دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة.

فنقول ـ بعد الإغماض عمّا هو التحقيق عندنا تبعا للمحقّقين ، من أنّ التسبيبات الشرعيّة راجعة إلى تكاليف شرعيّة ـ :

إنّ الأحكام الوضعيّة على القول بتأصّلها هي الامور الواقعيّة المجعولة للشارع ، نظير الامور الخارجيّة الغير المجعولة ، كحياة زيد وموت عمرو ، ولكنّ الطريق إلى تلك المجعولات

____________________________________

حقائق واقعيّة وحقائق ظاهريّة).

وما ذكره المصنّف قدس‌سره من الإيراد على الفاضل النراقي قدس‌سره ينحلّ إلى إيرادين :

أحدهما : على المقدّمة.

وثانيهما : على التفصيل.

أمّا بيان الإيراد الأوّل ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(بعد الإغماض عمّا هو التحقيق عندنا تبعا للمحقّقين ... إلى آخره) فيحتاج إلى مقدّمة ، وهي :

إنّ في كون الأحكام الوضعيّة مجعولة للشارع خلاف بين الاصوليين حيث ذهب بعضهم إلى أنّ الشارع ، كما جعل أحكاما تكليفيّة جعل ـ أيضا ـ أحكاما وضعيّة ، أي : جعل بعض الامور سببا أو شرطا أو مانعا لبعضها ، كالعقد للزوجيّة والذبح للحليّة في مقابل الأسباب التكوينيّة ، كالشمس للنهار مثلا.

وذهب المشهور إلى أنّ مجعولات الشارع منحصرة في الأحكام التكليفيّة ، الخمسة ، وأمّا الأحكام الوضعية فامور انتزاعيّة تنتزع من الأحكام التكليفيّة كانتزاع سببيّة الذبح من الحكم بالحليّة عقيب الذبح مثلا ، إذا عرفت هذه المقدّمة ، فنقول :

إنّ كلام النراقي قدس‌سره في المقدّمة ـ حيث قسّم الأحكام الوضعيّة كالتكليفيّة إلى الواقعيّة والظاهريّة ـ إنّما يتمّ على القول الأوّل ، إذ على الثاني ، كما هو مختار المصنّف قدس‌سره لا وجود للأحكام الوضعيّة حتى تنقسم إلى الواقعيّة والظاهريّة. هذا تمام الكلام في الإيراد على المقدّمة.

وأمّا الإيراد على التفصيل بين الأثر الشخصي والنوعي ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إنّ الأحكام الوضعيّة على القول بتأصّلها) ، أي : كونها مجعولة بالأصالة (وهي الامور

١٦١

كغيرها ، قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظنّ الاجتهادي أو التقليد ، وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده ، ولا فرق بينهما في أنّه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا للزوجيّة ، فكلّ من حصل له إلى سببيّة هذا العقد طريق عقلي ـ أعني : العلم ـ أو جعلي بالظنّ الاجتهادي أو التقليد ،

____________________________________

الواقعيّة) تترتّب آثارها عليها حين تحقّقها في الواقع من دون مدخليّة للعلم أو الظنّ أو التقليد في ترتّبها عليها ، من دون فرق بين الأثر الشخصي والنوعي.

(ولكنّ الطريق إلى تلك المجعولات كغيرها) مثل حياة زيد وعمرو (قد يكون هو العلم ، وقد يكون هو الظنّ الاجتهادي أو التقليد ، وكلّ واحد من الطرق قد يحصل قبل وجود ذي الأثر ، وقد يحصل معه ، وقد يحصل بعده ، ولا فرق بينهما) ، أي : بين الطرق الثلاث (في أنّه بعد حصول الطريق يجب ترتيب الأثر على ذي الأثر من حين حصوله) سواء كان الأثر على معيّن أم لا ، لأنّ تمام السبب ما جعله الشارع سببا في الواقع ، فمتى حصل معه الأثر.

وبهذا البيان ظهر فساد ما تخيّله النراقي قدس‌سره من الفرق بين انكشاف مطابقة الواقع وانكشاف مطابقة الفتوى ، إذ لا فرق بين العلم والظنّ في وجوب ترتيب الأثر على ذي الطريق من حين حصوله فأين الانفصال؟.

وظهر أيضا فساد ما تخيّله من الفرق بين تقدّم التقليد وتأخّره بزعم انفصال الأثر في صورة التأخير ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وقال المرحوم غلام رضا قدس‌سره ـ في ذيل كلام المصنّف قدس‌سره (إنّ الأحكام الوضعيّة على القول بتأصّلها هي الامور الواقعيّة المجعولة) ـ ما هذا نصّه :

أقول فيه : إنّ مراده رحمه‌الله من كونها امورا واقعيّة على القول بالجعل إن كان ترتّب الأثر عليها قهرا ، نظير الحلاوة للتمر وسائر لوازم الماهيّات ، ففيه أنّه لم يقل به أحد من القائلين بالجعل ، وإن كان المراد ترتّب الآثار المقصودة بعد قيام الطرق العقليّة والشرعيّة ، فتمثيله بموت زيد وأمثاله ليس في محلّه. انتهى.

(فنقول : إذا كان العقد الصادر من الجاهل سببا للزوجيّة) في الواقع ، كما هو المفروض ، (فكلّ من حصل له إلى سببيّة هذا العقد طريق عقلي ، أعني : العلم) أو الظنّ

١٦٢

يترتّب في حقّه أحكام تلك الزوجيّة من غير فرق بين نفس الزوجين وغيرهما ، فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد ليست مختصّة بهما ، فقد يتعلّق بثالث حكم مترتّب على هذه الزوجيّة ، كأحكام المصاهرة وتوريثها منه والإنفاق عليها من ماله وحرمة العقد عليها حال حياته ، ولا فرق بين حصول هذا الطريق حال العقد أو قبله أو بعده.

ثمّ إنّه إذا اعتقد سببيّته وهو في الواقع غير سبب فلا يترتّب عليه شيء في الواقع ، نعم ، لا يكون مكلّفا بالواقع ما دام معتقدا ، فإذا زال الاعتقاد رجع الأمر إلى الواقع وعمل على مقتضاه.

