دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال بفعل المعاصي المجهولة ، المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب.

مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيمن غسل مجدورا أصابته جنابة ، فكزّ ، فمات : (قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا ، ألا يمّموه؟) (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء : (ما كان أسوأ حالك لو متّ على هذه الحالة!) (٢) ، ثمّ أمره بالتوبة وغسلها.

____________________________________

إلى البراءة قبل الفحص والتعلّم لم يجب التعلّم بالنفر لغاية التفقّه ، أو بسؤال أهل العلم كما في الآية ، أو بالطلب كما في الرواية الاولى ، ولم يتوجّه الذمّ والعتاب على من ترك السؤال ، كما في الرواية الثانية.

إلّا أن يقال : إنّ الاستدلال بما دلّ على وجوب السؤال على وجوب الفحص قبل الرجوع إلى البراءة ، إنّما يتمّ على مقالة المشهور دون الأردبيلي قدس‌سره حيث ذهب إلى أنّ السؤال واجب نفسي ، كما هو ظاهر هذه الأدلّة ، فإنّه لا منافاة حينئذ بين ترتّب العقاب على ترك السؤال وجواز البراءة في المشتبهات ، وترك الاحتياط فيها قبل الفحص ، كما في تعليقة المرحوم غلام رضا قدس‌سره.

(الثالث : ما دلّ على مؤاخذة الجهّال بفعل المعاصي المجهولة ، المستلزم لوجوب تحصيل العلم ، لحكم العقل بوجوب التحرّز عن مضرّة العقاب) فتكون دلالة هذه الأخبار على وجوب التعلّم بالالتزام العقلي من جهة وجوب الاجتناب عقلا عن مضرّة العقاب في ترك التعلّم.

(مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن غسل) ، أي : أمر بالغسل (مجدورا) ، أي : مصابا بالجدري ، وهو قسم من المرض الجلدي (أصابته جنابة ، فكزّ) ، أي : ابتلى بالكزاز ، وفي الأوثق الكزّاء داء يتولّد من شدّة البرد(فمات : (قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا ، ألا يمّموه؟) ، «ألّا» في كلا الموضعين للتوبيخ ، فيدلّ على وجوب السؤال.

(وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء) لجهله بحرمة ذلك : (ما كان

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥٩ / ٢١٨. الوسائل ٣ : ٣٤٦ ، أبواب التيمم ، ب ٥ ، ح ٣ ، باختلاف يسير فيهما.

(٢) الكافي ٦ : ٤٣٢ / ١٠ ، الوسائل ٣ : ٣٣١ ، أبواب الأغسال المندوبة ، ب ١٨ ، ح ١.

١٢١

وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ)(١) من أنّه : «يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل : فهلّا عملت؟ ، وإن قال : لا ، قيل له : هلّا تعلّمت حتى تعمل؟» (٢).

وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ)(٣) ؛ نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يقاتل معه (قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ)(٤) ، أي : لم نعلم من الحقّ ، فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)(٥) ، أي : دين الله وكتابه واضحا متسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحقّ (٦).

____________________________________

أسوأ حالك لو متّ على هذه الحالة!) ، ثمّ أمره بالتوبة وغسلها)).

وما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) من أنّه : يقال للعبد يوم القيامة : هل علمت؟ فإن قال : نعم ، قيل له : فهلّا عملت؟ وإن قال : لا ، قيل له : هلّا تعلّمت حتى تعمل؟).

والظاهر من هذه الأخبار أنّه لو جاز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص لم يتوجّه الذمّ والعتاب إلى من لم يتعلّم أو ترك العمل بالعلم.

(وما رواه القمّي في تفسير قوله تعالى : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)) ، أي : قبض أرواحهم الملائكة حال كونهم ((ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) نزلت فيمن اعتزل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ولم يقاتل معه (قالُوا)) ـ أي : القابضون ـ ((فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ) ، أي : لم نعلم من الحقّ) أعليّ أم معاوية؟ ، (فقال الله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها)) ، أي : ألم يكن (دين الله وكتابه واضحا متسعا ، فتنظروا فيه ، فترشدوا وتهتدوا به سبيل الحقّ) ،

__________________

(١) الأنعام : ١٤٩.

(٢) تفسير الصافي ٢ : ١٦٩ / ١٤٩.

(٣) النساء : ٩٧.

(٤) النساء : ٩٧.

(٥) النساء : ٩٧.

(٦) تفسير القمّي ١ : ١٤٩.

١٢٢

الرابع : إنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام في المقام ، الذي نظيره في العرفيّات ما إذا ورد من يدّعي الرسالة من المولى ، وأتى بطومار يدّعي أنّ الناظر فيه يطّلع على صدق دعواه أو كذبها ، فتأمّل.

____________________________________

والمستفاد من هذه الرواية هو وجوب الفحص عن الحقّ ثمّ الأخذ به.

