دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

فحينئذ يقع الإشكال في أنّه إذا لم يكن معذورا من حيث الحكم التكليفي كسائر الأحكام المجهولة للمكلّف المقصّر ، فيكون تكليفه بالواقع وهو القصر بالنسبة إلى المسافر باقيا. وما

____________________________________

الاستثناء والمستثنى منه.

فإن قلت : إنّ ذلك مسلّم لكن الاستثناء حسب إطلاقه يدلّ على سقوط أثر الحكم التكليفي ، كما يدلّ على سقوط الحكم الوضعي.

قلت : قد صدر هذا الكلام منهم في باب الخلل في مقام بيان حكم الناسي والغافل ، والجاهل ، يجب القضاء والإعادة حيث حكموا بوجوبهما على الجاهل إلّا في هذين الموضعين ، وقرينة المقام تنادي على اختصاص السقوط بالحكم الوضعي دون التكليفي.

وممّا ذكرنا من اختصاص مورد الاستثناء بالحكم الوضعي ظهر ما في كلام صاحب الفصول حيث عمّم مورده بالنسبة إلى الحكم الوضعي ورفع العقاب. انتهى.

(فحينئذ) ، أي : حين معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى الحكم الوضعي دون العقاب على الحكم التكليفي (يقع الإشكال ... إلى آخره) ، والإشكال المزبور مبني على اختصاص مورد الاستثناء بالحكم الوضعي ، كما هو ظاهر المتن ، وتقرير الإشكال وتوضيحه مبني على ثبوت أمرين :

أحدهما : بقاء وجوب القصر في الواقع بعد إتيان الجاهل بالتمام.

وثانيهما : كون التمام واجبا مأمورا به في حقّ الجاهل بالقصر.

أمّا ثبوت الأمر الأوّل ، فلأنّ مقتضى عدم معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى العقاب هو ثبوت الإثم في حقّه ، وثبوت الإثم مستلزم لثبوت وجوب القصر عليه ، وإلّا فلا معنى لكونه آثما ومستحقا للعقاب.

وأمّا ثبوت الأمر الثاني ، فلأنّ التمام حينئذ لا يخلو عن أحد احتمالين :

الأوّل : إنّه أيضا واجب على الجاهل بالقصر.

والثاني : إنّه ليس واجبا عليه. والثاني باطل إذ لا يمكن أن يكون غير الواجب مسقطا للواجب ، وبعد ثبوت الأمرين ، فنقول :

إنّ معذوريّة الجاهل بالنسبة إلى الحكم الوضعي فقط مستلزم للأمر بضدين وتوجّه التكليف بالمتضادين

إلى الجاهل في زمان واحد ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

١٨١

يأتي به من الإتمام المحكوم بكونه مسقطا إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟ وإن كان مأمورا به فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟

ودفع هذا الإشكال : إمّا بمنع تعلّق التكليف فعلا بالواقعي المتروك ، وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتي به ، وإمّا بمنع التنافي بينهما.

فالأوّل : إمّا بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم ، وكذا الجهر والإخفات.

____________________________________

(فكيف يجتمع الأمر به مع فرض وجود الأمر بالقصر؟) أو يلزم ما ليس بمأمور به مسقطا للواجب ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(إن لم يكن مأمورا به فكيف يسقط الواجب؟) ، وحينئذ فلا بدّ في دفع الإشكال من الالتزام بأحد امور :

منها : منع بقاء التكليف بالقصر.

ومنها : منع تعلّق التكليف بالتمام.

ومنها : منع التنافي بينهما.

كما أشار إلى جميع هذه الامور المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إمّا بمنع تعلّق التكليف فعلا بالواقعي المتروك) بمعنى عدم وجوب القصر على المسافر الجاهل ، وفساد القول بعدم المعذوريّة من حيث الحكم الوضعي.

(وإمّا بمنع تعلّقه بالمأتي به) ، بمعنى أنّ الإتمام مع عدم كونه مأمورا به مسقط للإعادة.

(وإمّا بمنع التنافي بينهما) ، أي : لا يلزم من الأمر بهما الأمر بالضدين في آن واحد ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. ثمّ إنّ الالتزام بالأمر الأوّل يمكن تقريره بوجوه :

أحدها : ما عن السيّد علم الهدى قدس‌سره في الجواب عن أخيه السيّد الرضي قدس‌سره وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إمّا بدعوى كون القصر مثلا واجبا على المسافر العالم ، وكذا الجهر والإخفات).

وحاصل تقريره ، هو اشتراط العلم بالحكم في موضوع التكليف في كلا الموضعين ، فيجب القصر على المسافر العالم بوجوب القصر في السفر ، وكذا في الجهر والإخفات ، فلا يكون في حقّ الجاهل فيهما حكم أصلا لا شأنا ولا فعلا ، إلّا أنّ هذا الوجه مستلزم للدور والتصويب ، كما في بحر الفوائد وشرح الاعتمادي ، وبذلك لا يصحّ الاعتماد عليه.

١٨٢

وإمّا بمعنى معذوريّته فيه ، بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الحكم الواقعي.

وهذا الجاهل وإن لم يتوجّه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري ، كما في الجاهل بالموضوع ، إلّا أنّه مستغنى عنه باعتقاده لوجوب هذا الشيء عليه في الواقع.

____________________________________

وثانيها : ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وإمّا بمعنى معذوريّته فيه ، بمعنى كون الجهل بهذه المسألة كالجهل بالموضوع يعذر صاحبه ويحكم عليه ظاهرا ، بخلاف الحكم الواقعي).

وملخّص التقرير ، هو أنّ العلم شرط لتنجّز التكليف ، بأن يقال : إنّ القصر وإن كان واجبا شأنيا في حقّ الجاهل ، إلّا أنّه قد ارتفعت فعليّة التكليف عنه بالجهل ، ويكون هذا الجهل نظير الجهل بالموضوع حيث يحكم فيه بمقتضى الاصول على خلاف الحكم الواقعي ، فيكون الجاهل بهذه المسألة نظير الجاهل بالموضوع معذورا في مخالفة الواقع.

(وهذا الجاهل وإن لم يتوجّه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري) ، لانتفاء موضوع الحكم الظاهري وهو الشكّ ، لكونه معتقدا بوجوب التمام أو أنّه غافل ، والغافل غير قابل للخطاب ، إلّا أنّ عدم إمكان جعل الحكم الظاهري في حقّه لا يقدح في المقام من حيث إنّ الحاجة إلى الحكم الظاهري إنّما هو لأجل التوصّل إلى قصد الامتثال.

وهذا الجاهل مستغن عنه من جهة اعتقاده بالوجوب ، والحكم بالمعذوريّة بهذا المعنى لا ينافي الحكم بعدم المعذوريّة من حيث العقاب من حيث تنجّز الخطاب في حقّه قبل عروض الغفلة.

