظائر هو الورود ، كالأدلّة العلميّة على الاصول العمليّة ، أو الحكومة كأدلّة نفي الحرج ورفع الخطأ والنسيان ، ومن المعلوم أنّ الدليل الحاكم كالدليل الوارد متقدّم على الدليل المحكوم والمورود ، من دون ملاحظة النسبة بينهما ، ومن دون ملاحظة المرجّحات الدلاليّة والسنديّة ، وهذا ممّا لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في الصغرى ، أي : هل أنّ قاعدة لا ضرر حاكمة بالفعل على سائر العمومات أم لا؟ وليس الكلام في تقدّم الدليل الحاكم أو الوارد على الدليل المحكوم أو المورود.

والحاصل أنّ تقديم الدليل الحاكم لا يحتاج إلى المرجّح ، إلّا أنّ الغفلة وقعت في

٢٣٤

مع أنّ وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات.

والمراد بالحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال دليل آخر ، من حيث إثبات حكم لشيء أو نفيه عنه.

فالأوّل : مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين ، فإنّه حاكم على ما دلّ على أنّه (لا صلاة إلّا بطهور) (١) ، فإنّه يفيد بمدلوله اللفظي على أنّ ما ثبت من الأحكام للطهارة ـ في مثل لا صلاة إلّا بطهور وغيرها ـ ثابت للمتطهر بالاستصحاب أو بالبيّنة.

____________________________________

الصغرى ، حيث غفل غير واحد من العلماء عن حكومة هذه القاعدة على العمومات ، فتخيّل التعارض بينهما بالعموم من وجه ، فمادّة الافتراق من جانب العمومات هي موارد عدم الضرر ، ومادّة الافتراق من جانب القاعدة هي إتلاف مال الغير ، ومادة الاجتماع هي الوضوء الضرري مثلا ، ولذلك حكموا بترجيح القاعدة بالإجماع وغيره.

ولذلك قال المصنّف قدس‌سره ردّا لهذا التوهّم : بأنّ القاعدة حاكمة على العمومات ، فلا حاجة في تقديمها عليها ـ حينئذ ـ إلى ملاحظة النسبة بينهما ثمّ ترجيح القاعدة عليها ، بل دليل نفي السهو على كثير السهو مثلا حاكم على دليل وجوب سجدتي السهو ، فيقدّم عليه من دون ترجيح خارجي ، بل حتى على فرض التعارض بينها وبين العمومات تقدّم القاعدة عليها لمرجّح داخلي ، وهو وقوعها في مقام الامتنان من دون حاجة إلى مرجّح خارجي أصلا ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(مع أنّ وقوعها في مقام الامتنان يكفي في تقديمها على العمومات).

ثمّ يشير المصنّف قدس‌سره إلى معنى الحكومة تمهيدا للفرق بينها وبين التعارض بقوله :

(والمراد بالحكومة : أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي متعرّضا لحال دليل آخر ، من حيث إثبات حكم لشيء) إشارة إلى كون الدليل الحاكم موسّعا للدليل المحكوم (أو نفيه عنه) إشارة إلى كون الحاكم مضيّقا للمحكوم.

(فالأوّل) ، أي : كون الدليل الحاكم موسّعا(مثل ما دلّ على الطهارة بالاستصحاب أو بشهادة العدلين ، فإنّه حاكم على ما دلّ على أنّه (لا صلاة إلّا بطهور)).

__________________

(١) التهذيب ١ : ٥٠ / ١٤٤. الاستبصار ١ : ٥٥ / ١٦٠. غوالي اللآلئ ٣ : ٨ / ١. الوسائل ١ : ٣١٥ ، أبواب أحكام الخلوة ، ب ٩ ، ح ١.

٢٣٥

والثاني : مثل الأمثلة المذكورة ، وأمّا المتعارضان فليس في أحدهما دلالة لفظيّة على حال الآخر من حيث العموم والخصوص ، وإنّما يفيد حكما منافيا لحكم الآخر ، وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحقّقهما واقعا ، يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعيّن ، إن كان الآخر أقوى منه ، فهذا الآخر الأقوى قرينة عقليّة على المراد من الآخر ، وليس في مدلوله اللفظي تعرّض

____________________________________

وملخّص تقريب الحكومة على نحو التوسعة : أنّ الدليل المحكوم وهو قوله عليه‌السلام : (لا صلاة إلّا بطهور) ظاهر في أنّ الصلاة مشروطة بالطهارة الواقعيّة ، ولكن أدلّة حجيّة الاستصحاب والبيّنة تفيد كفاية الطهارة الظاهريّة الثابتة بأحدهما ، وبذلك يكون المراد بالطهارة في قوله : (لا صلاة إلّا بطهور) أعمّ من الطهارة الواقعيّة والظاهريّة ، هذا هو معنى التوسعة ، فتأمّل.

