دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

وأصرح من ذلك في عموم محلّ النزاع استدلال النافين في كتب الخاصّة والعامّة بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح بيّنة النافي ، لاعتضاده بالاستصحاب ، واستدلال المثبتين ـ كما في المنية ـ بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلّة ، لتطرّق احتمالات فيها لا تندفع إلّا بالاستصحاب.

وممّن أنكر الاستصحاب في العدميّات صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار

____________________________________

نعم ، يحتمل ضعيفا بأن يكون المراد من قوله : مطلقا في قول المنكر أعمّ من الاستصحاب الحكمي والأمر الخارجي من دون نظر إلى الاستصحاب الوجودي والعدمي ، إلّا أنّ هذا الاحتمال خلاف ظاهر قوله : مطلقا.

(بل لعلّه صريح في ذلك ، بملاحظة ما ذكره قبل ذلك في تقسيم الاستصحاب) إلى الوجودي والعدمي ، والحكمي والأمر الخارجي ، فيكون المقسم أعمّ من الاستصحاب الوجودي والعدمي وغيرهما ، ثمّ نقل القول بالإنكار مطلقا عن بعض صريح في دخول العدمي في محلّ النزاع.

(وأصرح من ذلك في عموم محلّ النزاع استدلال النافين) لحجيّة الاستصحاب (بأنّه لو كان الاستصحاب معتبرا لزم ترجيح بيّنة النافي) بأصالة العدم عند تعارض البيّنات (لاعتضاده بالاستصحاب) ، أي : الاستصحاب العدمي ، ولو كان الاستصحاب العدمي خارجا عن محلّ النزاع ، لكان الاستدلال بما ذكر لغوا ، كما لا يخفى.

وكذا استدلال المثبتين لحجيّة الاستصحاب يكون أصرح في العموم ، حيث قالوا : (بأنّه لو لم يعتبر الاستصحاب لانسدّ باب استنباط الأحكام من الأدلّة ، لتطرّق احتمالات فيها) ، أي : في الأدلّة ، كوجود المعارض والتخصيص ، والتقييد والنسخ وغير ذلك ، ولا يندفع احتمال هذه الامور ، إلّا بالاصول العدميّة ، كأصالة عدم المعارض والتخصيص والنسخ وغيرها.

فالمتحصّل من الجميع أنّه يعلم من أدلّة النافين والمثبتين أنّ العدميّات كالوجوديّات داخلة في محلّ النزاع ، وليس الاستصحاب العدمي خارجا عن محلّ النزاع ، وبذلك يكون اعتباره وفاقيّا.

(وممّن أنكر الاستصحاب في العدميّات صاحب المدارك ، حيث أنكر اعتبار استصحاب

٣٠١

استصحاب عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد المطروح.

وبالجملة فالظاهر أنّ التتبّع يشهد بأنّ العدميّات ليست خارجة عن محلّ النزاع ، بل سيجيء ـ عند بيان أدلّة الأقوال ـ : إنّ القول بالتفصيل بين العدمي والوجودي ـ بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ـ وجوده بين العلماء لا يخلو من إشكال ، فضلا عن اتّفاق النافين عليه ، إذ ما من استصحاب وجودي إلّا ويمكن معه فرض استصحاب عدمي يلزم من الظنّ به الظنّ بذلك المستصحب الوجودي ، فتسقط فائدة نفي اعتبار

____________________________________

عدم التذكية الذي تمسّك به الأكثر لنجاسة الجلد المطروح) في الطريق ، ثمّ علّل صاحب المدارك قدس‌سره عدم اعتبار استصحاب عدم التذكية بوجهين :

أحدهما : عدم اعتبار الاستصحاب أصلا.

وثانيهما : هو أنّ استصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم الموت حتف الأنف ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف ، فكلامه صريح في المنع عن اعتبار الاستصحاب حتى في العدميّات ، هذا مضافا إلى عدم خلوّ موارد الاستصحابات الوجوديّة عن الاستصحابات العدميّة ، فحينئذ لو خرجت الاستصحابات العدميّة عن محلّ النزاع باعتبار كونها حجّة بلا خلاف ، لكان البحث عن حجيّة الاستصحابات الوجوديّة لغوا ، وذلك لإمكان التمسّك بالاستصحاب العدمي لإثبات ما هو المقصود إثباته بالاستصحاب الوجودي ، كإثبات وجوب نفقة زوجة زيد باستصحاب عدم موته بدلا عن استصحاب حياته ، وكذا إثبات طهارة الثوب المغسول بالماء المشكوك بقاؤه طاهرا باستصحاب عدم نجاسته بدلا عن استصحاب طهارة الماء ، وهكذا.

ثمّ إنّ الوجه لكفاية الاستصحاب العدمي بدلا عن الاستصحاب الوجودي ، هو أنّ لكلّ شيء ضدّ ، ويمكن نفي أحد الضدّين بإثبات الآخر ، كإثبات حياة زيد بنفي موته في المثال المتقدّم ، وإثبات الطهارة بنفي النجاسة ، إلّا أنّ هذا الأصل مثبت ، وذلك لأنّ الحياة من اللوازم العقليّة لعدم الموت والطهارة كذلك ، وحجيّة الأصل المثبت مبني على اعتباره من باب الظنّ لما يأتي من حجيّة الأمارات حتى بالنسبة إلى اللوازم العقليّة.

وأمّا بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار ، فإنّ مثبته ليس بحجّة كما لا يخفى.

وكيف كان ، فقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى ما ذكرناه من كون البحث عن الاستصحاب

٣٠٢

الاستصحابات الوجوديّة. وانتظر لتمام الكلام.

وممّا يشهد بعدم الاتّفاق في العدميّات اختلافهم في أنّ النافي يحتاج إلى دليل أم لا؟ فلاحظ ذلك العنوان تجده شاهد صدق على ما ادّعيناه.

نعم ، ربّما يظهر من بعضهم خروج بعض الأقسام من العدميّات من محلّ النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى بالبراءة الأصليّة ، فإنّ المصرّح به في كلام جماعة ـ كالمحقّق والعلّامة والفاضل الجواد ـ الإطباق على العمل عليه ، وكاستصحاب عدم النسخ ، فإنّ المصرّح به في كلام غير واحد ـ كالمحدّث الاسترآبادي والمحدّث البحراني ـ عدم الخلاف فيه. بل مال الأوّل إلى كونه من ضروريّات الدين ، وألحق الثاني بذلك استصحاب عدم التخصيص والتقييد.