وبعبارة اخرى : إنّ قول المصنّف قدس‌سره : (وهذا الجاهل وإن لم يتوجّه إليه خطاب مشتمل على حكم ظاهري) دفع لما قد يقال من أنّ قياس الجاهل في المقام بالجاهل بالموضوع في المعذوريّة قياس مع الفارق ؛ وذلك لأنّ الجاهل بالموضوع مخاطب بالخطاب الظاهري فلذا يكون معذورا.

وأمّا الجاهل في المقام فلا يمكن أن يكون مخاطبا بخطاب ظاهري ، فلذا يمكن أن يقال بعدم كونه معذورا. وقد تقدّم دفع هذا الإشكال سابقا ، وقلنا : إنّ عدم توجّه خطاب ظاهري إليه لا يقدح في كونه معذورا ، بل يجوز أن يكتفي الشارع في حكمه بمعذوريّة

١٨٣

وإمّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم ، فلا يجب عليه القصر ، لغفلته عنه ، نعم ، يعاقب على عدم إزالة الغفلة ، كما تقدّم استظهاره من صاحب المدارك ومن تبعه.

وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع ، إلّا أنّ الخطاب بالواقع ينقطع عند الغفلة لقبح خطاب العاجز ، وإن كان العجز بسوء اختياره فهو معاقب حين الغفلة على ترك القصر ، لكنّه ليس مأمورا به حتى يجتمع مع فرض وجود الأمر بالإتمام.

____________________________________

الغافل بكونه معتقدا للخلاف.

وكيف كان ، فيردّ على هذا الوجه : إنّ مجرّد الالتزام بارتفاع فعليّة خطاب القصر لا يوجب الحكم بصحة التمام مع عدم تعلّق الأمر به من الشارع ، واعتقاد الوجوب لا يؤثر في وجوب ما أتى به من التمام.

وثالثها : ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وإمّا من جهة القول بعدم تكليف الغافل بالواقع وكونه مؤاخذا على ترك التعلّم).

وملخّص هذا الوجه ، هو أنّ الجاهل في مورد الاستثناء غير مكلّف بالواقع ، لانقطاع الخطاب الواقعي عنه لأجل الغفلة مع كونه معاقبا على عدم إزالة الغفلة وترك التعلّم ، كما تقدّم استظهاره من صاحب المدارك قدس‌سره ومن تبعه في مطلق الجاهل المركّب.

ويردّ عليه مضافا إلى ما عرفت في ردّه سابقا من أنّ رفع الخطاب بالقصر واقعا من جهة الغفلة لا يصحّح توجّه الخطاب بالتمام مع أنّ صحة التمام مبنيّة على توجّه الخطاب بالتمام لا على مجرّد رفع الخطاب بالقصر.

ثمّ إنّ الفرق بين هذا الوجه وسابقيه كما في التعليقة ، هو أنّ العلم على الأوّل شرط شرعي لثبوت الحكم نظير البلوغ مثلا ، وعلى الثاني شرط عقلي نظير اشتراط العقل والقدرة في ثبوت التكاليف ، وعلى الثالث واجب نفسي.

ورابعها : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وإمّا من جهة تسليم تكليفه بالواقع).

وحاصل تقرير هذا الوجه ، هو الالتزام بانقطاع الخطاب الواقعي بالقصر عن الجاهل حال الجهل من جهة عدم القدرة عليه وقبح خطاب الجاهل الغافل مع كونه معاقبا على

١٨٤

لكنّ هذا كلّه خلاف ظاهر المشهور ، حيث إنّ الظاهر منهم ـ كما تقدّم ـ بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل.

ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لو لا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان.

والثاني : منع تعلّق الأمر بالمأتي به والتزام أنّ غير الواجب مسقط عن الواجب ،

____________________________________

مخالفته ، من حيث إنّ الامتناع منه بسوء اختياره فلا ينافي العقاب عليه وإن امتنع تعلّق الخطاب به ، ويردّ عليه ما تقدّم في الوجه الثالث من أنّ ارتفاع الأمر بالقصر لا ينفع في تصحيح المأتي به وهو التمام.

(لكنّ هذا كلّه خلاف ظاهر المشهور ، حيث إنّ الظاهر منهم ـ كما تقدّم ـ بقاء التكليف بالواقع المجهول بالنسبة إلى الجاهل) المقصّر ، ثمّ إنّ المراد ببقاء التكليف هو بقاء فعليته كما يظهر من حكمهم بكون الجاهل بحكم الغصب كالعامد ، ولذا حكموا ببطلان صلاته لإبقاء الشأنية وإلّا لحكموا ببطلان صلاة الجاهل بالموضوع ، ولإبقاء مجرّد أثر التكليف ـ أعني : العقاب ـ وإلّا لم يحكموا بصحّة صلاة المتوسّط في الأرض المغصوبة ، كما في بحر الفوائد بتصرّف.

(ولذا يبطلون صلاة الجاهل بحرمة الغصب ، إذ لو لا النهي حين الصلاة لم يكن وجه للبطلان) ، ويمكن الفرق بين المقام والغصب بأنّ المكلّف في مسألة الغصب ملتفت إلى الغصب وإن كان معتقدا بعدم حرمته فيمكن حينئذ توجّه النهي إليه ، وهذا بخلاف المقام حيث إنّ المكلّف غافل عن القصر وعن وجوبه فلا يمكن توجّه الأمر إليه ، فالقول بالتكليف الواقعي في مسألة الغصب لا يستلزم القول به في المقام أيضا. هذا تمام الكلام في دفع الإشكال بالأمر الأوّل.

وقد أشار قدس‌سره إلى دفعه بالتزام الأمر الثاني بقوله :

(والثاني : منع تعلّق الأمر بالمأتي به والتزام أنّ غير الواجب مسقط عن الواجب) ، بأن كان المأتي به أمرا أجنبيا غير مأمور به ومع ذلك كان مسقطا عن الواجب.

فالحاصل حينئذ أنّ وجوب القصر وإن كان منجّزا على الجاهل المقصّر ، وكان معاقبا على تركه إلّا أنّ الإتمام مسقط للإعادة ، وليس بمأمور به حتى يلزم ما تقدّم في الإشكال

١٨٥

فإنّ قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع.

نعم ، قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب فيحرم ، بناء على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضدّ ، كما في آخر الوقت ، حيث يستلزم فعل التمام فوت القصر.

ويردّ هذا الوجه : إنّ الظاهر من الأدلّة كون المأتي به مأمورا به في حقّه ، مثل قوله عليه‌السلام في الجهر والإخفات : (تمّت صلاته) (١) ، ونحو ذلك.

والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب تمنع عدم وجوب البدل ، بل الظاهر في

____________________________________

من الأمر بالضدين في زمان واحد.

(فإنّ قيام ما اعتقد وجوبه مقام الواجب الواقعي غير ممتنع) ، حيث يكون الجاهل المقصّر في المقام نظير الجاهل القاصر ، حيث ذهب فيه بعض إلى كون عمله مسقطا عن الواجب الواقعي مع عدم توجّه أمر إلى ما اعتقده كما في التعليقة ، فيقال في المقام :

إذا قام الدليل على كون الإتمام مسقطا وكان الأمر بالضدين محالا ، لا بدّ من الالتزام بأنّ في الإتمام مصلحة ورجحان ذاتي يكفي في كونه مسقطا في المقام ، وإن لم يكن بحدّ يقتضي الأمر به في حقّ المسافر ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف.

(نعم ، قد يوجب إتيان غير الواجب فوات الواجب فيحرم ، بناء على دلالة الأمر بالشيء على النهي عن الضد ، كما في آخر الوقت ، حيث يستلزم فعل التمام فوت القصر).

وحاصل استدراكه كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّ كون التمام مسقطا إنّما يصحّ إذا أتى به قبل ضيق الوقت ، وأمّا بعده فلا ؛ وذلك لأنّ فعل التمام مضاد لفعل القصر المأمور به واقعا.

فإذا قلنا بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الضد كان فعل التمام حراما باطلا ، فلا يكون مسقطا ، إلّا أن يقال : إنّ الأمر بالقصر قد انقطع عن الغافل فلا أمر حال الغفلة وحال الاشتغال بالتمام حتى يكون مقتضيا للنهي عن التمام ، فيكون باطلا غير مسقط.

(ويردّ هذا الوجه : إنّ الظاهر من الأدلّة كون المأتي به مأمورا به في حقّه) ، فيبقى إشكال الأمر بالضدين على حاله.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٣. الوسائل ٦ : ٨٦ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٢٦ ، ح ١.

١٨٦

تلك الموارد سقوط الأمر الواقعي وثبوت الأمر بالبدل ، فتأمّل.

والثالث : بما ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله من أنّ التكليف بالإتمام مرتّب على معصية الشارع بترك القصر ، فقد كلّفه بالقصر والإتمام على تقدير معصية في التكليف بالقصر.

____________________________________

(والموارد التي قام فيها غير الواجب مقام الواجب) كالمركّب الفاقد للجزء في موارد ترك الجزء سهوا مقام الواجب وهو المركّب الواجد للجزء ، حيث يكون قيام غير الواجب مقام الواجب على نحو البدليّة ، فيسقط الواجب الواقعي بعد الإتيان ببدله المأمور به.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى عدم إمكان البدليّة في المقام ؛ لأنّ الغافل غير قابل للخطاب أصلا لا بالبدل ولا بالمبدل ، فالحكم بكفاية ما أتى به الغافل لا يكون إلّا من باب مجرّد إسقاط الإعادة والقضاء.

أو هو إشارة إلى منع تعلّق الأمر بالبدل في كلّ مورد ؛ لأنّ الفعل الاضطراري قد يسقط عن الواجب ، بل فعل الغير ـ أيضا ـ قد يسقط عنه ، كما إذا وجب غسل الثوب للصلاة فألقته الريح في الماء وانغسل بنفسه ، كما في الأوثق.

أو إشارة إلى أنّ مسقط الواجب قد لا يكون مأمورا به ، كالسفر المباح المسقط لوجوب الصوم مع عدم الأمر به قطعا.

وكيف كان ، فقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى الأمر الثالث في دفع الإشكال المذكور بقوله :

(والثالث : بما ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله من أنّ التكليف بالإتمام مرتّب على معصية الشارع بترك القصر).

وملخّص تقريب الترتّب أنّ وجوب كلّ من القصر والإتمام غير جائز إذا كان على نحو التقارن ، بأن يكون الأمر بهما في مرتبة واحدة ؛ لأنّ الأمر بالضدين في آن واحد ومرتبة واحدة محال.

وأمّا إذا كان على نحو الترتّب ، بأن كان التكليف بالإتمام مترتّبا على ترك الأمر بالقصر ، بمعنى أنّ المكلّف يكون مأمورا أوّلا بالقصر ثمّ بالتمام على تقدير عصيانه للأمر بالقصر ، بأن يقول الشارع مثلا : قصّر وإن عصيت فأتمم ، فلا مانع منه ، إذ لا يمتنع عند العقل أن يقول المولى لعبده : أوجبت عليك الكون على سطح الدار ، ولكن لو خالفته بالعصيان ، فأوجبت عليك الكون في الغرفة الفلانيّة.

١٨٧

وسلك هذا الطريق في مسألة الضد في تصحيح فعل غير الأهمّ من الواجبين المضيّقين ، إذا ترك المكلّف الامتثال بالأهمّ.

ويردّه : إنّا لا نعقل الترتّب في المقامين.

وإنّما يعقل ذلك فيما إذا حدث التكليف الثاني بعد تحقّق معصية الأوّل ، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائيّة ، فكلّف لضيق الوقت بالترابيّة.

____________________________________

(وسلك هذا الطريق في مسألة الضد) في ردّ من قال : بأنّ الأمر بالمضيّق كأزل النجاسة عن المسجد ، يدلّ على النهي عن الضد الموسّع كالصلاة ، فتبطل حينئذ صلاة تارك الإزالة.

وحاصل ردّ كاشف الغطاء قدس‌سره على هذا القائل : إنّ حرمة الضد على تقدير دلالة الأمر بالشيء على النهي عنه مشروطة بعدم عزم المكلّف على عصيان الأمر بالمضيّق ، وأمّا معه فلا يكون الموسّع منهيّا عنه حتى يكون حراما باطلا ، بل يكون مأمورا به على نحو الترتّب ، فكأنّه قال الشارع : أزل النجاسة وإن عصيت فصلّ.

وهكذا قال في تصحيح فعل غير الأهمّ من الواجبين المضيّقين إذا ترك المكلّف الأهمّ من باب الترتّب ، ردّا لما قيل ببطلان فعل غير الأهمّ من أنّ العقل يحكم مستقلّا في تزاحم المضيّقين كصلاة العصر المضيّق مع صلاة الكسوف بتقديم الأهمّ فيحرم ضده ، فتبطل صلاة الكسوف مكان العصر ، كما في شرح الاستاذ الاستاذ الاعتمادي بتصرّف.