(والثاني : مثل الأمثلة المذكورة).

أي : كون الدليل الحاكم مضيّقا للدليل المحكوم ، فكالأمثلة المذكورة كحكومة أدلّة رفع الحرج ورفع الخطأ ، والنسيان ونفي السهو على كثير السهو وغيرها ... إلى آخره ، وذلك لأنّ هذه الأدلّة الدالّة على رفع الامور المذكورة كلّها جاءت في مقام الامتنان وتضييق دائرة الأحكام الأوّليّة ، لكونها قواعد ثانويّة ، هذا مختصر الكلام في معنى الحكومة.

(أمّا المتعارضان ، فليس في أحدهما دلالة لفظيّة على حال الآخر من حيث العموم والخصوص) ، بأن يكون بمدلوله اللفظي موسّعا للآخر أو مضيّقا ، كما عرفت في الحكومة (وإنّما يفيد حكما) مستقلّا(منافيا لحكم الآخر) بالعموم المطلق ك : أكرم العلماء ولا تكرم المنجّمين ، أو بالعموم من وجه ك : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق ، أو بالتباين ك : أكرم العلماء ولا تكرم العلماء ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(وبملاحظة تنافيهما وعدم جواز تحقّقهما واقعا ، يحكم بإرادة خلاف الظاهر في أحدهما المعيّن ، إن كان الآخر أقوى منه) ، بأن يكون أحدهما خاصّا والآخر عامّا ، فإنّ الخاصّ أقوى دلالة من العامّ ، فيحمل العامّ على خلاف ظاهره ، أو يكون أحدهما نصّا والآخر ظاهرا ، فإنّ النصّ أقوى من الظاهر ، أو يكون أحدهما أظهر والآخر ظاهرا ، فإنّ الظاهر يحمل على خلاف ظاهره ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فهذا الآخر الأقوى قرينة عقليّة على المراد من الآخر ، وليس في مدلوله اللفظي تعرّض

٢٣٦

لبيان المراد منه.

ومن هنا وجب ملاحظة الترجيح في القرينة ، لأنّ قرينيّته بحكم العقل بضميمة المرجّح.

أمّا إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الآخر ، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجّح له ، بل هو متعيّن للقرينة بمدلوله له ، وسيأتي لذلك توضيح في تعارض الاستصحابين إن شاء الله تعالى.

ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا من حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان ـ نظير أدلّة نفي الحرج والإكراه ـ أنّ مصلحة الحكم الضرري المجعول بالأدلّة العامّة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر ، حتى يقال : إنّ الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرّر

____________________________________

لبيان المراد منه) بل يفيد حكما مستقلّا كما عرفت.

(ومن هنا وجب ملاحظة الترجيح في القرينة) فيؤخذ بظاهر ما له ترجيح على الآخر ، ويحمل الآخر على خلاف ظاهره (لأنّ قرينيّته) ، أي : ما له ترجيح (بحكم العقل) إنّما هي (بضميمة المرجّح) الخارج عن مدلول اللفظ.

(أمّا إذا كان الدليل بمدلوله اللفظي كاشفا عن حال الآخر ، فلا يحتاج إلى ملاحظة مرجّح له ، بل هو متعيّن للقرينة بمدلوله اللفظي) من باب التفسير.