والتحقيق أنّ اعتبار الاستصحاب ـ بمعنى التعويل في تحقّق شيء في الزمان الثاني على تحقّقه في الزمان السابق عليه ـ مختلف فيه من غير فرق بين الوجودي والعدمي.

____________________________________

الوجودي لغوا على تقدير خروج العدمي عن محلّ النزاع بقوله :

(فتسقط فائدة نفي اعتبار الاستصحابات الوجوديّة).

فلا بدّ من الالتزام ـ حينئذ ـ بدخول الاستصحابات العدميّة في محلّ النزاع ، لئلّا يلزم كون البحث عن اعتبار الاستصحابات الوجوديّة لغوا.

(وممّا يشهد بعدم الاتّفاق في العدميّات ، اختلافهم في أنّ النافي يحتاج إلى دليل أم لا؟).

وتقريب وجه الاستشهاد على عدم الاتّفاق في العدميّات وإدخالها في محلّ النزاع كالوجوديّات ، هو أنّ قول النافي دائما موافق لأصل العدم والاستصحاب العدمي ، فاحتياجه إلى دليل مبني على عدم حجيّة الاستصحاب العدمي ، إذ لو كان حجّة فهو دليل يغني عن دليل آخر ، فحينئذ يكون اختلافهم في هذه المسألة مبنيّا على اختلافهم في حجيّة الاستصحاب العدمي ، بمعنى أنّ كلّ من يقول بأنّ النافي يحتاج إلى دليل فهو ممّن لا يقول بحجيّته في حجيّة الاستصحاب العدمي ، وكلّ من يقول بأنّه لا يحتاج إلى دليل فهو ممّن يقول بحجيّة الاستصحاب العدمي ، لكونه حجّة ودليلا عنده ، فمع وجوده لا يحتاج إلى دليل آخر ، فيكون هذا الاختلاف منهم أقوى شاهد على دخول الاستصحاب العدمي في محلّ النزاع ، وعدم الاتّفاق على خروجه منه.

٣٠٣

نعم ، قد تتحقّق في بعض الموارد قاعدة اخرى توجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة ، كقاعدة قبح التكليف من غير بيان ، أو عدم الدليل دليل العدم ، أو ظهور الدليل الدالّ على الحكم في استمراره أو عمومه أو إطلاقه أو غير ذلك. وهذا لا ربط له باعتبار الاستصحاب.

ثمّ إنّا لم نجد في أصحابنا من فرّق بين الوجودي والعدمي ، نعم ، حكى شارح الشرح

____________________________________

(نعم ، ربّما يظهر من بعضهم خروج بعض الأقسام من العدميّات من محلّ النزاع ، كاستصحاب النفي المسمّى بالبراءة الأصليّة).

مثل استصحاب عدم التكليف قبل الشرع أو حال الصغر والجنون ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، وسائر الأمثلة موجود في المتن ، فراجع.

(نعم ، قد تتحقّق في بعض الموارد قاعدة اخرى توجب الأخذ بمقتضى الحالة السابقة).

إلّا أنّ الأخذ بالحالة السابقة ليس مستندا إلى الاستصحابات العدميّة حتى يكون شاهدا على حجيّتها ، بل مستند إلى قاعدة اخرى ، كقاعدة البراءة المطابقة للبراءة الأصليّة ، أو قاعدة عدم الدليل دليل العدم ، أو بناء العقلاء وأهل اللسان على الأخذ بظاهر الدليل في الاستمرار ، فإذا شكّ في النسخ أو التخصيص أو التقييد يحكم بعدم الجميع ، وهذا الحكم وإن كان مطابقا للحالة السابقة ، إلّا أنّه ليس من جهة استصحاب الحالة السابقة ، بل من جهة بناء العقلاء وأهل اللسان على الاستمرار المستلزم لعدم هذه الامور ، سواء كان استمرار الحكم من أجل ظهور الدليل بالدوام أو بالعموم ، أو بالإطلاق ، أو غير ذلك ، فالعمل بمقتضى الحالة السابقة إذن لا يرتبط باعتبار الاستصحاب ، بل يكون لأجل العمل بقاعدة اخرى ، كما عرفت.

ومن هنا يظهر فساد ما قد يتخيّل من أنّه لا يمكن المنع من اعتبار الاستصحاب في العدمي ، لكونه مستلزما لسدّ باب الاستدلال بالأدلّة ، وذلك لجريان احتمالات متعدّدة فيها لا تقبل الدفع ، إلّا بالاصول العدميّة ، كأصالة عدم المعارض والنسخ ، والتخصيص وغير ذلك.

ثمّ إنّ وجه الفساد قد ظهر ممّا ذكرناه من أنّ لدفع هذه الاحتمالات المانعة عن الاستدلال بالأدلّة قواعد قد اتفقوا على العمل بها لا دخل لها بالاستصحاب.

٣٠٤

هذا التفصيل عن الحنفيّة.

الثاني : إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيّا ، كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر المتغيّر بنفسه ، وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّيّة والرطوبة ، والوضع الأوّل عند الشكّ في حدوث النقل أو في تاريخه. والظاهر ، بل صريح جماعة وقوع الخلاف في كلا القسمين.

نعم ، نسب إلى بعض التفصيل بينهما بإنكار الأوّل والاعتراف بالثاني ، ونسب إلى آخر

____________________________________

(ثمّ إنّا لم نجد في أصحابنا من فرّق بين الوجودي والعدمي ، نعم ، حكى شارح الشرح هذا التفصيل عن الحنفيّة).

وهذا الكلام من المصنّف قدس‌سره لا يطابق ما تقدّم منه ، إذ تقدّم أنّ شارح الشرح لم ينقل هذا التفصيل عن الحنفيّة ، بل هو بنفسه استظهر هذا التفصيل من كلام العضدي الشارح للمختصر فراجع. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل من وجوه تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب.

ثمّ أشار إلى الوجه الثاني بقوله قدس‌سره :

(الثاني : إنّ المستصحب قد يكون حكما شرعيّا) كلّيا(كالطهارة المستصحبة بعد خروج المذي ، والنجاسة المستصحبة بعد زوال تغيّر) الماء (المتغيّر بنفسه) أو حكما شرعيّا جزئيّا ، كالطهارة في مورد الشكّ في الحدث وبالعكس ، (وقد يكون غيره ، كاستصحاب الكرّيّة والرطوبة ، والوضع الأوّل عند الشكّ في حدوث النقل) ، أي : نقل لفظ عن المعنى الأوّل إلى غيره ، (أو في تاريخه) ، أي : عند الشكّ في تاريخ النقل بعد ثبوت أصل النقل ، كما إذا شكّ في أنّ الصلاة نقلت عن الدعاء إلى الأركان في زمن المعصوم عليه‌السلام أو بعده في لسان المتشرّعة ، فيستصحب عدم النقل في زمن المعصوم عليه‌السلام كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف.