(الرابع : إنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام ... إلى آخره) وما ذكره المصنّف قدس‌سره من حكم العقل بعدم معذوريّة الجاهل القادر على الاستعلام يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام وطريقة بيانها للمكلّفين يكون على الوجه المتعارف ، بأن يجعلها في معرض الوصول إليهم لا على الوجه الغير المتعارف ، بأن يفيض العلم بالأحكام على قلوبهم بالإلهام ونحوه.

ومن هذه المقدّمة يتّضح لك أنّ وظيفة المكلّفين والعبيد عقلا هو الفحص عن أحكام المولى في مظانّ وجودها ، ولو من باب وجوب دفع الضّرر المحتمل ، فلو أجرى العبد البراءة بدون الفحص لخرج عن أداء وظيفة العبوديّة.

وبالجملة ، إنّ العقل يحكم بوجوب الفحص فيما احتمل وجود الحكم الإلزامي قبل أن يجري البراءة ، وبذلك يكون طريق العلم بالأحكام منحصرا في الفحص عنها ، وكذلك طريق العلم بصدق الرسل منحصرا في الفحص ، حتى يعلم صدق دعوى من يدّعي الرسالة.

(أو كذبها ، فتأمّل) لعلّه إشارة إلى الفرق بين مسألة الطومار والمقام ، من حيث إنّ النظر في الطومار يوجب القطع غالبا أو دائما بصدق مدّعي الرسالة من المولى أو بكذبه ، فلا يبقى بعد النظر شكّ حتى يجري أصل البراءة.

بخلاف الفحص عن الدليل الاجتهادي في المقام ، إذ كثيرا ما لا يحصل له من النظر والفحص شيء ، فيحتاج إلى الرجوع إلى أصل البراءة ، لكنّ هذا المقدار من الفرق لا يوجب عدم حسن التشبيه ، إذ الغرض منه كون الفحص هنا واجبا ، مثل النظر هناك من جهة احتمال الضّرر مع عدم الفحص والنظر ووجوب دفعه ، كما في شرح التنكابني.

ثمّ ذكر الفرق بين مسألة النبوة والمقام من شيخه ، حيث جعل الفرق من وجوه ثلاثة

١٢٣

والنقل الدالّ على البراءة في الشبهة الحكميّة معارض بما تقدّم من الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط حتى يسأل عن الواقعة ، كما في صحيحة (١) عبد الرحمن المتقدّمة ، وما دلّ على وجوب التوقف بناء على الجمع بينها وبين أدلّة البراءة ، بحملها على صورة التمكّن من إزالة الشبهة.

____________________________________

وجها للتأمّل.

أحدها : حصول العلم بعد النظر بصدق المدّعي بإظهار المعجزة وكذبه بعجزه عنه بخلاف المقام.

وثانيها : عدم إمكان الوجوب الشرعي للنظر ، بخلاف المقام في الأحكام الشرعيّة ، ومن هنا استدلّ له بالأدلّة السمعيّة.

ثالثها : إنّه كثيرا ما يحصل العلم بالفروع من الضرورة ونحوها من الأسباب القهريّة ، من دون إعمال قوة نظريّة أو الفحص عن الحكم.

وهذا بخلاف مسألة النبوة ، فإنّ طريقها منحصر في الإعجاز ، إلى أن قال : إنّ التأمّل في المقام ، يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الفرق بين المقام ومسألة الطومار وإن كان واضحا ، ولكن الغرض التشبيه بينهما من جهة كون مبنى كلا الحكمين هو وجوب دفع الضّرر المحتمل ، فحينئذ يكون التأمّل تأمّل تدقيق لا تأمّل تمريض ، فتأمّل!!.

وكيف كان ، فالأولى ما أفاده الاستاذ الاعتمادي في وجه التأمّل ، حيث قال : إنّ المقامين متشابهان في انحصار طريق العلم في الفحص ، فيستقل العقل فيهما بعدم معذوريّة الجاهل المقصّر ، وإن كان بينهما فرق من جهة أنّ الفحص في باب الرسالة ينتج القطع بالصدق أو الكذب وفي الأحكام ربّما يبقى الشكّ فتجري البراءة ، وأنّ الفحص في الأحكام واجب شرعا أيضا ، وفي الرسالة عقلا فقط للزوم الدور.

(والنقل الدالّ على البراءة في الشبهة الحكميّة معارض بما تقدّم من الأخبار الدالّة على وجوب الاحتياط ... إلى آخره).

فإنّ الجمع بينهما يقتضي حمل أخبار الاحتياط والتوقّف على صورة تمكّن المكلّف

__________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩١ / ١ ، الوسائل ٢٧ : ١٥٤ ، أبواب صفات القاضي ، ب ١٢ ، ح ١.

١٢٤

الخامس : حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة ، لما تقدّم من أنّ مجراه الشكّ في أصل التكليف ، لا في المكلّف به مع العلم بالتكليف.