(ويردّه : إنّا لا نعقل الترتّب في المقامين) ، أي : مسألتي القصر والجهر ، ومسألتي الضد والتزاحم ؛ لأنّه إذا تعلّق الأمر بالثاني حين العزم على معصية الأوّل فالأمر بالأوّل باق حينئذ ، إذ بمجرّد العزم على المعصية لا ينقطع الأمر ، فيبقى محذور الأمر بالضدين على حاله. هذا مضافا إلى إيراد آخر مختصّ بما نحن فيه :

وهو أنّ الترتّب العزمي على فرض كفايته غير جار هنا ، ضرورة عدم قابليّة الغافل للخطاب ، فكيف يقال : أيّها الغافل المقصّر إذا عزمت العصيان بترك القصر فأتمم؟

(وإنّما يعقل ذلك) الترتّب (فيما إذا حدث التكليف الثاني) لا بمجرّد العزم على معصية الأوّل ، بل (بعد تحقّق معصية الأوّل ، كمن عصى بترك الصلاة مع الطهارة المائيّة ، فكلّف لضيق الوقت بالترابيّة) ، إذ لا يلزم حينئذ منه الأمر بالضدين في آن واحد ، فلذا وقع في الشرع بلا خلاف. هذا وقد اكتفينا بما أفاده الاستاذ الاعتمادي وقد أجاد فيما أفاده ، ومن

١٨٨

الثالث : إنّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكميّة الناشئة من عدم النصّ ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص.

أمّا إجراء الأصل في الشبهة الموضوعيّة : فإن كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص ، ويدلّ عليه إطلاق الأخبار.

مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتى تعلم) (١) وقوله : (حتى يستبين لك غير هذا أو تقوم

____________________________________

يريد التفصيل في مسألة الترتّب فعليه بالكتب المبسوطة.

(الثالث : إنّ وجوب الفحص إنّما هو في إجراء الأصل في الشبهة الحكميّة الناشئة من عدم النصّ ، أو إجمال بعض ألفاظه ، أو تعارض النصوص).

(أمّا إجراء الأصل في الشبهة الموضوعيّة : فإن كانت الشبهة في التحريم ، فلا إشكال ولا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص ، ويدلّ عليه إطلاق الأخبار).

وقد تقدّم من المصنّف قدس‌سره في أوّل مسألة اشتراط الفحص في العمل بالبراءة التصريح بعدم اشتراط الفحص في العمل بها في الشبهة الموضوعيّة ، حيث قال : (وأمّا البراءة فإن كان الشكّ للرجوع إليها من جهة الشبهة في الموضوع ، فقد تقدّم أنّها غير مشروطة بالفحص عن الدليل المزيل لها).

فحينئذ يكون ما ذكره في المقام من البحث عن اشتراط الفحص في الشبهة الموضوعيّة في العمل بالبراءة ينافي ما تقدّم منه من التصريح بعدم الاشتراط في الشبهة الموضوعيّة ، إلّا أن يقال : إنّ مقصوده من عدم اشتراط الفحص في الشبهة الموضوعيّة هو عدم اشتراط الفحص في العمل بالبراءة في الشبهة الموضوعيّة إذا كانت تحريميّة ، والمقصود في المقام هي الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة ، وقد وقع النزاع في اشتراط الفحص في العمل بالبراءة في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة كالشبهة الحكميّة ، وإن كان الحقّ عند المصنّف قدس‌سره عدم الاشتراط فيها أيضا ، أي : كالشبهة الموضوعيّة التحريميّة.

وكيف كان ، فلا خلاف ظاهرا في عدم وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، ويدلّ على عدم وجوب الفحص إطلاق الأخبار.

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

١٨٩

به البيّنة) (١) ، وقوله : (حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة) (٢) ، وغير ذلك ، السالم عمّا يصلح لتقييدها.

وإن كانت الشبهة وجوبيّة ، فمقتضى أدلّة البراءة حتى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضا ، وهو مقتضى حكم العقلاء في بعض الموارد ، مثل قول المولى لعبده : «أكرم العلماء أو المؤمنين» ، فإنّه لا يجب الفحص في المشكوك حاله في المثالين.

____________________________________

(مثل قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم)) تحريمه من دون فحص (وقوله عليه‌السلام : (حتى يستبين لك غير هذا)) ، أي : تظهر حرمتها بقيام دليل من الخارج بلا تفحّص واستكشاف.

لأنّ قوله : (حتى يستبين) ظاهر في حصول الاستبانة من الخارج من دون فحص ، وإن لم يكن ظاهرا في ذلك فالإطلاق كاف ، لأنّ الحكم بالحلّ لم يقيّد بكونه بعد الفحص.

هذا مضافا إلى التصريح بنفي وجوب السؤال في بعض الأخبار ، بل في بعضها ذمّ الفحص والسؤال كقوله عليه‌السلام : (وأنّه ليس عليكم المسألة وأنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم فضيّق الله عليهم) (٣) وقوله عليه‌السلام : (لم سألت) وقد تقدّمت هذه الأخبار في باب البراءة.

فحينئذ يكون ما تقدّم من الأدلّة القائمة على وجوب الفحص مختصّا بالشبهة الحكميّة. هذا تمام الكلام في الشبهة الموضوعيّة التحريميّة.

وأمّا الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة ، فقد أشار إليها المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وإن كانت الشبهة وجوبيّة ، فمقتضى أدلّة البراءة حتى العقل كبعض كلمات العلماء عدم وجوب الفحص أيضا).

ثمّ إنّ الوجه في عدم حكم العقل بوجوب الفحص في الرجوع إلى البراءة في الشبهات الموضوعيّة ، هو أنّ مجرّد تعلّق الخطاب بالموضوع الكلّي مع الشكّ في صدقه على بعض الامور الخارجيّة لا يجدي في وجوب الفحص عقلا ، بل العقل يحكم مستقلّا بجواز الأخذ بالبراءة بلا فحص مع الشكّ ، وكذلك لا يجب الفحص عند العقلاء في بعض الموارد

__________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٤٠. الوسائل ١٧ : ٨٩ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ٤ ، ح ٤.

(٢) الكافي ٦ : ٣٣٩ / ٢. الوسائل ٢٥ : ١١٨ ، أبواب الأطعمة المباحة ، ب ٦١ ، ح ٢.

(٣) التهذيب ٢ : ٣٦٨ / ١٥٢٩. الوسائل ٤ : ٤٥٦ ، أبواب لباس المصلّى ، ب ٥٥ ، ح ١ ، مع اختلاف يسير فيهما.

١٩٠

إلّا أنّه قد يتراءى أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبّائها ، أو إضافتهم ، أو إعطاء كلّ واحد منهم دينارا ، فإنّه قد يدّعي أنّ بناءهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداء مع احتمال وجود غيرهم في البلد.