(والظاهر ، بل صريح جماعة وقوع الخلاف في كلا القسمين) ، أي : في الحكم والموضوع ، حيث أثبت بعضهم اعتبار الاستصحاب مطلقا ، ونفى بعضهم اعتباره مطلقا.

(نعم ، نسب إلى بعض التفصيل بينهما بإنكار الأوّل) ، أي : بما إذا كان المستصحب حكما شرعيّا(والاعتراف بالثاني) ، أي : بما إذا كان المستصحب من الموضوعات (ونسب

٣٠٥

العكس ، حكاهما الفاضل القمّي في القوانين.

وفيه نظر يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره ، فنقول : الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي من شأنه أن يؤخذ من الشارع ، كطهارة من خرج منه المذي ، أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه.

____________________________________

إلى آخر العكس) إنكار اعتبار الاستصحاب فيما إذا كان المستصحب من الموضوعات ، والاعتراف به فيما إذا كان من الأحكام الشرعيّة ، و (حكاهما) ، أي : القولين المتعاكسين (الفاضل القمّي رحمه‌الله في القوانين).

قال الاستاذ الاعتمادي في المقام ما هذا نصّه : اعلم أنّ هناك ـ مضافا إلى القول بالثبوت مطلقا ، والقول بالنفي مطلقا ـ ثلاثة أقوال أخر بالتفصيل سينقلها المصنّف قدس‌سره :

أحدها : الثبوت في الحكم الشرعي كلّيا أو جزئيّا ، والنفي في الأمر الخارجي.

ثانيها : الثبوت في الحكم الشرعي الجزئي والأمر الخارجي ، والنفي في الحكم الشرعي الكلّي.

ثالثها : الثبوت في الحكم الشرعي الجزئي ، والنفي في الحكم الشرعي الكلّي والأمر الخارجي.

فعرفت إنّه ليس هناك قولان بالتفصيل على وجه التعاكس ، كما زعم القمّي رحمه‌الله وإليه أشار بقوله :

(وفيه نظر يظهر بتوضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره).

أي : في ما حكاه من قولين متعاكسين ـ الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الأمر الخارجي وإنكاره في الحكم الشرعي ، والثاني : بالعكس ـ نظر وإشكال من جهة عدم وجود القولين المتعاكسين بين الأقوال بالتفصيل بين الحكم الشرعي والأمر الخارجي ، وهذا الإشكال يتّضح بعد ذكر أمرين :

أحدهما : توضيح المراد من الحكم الشرعي وغيره.

وثانيهما : نقل الأقوال بالتفصيل بين الحكم الشرعي وغيره ، حتى يظهر أنّ ما حكاه الفاضل القمّي ليس منها.

أمّا الأمر الأوّل : فقد أشار إليه بقوله : (الحكم الشرعي يراد به تارة : الحكم الكلّي الذي

٣٠٦

واخرى : يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي الخاصّ في الموضوع ، كطهارة هذا الثوب ونجاسته ، فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ليس وظيفة للشارع.

نعم ، وظيفته إثبات الطهارة كلّيّة لكلّ شيء شكّ في ملاقاته للنجس وعدمها.

وعلى الاطلاق الأوّل جرى الأخباريّون ، حيث أنكروا اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى.

____________________________________

من شأنه أن يؤخذ من الشارع) بأن يكون بيانه من وظيفة الشارع ، بحيث لا يمكن رفع الشكّ الواقع فيه إلّا بالرجوع إليه ، أو إلى ما قرّر الرجوع إليه من الأدلّة الاجتهاديّة ، أو الاصوليّة العمليّة ، فإنّ الشارع قد قرّر في حقّ الجاهل بالحكم الرجوع إليهما (كطهارة من خرج منه المذي ، أو نجاسة ما زال تغيّره بنفسه) حيث يكون الحكم بكلّ من الطهارة والنجاسة في المثالين كلّيا ، لأنّ رفع الشبهة فيهما إنّما يحصل ببيان الشرع ، ثمّ الحكم الشرعي بهذا المعنى وإن كان لا يصدق على الأحكام الجزئيّة ، لأنّ ما يكون بيانه من وظيفة الشارع إنّما هو الأحكام الكلّية ، إلّا أنّه قد يتسامح في صدق الحكم الشرعي المذكور على الأحكام الجزئيّة بدعوى بيانها من الشارع ببيان كلّياتها.

(واخرى : يراد به ما يعمّ الحكم الجزئي) بأن يكون المراد به ما له تعلّق بالشرع سواء كان كلّيّا كالمثال المتقدّم ، أو جزئيّا(كطهارة هذا الثوب ونجاسته ، فإنّ الحكم بهما من جهة عدم ملاقاته للنجس أو ملاقاته ليس وظيفة للشارع) ، إذ ليس للشارع بيان أنّ هذا الثوب لاقى النجس فنجس ، أو لم يلاقه فطاهر.

(نعم ، وظيفته إثبات الطهارة كلّيّة لكلّ شيء شكّ في ملاقاته للنجس وعدمها).

كما أثبتها بقوله : (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه نجس أو قذر) (١) وقوله : (لا تنقض اليقين بالشكّ) ، والأوّل هو إشارة إلى قاعدة الطهارة ، والثاني إلى الاستصحاب. هذا تمام الكلام في المراد من الحكم الشرعي حيث يكون المراد به تارة : الحكم الكلّي ، واخرى : ما هو أعمّ منه ومن الجزئي.

(وعلى الإطلاق الأوّل) ، أي : الحكم الشرعي الكلّي (جرى الأخباريّون ، حيث أنكروا

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٥ / ٨٣٢. الوسائل ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤.

٣٠٧

وجعله الاسترآبادي من أغلاط من تأخّر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما ممّا شكّ فيه من الأحكام الجزئيّة لأجل الاشتباه في الامور الخارجيّة.

وصرّح المحدّث الحرّ العاملي بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعي ، وإنّما تدلّ على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته.

والأصل في ذلك عندهم : إنّ الشبهة في الحكم الكلّي لا مرجع فيها إلّا الاحتياط دون البراءة أو الاستصحاب ، فإنّهما عندهم مختصّان بالشبهة في الموضوع.