وبالجملة : فحال الأسباب الشرعيّة حال الامور الخارجيّة ، كحياة زيد وموت عمرو ، فكما أنّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضي مدّة من موته وبين قيام الطريق الشرعي في وجوب ترتّب آثار الموت من حينه ، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببيّة العقد لأثر بعد صدوره وبين الظنّ الاجتهادي به بعد الصدور ، فإنّ مؤدّى الظنّ الاجتهادي الذي يكون

____________________________________

المطلق عند الانسداد بناء على الحكومة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(أو جعلي بالظنّ الاجتهادي أو التقليد ، يترتّب في حقّه أحكام تلك الزوجيّة) من حين الصدور(من غير فرق بين) العلم وغيره ولا بين (نفس الزوجين وغيرهما ، فإنّ أحكام زوجيّة هند لزيد ليست مختصّة بهما) كما توهّم النراقي قدس‌سره ، (فقد يتعلّق بثالث حكم مترتّب على هذه الزوجية ، كأحكام المصاهرة وتوريثها منه) ، أي : إعطاء الورثة أو الحاكم الإرث من ماله لها ، كما في الأوثق ، (والإنفاق عليها) ، أي : إنفاق الحاكم أو الولي من ماله لها إذا كان الزوج مسافرا أو محبوسا ، أو مجنونا أو غيرها من الموانع العقليّة أو الشرعية من مباشرة الإنفاق عليها.

(ثمّ إنّه إذا اعتقد سببيّته وهو في الواقع غير سبب فلا يترتّب عليه شيء في الواقع) ، ومن هنا ظهر فساد ما تقدّم من النراقي من تخيّله حجّية الجهل المركّب ، وأنّ ظهور خلافه بمنزلة تبدل الرأي.

(نعم ، لا يكون مكلّفا بالواقع ما دام معتقدا) ، إذ يجب عليه حينئذ العمل بقطعه وترتيب آثار المقطوع عليه ، إذ لا يعقل القطع بشيء وعدم ترتيب أثره.

(وبالجملة : فحال الأسباب الشرعيّة حال الامور الخارجيّة ، كحياة زيد وموت عمرو ،

١٦٣

حجّة له وحكما ظاهريّا في حقّه هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجيّة بين زيد وهند. والمفروض أنّ دليل حجّيّة هذا الظنّ لا يفيد سوى كونه طريقا إلى الواقع ، فأيّ فرق بين صدور العقد ظانّا بكونه سببا وبين الظنّ به بعد صدوره؟.

وإذا تأمّلت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها.

ومحصّل ما ذكرنا : أنّ الفعل الصادر من الجاهل باق على حكمه الواقعي التكليفي والوضعي. فإذا لحقه العلم أو الظنّ الاجتهادي أو التقليد كان هذا الطريق كاشفا حقيقيّا أو جعليّا عن حاله حين الصدور ، فيعمل بمقتضى ما انكشف. بل حقّقنا في مباحث الاجتهاد

____________________________________

فكما أنّه لا فرق بين العلم بموت زيد بعد مضي مدّة من موته وبين قيام الطريق الشرعي) كالبيّنة مثلا في وجوب ترتيب آثار الموت من حينه ، فكذلك لا فرق بين حصول العلم بسببيّة العقد لأثر بعد صدوره وبين الظنّ الاجتهادي به بعد الصدور.

(فإنّ مؤدّى الظنّ الاجتهادي الذي يكون حجّة له وحكما ظاهريّا في حقّه هو كون هذا العقد المذكور حين صدوره محدثا لعلاقة الزوجيّة بين زيد وهند) ، وبذلك لا يعقل انفصال الأثر عن العقد.

(وإذا تأمّلت في ما ذكرنا عرفت مواقع النظر في كلامه المتقدّم ، فلا نطيل بتفصيلها) ، وقد تقدّمت مواقع النظر :

فمنها : إنّ كلامه ظاهر في أنّ السببيّة وغيرها من الأحكام الوضعيّة مجعولة ، وقد عرفت أنّ الحقّ خلاف ذلك.

ومنها : الفرق بين مطابقة الواقع ومطابقة الفتوى بترتّب الأثر على الأوّل دون الثاني.

ومنها : الفرق بين تقدّم التقليد وتأخّره بالحكم بالصحّة على الأوّل دون الثاني.

ومنها : الفرق بين الجاهل البسيط والمركّب ، حيث حكم بصحّة العمل المخالف للواقع في الثاني دون الأوّل.

(ومحصّل ما ذكرنا أنّ الفعل الصادر من الجاهل) الذي ترك الفحص (باق على حكمه التكليفي) فيكون شرب العصير العنبي حراما عليه وبه يستحق العقاب ، وباق على حكمه الوضعي فيكون عقد النكاح بالفارسية صحيحا على تقدير كونه سببا للزوجية شرعا.

(فإذا لحقه العلم أو الظنّ الاجتهادي أو التقليد كان هذا الطريق كاشفا حقيقيّا أو جعليّا)

١٦٤

والتقليد أنّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد ـ أيضا ـ باق على حكمه الواقعي ، فإذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور.

فيعمل بمقتضى ما انكشف خلافا لجماعة ، حيث تخيّلوا أنّ الفعل الصادر عن اجتهاد أو تقليد إذا كان مبنيّا على الدوام واستمرار الآثار ـ كالزوجيّة والملكيّة ـ لا يؤثّر فيه الاجتهاد اللاحق ، وتمام الكلام في محلّه.

____________________________________

والأوّل كالعلم ، والثاني كالأمارة المعتبرة شرعا.

(بل حقّقنا في مباحث الاجتهاد والتقليد أنّ الفعل الصادر من المجتهد أو المقلّد ـ أيضا ـ باق على حكمه الواقعي) فلا يجزي عن الواقع ولا يجعل بدلا عنه.

(فإذا لحقه اجتهاد مخالف للسابق كان كاشفا عن حاله حين الصدور) فيكون الفعل فاسدا من حين الصدور ، بناء على نقض الفتوى الاولى بالفتوى الثانية مطلقا ، كما يظهر من المصنّف قدس‌سره ، إذ بتبدّل الرأي ينكشف الفساد من حين الصدور.

(فيعمل بمقتضى ما انكشف) من إعادة العبادات وتجديد المعاملات ، إلّا أن يقوم الإجماع على العدم ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. وهذا أحد الأقوال في نقض الفتوى بالفتوى في صورة تبدّل الرأي.

وثانيها : عدم النقض مطلقا ، لأنّ الأسباب حين صدورها قد أثّرت في الصحّة ، ولا وجود لها فعلا حتى تكون موردا للفتوى الثانية.

ثالثها : ما تقدّم من الفاضل النراقي قدس‌سره وهو النقض في الآثار النوعيّة ، استمرارية كانت كوقف المساجد أم لا كغسل الثوب ، وعدم النقض في الآثار الشخصيّة استمرارية كانت كالزوجية أم لا كالعارية.

ورابعها : ما يظهر من المحقّق القمّي قدس‌سره وهو النقض في الآثار الغير المبنيّة على الدوام شخصيّة كانت كالعارية أم نوعيّة كغسل الثوب ، وذلك لعدم قيام الأمارة من الأوّل بحصولها بقيد الدوام ، فيرتفع بتبدّل الرأي ، وعدم النقض في الآثار المبيّنة على الدوام ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(خلافا لجماعة ، حيث تخيّلوا أنّ الفعل الصادر عن اجتهاد أو تقليد إذا كان مبنيّا على الدوام واستمرار الآثار) شخصية كانت (كالزوجيّة والملكيّة) أم نوعيّة كوقف المساجد

١٦٥

وربّما يتوهّم الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشكّ في ترتّب الأثر على ما يوقعه ، فلا يتأتى منه قصد الإنشاء في العقود والإيقاعات.