فإن قلت : إذا علم المكلّف تفصيلا بعدّة امور من الواجبات والمحرّمات يحتمل انحصار التكاليف فيها ، كان الشكّ بالنسبة إلى مجهولاته شكّا في أصل التكليف.

وبتقرير آخر : إن كان استعلام جملة من الواجبات والمحرّمات تفصيلا موجبا لكون الشكّ في الباقي شكّا في أصل التكليف ، فلا مقتضي لوجوب الفحص وعدم الرجوع إلى البراءة ، وإلّا لم يجز الرجوع إلى البراءة ولو بعد الفحص ، إذ الشكّ في المكلّف به لا يرجع فيه إلى البراءة ولو بذل الجهد في الفحص وطلب الحكم الواقعي.

[فإن قلت : هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في أوّل الأمر ولو بعد الفحص ؛

____________________________________

من إزالة الشبهة ، وحمل أخبار البراءة على صورة عدم تمكّن المكلّف من إزالتها ، ولازم هذا الجمع هو عدم دلالة أخبار البراءة عليها قبل الفحص وهو المطلوب. هذا ما يظهر من كلام المصنّف قدس‌سره.

قال المرحوم الآشتياني قدس‌سره في بحر الفوائد : كان الأولى من المصنّف قدس‌سره منع شمول أخبار البراءة لما قبل الفحص بعد ملاحظة كون بناء الشارع على تبليغ الأحكام على الوجه المتعارف على ما عرفت ، ومن هنا وقع التصريح في غير واحد من الأخبار بالطلب والبحث.

(الخامس : حصول العلم الإجمالي لكلّ أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصحّ التمسّك بأصل البراءة ... إلى آخره).

وملخّص الوجه الخامس في وجوب الفحص ، هو أن العلم الإجمالي لكلّ مكلّف بثبوت التكاليف الإلزامية في الشريعة مانع عن الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، إذ لا فرق في منع العلم الإجمالي عن الرجوع إلى البراءة بين أن يكون اشتباه القليل بالقليل ، كاشتباه الحرام بين الإناءين ، أو اشتباه الواجب بين الظهر والجمعة ، وبين أن يكون اشتباه الكثير في الكثير ، كما فيما نحن فيه ، أعني : العلم الإجمالي بالواجبات والمحرّمات في الوقائع المتعدّدة المحتملة للتكاليف الإلزامية ، فيجب الفحص وهو المطلوب.

[فإن قلت : هذا يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة في أوّل الأمر ولو بعد الفحص ؛

١٢٥

لأنّ الفحص لا يوجب جريان البراءة مع العلم الإجمالي.

قلت : المعلوم إجمالا وجود التكاليف الواقعيّة في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن

____________________________________

لأنّ الفحص لا يوجب جريان البراءة مع العلم الإجمالي].

وللمصنّف قدس‌سره في الإشكال على هذا الوجه الخامس تعبيران :

وحاصل تقريب الإشكال بتعبيره الأوّل : هو أنّ مقتضى هذا الوجه عدم جواز الرجوع إلى البراءة أصلا لا قبل الفحص ولا بعده ؛ وذلك لأنّ الشكّ في مورد العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية يدخل في الشكّ في المكلّف به ، ومقتضى القاعدة فيه وجوب الاحتياط من دون فرق بين قبل الفحص وبعده ، فيخرج مورد العلم الإجمالي عن المقام من رأس ، إذ لا يجري فيه أصل البراءة ، كما عرفت.

وأمّا الإشكال بالتعبير الثاني : فهو ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(فإن قلت : إذا علم المكلّف تفصيلا بعدّة امور من الواجبات والمحرّمات يحتمل انحصار التكاليف فيها ، كان الشكّ بالنسبة إلى مجهولاته شكّا في أصل التكليف).

وحاصل تقريب الإشكال بهذا التعبير ، هو أنّ العلم الإجمالي المذكور بعد علم المكلّف تفصيلا بمجموع الواجبات والمحرّمات من الأدلّة القطعيّة أو الظنّيّة المعتبرة لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : انحلاله إلى علم تفصيلي بالنسبة إلى ما علم المكلّف به تفصيلا من الأحكام الإلزامية ، وشكّ في أصل التكليف بالنسبة إلى ما سواها من مجهولاته.

وثانيهما : عدم انحلاله وبقائه على حاله ، وعلى التقديرين لا يجب الفحص.

أمّا على الأوّل ؛ فلأنّ المكلّف يرجع إلى البراءة فيما شكّ فيه من دون حاجة إلى الفحص.

وأمّا على الثاني ، فلا يجب التمسّك بها ولو بعد الفحص ؛ لأنّ مقتضى القاعدة في مورد العلم الإجمالي هو وجوب الاحتياط ، ولا يجدي الفحص في الرجوع إلى البراءة في موارد العلم الإجمالي.