____________________________________

اعتبار الاستصحاب في نفس أحكام الله تعالى) المراد بها الأحكام الكلّية مع اعترافهم باعتبار الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة ، هذا هو الأمر الثاني ، أي : نقل الأقوال بالتفصيل فنقول :

إنّ التفصيل الأوّل المستفاد من الأخباريّين هو التفصيل بين الأحكام الكلّية ، وبين الأحكام الجزئيّة مع الموضوعات الخارجيّة ، حيث يكون الاستصحاب حجّة في الأحكام الجزئيّة والموضوعات الخارجيّة دون الأحكام الكلّية ، حيث جعل الاسترآبادي اعتبار الاستصحاب في الأحكام الكلّية (من أغلاط من تأخّر عن المفيد ، مع اعترافه باعتبار الاستصحاب في مثل طهارة الثوب ونجاسته وغيرهما ممّا شكّ فيه من الأحكام الجزئيّة لأجل الاشتباه في الامور الخارجيّة) كالشكّ في وجوب نفقة زوجة زيد من جهة الشكّ في حياته ، فالمستفاد من كلام الاسترآبادي هو التفصيل بين الأحكام الكليّة والجزئيّة حيث يكون الاستصحاب حجّة في الثانيّة دون الاولى.

(وصرّح المحدّث الحرّ العاملي بأنّ أخبار الاستصحاب لا تدلّ على اعتباره في نفس الحكم الشرعي) الكلّي (وإنّما تدلّ على اعتباره في موضوعاته ومتعلّقاته) مثل حياة زيد ، وطهارة ثوبه ونجاسته ، فالمستفاد من كلامه هو التفصيل بين الأحكام الكلّية من جانب ، وبين الموضوعات الخارجيّة فقط ، أو مع الأحكام الجزئيّة من جانب آخر ، فالاستصحاب حجّة في الموضوعات فقط ، أو مع الأحكام الجزئيّة دون الأحكام الكلّية.

وكيف كان ، فإنّ هذا التفصيل يرجع إلى التفصيل بين الحكم الشرعي بالمعنى الأخصّ وغيره ، فيكون حجّة في غيره دون الحكم الشرعي بالمعنى الأخصّ.

٣٠٨

وعلى الإطلاق الثاني جرى بعض آخر.

قال المحقّق الخوانساري في مسألة الاستنجاء بالأحجار : «وينقسم إلى قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره ـ ومثّل للأوّل بنجاسة الثوب أو البدن ، وللثاني برطوبته. ثمّ قال ـ : ذهب بعضهم إلى حجيّته بقسميه ، وبعضهم إلى حجيّة القسم الأوّل فقط». انتهى.

____________________________________

(وعلى الإطلاق الثاني) ، أي : الحكم بالمعنى الأعمّ (جرى بعض آخر) كالمحقّق الخوانساري قدس‌سره حيث قال (في مسألة الاستنجاء بالأحجار : «وينقسم» الاستصحاب (إلى قسمين باعتبار الحكم المأخوذ فيه إلى شرعي وغيره ، ومثّل للأوّل) ، أي : للحكم الشرعي (بنجاسة الثوب أو البدن).

وحيث إنّ مثاله في الحكم الجزئي يعلم منه أنّ المراد من الحكم الشرعي هو الأعمّ ، إلّا أنّه كان عليه أن يأتي بمثال عن الحكم الشرعي الكلّي ـ أيضا ـ كطهارة من خرج عنه المذي ونجاسة الماء الزائل تغيّره بنفسه ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرف.

(وللثاني) ، أي : مثّل لغير الحكم الشرعي (برطوبته. ثمّ قال : ذهب بعضهم إلى حجيّته بقسميه ، وبعضهم إلى حجيّة القسم الأوّل فقط»).

فالمستفاد من كلامه قدس‌سره هو التفصيل بين الحكم الشرعي بالمعنى الأعمّ وبين غيره باعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا دون غيره ، هذا هو التفصيل الثاني أو الثالث.

ثمّ إنّ حاصل الأقوال المفصّلة بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ـ أي : تقسيم المستصحب إلى الحكم الشرعي والأمر الخارجي ـ ثلاثة أقوال كما في المتن :

الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا وعدم اعتباره في غيره.

والثاني : اعتباره في الحكم الشرعي الجزئي والأمر الخارجي دون الحكم الشرعي الكلّي.

والثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الحكم الكلّي والامور الخارجيّة.

ومن هذين الأمرين يتّضح لك وجه النظر في ما حكاه المحقّق القمّي قدس‌سره من القولين المتعاكسين ، أي : إنكار الاستصحاب في الحكم الشرعي دون غيره ، وبالعكس إذ لو كان

٣٠٩

إذا عرفت ما ذكرناه ، ظهر أنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعيّة والامور الخارجيّة قولين متعاكسين ، ليس على ما ينبغي ، لأنّ المراد بالحكم الشرعي إن كان هو الحكم الكلّي الذي أنكره الأخباريّون ، فليس هنا من يقول باعتبار الاستصحاب فيه ونفيه في غيره. فإنّ ما حكاه المحقّق الخوانساري واستظهره السبزواري هو اعتباره في الحكم الشرعي بالإطلاق الثاني الذي هو أعمّ من الأوّل.

وإن اريد بالحكم الشرعي الإطلاق الثاني الأعمّ ، فلم يقل أحد باعتباره في غير الحكم الشرعي وعدمه في الحكم الشرعي ، لأنّ الأخباريّين لا ينكرون الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة.

ثمّ إنّ المحصّل من القول بالتفصيل بين القسمين المذكورين في هذا التقسيم ثلاثة :

الأوّل : اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا ، جزئيّا كان كنجاسة الثوب ، أو كلّيّا كنجاسة الماء المتغيّر بعد زوال التغيّر. وهو الظاهر ممّا حكاه المحقّق الخوانساري.

الثاني : اعتباره في ما عدا الحكم الشرعي الكلّي وإن كان حكما جزئيّا. وهو الذي حكاه في الرسالة الاستصحابيّة عن الأخباريّين.

الثالث : اعتباره في الحكم الجزئي دون الكلّي ودون الامور الخارجيّة. وهو الذي ربّما يستظهر ممّا حكاه السيّد شارح الوافية عن المحقّق الخوانساري في حاشية له على قول الشهيد قدس‌سره في تحريم استعمال الماء النجس والمشتبه.