وفيه : إنّ قصد الإنشاء إنّما يحصل بقصد تحقّق مضمون الصيغة ، وهو الانتقال في البيع والزوجيّة في النكاح. وهذا يحصل مع القطع بالفساد شرعا ، فضلا عن الشكّ فيه ، ألا ترى أنّ الناس يقصدون التمليك في القمار وبيع المغصوب وغيرهما من البيوع الفاسدة؟!

وممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق في صحّة معاملة الجاهل مع انكشافها بعد العقد بين شكّه في الصحّة حين صدورها وبين قطعه بفسادها ـ فافهم ـ هذا كلّه حال المعاملات.

____________________________________

كما في شرح الاستاذ الاعتمادي (لا يؤثر فيه الاجتهاد اللاحق) ، لأنّ الظنّ تعلّق بسببيّة هذا العقد ، والوقف في الزوجيّة والمسجديّة حال كونه حجّة ، ولا دليل على كون تبدّل الرأي موجبا لزوال حجيّة الظنّ.

(وربّما يتوهّم الفساد في معاملة الجاهل من حيث الشكّ) ، أي : الفساد في معاملة الجاهل الشاكّ في ترتيب الأثر على ما يوقعه ناشئ من جهة الشكّ الموجب لعدم تأتي قصد الإنشاء منه في العقود والإيقاعات ، ومن المعلوم أنّ العقود من دون قصد الإنشاء فيها فاسدة.

(وفيه : إنّ قصد الإنشاء إنّما يحصل بقصد تحقّق مضمون الصيغة) وهذا المقدار من قصد الإنشاء يكفي في الصحّة (وهو الانتقال في البيع والزوجيّة في النكاح) ، إلى أن قال المصنّف قدس‌سره :

(وممّا ذكرنا) من أنّ قصد الإنشاء يحصل حتى مع القطع بالفساد شرعا فضلا عن الشكّ فيه (يظهر أنّه لا فرق في صحّة معاملة الجاهل مع انكشافها) ـ أي : الصحّة ـ (بعد العقد بين شكّه في الصحّة حين صدورها وبين قطعه بفسادها ، فافهم) لعلّه إشارة إلى أنّ المناط في صحّة المعاملة هو كونها مطابقة للواقع بعد الانكشاف ولو كان المكلّف جازما بالفساد حال الإنشاء.

أو إلى ما ذكره الاستاذ الاعتمادي ، حيث قال بعد قوله (فافهم) : لئلّا يتوهّم أنّ المفروض إرادة الجاهل تحقّق مضمون المعاملة على وجه صحيح ، فمع الشكّ كيف يقصد إنشاء ذلك؟!

١٦٦

وأمّا العبادات : فملخّص الكلام فيها : أنّه إذا أوقع الجاهل عبادة عمل فيها بما تقتضيه البراءة ، كأن صلّى بدون السورة ، فإن كان حين العمل متزلزلا في صحّة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحّة بعد ذلك ، بلا خلاف

____________________________________

نعم ، العالم بالفساد يمكنه الإنشاء ، لأنّه يقصد إنشاء المعاملة على وجه باطل ، وكذا الفضولي يمكنه قصد الإنشاء لعلمه بإذن الشارع ، وإذن المالك يكفي حصوله بعد العقد ، لأنّه مدفوع بأنّ المربوط إلى العاقد هو قصد إنشاء المدلول العرفي.

وأمّا الصحّة فلا ربط لها ، لإنشاء العاقد ، بل هو حكم شرعي يتفرّع عليه على تقدير استجماع الشرائط. انتهى.

(أمّا العبادات) : والكلام في هذه المسألة يقع ؛ تارة : في عبادة الجاهل الشاكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته للعبادة ، فعمل بما تقتضيه البراءة بأن صلّى ولم يأت بالجزء أو الشرط الذي شكّ في جزئيّته أو شرطيّته.

واخرى : في عبادة الجاهل الغافل عن وجوب ذلك الشيء بعنوان كونه جزء أو شرطا ، أو المعتقد بالعبادة من قول أبويه أو معلمه ، أو نحوهما.

ومحلّ الكلام في المقام هو الجاهل الشاكّ ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فإن كان حين العمل متزلزلا في صحّة عمله بانيا على الاقتصار عليه في الامتثال ، فلا إشكال في الفساد وإن انكشف الصحّة بعد ذلك) ، بمعنى أنّه علم بعد ذلك بأنّ المشكوك لم يكن جزء ، بل كان ما أتى به جامعا للأجزاء والشرائط ، إلّا أنّ الفساد يكون من جهة عدم تحقّق قصد القربة ، لأنّ الشاكّ لا يمكن أن يتقرّب بما لا يعلم أنّه موافق للمأمور به ، ومن المعلوم أنّ العبادة من دون قصد القربة باطلة.

نعم ، يبقى في المقام سؤال عن الفرق بين الجاهل العامل بالبراءة قبل الفحص ، وبين العامل بها بعد الفحص ، مع أنّ أصل البراءة بعد الفحص لا يوجب تعيين ماهيّة العبادة بحيث يزول معها الشكّ ، وذلك لبقاء الشكّ على حاله ، ومعه لا تتحقّق نيّة القربة كما عرفت ، فكيف يفرّق بينهما بصحّة عبادة الجاهل بعد الفحص وعدمها قبله؟!

وملخّص الفرق بينهما ، هو أنّ العامل بالبراءة بعد الفحص معذور ، وله أن يلغي احتمال الجزئيّة ولا يعتني به ، وبذلك يمكن أن يصدر منه قصد التقرّب بملاحظة الأمر الظاهري ،

١٦٧

في ذلك ظاهرا ، لعدم تحقّق نيّة القربة ، لأنّ الشاكّ في كون المأتي به موافقا للمأمور به كيف يتقرّب به؟ وما يرى من الحكم بالصحّة فيما شكّ في صدور الأمر به على تقدير صدوره ، كبعض الصلوات والأغسال التي لم يرد بها نصّ معتبر ، وإعادة بعض العبادات الصحيحة ظاهرا من باب الاحتياط ، فلا يشبه ما نحن فيه ؛ لأنّ الأمر على تقدير وجوده هناك لا يمكن قصد امتثاله إلّا بهذا النحو ، فهو أقصى ما يمكن هناك من الامتثال ، بخلاف ما نحن فيه حيث يقطع بوجود أمر من الشارع ، فإنّ امتثاله لا يكون إلّا بإتيان ما يعلم مطابقته له ، وإتيان ما يحتمله لاحتمال مطابقته له لا يعدّ إطاعة عرفا. وبالجملة : فقصد التقرّب شرط في صحّة العبادة إجماعا ـ نصّا وفتوى ـ وهو لا يتحقّق مع الشكّ في كون العمل مقرّبا ، وأمّا قصد التقرّب في الموارد المذكورة من الاحتياط فهو غير ممكن على وجه الجزم ، والجزم فيه غير معتبر إجماعا ، إذ لولاه لم يتحقّق احتياط في كثير من الموارد مع رجحان الاحتياط فيها إجماعا. وكيف كان ، فالعامل بما تقتضيه البراءة مع الشكّ حين العمل لا يصحّ عبادته وإن انكشف مطابقته للواقع.