(قلت : المعلوم إجمالا وجود التكاليف الواقعيّة في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى

١٢٦

الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها ، فيرجع إلى البراءة.

____________________________________

مداركها ، وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها ، فيرجع إلى البراءة).

وملخّص ما أفاده المصنّف قدس‌سره من الجواب عن الإشكال المذكور ، هو اختيار الاحتمال الأوّل ، أي : انحلال العلم الإجمالي المذكور بالفحص إلى العلم التفصيلي بوجود التكاليف الواقعيّة في الوقائع التي يتمكّن المكلّف من الوصول فيها إلى مداركها ، وهي الأخبار الموجودة في الكتب الأربعة مثلا ، فبعد الفحص عن حكم الواقعة المعيّنة فرضا والعجز عن وجدان حكمها فيها خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها ، فيرجع فيها إلى البراءة ؛ لأنّ الشكّ في حكمها شكّ في أصل التكليف.

وبهذا البيان لا حاجة إلى ما تكلّف به الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته في المقام ، حيث جعل الوقائع صنفين فقال :

إنّ الوقائع على صنفين :

صنف منها : يمكن الوصول إلى مدرك حكمه.

وصنف منها : لا يمكن فيه ذلك.

والمعلوم إجمالا هو وجود الواجبات والمحرّمات في الصنف الأوّل.

وأمّا الصنف الثاني فوجودهما فيه محتمل لا معلوم (و) حينئذ(وإذا تفحّص وعجز عن الوصول إلى مدارك الواقعة) كشرب التتن (خرجت تلك الواقعة عن الوقائع التي علم إجمالا بوجود التكاليف فيها ، فيرجع فيها إلى البراءة).

وبالجملة بعد الفحص واليأس يعلم أنّ هذه الواقعة لم تكن في دائرة العلم الإجمالي ، بل في دائرة الشكّ البدوي ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

هذا تمام الكلام في الجواب عن الإشكال في الاستدلال بالعلم الإجمالي على وجوب الفحص.

إلّا أنّ هنا إشكالا على الاستدلال المذكور ذكره المرحوم غلام رضا قدس‌سره بشيء من التفصيل ، حيث قال ـ بعد ذكر الاستدلال ـ ما نصه :

فيه أوّلا : إنّ محلّ الكلام لا يختصّ بما وجد فيه العلم الإجمالي ، بحيث يكون الشكّ

١٢٧

____________________________________

فيه في المكلّف به ، بل لو كان الشكّ في التكليف أيضا لكان وجوب الفحص فيه أيضا ثابتا ؛ ولذا بنوا على وجوب النظر في المعجزة ممّن يدّعي النبوة ، ولا فرق في ذلك بين اصول الدين وفروعه.

وثانيا : إنّ ذلك يقتضي عدم جواز الرجوع إلى البراءة بعد الفحص أيضا لو لم يظفر على الدليل ؛ لأنّ الناظر إذا أتى بمقام الفحص ، وتفحّص ولم يظفر على الدليل ، فلا محالة يكون العلم الإجمالي الثابت قبل الفحص موجودا بعده أيضا ؛ لأنّ الفحص من حيث هو لا يوجب رفعه ، فكما أنّه قبل الفحص مانع عن جريان البراءة ، فكذا بعده.

ودعوى أنّ الفحص يوجب خروج الوقائع التي لا يتمكّن المكلّف من الوصول إلى مداركها عن مورد العلم الإجمالي موضوعا ، فيختصّ مورد العلم الإجمالي بما كان متمكّنا من الوصول إلى مداركه.

مدفوعة بما في المتن من أنّ العلم الإجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع من غير مدخليّة لتمكّن المكلّف من الوصول إلى المدرك وعجزه عن ذلك.

وإذ قد ثبت أنّ الأدلّة التي اقيمت على وجوب الفحص كلّها مدخولة ووقوع الإشكال في جريان البراءة بعد الفحص في صورة عدم الظفر بالدليل ، فمسّت الحاجة إلى إطلاق عنان القلم ، وإتيان ما طلع من افق التحقيق بمقام الرقم ؛ تارة في إقامة البرهان على وجوب الفحص ، واخرى في رفع الإشكال المزبور.

أمّا الأوّل فنقول : إنّ لنا مسائل ثلاث يكون مرتع البرهان فيها من واد واحد :

إحداها : وجوب النظر في المعجزة ممّن يدّعي النبوة.

والثانية : عدم جواز الرجوع إلى البراءة في غير المعلومات والمظنونات بالظنون الخاصة ، كما ادّعاه المحقّقون من المتأخرين في تقرير دليل الانسداد.

والثالثة : وجوب الفحص وعدم جواز الرجوع إلى البراءة قبله.

والفرق بينها :

إنّ الأوّل من مسائل اصول الدين بخلاف الباقي.