قال في المعالم ـ في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق ـ : «إنّ وجوب التثبّت فيها متعلّق بنفس الوصف ، لا بما تقدّم العلم به منه.

ومقتضى ذلك إرادة الفحص والبحث عن حصوله وعدمه. ألا ترى أنّ قول القائل :

____________________________________

المذكورة في المتن ، فراجع.

(إلّا أنّه قد يتراءى أنّ بناء العقلاء في بعض الموارد على الفحص والاحتياط ، كما إذا أمر المولى بإحضار علماء البلد أو أطبائها ، أو إضافتهم ، أو إعطاء كلّ واحد منهم دينارا ، فإنّه قد يدّعي أنّ بناءهم على الفحص عن اولئك وعدم الاقتصار على المعلوم ابتداء مع احتمال غيرهم في البلد) ، فلا يجوز للعبد الاكتفاء بالمعلومين ، بل يجب عليه الفحص عن غيرهم ، وذلك لأنّ الحكم بالإحضار أو الضيافة أو الإعطاء تعلّق بكلّ من هو عالم واقعا فعلا لا بمن علم كونه عالما سابقا ، كما يظهر ذلك من صاحب المعالم والمحقّق القمّي قدس‌سرهما ، حيث يظهر منهما وجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة أيضا.

(قال في المعالم ـ في مقام الاستدلال على وجوب التبيّن في خبر مجهول الحال بآية التثبّت في خبر الفاسق ـ : إنّ وجوب التثبّت فيها متعلّق بنفس الوصف).

أي : وجوب التبيّن والتثبّت في الآية المباركة قد تعلّق بالفاسق الواقعي ، لا بمن علم كونه فاسقا ، فيجب حينئذ التبيّن في خبر كلّ من يحتمل أن يكون فاسقا ، ولا يختصّ بالفاسق المعلوم فسقه عند المكلّف قبل مجيئه بالخبر.

فكما تعلّق الحكم بوجوب التبيّن في مورد الآية بالفاسق الواقعي فيجب التبيّن في خبر كلّ من يحتمل أن يكون فاسقا في الواقع ، كذلك تعلّق الحكم في المثال المذكور في المتن بكلّ من يكون عالما أو طبيبا في الواقع فيجب الفحص عنه ، ولا يجوز الاكتفاء بالمعلومين المعروفين.

(ومقتضى ذلك إرادة الفحص والبحث) فيما إذا كان المخبر مجهول الحال عن حصول

١٩١

«أعط كلّ بالغ رشيد من هذه الجماعة مثلا درهما» ، يقتضي إرادة السؤال والفحص عمّن جمع الوصفين ، لا الاقتصار على من سبق العلم باجتماعهما فيه؟». انتهى.

وأيّد ذلك المحقّق القمّي رحمه‌الله في القوانين ب «أنّ الواجبات المشروطة بوجود شيء إنّما يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا على العلم بوجوده».

فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحجّ ، لعدم علمه بمقدار المال ، لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء ، بل يجب عليه محاسبة ماله ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها ، نعم لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ» ، ثمّ ذكر المثال المذكور في المعالم بالتقريب المتقدّم عنه.

____________________________________

الوصف وعدمه ، فإن ظهر كونه عادلا يقبل خبره من دون التبيّن عن كونه صادقا أوّلا ، وإن ظهر كونه فاسقا فيجب التبيّن في خبره عن الصدق والكذب ، فيقبل على الأوّل ويردّ على الثاني ، وهكذا يجب التبيّن في خبر من علم فسقه. هذا تمام الكلام فيما أفاده صاحب المعالم قدس‌سره حيث يستفاد منه وجوب الفحص عند اشتباه الموضوع.

ثمّ أشار إلى تأييد المحقّق القمّي قدس‌سره وجوب الفحص عند اشتباه الموضوع بقوله :

(وأيّد ذلك المحقّق القمّي رحمه‌الله في القوانين : بأنّ الواجبات المشروطة بوجود شيء) ، كوجوب الحج حيث يكون مشروطا بالاستطاعة (إنّما يتوقّف وجوبها) ، أي : الواجبات المشروطة (على وجود الشرط) كالاستطاعة واقعا(لا على العلم بوجوده).

(فبالنسبة إلى العلم مطلق لا مشروط ، مثل أنّ من شكّ في كون ماله بمقدار استطاعة الحجّ ، لعدم علمه بمقدار المال ، لا يمكنه أن يقول : إنّي لا أعلم أنّي مستطيع ولا يجب عليّ شيء) ؛ وذلك لأنّ وجوب الحج بالنسبة إلى العلم مطلق ، بمعنى عدم توقفه على العلم بالاستطاعة حتى يحكم بعدمه عند عدم العلم بها ، فيقال : إنّ المكلّف الذي لا يعلم بالاستطاعة فلا يجب عليه الحج ، بل أنّه مشروط بالاستطاعة واقعا ، فيجب على المكلّف حينئذ الفحص وبحسب ما عنده من الأموال (ليعلم أنّه واجد للاستطاعة أو فاقد لها ، نعم لو شكّ بعد المحاسبة في أنّ هذا المال هل يكفيه في الاستطاعة أم لا؟ فالأصل عدم الوجوب حينئذ).

١٩٢

وأمّا كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة ، فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم ، بأنّه لو كان له فضّة مغشوشة بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا وشكّ في مقداره وجب التصفية ، ليحصل العلم بالمقدار ، أو الاحتياط بمقدار ما تيقّن معه البراءة.

نعم ، استشكل في التحرير في وجوب ذلك ، وصرّح غير واحد من هؤلاء ـ مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب ـ بأنّه لا يجب التصفية ، والفرق بين المسألتين مفقود.

____________________________________

قال الاستاذ الاعتمادي في المقام : «لا يخفى أنّ الشكّ في مقدار المال والشكّ في كفاية هذا المقدار كلاهما من الشبهة الموضوعيّة ، ولا وجه لوجوب الفحص في الأوّل دون الثاني.

ويمكن أن يقال بالفرق بينهما بأنّ الشكّ في الأوّل يكون قبل الفحص فلا يجوز فيه الرجوع إلى الأصل ، وإنّ الشكّ في الثاني يكون بعد الفحص فيجوز فيه الرجوع إلى الأصل. وكيف كان ، فالمستفاد من المحقّق القمّي هو وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة الوجوبية». انتهى.