____________________________________

وهذا بخلاف العامل بها قبل الفحص حيث إنّه ليس معذورا ، فليس له أمر ظاهري لكي يقصد التقرّب به.

قوله : (وما يرى من الحكم بالصحّة فيما شكّ في صدور الأمر به على تقدير صدوره ... إلى آخره) دفع لما قد يقال من أنّه لو كان الشكّ في كون المأتي به موافقا للمأمور به قادحا في نيّة التقرّب لما صحّ إتيان العبادات التي شكّ في وجوبها بنحو الشبهة الموضوعيّة ، كإعادة العبادات لاحتمال نقص فيها ، أو بنحو الشبهة الحكميّة ، كإتيان الدعاء عند رؤية الهلال بعد الفحص واليأس عن دليل الوجوب.

وكذا لا يصح إتيان العبادات التي شكّ في استحبابها كبعض الأغسال والصلوات المذكورة في كتب الأدعية ، مع أنّ رجحان الاحتياط في الموارد المذكورة وإتيان العبادات باحتمال التقرّب والأمر ممّا لا خلاف فيه ، فالنتيجة هي أنّ الشكّ في كون المأتي به موافقا للمأمور به غير قادح في تحقّق نيّة التقرّب.

وحاصل الدفع ، هو الفرق بين ما ذكر من الموارد المذكورة وبين ما نحن فيه ؛ لأنّ قصد الامتثال لا يمكن تحقّقه في الموارد المذكورة إلّا باحتمال الأمر ، وهذا بخلاف ما نحن فيه

١٦٨

أمّا لو غفل عن ذلك أو سكن إلى قول من يسكن إليه من أبويه وأمثالهما ، فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محلّ كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما تقتضيه البراءة ، إذ مجرى البراءة في الشاكّ دون الغافل أو معتقد الخلاف.

وعلى أيّ حال ، فالأقوى صحّته إذا انكشف مطابقته للواقع ، إذ لا يعتبر في العبادة إلّا إتيان المأمور به على قصد التقرّب ، والمفروض حصوله والعلم بمطابقته للواقع أو الظنّ بها من طريق معتبر غير معتبر في صحّة العبادة لعدم الدليل ، فإنّ أدلّة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلّة ورجوع المقلّد إلى المجتهد إنّما هي لبيان الطرق الشرعيّة التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع ، لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق ، كما لا يخفى على من

____________________________________

حيث يقطع المكلّف بوجود أمر من الشارع ، فيجب عليه الجزم بالنيّة لكونه متمكّنا منه في المقام ولو بعد الفحص ، ولم يتمكّن منه في الموارد المذكورة ، فيسقط اعتباره. هذا تمام الكلام في عبادة الجاهل الشاكّ.

وأمّا الجاهل الغافل ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(أمّا لو غفل عن ذلك) ، أي : احتمال وجوب السورة مثلا(أو سكن) واعتمد فيه (إلى قول من يسكن إليه) في اموره وعلومه (من أبويه وأمثالهما ، فعمل باعتقاد التقرّب ، فهو خارج عن محلّ كلامنا الذي هو في عمل الجاهل الشاكّ قبل الفحص بما تقتضيه البراءة ، إذ مجرى البراءة في الشاكّ دون الغافل أو معتقد الخلاف) ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(فالأقوى صحّته إذا انكشف مطابقته للواقع) من دون فرق بين من قصّر في تحصيل العلم ، بأن كان متردّدا وشاكّا في أوّل الأمر فلم يتفحّص حتى حصلت الغفلة ، أو الاعتقاد بعدم وجوب السورة ، وبين من لم يكن مقصّرا بأن كان غافلا ، أو معتقدا من أوّل الأمر ، وذلك لإتيانه بالمأمور به مع قصد التقرّب ، ولا يعتبر في العبادة إلّا الإتيان مع قصد التقرّب ، (والعلم بمطابقته للواقع أو الظنّ بها من طريق معتبر) شرعي (غير معتبر في صحّة العبادة) ، بل يكفي العلم أو الظنّ بالمطابقة وإن حصلا من قول أبويه مثلا ، (فإنّ أدلّة وجوب رجوع المجتهد إلى الأدلّة ورجوع المقلّد إلى المجتهد إنّما هي لبيان الطرق الشرعيّة التي لا يقدح مع موافقتها مخالفة الواقع).

يعني : إنّ أدلّة رجوع المقلّد إلى المجتهد إنّما هي لبيان معذوريّة العامل بالتقليد ،

١٦٩

لاحظها ، ثمّ إنّ مرآة مطابقة العمل الصادر للواقع العلم بها أو الطريق الذي يرجع إليه المجتهد أو المقلّد.

وتوهّم : «إنّ ظنّ المجتهد أو فتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة» ، غلط ، لأنّ مؤدّى ظنّه نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلة.

وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ، فإنّ فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم ، في أنّ أثرها قبل العمل عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ، كما تقدّم نظير ذلك في المعاملات.

____________________________________

وسقوط وجوب الإعادة والقضاء مع عدم انكشاف الخلاف ، بل مع انكشافه على القول بالإجزاء (لا لبيان اشتراط كون الواقع مأخوذا من هذه الطرق) بأن يكون أخذ الواقع من غير هذه الطرق غير كاف.

(وتوهّم : إنّ ظنّ المجتهد أو فتواه لا يؤثر في الواقعة السابقة) ، بل إنّما ينفع في العمل الذي يكون مستندا إليه (غلط ، لأنّ مؤدّى ظنّه نفس الحكم الشرعي الثابت للأعمال الماضية والمستقبلة).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره كما في شرح الاستاذ الاعتمادي أنّه لا موضوعيّة لظنّ المجتهد حتى يعتبر صدور العمل مستندا إليه ، بل هو طريق إلى الحكم الواقعي الثابت لجميع الأفراد.

غاية الأمر أنّه ما لم ينكشف الواقع به لا يترتّب عليه الأثر ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وأمّا ترتيب الأثر على الفعل الماضي فهو بعد الرجوع ، فإنّ فتوى المجتهد بعدم وجوب السورة كالعلم ، في أنّ أثرها قبل العمل عدم وجوب السورة في الصلاة ، وبعد العمل عدم وجوب إعادة الصلاة الواقعة من غير سورة ... إلى آخره).