والثاني في العمل بالبراءة بعد الظفر على المعلومات والمظنونات بالظنون الخاصة.

١٢٨

____________________________________

والأخير في العمل فيها قبل الظفر عليهما.

والبرهان الجامع الذي يثبت به المدّعى في جميعها ، أنّ الشارع كلّما أراد نشر الدين وأحكامه وتوقف العلم بها على النظر والفحص ، فلا يجوز له الترخيص في تركه ؛ لأنّ الترخيص المزبور مستلزم لانمحاق ذلك الدين وأحكامه ، والتالي باطل لكونه مستلزما لنقض الغرض وانمحاق ما أراد الشارع انفاذه ، فكذلك المقدّم.

ولا يفرّق في ذلك بين جميع الوقائع أو الواقعة الواحدة ، والمراد بتوقف العلم على النظر والفحص إنّما هو توقف غالبي ، وإلّا فربّما يحصل العلم نادرا ولو لم يكن في مقام النظر والفحص ، هذا.

فإن قلت : إنّ البرهان المزبور لا يتمّ في الاصول المثبتة للتكاليف ، فإنّ نقض الغرض لا يلزم في العمل بها قبل الفحص ، مع أنّ وجوب الفحص ثابت مطلقا.

قلت : سلّمنا عدم دلالة الدليل المزبور ، لكن كفانا في إثباته ؛ تارة : تحقّق الإجماع على ثبوته في العمل بها.

ولا يرد عليه ما أوردناه على الإجماع السابق ، كيف وتلك الاصول شرعيّة لا مسرح للعقل فيها.

واخرى : ما دلّ على وجوب تحصيل العلم ، فإنّ مفاد مثل ذلك ليس إلّا أمانة الاصول وإتيان ضوئها بمقام الافول.

ودعوى أنّ مفادها لعلّه الوجوب النفسي ـ فلا ربط له بالمقام ـ مدفوعة بأنّ هذه الدعوى ، كما يأتي منهدم البنيان ، ولم يعرف لها إجمال ولا بيان.

فإن قلت : إنّ مفاد البرهان المزبور مناف لما استقرّ عليه بناء العقلاء في الشبهات من التكاليف الصادرة من مواليهم إلى عبيدهم من عدم الفحص.

أترى من نفسك أنّ العبد إذا احتمل صدور التكليف من مولاه ، فلم يأت بمقام السؤال ، لذمّة العقلاء حاشا؟.

ويؤيّد ذلك أنّ الصحابة في ابتداء صدور الأحكام وتبليغها ليس بناؤهم على السؤال ، وكذلك ما يحتملون صدور الحكم فيه ، بل ينتظرون لإخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكلّ ما أخبرهم به

١٢٩

____________________________________

كانوا آخذين به.

قلت : إنّ لنا موارد ثلاثة :

تارة : تكون الشبهة بدوية صرفة ليس فيها علم إجمالي أصلا ، لا بالنسبة إلى التكليف الإلزامي ، ولا غيره.

واخرى : تكون الشبهة واجدة للعلم الإجمالي لكن بالنسبة إلى صدور مطلق الخطاب ، يعني : أنّه يعلم بصدور الخطاب من المولى لكنّه لا يعلم أنّه بالنسبة إليه أو صاحبه.

وعلى الأوّل أنّه مشتمل على الحكم الإلزامي أو غيره ، وهذا القسم وإن كان واجدا للعلم الإجمالي لكن الشكّ فيه في التكليف.

وثالثا : تكون الشبهة أيضا واجدة له لكن بحيث يوجب انقلابها إلى الشكّ في المكلّف به ، بأن علم بصدور الخطاب الإلزامي لكن عرض له الشكّ في متعلّقه.

وكلّ من الأوّل والأخير خارج عن محلّ الكلام ، والذي هو محلّ الكلام إنّما هو الثاني ، ومورد النقض ببناء العقلاء والصحابة ليس إلّا من الأوّل ، فلا ربط له بالمقام.

لا يقال : إنّ محلّ الكلام إن كان ما ذكر فلازمه خروج مسألة النظر في المعجزة عمّن يدّعى النبوة عنه ، كيف وهو فاقد للعلم الإجمالي؟!.

لأنّا نقول عدم وجوب النظر فيها مستلزم لإفحام الأنبياء ، وأيّ نقض غرض أعظم من ذلك؟.

وأمّا الثاني ، فنقول في مقام التفصّي عنه :

أوّلا : إنّ ما نحن فيه من قبيل شبهة القليل في الكثير ، والمرجع فيها هو البراءة.

توضيح ذلك أنّ العلم الإجمالي المزبور في مقامين :

أحدهما : العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع التي يقدر على الوصول إلى مداركها.

وثانيهما : العلم الإجمالي بالتكاليف في الوقائع التي يعجز عن الوصول إلى مداركها لو تفحّص.