(وأمّا كلمات الفقهاء فمختلفة في فروع هذه المسألة ، فقد أفتى جماعة منهم ، كالشيخ والفاضلين وغيرهم ، بأنّه لو كان له فضّة مغشوشة) ـ أي : ممزوجة ـ (بغيرها وعلم بلوغ الخالص نصابا) ، أي : النصاب الأوّل مثلا(وشكّ في مقداره) بأنّه هل بلغ النصاب الثاني أم لا؟ (وجب التصفية) لو كان طريق العلم منحصرا بها ، (ليحصل العلم بالمقدار ، أو الاحتياط) بإخراج (ما تيقّن معه البراءة. نعم ، استشكل في التحرير في وجوب ذلك) ، أي : الفحص أو الاحتياط واحتمل كفاية إخراج متيقّن الوجوب ، كما في شرح الاعتمادي.

(وصرّح غير واحد من هؤلاء ـ مع عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب ـ بأنّه لا يجب التصفية ، والفرق بين المسألتين) ، وهما :

أوّلا : العلم ببلوغ الخالص النصاب والشكّ في مقداره.

وثانيا : عدم العلم ببلوغ الخالص النصاب أصلا.

(مفقود) ؛ لكون كلّ واحد منهما شبهة وجوبيّة ، فكيف حكموا بوجوب الفحص بالتصفية في المسألة الاولى وهي : ما إذا علم بلوغ الخالص النصاب ، وعدم وجوبه في الثانية وهي : ما إذا لم يعلم ببلوغ الخالص مقدار النصاب؟!

١٩٣

إلّا ما ربّما يتوهّم من أنّ العلم بالتكليف ثابت مع العلم ببلوغ النصاب ، بخلاف ما لم يعلم به.

وفيه : إنّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقّن ودوران الأمر بين الأقلّ والأكثر ، مع كون الزائد على تقدير وجوبه تكليفا مستقلا.

ألا ترى أنّه لو علم بالدين وشكّ في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص ، مع أنّه لو كان هذا المقدار يمنع من إجراء البراءة قبل الفحص لمنع منها بعده ، إذ العلم الإجمالي لا يجوز معه الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص؟.

____________________________________

وبالجملة ، إنّه لا فرق بين المسألتين (إلّا ما ربّما يتوهّم من أنّ العلم بالتكليف ثابت) إجمالا(مع العلم ببلوغ النصاب ، بخلاف ما لم يعلم به).

فالشكّ في المسألة الاولى مع العلم بأصل التكليف شكّ في المكلّف به فيجب فيه الفحص والاحتياط ، بخلاف الشكّ في المسألة الثانية حيث يكون في أصل التكليف ، ولا يجب فيه الفحص ولا الاحتياط.

(وفيه : إنّ العلم بالنصاب لا يوجب الاحتياط مع القدر المتيقّن) ، لما تقدّم في دوران الواجب بين الأقلّ والأكثر من عدم وجوب الاحتياط فيما إذا كان الأقلّ والأكثر ارتباطيّين ، فضلا عن كونهما استقلاليّين.

وما نحن فيه من قبيل الثاني ؛ لأنّ وجوب الزكاة في النصاب الأوّل تكليف مستقل وفي النصاب الثاني كذلك ، فالواجب هنا مردّد بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين ، والعلم الإجمالي في الأقلّ والأكثر الاستقلالي ينحلّ إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى وجوب زكاة النصاب الأوّل وشكّ بدوي بالنسبة إلى وجوب زكاة النصاب الثاني ، فيجري فيه أصل البراءة من دون فرق بين الشكّ في المسألة الاولى وبين الشكّ في أصل النصاب في المسألة الثانية ، حيث إنّ الشكّ فيهما شكّ في أصل التكليف ، والشبهة فيهما موضوعيّة وجوبيّة.

(ألا ترى أنّه لو علم بالدين وشكّ في قدره ، لم يوجب ذلك الاحتياط والفحص) ، بل يرجع إلى أصل البراءة بالنسبة إلى الزائد ، (مع أنّه لو كان هذا المقدار يمنع ... إلى آخره).

يعني : إنّ العلم بالتكليف مع الشكّ في مقدار المكلّف به وتردّد الأمر فيه بين الأقلّ والأكثر الاستقلاليّين إن كان مانعا عن أصالة البراءة قبل الفحص كان مانعا من إجرائها بعده

١٩٤

وقال في التحرير في باب نصاب الغلّات : «ولو شكّ في البلوغ ، ولا مكيال هنا ولا ميزان ، ولم يوجد ، سقط الوجوب دون الاستحباب». انتهى ، وظاهره جريان الأصل مع تعذّر الفحص وتحصيل العلم.

وبالجملة : فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في بعض أفراد الاشتباه في الموضوع مشكل ، وأشكل منه فرقهم بين الموارد ، مع ما تقرّر عندهم من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر.

وأمّا ما ذكره ـ صاحب المعالم رحمه‌الله وتبعه عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله ـ من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة اقتضاء تعلّق الأمر بالموضوع الواقعي المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه ، وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ، فلا يخفى ما فيه ،

____________________________________

أيضا ، إذ الفحص لا يزيل العلم الإجمالي ، فمع عدم تبيّن الحال بعد الفحص لا بدّ من العمل بالاحتياط دون البراءة لوجود المانع وهو العلم الإجمالي بالفرض ، كما في الأوثق.

(وقال في التحرير في باب نصاب الغلّات : «ولو شكّ في البلوغ ، ولا مكيال هنا ولا ميزان ، ولم يوجد ، سقط الوجوب دون الاستحباب». انتهى ، وظاهره جريان الأصل) في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة (مع تعذّر الفحص) وتعذّر تحصيل العلم لا مع التمكّن ، كما في شرح الاعتمادي.

(وبالجملة : فما ذكروه من إيجاب تحصيل العلم بالواقع مع التمكّن في بعض أفراد الاشتباه في الموضوع) ، كالشكّ في الاستطاعة في كلام صاحب القوانين قدس‌سره والشكّ في الزائد عن النصاب الأوّل ، أو في أصل النصاب في باب نصاب الغلّات (مشكل ، وأشكل منه فرقهم بين الموارد) ، كالشكّ في أصل نصاب الفضة فلا يجب الفحص ، والشكّ في النصاب الزائد فيجب كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(مع ما تقرّر عندهم من أصالة نفي الزائد عند دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر) حيث يكون مقتضاه هو الرجوع إلى البراءة في الشكّ في النصاب الزائد ، لا الاحتياط ووجوب الفحص.

(وأمّا ما ذكره ـ صاحب المعالم رحمه‌الله ، وتبعه عليه المحقّق القمّي رحمه‌الله ـ من تقريب الاستدلال بآية التثبّت على ردّ خبر مجهول الحال من جهة اقتضاء تعلّق الأمر بالموضوع الواقعي

١٩٥

لأنّ ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشكّ ، وإلّا لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله.