الثالث : من حيث إنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيّا ، وقد يكون وضعيّا شرعيّا ،

____________________________________

المراد بالحكم الشرعي هو الإطلاق الأوّل ، فالأصل صحيح ، كما يظهر من الأخباريّين ، والعكس غير صحيح ، إذ لم يقل أحد بإنكار الاستصحاب في الأحكام الجزئيّة والامور الخارجيّة ، واعتباره في الأحكام الكلّية فقط ، وأمّا إن كان المراد بالحكم الشرعي هو الإطلاق الثاني ، فالعكس صحيح دون الأصل ، كما لا يخفى.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى عدم صحّة القولين المتعاكسين بقوله :

(إنّ عدّ القول بالتفصيل بين الأحكام الشرعيّة والامور الخارجيّة قولين متعاكسين ، ليس على ما ينبغي).

ثمّ أشار إلى الوجه الثالث بقوله :

٣١٠

كالأسباب والشروط والموانع.

وقد وقع الخلاف من هذه الجهة ، ففصّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره ، بالإنكار في الأوّل دون الثاني.

وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني ، مع أنّه تقسيم لأحد قسميه ، لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ، إلّا أنّ آخر كلامه ظاهر في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة. وسيتّضح ذلك عند نقل عبارته عند التعرض لأدلّة الأقوال.

____________________________________

(الثالث : من حيث إنّ المستصحب قد يكون حكما تكليفيّا ، وقد يكون وضعيّا ، شرعيّا) والأوّل كالأحكام الخمسة ، والثاني (كالأسباب والشروط والموانع) ، أي : سببيّة الأسباب ، وشرطيّة الشرائط ، ومانعيّة الموانع ، وقاطعيّة القواطع وغيرها.

(وقد وقع الخلاف من هذه الجهة ، ففصّل صاحب الوافية بين التكليفي وغيره ، بالإنكار في الأوّل دون الثاني).

أي : أنكر اعتبار الاستصحاب في التكليفي دون غيره.

(وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني ، مع أنّه) ، أي : التقسيم الثالث (تقسيم لأحد قسميه) أي : التقسيم الثاني ، وذلك لأنّ التقسيم الثاني هو تقسيم المستصحب إلى الحكم الشرعي وغيره ، وهذا التقسيم الثالث هو تقسيم للحكم الشرعي الذي هو أحد قسمي التقسيم الثاني ، فكان الحقّ اندراجه فيه ، كما أدرج فيه تقسيم الحكم الشرعي إلى الكلّي والجزئي فتنبه.

(لأنّ ظاهر كلام المفصّل المذكور وإن كان هو التفصيل بين الحكم التكليفي والوضعي ، إلّا أنّ آخر كلامه ظاهر في إجراء الاستصحاب في نفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة).

فيرجع تفصيل صاحب الوافية قدس‌سره إلى التفصيل بين الحكم الشرعي وغيره ، بإنكاره اعتبار الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، فيكون هذا التفصيل تفصيلا رابعا ، عكس ما حكاه المحقّق الخوانساري قدس‌سره من اعتبار الاستصحاب في الحكم الشرعي مطلقا دون غيره.

٣١١

وأمّا بالاعتبار الثاني فمن وجوه أيضا :

أحدها : من حيث إنّ الدليل المثبت للمستصحب ؛ إمّا أن يكون هو الإجماع ، وإمّا أن يكون غيره ، وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر الاستصحاب في الأوّل. وربّما يظهر من صاحب الحدائق في ما حكي عنه في الدرر النجفيّة : إنّ محلّ النزاع في

____________________________________

ومن هنا يظهر إنّ ما حكاه المحقّق القمّي قدس‌سره من القولين المتعاكسين لا يخلو عن الصحّة.

ولعلّ هذا هو السر ، لعدم حكم المصنّف قدس‌سره ببطلان ما حكاه المحقّق القمّي قدس‌سره على نحو الجزم ، بل قال : إنّه ليس على ما ينبغي.

وعلى أيّ حال ، بقي الكلام في نقل آخر كلام المفصّل الذي فصّل بين الحكم الشرعي ونفس الأسباب والشروط والموانع ، دون السببيّة والشرطيّة والمانعيّة ، وهو كما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّ المفصّل رحمه‌الله بعد ما زعم عدم تصوّر شكّ يرجع فيه إلى الاستصحاب في الأحكام التكليفيّة والوضعيّة بمعنى السببيّة ونحوها ، قال : فظهر ممّا ذكرنا أنّ الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلّا في الأحكام الوضعيّة ، أعني : الأسباب والشرائط والموانع ، كما يستصحب في التيمّم الواجد للماء في الأثناء نفس الشرط ، أعني : كون الشخص متطهّرا دون شرطيّة الطهارة ، إذ لا شكّ فيها ، ويستصحب في الكرّ المتغيّر الزائل تغيّره بنفسه نفس المانع ، أعني : كون الماء نجسا لا مانعيّة النجاسة ، فالتوني رحمه‌الله لم يفصّل في الأحكام بين التكليفيّة والوضعيّة ، بل فصّل بين الحكم وغيره ، إلّا أنّه أفرد هذا التقسيم مع دخوله في التقسيم الثاني لنكتة ، وهي توضيح الفرق بين السبب والسببيّة ، وهكذا.

هذا تمام الكلام في تقسيم الاستصحاب باعتبار المستصحب ، وأمّا تقسيمه باعتبار الثاني وهو الدليل ، فقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وأمّا بالاعتبار الثاني فمن وجوه أيضا :

أحدها : من حيث إنّ الدليل المثبت للمستصحب ؛ إمّا أن يكون هو الإجماع) كما إذا فرض الإجماع على تنجّس الكرّ بالتغيّر ، فشكّ في بقائه بعد زوال التغيّر بنفسه.

(وإمّا أن يكون غيره) كالكتاب والسنّة ، (وقد فصّل بين هذين القسمين الغزالي ، فأنكر

٣١٢

الاستصحاب منحصر في استصحاب حال الإجماع. وسيأتي تفصيل ذلك عند نقل أدلّة الأقوال إن شاء الله.

الثاني : من حيث إنّه قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي ، ولم أجد من فصّل بينهما ، إلّا أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ـ وهو الحكم العقلي المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلا ، نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة

____________________________________

الاستصحاب في الأوّل) ، أي : فيما إذا كان الدليل على ثبوت المستصحب هو الإجماع وربّما يظهر هذا التفصيل من صاحب الحدائق قدس‌سره أيضا حيث قال : (إنّ محلّ النزاع في الاستصحاب منحصر في استصحاب حال الإجماع) فيمكن إنكار اعتباره مع الاعتراف باعتبار غيره.