(ثمّ إنّه يظهر ممّا ذكرنا من حكومة الرواية وورودها في مقام الامتنان ـ نظير أدلّة نفي الحرج والإكراه ـ أنّ مصلحة الحكم الضرري المجعول بالأدلّة العامّة لا تصلح أن تكون تداركا للضرر ، حتى يقال : إنّ الضرر يتدارك بالمصلحة العائدة إلى المتضرّر وأنّ الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ، ليس بمنفي ، بل ليس ضررا).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في دفع الإشكال على التمسّك بالقاعدة يتوقّف على تقريب الإشكال ، وذلك بأن يقال : إنّ الأدلّة حاكمة أو واردة على القاعدة ، وذلك لأنّ المصالح النفس الأمريّة الموجودة في الأحكام الشرعيّة موجبة لتدارك الضرر الموجود في الحكم الضرري كوجوب الوضوء في البرد الشديد ، وبذلك تكون القاعدة وإن كانت دالّة على عدم وجوب الوضوء في البرد الشديد لكونه ضررا ، إلّا أنّ إطلاق الأمر بالوضوء يدلّ على وجود مصلحة فيه يتدارك بها الضرر الناشئ منه ، فحينئذ لا يخلو الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه عن أحد احتمالين :

٢٣٧

وأنّ الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ، ليس بمنفي ، بل ليس ضررا.

توضيح الفساد : إنّ هذه القاعدة تدلّ على عدم جعل الأحكام الضرريّة واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر.

نعم ، لو لا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهّم المذكور مجال.

____________________________________

أحدهما : إنّه ليس بمنفي ، إلّا أنّه متدارك ، فالأدلّة ـ حينئذ ـ حاكمة على القاعدة ومفسّرة لها ، وهذا الاحتمال ما اشير إليه بقوله : (وأنّ الضرر المقابل بمنفعة راجحة عليه ، ليس بمنفي).

وثانيهما : أن يكون الضرر منفيّا ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (بل ليس ضررا) فالأدلّة ـ حينئذ ـ تكون واردة على القاعدة ، وعلى التقديرين فإنّ القاعدة تختصّ بمسألة إتلاف مال الغير. هذا ملخّص تقريب الإشكال على القاعدة.

ويقول المصنّف قدس‌سره في ردّ هذا الإشكال :

(إنّه يظهر ممّا ذكرنا من حكومة الرواية ... إلى آخره).

إنّ الإشكال المذكور مردود ، وذلك لأنّ مصلحة الحكم الضرري لا تصلح لأن تكون تداركا للضرر ، إلى أن قال :

(توضيح الفساد : إنّ هذه القاعدة) بمقتضى الشواهد الكثيرة (تدلّ على عدم جعل الأحكام الضرريّة ، واختصاص أدلّة الأحكام بغير موارد الضرر).

وعمدة الشواهد وقوع القاعدة في أكثر رواياتها في مقابل الأدلّة ، فإنّ حكم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بقلع العذقة وارد في مقابل (الناس مسلّطون) (١) وحرمة التصرّف في مال الغير ، فلا بدّ من أن يقال بعدم جعل الحكم الضرري ، ولازمه عدم سلطنة الناس على أموالهم ، وعدم حرمة التصرّف في مال الغير إذا كان فيهما ضرر ، فتكون القاعدة حاكمة على الأدلّة كما عرفت.

ومن الشواهد ورودها في مقام الامتنان ، ومقتضاه تقدّمها على الأدلّة كنظائرها(نعم ، لو لا الحكومة ومقام الامتنان كان للتوهّم المذكور) ، أي : تقدّم الأدلّة عليها(مجال) كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وبالجملة ، إنّ توهّم تقدّم الأدلّة على القاعدة فاسد.

__________________

(١) غوالي اللآلئ ٣ : ٢٠٨ / ٤٩. البحار ٢ : ٢٧٢ / ٧.

٢٣٨

وقد يدفع : بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر. وهذه المصلحة لا يتدارك بها الضرر الموجود في مورده ، فإنّ الأمر بالحجّ والصلاة ـ مثلا ـ يدلّ على عوض ولو مع عدم الضرر ، ففي مورد الضرر لا علم بوجود ما يقابل الضرر.

وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم ، لأنّه إن سلّم عموم الأمر بصورة الضرر ، كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا المورد ، مع أنّه يكفي ـ حينئذ ـ في تدارك الضرر

____________________________________

ودفع التوهّم المذكور والجواب عنه بغير ما ذكرناه من الدفع ، والجواب يكون أشنع فسادا من أصل التوهّم ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى الجواب الثاني الفاسد بقوله :

(وقد يدفع بأنّ العمومات الجاعلة للأحكام إنّما تكشف عن المصلحة في نفس الحكم ولو في غير مورد الضرر ... إلى آخره).