١٧٠

الجاهل العامل قبل الفحص

ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بامور :

الأوّل : هل العبرة في باب المؤاخذة والعدم بموافقة الواقع الذي يعتبر مطابقة العمل له ومخالفته ، وهو الواقع الأوّلي الثابت في كلّ واقعة عند المخطّئة؟ فإذا فرضنا العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع ، وفرض وجود خبر معتبر يعثر عليه بعد الفحص على الحلّيّة ، فيعاقب ، ولو عكس الأمر لم يعاقب.

____________________________________

(ولنختم الكلام في الجاهل العامل قبل الفحص بامور :)

(الأوّل) يبحث فيه عمّا هو مناط المؤاخذة وعدمها ، ومناط الصحّة والفساد في عبادات الجاهل ومعاملاته ، وذكر المصنّف قدس‌سره فيه أربعة وجوه :

الأوّل : أن يكون المناط هو الواقع الأوّلي لا الطريق الشرعي ، فكلّ ما يطابقه يحكم بصحّته وإن كان مخالفا للطريق المعتبر شرعا وكلّ ما لم يكن مطابقا له يحكم بفساده ولو كان موافقا للطريق الشرعي ، فإذا كان ما شربه الجاهل كالعصير العنبي حراما في الواقع يعاقب على شربه وإن كان هناك خبر معتبر على الحليّة وبالعكس.

والفرق بين الحكم بالصحّة أو الفساد بمطابقة الواقع وعدمها ، وبين العقاب والمؤاخذة بمطابقة الواقع ، هو أنّ مجرّد موافقة الواقع وعدمها لا ينفع في ترتّب الأثر وعدمه ، بل يحتاج إلى الانكشاف بالعلم أو الظنّ المعتبر الحاصل من الاجتهاد أو التقليد.

وهذا بخلاف مؤاخذة الجاهل وعقابه ، إذ يمكن أن يكون المناط فيها مجرّد موافقة الواقع الأوّلي من دون حاجة إلى الانكشاف ، ولهذا خصّ المصنّف قدس‌سره المناط المذكور بالمؤاخذة ، فيرجع الكلام حينئذ إلى بيان مناط المؤاخذة ، هل هو مجرّد موافقة الواقع الأوّلي؟ هذا هو الوجه الأوّل.

والثاني : أن يكون المناط هو الطريق الشرعي الذي عثر عليه بعد الفحص ، فيعاقب على مخالفة هذا الطريق وإن كان مخالفا للواقع.

والثالث : أن يكون المناط في المؤاخذة هو مخالفة أحدهما ، أي : الواقع أو الطريق ، وحينئذ إذا كان العصير العنبي الذي تناوله الجاهل حراما في الواقع وفرض وجود خبر

١٧١

أو العبرة بالطريق الشرعي المعثور عليه بعد الفحص فيعاقب في صورة العكس دون الأصل ، أو يكفي مخالفة أحدهما فيعاقب في الصورتين ، أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما فلا عقاب في الصورتين؟

وجوه : من أنّ التكليف الأوّلي إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهريّة إلّا من عثر عليها.

____________________________________

معتبر عثر عليه بعد الفحص على الحليّة يعاقب على تناوله كما يعاقب على تركه.

غاية الأمر يكون العقاب في الصورة الاولى على مخالفة الواقع وفي الصورة الثانية على مخالفة الطريق ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فيعاقب في الصورتين). نعم ، لا يعاقب في فرض موافقة كليهما بأن يكون الطريق موافقا للواقع مثلا.

والرابع : أن يكون موافقة أحدهما كافيا في عدم العقاب ، كما أشار إليه بقوله :

(أم يكفي في عدم المؤاخذة موافقة أحدهما فلا عقاب في الصورتين).

أمّا عدم العقاب في الصورة الاولى فلأجل موافقة الطريق للإباحة.

وأمّا عدمه في الصورة الثانية فمن جهة موافقة الواقع. هذا تمام الكلام في الوجوه المحتملة في مناط المؤاخذة ، كما أشار إليها بقوله : (وجوه).

ثمّ ذكر قدس‌سره تعليلا لكلّ واحد منها ، وقد أشار إلى تعليل الوجه الأوّل بقوله :

(من أنّ التكليف الأوّلي إنّما هو بالواقع ، وليس التكليف بالطرق الظاهريّة إلّا من عثر عليها) ، وبيان هذا الوجه يحتاج إلى مقدّمة وهي :

إنّ التكليف الأوّلي الناشئ من المصالح والمفاسد على مذهب العدليّة إنّما هو بالواقع ، لأنّ المقصود من التكليف الأوّلي هو لامتثال الأحكام الواقعيّة الأوّليّة ، وهي تتنجّز في حقّ القادر على موافقتها ولو بالاحتياط بمجرّد الالتفات والاحتمال ، ولا يعذر المكلّف في مخالفتها إلّا في حالتين :

الاولى : المتفحّص عنها بقدر وسعه بحيث يحصل شرط الرجوع إلى البراءة من الاطمئنان بعدم وجودها مثلا.

الثانية : من استند في مخالفتها إلى العمل بالطريق المعتبر من جميع الجهات ، فمجرّد

١٧٢

ومن أنّ الواقع إذا كان في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول إليه وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلا عنه ، فالمكلّف به هو مؤدّى الطريق دون الواقع على ما هو عليه ، فكيف يعاقب الله سبحانه على شرب العصير من يعلم أنّه لم يعثر بعد الفحص على دليل حرمته؟

ومن أنّ كلّا من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعي. أمّا إذا كان التكليف ثابتا في الواقع ، فلأنّه كان قادرا على موافقة الواقع بالاحتياط وعلى إسقاطه عن نفسه بالرجوع إلى الطريق الشرعي المفروض دلالته على نفي التكليف ، فإذا لم يفعل شيئا منهما فلا مانع من

____________________________________

وجود الطريق المخالف للحكم الواقعي في الواقع لا يجدي في المعذوريّة ، كما في بحر الفوائد.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك أنّ الجاهل العامل بالبراءة قبل الفحص لم يتوفر فيه إحدى هاتين الحالتين ؛ إمّا لعدم كونه من الصنف الأوّل فلا يحتاج إلى البيان ، إذ المفروض عدم كونه متفحّصا عن الدليل ، وإمّا لعدم كونه من الصنف الثاني ، فمن جهة أنّ المفروض عدم كون مخالفته مستندة إلى الطريق المعتبر شرعا ، وذلك لعدم عثوره عليه ، (وليس التكليف بالطرق الظاهريّة إلّا من عثر عليها).