نعم ، يمكن أن يكون مرادهما من حال الإجماع ، هو حال كلّ دليل يكون كالإجماع في سكوته عن بيان المستصحب في الزمان الثاني ، سواء كان من الأدلّة اللفظيّة أو اللبيّة ، وبذلك يكون كلّ واحد منهما من المنكرين مطلقا ؛ لأنّه إذا كان للدليل إطلاق أو عموم بالنسبة إلى الزمان الثاني ، لم يكن إثبات الحكم فيه من جهة التمسّك بالاستصحاب قطعا ، بل من جهة التمسّك بالدليل كما في بحر الفوائد ، بتلخيص وتصرّف.

(الثاني : من حيث إنّه قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي).

ومثال الأوّل ما تقدّم من قيام الإجماع على تنجّس الكرّ بالتغيّر ... إلى آخره ، ومثال الثاني هو حكم العقل بقبح التصرّف في ملك الغير بدون إذنه ، فيدلّ ذلك على حرمته شرعا بمقتضى الملازمة بين حكم العقل والشرع ، فإذا شكّ في بقاء الحرمة لاحتمال حصول الإذن من المالك ، يستصحب بقاء الحرمة.

(ولم أجد من فصّل بينهما) بأن قال بحجيّة الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، أو بالعكس.

(إلّا أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ـ وهو الحكم العقلي المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلا).

أي : في تحقّق الاستصحاب موضوعا في الحكم الشرعي الثابت بالدليل العقلي تأمّل فلا يتحقّق الاستصحاب فضلا عن كونه حجّة.

٣١٣

من حيث مناط الحكم. والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ، لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع. فالشكّ في حكم العقل حتى لأجل وجود الرافع لا يكون إلّا للشكّ في موضوعه ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب ، كما سيجيء.

____________________________________

وبيان ذلك : إنّ محلّ الكلام ، كما يظهر من كلام المصنّف قدس‌سره في هذا المقام هو استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع لا استصحاب نفس الحكم العقلي ، إذ الاستصحاب في نفس الأحكام العقليّة ممّا لا يعقل أصلا ؛ لأنّ الاستصحاب إنّما يجري في مورد الشكّ ، ولا يعقل الشكّ في مورد حكم العقل ؛ لأنّ العقل الحاكم لا يحكم بشيء إلّا بعد تحقّق الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من وجود الأجزاء والشرائط وعدم الموانع ، فيجب أن تكون قيود الموضوع معلومة مفصّلة لدى العقل ؛ لأنّ العقل لا يحكم فيما إذا انتفى واحد منها ، وحينئذ فلا يعقل الشكّ في حكم العقل ، لأنّ الشكّ فيه ليس إلّا من حيث الشكّ في عنوان الموضوع ، فإنّ حكمه بحسن عنوان أو قبحه ، ممّا لا يتغيّر مع حفظ ذاك العنوان ، ومع الشكّ في تبدّل ذاك العنوان لا يكون للعقل حكم أصلا ، لما مرّ من أنّه لا يحكم إلّا بعد إحراز الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود.

والحاصل أنّ حكم العقل ؛ إمّا مقطوع الثبوت أو الانتفاء ، ولا يعقل فيه الشكّ لكي يجري الاستصحاب فيه.

وإنّما الكلام في جريانه في الحكم الشرعي التابع للحكم العقلي ، والحقّ عند المصنّف قدس‌سره هو عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي ، وذلك لانتفاء موضوع الاستصحاب فيه ، لأنّ الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي متعلّق بعين العنوان الذي تعلّق به حكم العقل ، وحينئذ لا يخلو العنوان المذكور عن أحد احتمالين ، لأنّه إمّا سيكون العنوان محفوظا ، أو مبدلا ، وعلى التقديرين لا مجال للاستصحاب.

أمّا على الأوّل فلانتفاء الشكّ ، وأمّا على الثاني ، فلانتفاء الموضوع.

وبالجملة ، إنّ المصنّف قدس‌سره قد فصّل بين الأحكام الشرعيّة المستفادة من الدليل الشرعي

٣١٤

ولا فرق في ما ذكرناه بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعداد الحكم ، لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلّا بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالآخرة إلى تبدّل العنوان. ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام؟

ومعلوم أنّ هذه القضيّة غير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر ، مع العلم بتحقّقه سابقا ، لأنّ قولنا : المضرّ قبيح ، حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشكّ في بقاء الضرر.

ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ، لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء.

وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ، فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق بكونه حراما ، ولا

____________________________________

حيث قال فيها بالاستصحاب ، وبين الأحكام الشرعيّة المستفادة من الدليل العقلي حيث قال فيها بعدم تحقّق الاستصحاب ، وذلك لإمكان الشكّ في الحكم بعد إحراز الموضوع في الحكم الشرعي المستقلّ ، وعدم ذلك في الحكم العقلي والشرعي المستند إليه ، لأنّ المناط في الحكم الشرعي هو غير الموضوع ، وفي الحكم العقلي هو عين الموضوع.

وحينئذ يمكن الشكّ في الحكم الشرعي من جهة الشكّ في المناط الواقعي مع تحقّق الموضوع عند العرف ، ولا يمكن الشكّ في الحكم العقلي مع تحقّق الموضوع ، بل الشكّ فيه يرجع إلى الشكّ في الموضوع ، والمناط دائما ، ولهذا لا يتحقّق الاستصحاب في الحكم العقلي والحكم الشرعي المستند إليه ، ويتحقّق في الحكم الشرعي المستقلّ.

والسرّ في ذلك ما قيل من أنّ في القضية الشرعيّة ثلاثة أشياء : الموضوع ، والمناط الواقعي ، والحكم ، وفي القضية العقليّة شيئان : الموضوع الذي هو المناط ، والحكم.

قوله : (وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ... إلى آخره).

دفع لما قد يتوهّم من أنّ ما ذكر من عدم جريان الاستصحاب في الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة التابعة لها ، مستلزم لعدم جريانه في الأحكام الشرعيّة غير المستندة إلى الأحكام العقليّة ، كالأحكام الشرعيّة المستقلّة ، لأنّ الشكّ في الأحكام الشرعيّة وإن كانت مستقلّة دائما لكنّها يجب أن تكون من جهة الشكّ في المناط وما هو علّة الحكم ،

٣١٥

يعلم أنّ المناط الحقيقي فيه باق في زمان الشكّ أو مرتفع ، إمّا من جهة جهل المناط أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته ، فيستصحب الحكم الشرعي.