والدليل على ثبوت الثاني أنّ الطائفة الاولى لو خرجت عن الشبهات لكان العلم الإجمالي بالتكاليف فيها أيضا باقيا ، وهذا أعظم كاشف على ثبوته ، ومورد الإشكال إنّما

١٣٠

هذا ، ولكن لا يخلو عن نظر.

____________________________________

هو جريان البراءة في موارد العلم الإجمالي الثاني.

ولا شبهة في أنّ الواجبات والمحرّمات فيها بالنسبة إلى المباحات ليس إلّا أقلّ قليل ، فيكون من الشبهة غير المحصورة ، والمرجع فيها هو البراءة.

وثانيا : إنّ الإجماع القطعي على العمل بالاصول بعد الفحص حاصل ، وهذا الإجماع إن قام على العمل المزبور تعبّدا فيكشف عن حجيّة الاصول وعدم الاعتناء بأثر العلم الإجمالي المزبور ، وإن كان مدركه لزوم العسر والحرج في ترك العمل بها والعمل بالاحتياط ، فلا بدّ من التبعيض فيه ، بمعنى أنّه يبني على الاحتياط في غير مورد الحرج ، وفي مورده على سائر الاصول ، فتأمّل. انتهى.

(هذا ، ولكن لا يخلو عن نظر) ، أي : الجواب المذكور عن الإشكال بقوله : (فإن قلت ... إلى آخره) لا يخلو من نظر وإشكال.

ووجه النظر يتّضح بعد ذكر مقدّمة وهي :

إنّ ما تقدّم من الجواب إنّما يصحّ فيما إذا كانت أطراف العلم الإجمالي مختصة بالوقائع التي يتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك الأحكام فيها ، كأن تكون مداركها منحصرة في الأخبار الموجودة في الكتب المعروفة ؛ وذلك لانحلال العلم الإجمالي المذكور بعد مراجعتها إلى العلم التفصيلي بوجود التكاليف الموجودة فيها والشكّ في أصل التكليف في غيرها ، فيرجع فيها إلى البراءة.

أمّا إذا قلنا : بأنّ أطراف العلم الإجمالي بالأحكام الإلزاميّة لا تختصّ بالوقائع التي يتمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك أحكامها ، فلا يتمّ الجواب المذكور ، لعدم انحلال العلم الإجمالي حينئذ ، فلا يصحّ الرجوع إلى البراءة فيها بعد الفحص ، كما لا يجوز الرجوع إليها قبله.

إذا عرفت هذه المقدّمة يتّضح لك وجه النظر في الجواب المذكور وذلك لعدم جواز الرجوع إلى البراءة حتى بعد الفحص ؛ لأنّ العلم الإجمالي يكون من قبيل القسم الثاني ، وهو الذي لا ينحلّ لا من قبيل القسم الأوّل وهو الذي ينحلّ ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

١٣١

لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع من غير مدخليّة تمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها ، مجازفة.

مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها.

____________________________________

(لأنّ العلم الإجمالي إنّما هو بين جميع الوقائع من غير مدخليّة تمكّن المكلّف من الوصول إلى مدارك التكليف وعجزه عن ذلك ، فدعوى اختصاص أطراف العلم الإجمالي بالوقائع المتمكّن من الوصول إلى مداركها ، مجازفة).

توضيحه كما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّ كون الأطراف على صنفين ـ صنف في دائرة العلم الإجمالي وصنف في دائرة الشكّ البدوي ـ إنّما هو فيما إذا كان هناك منشأ للعلم الإجمالي ومنشأ آخر للشكّ البدوي.

كما إذا كان هناك أربع أواني ، فوقعت قطرة بول واحتمل وقوعها في أحدها ، وقطرة اخرى علم وقوعها في خصوص أحد هذين ، فهذان في دائرة العلم الإجمالي للقطرة الثانية ، والآخران في دائرة الشكّ البدوي للقطرة الاولى.

وهذه الوقائع ليست كذلك ، بل فيها منشأ واحد للعلم الإجمالي في الكلّ وهو علمنا إجمالا بوجود الواجبات والمحرّمات ، وتمكّن المكلّف من الوصول وعدمه لا يوجب التصنيف.

(مع أنّ هذا الدليل إنّما يوجب الفحص قبل استعلام جملة من التكاليف يحتمل انحصار المعلوم إجمالا فيها) ولا يقتضي وجوب الفحص بعد انحلال العلم الإجمالي باستعلام جملة من التكاليف الإلزامية ، على تقدير اختصاص أطراف العلم الإجمالي بما في أيدينا من الأخبار الموجودة في الكتب المعروفة.

مع أنّ المدّعى هو وجوب الفحص سواء كان هناك علم إجمالي أم لا ، وعلى الأوّل سواء كان العلم الإجمالي باقيا على حاله أو منحلّا بعد الفحص ، فيكون هذا الدليل أخصّ من المدّعى ؛ لأنّ المستفاد منه هو كون المناط لوجوب الفحص العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية ، فيدور وجوب الفحص مدار العلم الإجمالي وجودا وعدما.