والمفروض في المقام عدم عثوره عليها ، فيعاقب حينئذ على شرب العصير العنبي المحرّم واقعا ، كما في المثال المذكور في المتن ، وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى تعليل الوجه الثاني بقوله :

(ومن أنّ الواقع إذا كان في علم الله سبحانه غير ممكن الوصول إليه وكان هنا طريق مجعول مؤدّاه بدلا عنه).

وحاصل التعليل كما في بحر الفوائد : إنّ هذا الوجه مبني على منع تنجّز التكليف بالواقع الذي ليس هناك طريق في علم الله لمعرفته ، وإنّما المنجّز في حقّه مفاد الطريق الذي يعثر عليه بعد الفحص في علم الله ، حيث إنّ مفاده حكم شرعي إلهي وإن كان ظاهريّا ، ولا فرق في وجوب الإطاعة في الأحكام الإلزاميّة بين الواقعيّة والظاهريّة ، فيعاقب حينئذ على مخالفة الطريق المعتبر شرعا ، وأشار المصنّف قدس‌سره إلى تعليل الوجه الثالث بقوله :

(ومن أنّ كلّا من الواقع ومؤدّى الطريق تكليف واقعي ... إلى آخره).

١٧٣

مؤاخذته. وأمّا إذا كان التكليف ثابتا بالطريق الشرعي ، فلأنّه قد ترك موافقة خطاب مقدور على العلم به ، فإنّ أدلّة وجوب الرجوع إلى خبر العادل أو فتوى المجتهد يشمل العالم والجاهل القادر على المعرفة.

ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة ، وبالطريق الشرعي لكونه ثابتا في حقّ من اطّلع عليه من باب حرمة التجرّي.

____________________________________

وحاصل الكلام فيه كما في بحر الفوائد أيضا ، هو كون كلّ من التكليف الفرعي المتعلّق بنفس الواقع والتكليف الاصولي المتعلّق بالطريق الذي يعبّر عنه بالحكم الظاهري حكما إلزاميا إلهيا منجّزا على المكلّف بمجرّد الالتفات والقدرة على الفعل ولو بالاحتياط أو الاطلاع عليه بالفحص عنه والعمل بمقتضاه ، فإذا خالف أحدهما ، فيلزمه استحقاق العقاب عليه ، كما أنّه لو فرض مخالفتهما استحق عقابين ، ولو فرض عدم مخالفة شيء منهما لم يستحق عقابا أصلا.

وهذا هو معنى كفاية مخالفة أحدهما في استحقاق المؤاخذة ، ولا ينافي الحكم باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم الاصولي كونه ظاهريا ومجعولا في موضوع الجهل بالواقع ، فإنّه وإن كان ظاهريا بهذه الملاحظة إلّا أنّه واقعي ومتحقّق في موضوعه في نفس الأمر أيضا كالواقعي الأوّلي.

ثمّ أشار إلى تعليل الوجه الرابع بقوله :

(ومن عدم التكليف بالواقع لعدم القدرة) مع أنّ التكليف مشروط بالقدرة وعدم التكليف (بالطريق الشرعي لكونه ثابتا في حقّ من اطّلع عليه من باب حرمة التجرّي) ، بمعنى أنّ ثبوت التكليف بالطرق ليس بما هو مؤدّاها ، بل هو من باب كون مخالفتها تجرّيا ، فتكون حرمتها من باب حرمة التجرّي.

وبعبارة اخرى : إنّ من اطّلع على الطريق الذي يكون مؤدّاه تكليفا إلزاميا حرم عليه عدم العمل به ، لأنّ ترك العمل به تجرّ ، والتجرّي حرام على بعض المباني ، فيجب حينئذ الحكم بوجوب العمل بالطريق لمن اطّلع عليه.

وكيف كان ، فأمّا الوجه الرابع كما في بحر الفوائد ، فهو المنع من تنجّز الواقع الذي لم يقم عليه طريق ، فإذا كان هنا حرمة للفعل بحسب نفس الأمر ولم يكن هناك طريق على

١٧٤

فالمكلّف به فعلا المؤاخذ على مخالفته الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق ، فإذا لم يكن وجوب أو تحريم فلا مؤاخذة. نعم ، لو اطّلع على ما يدلّ ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمة من باب الانقياد وتركها تجرّ ، وإذا لم يطّلع على ذلك لتركه الفحص فلا تجرّي أيضا. وأمّا إذا كان

____________________________________

حرمته ، أو كان هناك طريق على نفيها لم يكن ثمة عقاب.

والمنع من كون الخطاب المتعلّق بالطريق مؤثّرا في نفسه في استحقاق العقاب على مخالفته ، فإذا كان مفاده الإلزام ولم يكن هناك إلزام في الواقع لم يكن هناك مقتض لاستحقاق العقوبة أصلا.

نعم ، لو كان الفعل في الواقع حراما مثلا ، وكان مفاد الطريق الذي يطّلع عليه بعد الفحص الحرمة أيضا حكم بتنجّز الحرمة الواقعيّة ، وهذا معنى كفاية موافقة أحدهما في عدم استحقاق العقاب.

(فالمكلّف به فعلا) الذي يكون (المؤاخذ على مخالفته) هو (الواجب والحرام الواقعيّان المنصوب عليهما طريق).

وحاصل الكلام في المقام كما في التنكابني : إنّه إذا كان في الواقع وجوب أو تحريم وكان الطريق على طبقه ، فيعاقب على تركه في الأوّل وفعله في الثاني ، سواء قيل بكون العقاب على مخالفة الواقع أو على مخالفة الطريق ، أو على مخالفة كليهما.

وإذا لم يكن تكليف إلزامي في الواقع ، فلا مؤاخذة على التحقيق سواء كان الطريق دالّا على الإلزام أم لا ، إذ المفروض عدم اطّلاعه عليه ، أو أنّه لا يوجب المؤاخذة عليه وإن اطّلع عليه بعد فرض كونه مخالفا للواقع ، إذ الأمر به غيري لا يوجب العقاب ، نعم ، إذا اطّلع على الطريق الدال على الإلزام يجب العمل به في الظاهر ، لفرض عدم العلم بمخالفته ، فيكون ترك العمل به تجرّيا ، فإذا لم يطّلع عليه فلا تجرّي أيضا من أجل مخالفة الطريق.

(فإذا لم يكن وجوب أو تحريم) في الواقع (فلا مؤاخذة. نعم ، لو اطّلع على ما يدل ظاهرا على الوجوب أو التحريم الواقعي مع كونه مخالفا للواقع بالفرض ، فالموافقة له لازمة من باب الانقياد وتركها تجرّ ، وإذا لم يطّلع على ذلك لتركه الفحص فلا تجرّي أيضا) ، أي : لا تجرّي بالنسبة إلى مخالفة الطريق ، كما لا مخالفة في ترك العمل به بالنسبة إلى الواقع

١٧٥

وجوب واقعي وكان الطريق الظاهري نافيا ، فلأنّ المفروض عدم التمكّن من الوصول إلى الواقع ، فالمتضمّن للتكليف متعذّر الوصول إليه ، والذي يمكن الوصول إليه ناف للتكليف.