كما لا يجب الإعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم باجتماع الوصفين فيه ، بل وجه ردّه قبل الفحص وبعده أنّ وجوب التبيّن شرطي ، ومرجعه إلى

____________________________________

المقتضي وجوب الفحص عن مصاديقه ، وعدم الاقتصار على القدر المعلوم ، فلا يخفى ما فيه ، لأنّ ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص عند الشكّ ، وإلّا لجاز الأخذ به ، ولم يجب التبيّن فيه بعد الفحص واليأس عن العلم بحاله).

وحاصل الإشكال في كلام صاحب المعالم قدس‌سره يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ ردّ خبر مجهول الحال يمكن أن يكون مبنيّا على وجوب الفحص ، كما تخيّله صاحب المعالم قدس‌سره ، بمعنى أنّ وجوب التبيّن في الآية قد تعلّق بالفاسق الواقعي ، فيجب التبيّن في خبر كلّ من يحتمل أن يكون فاسقا.

ومقتضى ذلك ، ردّ خبر مجهول الحال قبل الفحص والبحث عن حاله ، فيكون ردّ خبره من جهة وجوب الفحص.

ويمكن أن يكون ردّ خبره من جهة إحراز الموضوع ؛ لأنّ موضوع قبول خبر المخبر وجواز العمل به هو عدالة المخبر ، ولا يجوز العمل بخبر غير العادل إلّا بعد التبيّن وظهور كون المخبر عادلا أو كون خبره صادقا ، ثمّ إنّ وجوب التبيّن على الأوّل نفسي وعلى الثاني شرطي ، كما ستعرف.

وبعد هذه المقدّمة يتّضح لك أنّ ما يظهر من صاحب المعالم قدس‌سره من وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة مبني على الاحتمال الأوّل ، وهو باطل ؛ لأنّ ردّ خبر مجهول الحال ليس مبنيّا على وجوب الفحص ، إذ لو كان ردّه وعدم جواز العمل به مبنيّا على وجوب الفحص كان لازمه جواز الأخذ به بعد الفحص من دون تبيّن ، فيرتفع وجوب التبيّن بعد الفحص ، ولا يجب.

(كما لا يجب الإعطاء في المثال المذكور بعد الفحص عن حال المشكوك وعدم العلم باجتماع الوصفين) ، أي : البلوغ والرشد(فيه) ؛ لأنّ التكليف بالإعطاء كان مبنيّا على وجوب الفحص وتحصيل العلم باجتماع الوصفين في المعطى له ، فكما يرتفع التكليف بالإعطاء ،

١٩٦

اشتراط قبول الخبر في نفسه من دون اشتراط التبيّن فيه بعدالة المخبر ، فإذا شكّ في عدالته شكّ في قبول خبره في نفسه ، والمرجع في هذا الشكّ والمتعيّن فيه عدم القبول ، لأنّ عدم العلم بحجيّة شيء كاف في عدم حجيّته.

ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص : إنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو اهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ثمّ العمل بالبراءة ، كبعض الأمثلة المتقدّمة. فإنّ إضافة جميع علماء البلد أو أطبّائهم لا يمكن للشخص الجاهل إلّا بالفحص ، فإذا حصّل العلم ببعض ، واقتصر على ذلك ، نافيا لوجوب إضافة من عداه بأصالة البراءة من غير تفحّص زائد على ما حصّل به المعلومين عدّ مستحقا للعقاب والملازمة عند انكشاف ترك إضافة من يتمكّن من تحصيل العلم به بفحص زائد.

____________________________________

كذلك يرتفع التكليف بوجوب التبيّن بعد الفحص واليأس ، والحال أنّ الأمر ليس كذلك ، بل التبيّن واجب مطلقا ، أي : قبل الفحص وبعده.

ومن هنا يعلم أنّ ردّ خبر مجهول الحال ووجوب التبيّن فيه ليس مبنيّا على وجوب الفحص حتى يقال بوجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة ، كما قال به صاحب المعالم قدس‌سره ، بل ردّ خبر مجهول الحال يكون من جهة إحراز الموضوع.

حيث إنّ وجوب التبيّن في خبر الفاسق وجوبا شرطيا لا نفسيا ، بمعنى أنّ التبيّن شرط لقبول خبر الفاسق والعمل به بعد كشف كونه صادقا بالتبيّن ، وفي المقابل خبر العادل ليس مشروطا بالتبيّن ، بل يقبل ويعمل به من دون تبيّن أصلا.

فحينئذ يكون الاستدلال بآية النبأ على وجوب التبيّن في خبر الفاسق وردّ خبر مجهول الحال أجنبيا عن وجوب الفحص في الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة أصلا.

(ثمّ الذي يمكن أن يقال في وجوب الفحص : إنّه إذا كان العلم بالموضوع المنوط به التكليف يتوقف كثيرا على الفحص ، بحيث لو اهمل الفحص لزم الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، تعيّن هنا بحكم العقلاء اعتبار الفحص ثمّ العمل بالبراءة) ، فيجب الفحص في الشبهات الموضوعيّة التي لو اهمل الفحص فيها لوقع المكلّف في مخالفة التكليف كثيرا ، إلّا أنّ ما ذكره المصنّف قدس‌سره منقوض بقاعدة الطهارة ، حيث إنّ عدم الفحص فيها إجماعي

١٩٧

ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحجّ المتقدّم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ، فلو بني الأمر على تركها ونفي وجوب الحجّ بأصالة البراءة لزم تأخير الحجّ عن أوّل سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص ، لكنّ الشأن في صدق هذه الدعوى.

وأمّا ما استند إليه المحقّق المتقدّم ـ من أنّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط لا العلم بوجوده ـ ففيه : أنّه مسلّم ، ولا يجدي ، لأنّ الشكّ في وجود الشرط يوجب الشكّ في وجوب المشروط وثبوت التكليف ، والأصل عدمه.

غاية الأمر الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء واشتراطه بالعلم به ، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية نقطع بانتفاء التكليف من دون حاجة إلى الأصل ، وفي الصورة الاولى يشكّ فيه ، فينفى بالأصل.

____________________________________

مع استلزامه الوقوع في مخالفة التكليف كثيرا ، كما في التعليقة.

(ومن هنا يمكن أن يقال في مثال الحج المتقدّم : إنّ العلم بالاستطاعة في أوّل أزمنة حصولها يتوقف غالبا على المحاسبة ، فلو بني الأمر على تركها ونفي وجوب الحجّ بأصالة البراءة لزم تأخير الحجّ عن أوّل سنة الاستطاعة بالنسبة إلى كثير من الأشخاص) ، فيجب الفحص بمحاسبة الأموال لئلّا يلزم تأخير الحج عن أوّل سنة الاستطاعة.