١٣٢

فتأمّل ، وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة بالعلم الإجمالي.

وكيف كان ، فالأولى ما ذكر في «الوجه الرابع» من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص ، كما لا يعذر الجاهل بالمكلّف به العالم به إجمالا ، ومناط عدم المعذوريّة في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضّرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يأمن معه من ترتّب الضّرر.

ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل ، بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة وعدم معذوريّته في تركه ، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضّرر المحتمل ، لا إلى أنّه شكّ في

____________________________________

(فتأمّل ، وراجع ما ذكرنا في ردّ استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط في الشبهة التحريميّة بالعلم الإجمالي) بوجود المحرّمات ، وقد ردّه المصنّف قدس‌سره بانحلال العلم الإجمالي بعد الفحص وإحراز جملة من المحرّمات بالعلم التفصيلي ، أو الأمارات المعتبرة إلى علم تفصيلي وشكّ بدوي بالنسبة إلى ما لم يعلم أو يظنّ تفصيلا ، فتجري فيه البراءة في المشكوك.

وعلى أيّ حال ، فإنّ المتحصّل من الجميع هو أنّه لو كان المقتضي لوجوب الفحص هو العلم الإجمالي للزم ارتفاعه بانحلاله ، كما يرتفع وجوب الاحتياط بانحلاله ، إلّا أنّ الأمر في المقام ليس كذلك ، بل يجب الفحص حتى على تقدير الانحلال.

(وكيف كان ، فالأولى ما ذكر في «الوجه الرابع» من أنّ العقل لا يعذر الجاهل القادر على الفحص) حتى في مورد الشكّ في أصل التكليف ، فضلا عن مورد العلم الإجمالي والشكّ في المكلّف به ، فلا يعذر الجاهل القادر على الفحص عقلا ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(كما لا يعذر الجاهل بالمكلّف به العالم به إجمالا ، ومناط عدم المعذوريّة في المقامين) ، أي : الشكّ في التكليف والشكّ في المكلّف به (هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما ، فاحتمال الضّرر) ، أي : العقاب (بارتكاب الشبهة غير مندفع) لو لا الفحص والاحتياط(بما يأمن معه من ترتّب الضّرر) ، أي : بشيء يؤمن معه من ترتّب الضّرر.

(ألا ترى أنّهم حكموا باستقلال العقل ، بوجوب النظر في معجزة مدّعي النبوّة وعدم معذوريّته في تركه ، مستندين في ذلك) ، أي : وجوب النظر(إلى وجوب دفع الضّرر المحتمل)

١٣٣

المكلّف به.

هذا كلّه ، مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الإجماع القطعي كفاية ، ثمّ إنّ في حكم أصل البراءة كلّ أصل عملي خالف الاحتياط.

بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص ، والكلام فيه إمّا في استحقاقه العقاب ، وإمّا في صحّة العمل الذي اخذ فيه بالبراءة.

____________________________________

في حقّ القادر على الفحص ، (لا إلى أنّه شكّ في المكلّف به) من جهة العلم إجمالا بوجود الأنبياء.

(هذا كلّه ، مع أنّ في الوجه الأوّل وهو الإجماع القطعي كفاية ، ثمّ إنّ في حكم أصل البراءة) في اشتراط الفحص (كلّ أصل عملي خالف الاحتياط) كالتخيير في الدوران بين المحذورين وكاستصحاب عدم التكليف ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي دامت إفاداته.

(بقي الكلام في حكم الأخذ بالبراءة مع ترك الفحص ، والكلام فيه إمّا في استحقاقه العقاب ، وإمّا في صحّة العمل الذي اخذ فيه البراءة).

ومثال الأوّل هو استحقاق عقاب من ارتكب محتمل الحرمة كشرب التتن من دون فحص ، والثاني من أتى بالصلاة بلا سورة مع احتمال جزئيّتها لها تمسّكا بالبراءة من دون فحص.

وللمرحوم غلام رضا قدس‌سره كلام في هذا المقام لا يخلو ذكره من فائدة ، حيث قال :

أقول : غير خفيّ على الوفي أنّ الكلام في هذه المسألة خارج عن المقام ، ولا ربط له بما هو محلّ الكلام ، كيف؟ والمقصود بالبحث فيه إنّما هو بيان وجوب الفحص وحكم العمل بالأصل قبله في الشبهات الحكميّة ، وهذا ممّا هو مختصّ بشخص المجتهد.

وهذا بخلاف الكلام في تلك المسألة ، فإنّ البحث فيها إنّما هو عن حكم عمل مطلق الجاهل سواء كان من العوام وعمل تاركا للتقليد ، أو ممّن له الاجتهاد وعمل تاركا له ، بل المهم في تلك المسألة إنّما هو بيان حكم الأوّل ، وذكر الأخير في أطراف كلماتهم من باب الاستقصاء.