والأقوى هو الأوّل ، ويظهر وجهه بالتأمّل في الوجوه الأربعة.

وحاصله : إنّ التكليف الثابت في الواقع وإن فرض تعذّر الوصول إليه تفصيلا ، إلّا أنّه لا مانع من العقاب بعد كون المكلّف محتملا له قادرا عليه غير مطّلع على طريق شرعي ينفيه ، ولا واجدا لدليل يؤمن من العقاب عليه مع بقاء تردّده ، وهو العقل والنقل الدالان على براءة الذمّة بعد الفحص والعجز عن الوصول إليه ، وإن احتمل التكليف وتردّد فيه.

أمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات

____________________________________

لكون الطريق مخالفا له.

(والأقوى هو الأوّل ، ويظهر وجهه بالتأمّل في الوجوه الأربعة) ؛ لأنّ مقتضى التأمّل في المقام هو أنّ المجعول أوّلا في حقّ جميع المكلّفين هو الأحكام الأوّليّة التي هي تابعة للمصالح والمفاسد ، ومؤدّى الطرق الظاهريّة غير مجعول من حيث هو في مقابل الواقع ، بل إنّما هو مجعول من حيث إنّه طريق إليه ومرآة له ، فإذا كان مخالفا له لم يترتّب شيء عليه.

وحاصل ترجيح الوجه الأوّل كما في بحر الفوائد ، هو تنجّز التكليف بالواجب والحرام الواقعيين في حقّ الجاهل في مفروض البحث ، وعدم المانع من تنجّزه أصلا ، إذ ليس إلّا عدم الاطّلاع عليه بعد الفحص ، وقد عرفت أنّه لا يصلح للمانعيّة بعد فرض قدرة المكلّف على الامتثال ولو بالاحتياط ، والمفروض أيضا عدم فحصه عن الواقع وسلوكه لطريق معتبر بنفسه حتى يكون معذورا في حكم العقل. هذا إذا كان التكليف الإلزامي ثابتا في الواقع ، وأمّا إذا لم يكن ثابتا في الواقع وكان هناك طريق يقتضيه ، فلا مقتضي للعقاب أصلا.

أمّا على الواقع ؛ فلأنّه ليس هناك إلزام على ما يقتضيه الفرض.

وأمّا على الطريق ؛ فلأنّ مفاده وإن كان هو الحكم الإلزامي إلّا أنّه لا يؤثر في العقاب من حيث كون الأمر المتعلّق به إرشاديا ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(أمّا إذا لم يكن التكليف ثابتا في الواقع ، فلا مقتضي للعقاب من حيث الخطابات

١٧٦

الواقعيّة ، ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ، لم يعاقب عليه ، لأنّ مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع ، وإنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ، فإذا أخطأ لم يترتّب عليه شيء. ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها.

نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته ، لأنّ المفروض عدم العلم بمخالفته للواقع ، فيكون معصية ظاهريّة من حيث فرض كون دليله طريقا شرعيّا إلى الواقع ، فهو في الحقيقة نوع من التجرّي ، وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطّلاع على هذا الطريق ، ووجوب رجوع

____________________________________

الواقعيّة ، ولو فرض هنا طريق ظاهري مثبت للتكليف لم يعثر عليه المكلّف ، لم يعاقب عليه ، لأنّ مؤدّى الطريق الظاهري غير مجعول من حيث هو هو في مقابل الواقع) ، لأنّ جعل مؤدّى الطريق في قبال الواقع تصويب باطل على تقدير كونه حكما واقعيا للجاهل.

وأمّا جعل المؤدّى حكما ظاهريا لأجل المصلحة السلوكيّة وإن كان ممكنا إلّا أنّه إنّما يتمّ على القول بحجيّة الأمارات من باب السببيّة.

وهذا مخالف لظاهر أدلّة الحجيّة ، لأنّ ظاهرها حجيّتها من باب مجرّد طريقيّتها إلى الواقع ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وإنّما هو مجعول بعنوان كونه طريقا إليه ، فإذا أخطأ لم يترتّب عليه شيء ، ولذا لو أدّى عبادة بهذا الطريق فتبيّن مخالفتها للواقع ، لم يسقط الأمر ووجب إعادتها) ، لأنّ المكلّف لم يأت بالواقع ، وما أتى به من مؤدّى الأمارة لا يكفي عن الواقع إلّا على القول بالإجزاء.

(نعم ، إذا عثر عليه المكلّف لم يجز مخالفته) ، أي : لم يجز مخالفة الطريق بعد العثور عليه ، إلّا أنّ حرمة مخالفة الطرق الشرعيّة تكون من باب التجرّي على تقدير العثور عليها ، ولذلك لا تكون مخالفتها محرّمة على تقدير عدم العثور عليها وإن كانت موجودة في الواقع ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وهذا المعنى مفقود مع عدم الاطّلاع على هذا الطريق).

نعم يتحقّق التجرّي مع عدم الاطّلاع على الطريق من جهة ترك الفحص والاحتياط والرجوع إلى البراءة ، مع أنّ العقل يحكم بوجوب الاحتياط في صورة عدم الفحص عن الدليل.

١٧٧

العامّي إلى المفتي لأجل إحراز الواجبات الواقعيّة ، فإذا رجع وصادف الواقع وجب من حيث الواقع ، وإن لم يصادف الواقع لم يكن الرجوع إليه في هذه الواقعة واجبا في الواقع ، ويترتّب عليه آثار الوجوب ظاهرا مشروطة بعدم انكشاف الخلاف ، إلّا استحقاق العقاب على الترك ، فإنّه يثبت واقعا من باب التجرّي.

ومن هنا يظهر أنّه لا يتعدّد العقاب مع مصادفة الواقع من جهة تعدّد التكليف.

نعم ، لو قلنا بأنّ مؤدّيات الطرق الشرعيّة أحكام واقعيّة ثانويّة لزم من ذلك انقلاب التكليف إلى مؤدّيات تلك الطرق. وكان أوجه الاحتمالات حينئذ الثاني منها.

____________________________________

(ووجوب رجوع العامّي إلى المفتي) لم يكن من جهة كون مؤدّى الفتوى مجعولا في حقّه في مقابل الواقع ، بل هو (لأجل إحراز الواجبات الواقعيّة).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في هذا المقام ، هو أنّ رجوع العامّي إلى المجتهد إنّما يكون من أجل إحراز الواجب الواقعي ، فإذا رجع إلى المجتهد في حكم من الأحكام ثمّ ظهر كون الفتوى على خلاف الواقع انكشف أنّ الرجوع لم يكن واجبا واقعا ، ولا ينكشف أنّه لو لم يرجع إليه لم يكن مستحقا للعقاب ؛ لأنّ استحقاق العقاب ربّما يكون من باب التجرّي على القول بحرمته ، لا من باب حرمة مخالفة فتوى المفتي ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إلّا) أنّ (استحقاق العقاب على الترك ، فإنّه يثبت واقعا من باب التجرّي).