____________________________________

فيلزم حينئذ سدّ باب الاستصحاب في جميع الأحكام!!.

وحاصل الدفع مبني على الفرق بين الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة المستقلّة ، وذلك لأنّ المناط والموضوع في الأحكام العقليّة أمر واحد ، لأنّ الحكم العقلي إنّما يعرض لما هو المناط والعلّة ، ولهذا لا يعقل الشكّ فيه حتى يجري الاستصحاب ، كما عرفت.

وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة المستقلّة ، حيث يمكن أن يكون مناط الحكم واقعا فيها غير ما هو موضوع الحكم ظاهرا وفي لسان الدليل ، فيمكن الشكّ في وجود مناط الحكم واقعا ولو كان العنوان الذي تعلّق به الحكم ظاهرا باقيا ، ولهذا يمكن للشارع أن يحكم بحرمة عنوان شكّ في بقاء حرمته بالاستصحاب ، مع فرض القطع ببقاء أصل العنوان الموضوع للحكم في لسان الدليل ، وذلك لما عرفت من الشكّ في بقاء الحرمة من جهة الشكّ في وجود ما هو المناط للحكم واقعا في نظر الشارع ، فيقال : إنّ العنوان الفلاني كان حراما سابقا والأصل بقاء حرمته في ظرف الشكّ.

فالمتحصّل من الجميع ، هو جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة المستقلّة لأجل الشكّ فيها ، وعدم جريانه في الأحكام العقليّة لعدم تعقّل الشكّ فيها أصلا.

هذا تمام الكلام في أصل المطلب ، أمّا توضيح عبارة المتن فنكتفي فيها بما ذكره الاستاذ الاعتمادي.

(وهذا) ، أي : كون موضوع الحكم العقلي مبيّنا مفصّلا الموجب لرجوع الشكّ إلى الموضوع (بخلاف الأحكام الشرعيّة) الثابتة بالدليل الشرعي (فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق) الخاصّ (بكونه حراما ، ولا يعلم أنّ المناط الحقيقي فيه) ما ذا؟ هل أنّه (باق في زمان الشكّ أو مرتفع ، إمّا من جهة جهل المناط أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته ، فيستصحب الحكم الشرعي)؟ إذ مع عدم العلم بالمناط يحكم العرف بأنّ هذا الصدق كان حراما وشكّ الآن في حرمته ، فالموضوع محرز عرفا ، والشكّ في بقاء حكمه فيستصحب.

٣١٦

فإن قلت : على القول بكون الأحكام الشرعيّة تابعة للأحكام العقليّة ، فما هو مناط الحكم وموضوعه في الحكم العقلي بقبح هذا الصدق فهو المناط والموضوع في حكم الشرع بحرمته ، إذ المفروض بقاعدة التطابق ، إنّ موضوع الحرمة ومناطه هو بعينه موضوع القبح ومناطه.

____________________________________

قوله : (فإن قلت) ردّ لما أجابه عن التوهّم وهو قوله : (وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة).

والجواب المذكور مبني على الفرق بين الأحكام الشرعيّة والأحكام العقليّة ، فيردّ بقوله : فإن قلت ، الجواب بردّ الفرق المذكور.

وحاصل الإيراد ، هو عدم جواز الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة المستقلّة على القول الحقّ من كون الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد الواقعيّة ، كما لا يجوز في نفس الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة المستندة إليها ، وذلك لأنّ المناط في الحكم الشرعي هو بعينه مناط حكم العقل ، إلّا أنّ العقل لا يدرك تفصيلا ما هو المناط في الحكم الشرعي إلّا من طريق حكم الشرع بالتحريم أو الوجوب.

ولهذا يقال : إنّ الأحكام الشرعيّة ألطاف في الأحكام العقليّة ، وحينئذ ، كما أنّ الشكّ في الحكم العقلي أو الحكم الشرعي المستند إليه دائما يرجع إلى الشكّ في بقاء الموضوع والمناط ، كذلك الشكّ في الحكم الشرعي المستقلّ يرجع إلى الشكّ في بقاء الموضوع والمناط ، فلا فرق بينهما من هذه الجهة حتى يقال بجريان الاستصحاب في أحدهما دون الآخر ، بل لا يجوز الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة المستقلّة ، كما لا يجوز في الأحكام العقليّة ، فما ذكر من جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة دون الأحكام العقليّة بالفرق بينهما غير صحيح.

وما ذكرناه وإن كان مخالفا لظاهر كلام المصنّف قدس‌سره ، إذ ظاهره عدم الفرق بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المستند إليه في عدم جريان الاستصحاب فيهما ، إلّا أنّه مراده ، إذ مراده هو الإشكال على جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعيّة التي لا مسرح للعقل فيها وذلك لأنّ عدم جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستند إلى العقل قد تقدّم منه في صدر عنوان البحث حيث قال : (إلّا أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ... تأمّلا).

٣١٧

قلت : هذا مسلّم ، لكنّه مانع عن الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق ، لا من حيث جريان أخبار الاستصحاب وعدمه ، فإنّه تابع لتحقّق

____________________________________

وكيف كان ، فإذا بنى على عدم تحقّق موضوع الاستصحاب في الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة المستندة إليها ، فلا بدّ من أن يبني عليه في الأحكام الشرعيّة المستقلّة بمقتضى وحدة المناط فيهما.

(قلت : هذا مسلّم ، لكنّه مانع عن الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي من حيث الظنّ بالبقاء في الآن اللاحق).

أي : ما ذكره من وحدة المناط بين حكم العقل والشرع مسلّم ، إلّا أنّ عدم الفرق بينهما الناشئ عن وحدة المناط صحيح على فرض اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ بالبقاء ، إذ لا فرق بين حكم العقل والشرع في حصول الظنّ ببقائهما ، الناشئ عن الظنّ ببقاء المناط ، فإن ظنّ ببقاء المناط ظنّ ببقائهما ، وإن شكّ ببقائه شكّ ببقائهما ، فيجري الاستصحاب فيهما معا على تقدير الظنّ ببقاء المناط ، ولا يجري فيهما في صورة الشكّ في المناط ، لأنّ المناط هو علّة الحكم ولا يحصل الظنّ بالحكم مع الشكّ فيه ، إذ لا يحصل الظنّ بالمعلول مع الشكّ في بقاء العلّة.