(لكنّ الشأن في صدق هذه الدعوى) ، أي : غلبة خفاء الاستطاعة ، لأنّ الغالب حصول العلم بها وجودا أو عدما من دون حاجة إلى الفحص بمحاسبة الأموال.

(وأمّا ما استند إليه المحقّق) ـ القمّي ـ (من أنّ الواجبات المشروطة يتوقف وجوبها على وجود الشرط) واقعا(لا العلم بوجوده ، ففيه : أنّه مسلّم ، ولا يجدي) في وجوب الفحص عند الشكّ ؛ لأنّ الشرط حينئذ في مسألة الحجّ هو الاستطاعة الواقعيّة ، والشكّ فيها يوجب الشكّ في المشروط وهو وجوب الحجّ ، ومقتضى الأصل في الشكّ في أصل التكليف هو البراءة ، أو مقتضى الأصل هو عدم الشرط المستلزم لعدم المشروط.

(غاية الأمر الفرق بين اشتراط التكليف بوجود الشيء واشتراطه بالعلم به ، إذ مع عدم العلم في الصورة الثانية نقطع بانتفاء التكليف من دون حاجة إلى الأصل ، وفي الصورة الاولى يشكّ ، فيه ، فينفى بالأصل).

١٩٨

وأمّا الكلام في مقدار الفحص : فملخّصه أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل في ما بأيدينا من الأدلّة.

____________________________________

وحاصل الكلام كما في شرح الاعتمادي : إنّه لا فرق في عدم وجوب الفحص عند الشكّ بين أن يكون الحجّ مثلا مشروطا بالاستطاعة الواقعيّة ، أو بالاستطاعة المعلومة ، غاية الأمر أنّه على الثاني ينتفي التكليف بمجرّد الشكّ في الاستطاعة ، وعلى الأوّل يحتاج إحراز عدمها إلى الأصل. هذا تمام الكلام في وجوب الفحص.

وأمّا الكلام في مقدار الفحص ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وأمّا الكلام في مقدار الفحص : فملخّصه : أنّ حدّ الفحص هو اليأس عن وجدان الدليل في ما بأيدينا من الأدلّة) هذا أحد الوجوه في مقدار الفحص.

وثانيها : هو وجوب الانتهاء في الفحص إلى أن يحصل العلم بعدم الدليل.

وثالثها : هو جواز الاكتفاء فيه بمطلق الظنّ بعدم الدليل ، فلا يجب الفحص إلى أن يحصل العلم ؛ لأنّ العلم بعدم الدليل في الواقع متعذّر ، والعلم بعدمه في الكتب التي يمكن الوصول إليها متعسّر وموجب لتعطيل أكثر الأحكام ، فلا بدّ من التنزّل حينئذ إلى اعتبار الظنّ.

أو يقال في وجه الاكتفاء بالظنّ بعدم الدليل في مقدار الفحص : إنّه إذا اكتفى في إثبات أصل الأحكام بالظنّ ، ففي الفحص عن أدلّتها بطريق أولى ، غاية الأمر إذا اختلفت مراتب الظنّ قوة وضعفا لا يجوز العدول من القوي إلى الضعيف عقلا ، كما في الأوثق.

وكيف كان ، فقد اختار المصنّف قدس‌سره الوجه الأوّل وهو الفحص حتى يحصل اليأس عن وجدان الدليل فيما بأيدينا من الأدلّة ، ولا يكفي فيه مجرّد الظنّ بعدم الدليل ، إذ بناء على انسداد باب العلم في الأحكام يكون الظنّ بعدم الدليل دليلا على نفي الحكم ، لا شرطا لإجراء البراءة.

وبناء على انفتاح باب العلم لا دليل على كفايته في إجراء البراءة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، وقد تقدّم عدم اعتبار العلم بعدم الدليل ، فالحقّ عند المصنّف قدس‌سره هو اعتبار اليأس عن وجدان الدليل ، بل عن وجدان كلّ ما يصلح أن يكون دليلا حتى الظنّ المطلق على القول به.

١٩٩

ويختلف ذلك باختلاف الأعصار ، فإنّ في زماننا هذا إذا ظنّ المجتهد بعدم وجود دليل التكليف في الكتب الأربعة وغيرها من الكتب المعتبرة في الحديث التي يسهل تناولها على نوع أهل العصر ، على وجه صار مأيوسا ، كفى ذلك منه في إجراء البراءة.

أمّا عدم وجوب الزائد ، فللزوم الحرج وتعطيل استعلام سائر التكاليف ، لأنّ انتهاء الفحص في واقعة إلى حدّ يحصل العلم بعدم وجود دليل التكليف يوجب الحرمان من الاطّلاع على دليل التكليف في غيرها من الوقائع ، فيجب فيها إمّا الاحتياط وهو يؤدّي إلى العسر ، وإمّا لزوم التقليد لمن بذل فيها جهده على وجه علم بعدم دليل التكليف فيها ، وجوازه ممنوع ، لأنّ هذا المجتهد المتفحّص ربّما يخطّئ ذلك المجتهد في كثير من مقدّمات استنباطه للمسألة.

____________________________________

(ويختلف ذلك باختلاف الأعصار) ، بل بالنسبة إلى شخص واحد في وقتين ، في وقت وجدان الكتب ، وفقدانها ، كما في التنكابني.

(وأمّا عدم وجوب الزائد) عن اليأس عن وجدان الدليل وهو العلم بعدم الدليل ، فيما بأيدينا من الأدلّة فلأحد وجهين :

الأوّل : عدم المقتضي لتحصيل العلم بعدم الدليل ، لأنّ عمدة أدلّة وجوب الفحص هو الإجماع والمتيقّن منه وجوب الفحص لغير الميئوس ، والعقل أيضا يحكم مستقلّا بكفاية اليأس ، كما تشهد به طريقة العقلاء.

نعم لو تمّ الاستدلال على وجوب الفحص بالعلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرّمات كما مرّ ، فمقتضاه وإن كان وجوب الفحص إلى حدّ العلم بعدم الدليل ، كما في شرح الاعتمادي ، إلّا أنّ هناك مانع عنه أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فللزوم الحرج ... إلى آخره).

هذا هو الوجه الثاني لعدم وجوب الزائد عن اليأس في حدّ الفحص ، وقال المرحوم غلام رضا قدس‌سره في شرح قول المصنّف قدس‌سره في المقام ما هذا نصّه :

أقول : إنّ النسبة بين الظنّ واليأس عموم من وجه ، لأنّه ربّما كان ظانّا بعدم الدليل لكنّه ليس بميئوس عن الظفر به ، واخرى يرى من نفسه اليأس عن الظفر عليه بعد الفحص في الجملة ، لكنّ عدمه لم يأت بمقام الظنّ. إذا عرفت ذلك فنقول :

٢٠٠