(نعم ، لو قلنا بأنّ مؤدّيات الطرق الشرعيّة أحكام واقعيّة ثانويّة) كما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره على ما في شرح التنكابني من أنّ المكلّف به الفعلي هو مؤدّى الطريق ، وإنّ الواقع بما هو واقع ليس مكلّفا به (لزم من ذلك) على تقدير مخالفة الطريق للواقع (انقلاب التكليف إلى مؤدّيات تلك الطرق) ، بمعنى انحصار حكم الجاهل بالواقع في مؤدّى الطرق.

(وكان أوجه الاحتمالات حينئذ الثاني منها) وهو كون المناط في العقاب وعدمه بمخالفة الطريق وعدمها.

والمتحصّل من الجميع : إنّه لو قلنا باعتبار الأمارات من باب الطريقيّة فالمتعيّن هو الوجه الأوّل ، وإن قلنا باعتبارها من باب الموضوعيّة فأوجه الاحتمالات هو الوجه الثاني ، وإن قلنا فرضا باعتبارها في عرض الواقع فالمتعيّن هو الوجه الثالث على ما في تعليقة

١٧٨

الثاني : قد عرفت أنّ الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال غير معذور ، لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الآثار ، بمعنى أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره من الآثار المترتّبة على ذلك الشيء وفي حقّ العالم لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله.

وقد استثنى الأصحاب من ذلك القصر والإتمام ، والجهر والإخفات ، فحكموا بمعذوريّة

____________________________________

المرحوم غلام رضا قدس‌سره ، بتصرّف. هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل.

(الثاني : قد عرفت أنّ الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص واستبانة الحال غير معذور ، لا من حيث العقاب ولا من جهة سائر الآثار ، بمعنى أنّ شيئا من آثار الشيء المجهول عقابا أو غيره من الآثار المترتّبة على ذلك الشيء وفي حقّ العالم لا يرتفع عن الجاهل لأجل جهله) ، والمقصود بالبحث في هذا الأمر الثاني يتّضح بعد مقدّمة قصيرة ، وهي :

إنّ الجاهل العامل بما يوافق البراءة مع قدرته على الفحص ومخالفة عمله للواقع قد يكون شاكّا متردّدا وهو الجاهل البسيط ، وقد يكون معتقدا غافلا عن مخالفة اعتقاده للواقع ، ومن هنا نقول :

إنّ المقصود بالبحث في أصل عنوان المسألة المبحوث فيها عن اشتراط الفحص وإن كان هو الأوّل ـ أي : الجاهل البسيط ـ إلّا أنّ المقصود بالبحث في هذا الأمر الثاني ـ نظرا إلى استثناء الموضعين ـ هو الثاني ، أي : الجاهل الغافل عن مخالفة اعتقاده للواقع ، إذ استثناء الموضعين إنّما يصحّ أن يكون من الثاني لا من الأوّل ، لأنّ الشاكّ المتردّد لو أتى بالتمام في السفر حكم ببطلان ما أتى به من التمام موضع القصر اتفاقا ، وكذلك بالنسبة إلى الجهر في موضع الإخفات أو العكس.

والحاصل : إنّ الجاهل العامل بخلاف الواقع غير معذور مطلقا مع التقصير ، إلّا أنّ الجاهل مع التقصير إذا كان جاهلا مركّبا أو غافلا معذور من حيث الوضع في الموضعين ، فيصحّ منه الإتمام في موضع القصر والجهر في موضع الإخفات وبالعكس ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وقد استثنى الأصحاب من ذلك القصر والإتمام ، والجهر والإخفات ، فحكموا بمعذوريّة

١٧٩

الجاهل في هذين الموضعين.

وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ، وهي الصحّة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة ، وهو الذي يقتضيه دليل المعذوريّة في الموضعين أيضا.

____________________________________

الجاهل في هذين الموضعين) من حيث الوضع ، فيحكم بصحّة ما أتى به الجاهل دون العذر من حيث المؤاخذة ، فيكون مستحقا للعقاب مع الحكم بصحّة صلاته ، كما أشار إليه بقوله :

(وظاهر كلامهم إرادتهم العذر من حيث الحكم الوضعي ، وهي الصحّة بمعنى سقوط الفعل ثانيا دون المؤاخذة) ، ثمّ يقول المصنّف قدس‌سره : إنّ ما ذكرناه من أنّ ظاهر كلامهم هو العذر من حيث الحكم الوضعي فقط(هو الذي يقتضيه دليل المعذوريّة في الموضعين).

قال الإمام الباقر عليه‌السلام فيمن صلّى في السفر أربعا : (إن قرئت عليه آية التقصير وصلّى أربعا أعاد ، وإن لم يكن قرئت عليه الآية ولم يعلمها فلا إعادة عليه) (١) ، وفيمن جهر موضع الإخفاء أو أخفى موضع الجهر : (أي ذلك فعل متعمد فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسيا أو ساهيا أو لا يدري فلا شيء عليه ، فقد تمّت صلاته) (٢) نقلا عن بحر الفوائد.

قال المرحوم غلام رضا قدس‌سره في تعليقته على هذا المقام : ما هذا نصّه : أقول : إنّ الاستظهار المزبور بظاهره لا ينتهي إلى شيء ، كيف وعقاب الجاهل كما صدّق به الفاضل النراقي رحمه‌الله والسيّد رحمه‌الله في الظوابط غير معنون في كلامهم ، فمن أين منشأ الاستظهار المزبور؟ ولعل نظره رحمه‌الله في منشئه إلى أنّ كلمتهم قد اتفقت على أنّ كلّ واجب بالنسبة إلى تحصيل العلم مطلق لا مشروط ، وهذا بإطلاقه يفيد أنّ ترك الواجب المجهول يعاقب عليه حتى في موضع الاستثناء.

والشاهد على ذلك أنّ المسافر الجاهل بحكم القصر لو ترك الصلاة رأسا ، فالضرورة قاضية بأنّ عقابه على ترك القصر دون الإتمام ، وأيضا القضاء الواجب عليه بعد الالتفات لا يكون إلّا قصرا ، وهذا كلّه شاهد صدق على أنّ الواجب على الجاهل حال الجهل هو القصر ، فيعاقب على تركه ، فلا يفرّق في ترتّب العقاب على ترك الواجب بين مورد

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٧٩ / ١٢٦٦. الوسائل ٨ : ٥٠٦ ، أبواب صلاة المسافر ، ب ١٧ ، ح ٤.

(٢) الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٣. الوسائل ٦ : ٨٦ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٢٦ ، ح ١.

١٨٠