والدافع هو الفاضل النراقي قدس‌سره في العوائد.

وحاصل الدفع ، هو أنّ غاية ما يلزم من الأمر على وجه العموم أو الإطلاق هو كشفه عن وجود مصلحة في الطبيعة التي تعلّق بها ، وهذه المصلحة لم تلاحظ في مقابل الضرر الحاصل من خصوصيّات بعض أفراد تلك الطبيعة ، كالوضوء في البرد الشديد مثلا ، وبذلك لا تصلح المصلحة في نفس الطبيعة لتدارك الضرر الحاصل من الأفراد ، بل تداركه يحتاج إلى وجود مصلحة زائدة على المصلحة في نفس الطبيعة ، وهي غير معلومة ولا مظنونة ، فكيف يقال بتداركه بها ثمّ الحكم بتقديم الأدلّة على القاعدة؟! ، بل لا بدّ من الحكم بتقديم القاعدة عليها. هذا ملخّص الدفع الوارد في العوائد.

وردّه المصنّف قدس‌سره حيث قال :

(وهذا الدفع أشنع من أصل التوهّم).

أي : هذا الجواب أشنع فسادا من أصل التوهّم الذي عرفت فساده من جهة الشواهد الكثيرة الدالّة على حكومة القاعدة على سائر الأدلّة ؛ (لأنّه إن سلّم عموم الأمر) كالأمر بالوضوء مثلا(بصورة الضرر ، كشف عن وجود مصلحة يتدارك بها الضرر في هذا المورد) قطعا ، إذ لا معنى ـ حينئذ ـ للأمر لو لم يتدارك الضرر بالمصلحة ، كما أنّ الأوامر المتعلّقة بالموضوعات الضرريّة ، كالخمس والجهاد ، والقصاص ، تكشف عن وجود مصلحة فيها ،

٢٣٩

الأجر المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أفضل الأعمال أحمزها) (١) وما اشتهر في الألسن وارتكز في العقول من : «أنّ الأجر على قدر المشقّة».

فالتحقيق في دفع التوهّم المذكور ما ذكرناه من الحكومة والورود في مقام الامتنان ، ثمّ إنّك قد عرفت بما ذكرنا أنّه لا قصور في القاعدة المذكورة من حيث مدركها سندا أو دلالة.

إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي ، كما لا يخفى على المتتبّع ، خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه ، كما تقدّم ، بل لو

____________________________________

يتدارك بها الضرر الموجود فيها ، ولو كانت المصلحة فيها هي الأجر في الآخرة.

(مع أنّه يكفي ـ حينئذ ـ في تدارك الضرر الأجر المستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أفضل الأعمال أحمزها).

أي : يكفي على فرض شمول الأدلّة لمورد الضرر ـ في تدارك الضرر ـ الأجر المستفاد من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وممّا اشتهر من «أنّ الأجر على قدر المشقة» فيتدارك الضرر بالأجر والثواب ولو في الآخرة ، ولو لم نقل بتداركه بالمصلحة الزائدة على مصلحة نفس الطبيعة.

وكيف كان ، فالدفع المحكي عن صاحب العوائد غير صحيح.

(فالتحقيق في دفع التوهّم المذكور ما ذكرناه من الحكومة والورود في مقام الامتنان). هذا تمام الكلام في المقامات الأربعة.

والمتحصّل من الجميع أنّ القاعدة حاكمة على الأدلّة ، إذ لا قصور فيها من حيث مدركها سندا لتواتره ، إلّا أنّه قد يرد عليها ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إلّا أنّ الذي يوهن فيها هي كثرة التخصيصات فيها بحيث يكون الخارج منها أضعاف الباقي) لخروج الأحكام الكثيرة منها ، وهي تشريع الخمس والزكاة ، والحجّ والجهاد ، مع أبواب الضمانات والحدود ، والديات والقصاص والتعزيرات ، لكون هذه الأحكام المذكورة المجعولة شرعا كلّها ضرريّة (خصوصا على تفسير الضرر بإدخال المكروه) حيث يلزم أن يكون التخصيص في غاية الكثرة ، إذ كثير من الواجبات والمحرّمات ممّا يكرهه أكثر الناس.

__________________

(١) النهاية ١ : ٤٤٠. البحار ٦٧ : ١٩١ ، بالمعنى.

٢٤٠