وكيف كان ، فالاستصحاب ؛ إمّا يجري في كلا القسمين ، أو لا يجري فيهما معا ، لعدم معقوليّة الفرق بينهما في كلتا الصورتين ، فوحدة المناط وإن كانت توجب وحدة الحكم من حيث جريان الاستصحاب وعدمه ، على فرض اعتبار الاستصحاب من باب الظنّ ، إلّا أنّها لا توجب الملازمة بين شمول الأخبار للحكم الشرعي والعقلي على فرض اعتبار الاستصحاب من باب الأخبار.

فلا بدّ ـ حينئذ ـ من الفرق بين الحكم الشرعي والعقلي ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : وأمّا بناء على حجيّة الاستصحاب من باب الأخبار فلا بدّ من الفرق المذكور في جواب التوهّم ، وذلك لأنّ وحدة المناط وإن كانت مسلّمة ، إلّا أنّ المناط والملاك في الموضوع المعتبر إحرازه في استصحاب الحكم الشرعي ليس هو إحراز المناط الواقعي للحكم ، بل هو إحراز ما هو الموضوع في لسان الدليل بحسب فهم العرف ، والمفروض هو أنّ الموضوع بحسب فهم العرف محرز وباق ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في

٣١٨

موضوع المستصحب ومعروضه بحكم العرف. فإذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمان وشكّ في الزمان الثاني ، ولم يعلم أنّ المناط الحقيقي واقعا الذي هو المناط والموضوع في حكم العقل باق هنا أم لا؟ فيصدق هنا أنّ الحكم الشرعي الثابت لما هو الموضوع له في الأدلّة الشرعيّة كان موجودا سابقا وشكّ في بقائه ويجري فيه أخبار الاستصحاب.

نعم ، لو علم مناط هذا الحكم وموضوعه المعلّق عليه في حكم العقل لم يجر الاستصحاب ، لما ذكرنا من عدم إحراز الموضوع.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقليّة ، ولا في الأحكام الشرعيّة

____________________________________

الحكم الشرعي أصلا ، لأنّه تابع لتحقّق موضوع المستصحب وهو متحقّق بالفرض ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فإنّه تابع لتحقّق موضوع المستصحب ... إلى آخره).

أي : جريان الاستصحاب تابع لتحقّق الموضوع وهو باق ، فإذا شكّ في بقاء الحكم من جهة الشكّ في بقاء ما هو المناط للحكم في الواقع ، يجري الاستصحاب في الحكم الشرعي ، والمطلب واضح في المتن فراجع.

(نعم ، لو علم مناط هذا الحكم وموضوعه المعلّق عليه في حكم العقل) كما تعلّق حكم العقل بقبح شرب الخمر المسكر ، ثمّ شكّ في العنوان المذكور مثلا(لم يجر الاستصحاب ، لما ذكرنا من عدم إحراز الموضوع) ، فإذا لم يجر الاستصحاب في حكم العقل لم يجر في حكم الشرع المستند إليه أيضا.

وبعبارة اخرى كما في بحر الفوائد : إنّه بعد العلم التفصيلي بالمناط يصرف الحكم إليه ، فيصير هو الموضوع والمعروض لحكم الشرع أيضا ، فإذا شكّ في بقائه ، فيرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في الموضوع المانع من تحقّق موضوع الاستصحاب ، كما لو قال الشارع : حرم الخمر لكونه مسكرا ، في مورد حكم العقل بقبح الخمر المسكر ، فيعلم منه أنّ معروض الحرمة هو نفس عنوان المسكر ، فلا يجري الاستصحاب فيما إذا شكّ في الحكم من جهة الشكّ في بقاء العنوان ، لما تقدّم من رجوع الشكّ إلى الموضوع.

(وممّا ذكرنا) من رجوع الشكّ في موارد حكم العقل إلى الشكّ في بقاء الموضوع (يظهر أنّ الاستصحاب لا يجري في الأحكام العقليّة ، ولا في الأحكام الشرعيّة المستندة

٣١٩

المستندة إليها ، سواء كانت وجوديّة أم عدميّة ، إذا كان العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، كعدم وجوب الصلاة مع السورة على ناسيها ، فإنّه لا يجوز استصحابه بعد الالتفات ، كما صدر من بعض من مال إلى الحكم بالإجزاء في هذه الصورة ، وأمثالها من موارد الأعذار العقليّة الرافعة للتكليف مع قيام مقتضيه.

____________________________________

إليها ، سواء كانت) ، أي : الأحكام الشرعيّة (وجوديّة) كمثال حكم العقل بقبح الصدق الضارّ المستتبع لحرمته شرعا ، فعند الشكّ لا يستصحب حكم العقل وهو القبح ، ولا حكم الشرع وهو الحرمة ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف.

(أم عدميّة ، إذا كان العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة).

وكلام المصنّف قدس‌سره صريح في الفرق بين الأحكام الشرعيّة الوجوديّة الواردة في موارد الأحكام العقليّة ، وبين الأحكام الشرعيّة العدميّة الواردة في موارد الأحكام العقليّة.

بأنّ الاولى لا بدّ أن تكون مستندة إلى الأحكام العقليّة ، بخلاف الثانية فإنّها على قسمين :

قسم يكون مستندا إلى الأحكام العقليّة.

وقسم لا يكون كذلك.

ووجه الفرق بينهما ، هو أنّ للعدم طرق متعدّدة ، إذ عدم المعلول مستند إلى عدم علّته التامّة ، ويكفي في عدمها المستلزم لعدم المعلول انتفاء إحدى المقدّمات كوجود المانع أو انتفاء المقتضي.

فحينئذ يمكن أن يختلف نظر العقل والشرع في الحكم بعدم حكم من الأحكام ، وهو المعلول بأن يكون حكم العقل بعدم ذلك الحكم مستندا إلى وجود المانع ، وحكم الشرع إلى عدم المقتضي ، فلا يكون العدم ـ حينئذ ـ مستندا إلى الأحكام العقليّة ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(وأمّا إذا لم يكن العدم مستندا إلى القضيّة العقليّة ، بل كان لعدم المقتضي).

وهذا بخلاف جانب الوجود ، لأنّ الحكم به عقلا لا يمكن إلّا بعد إدراكه جميع ما له دخل فيه من وجود المقتضي وعدم المانع.

وبعبارة اخرى : لا يمكن أن يحكم العقل بوجود حكم إلّا بعد إدراكه مناط ذلك الحكم ،

٣٢٠