وإلّا فالمقصود بالبحث فيها من حيث بيان الأقسام وأحكامها وفروعها إنّما هو الأوّل ، وإن أبيت عن ذلك فانظر إلى كلامه رحمه‌الله وكلام القوم ، كيف ينادي بذلك.

١٣٤

____________________________________

ولذا لم نر من تعرّض لهذه المسألة في باب البراءة ، وإنّما كان محلّ تعرضهم باب الاجتهاد والتقليد ، وكيف كان فشرح الحال في المسألة يقتضي رسم امور :

الأوّل : إنّ لهم فيها عنوانين :

أحدهما : إنّ تارك طريقي الاجتهاد والتقليد عمله باطل ، كما في كلام بعضهم.

والثاني : إنّ الجاهل بالحكم غير معذور ، كما في كلام الآخرين.

وربّما يتوهّم أنّ أحد العنوانين عبارة اخرى عن الآخر وهو بمعزل عن التحقيق ، كيف والثاني أعمّ من الأوّل.

فإنّ الأوّل مختصّ بالعبادات والمعاملات حيث كان فيهما مسرح للصحّة والبطلان ، ولا يأتي في باب المحرّمات مثل حرمة الغيبة وشرب الخمر واللواط والزنا إلى غير ذلك ممّا لا مسرح لهما فيه.

وهذا بخلاف الثاني ، فإنّه يعمّ جميع أبواب الفقه ، وحيث كان الثاني أشمل فهو أولى بأن نجعل العنوان فيه ، فإنّ البحث عنه يغنينا عن الأوّل ، بخلاف العكس.

الثاني : إنّ المراد بالجاهل المأخوذ في العنوان ليس معناه اللغوي ، بل من لم يعلم بالحكم الواقعي من طرقه الواقعيّة كالاجتهاد والتقليد ، فيشمل ـ حينئذ ـ من حصل له العلم بالواقع من قول أبويه أو معلّمه مع إصابتهم الواقع.

والدليل على هذا التعميم وقوع هذا القسم أيضا بمحلّ الخلاف ، ولا ينافي ذلك ـ أعني : كون المراد بالجاهل تارك طريقي الاجتهاد والتقليد ـ ما تقدّم من كون الثاني أعمّ ؛ لأنّ التعميم الثابت من طرف المحمول لا ينافي الاتحاد في الموضوع.

وإذا عرفت معنى الجاهل فاعلم إنّه إمّا أن يكون له التفات إلى الحكم الشرعي أم لا ، بل يكون غافلا عنه ، وعلى الأوّل ؛ إمّا أن يكون جازما به أو متردّدا فيه فالأقسام ثلاثة.

وأمّا المتردّد فتحته أيضا صور ؛ لأنّه بالنسبة إلى حكم السؤال ؛ إمّا أن يكون له التفات إليه أم لا ، بل يكون غافلا عنه ، وعلى الأخير ؛ فإمّا أن يكون في سابق زمانه هذا له التفات إليه أم لا ، بل كان من أوّل الأمر غافلا عنه ، وعلى الأوّل ؛ فإمّا أن يكون حال الالتفات عالما به ، أو متردّدا.

١٣٥

أمّا العقاب : فالمشهور أنّه على مخالفة الواقع لو اتفقت ، فإذا شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ، فإن لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب ، ولو اتفقت حرمته كان

____________________________________

وأمّا الغافل عن الحكم الشرعي فتحته أيضا صور ؛ لأنّه قبل زمانه هذا ؛ إمّا حصل له علم إجمالي بثبوت الأحكام الشرعيّة وصدور الخطابات أم لا ، بل كان غافلا محضا.

وعلى الأوّل ؛ فإمّا حصل له التفات بحكم السؤال أم لا ، وعلى الأوّل ؛ فإمّا أن يكون حال الالتفات عالما به أو متردّدا ، وعلى جميع هذه الأقسام ؛ إمّا أن يكون علمه مطابقا للواقع أم لا.

الثالث : في ذكر الأقوال فنقول : إنّها على ما ذكره رئيس المتتبعين في الإشارات أربعة ، حيث قال ما لفظه :

فمنهم : من قال بأنّه ليس بمعذور إلّا ما خرج بالدليل كالجهر والإخفات ، والقصر والإتمام ، وغير ذلك ممّا هو مذكور في كلامهم.

ومنهم : من عكس ذلك ، وهو الفاضل الجزائري في المنع.

ومنهم : من حكم بالأوّل في العالم بالتكليف المتمكّن من العلم على الوجه المشروط ، وبالثاني في غيره إذا طابق عمله الواقع وهو المقدس الأردبيلي.

ومنهم : من فصّل بين كونه مقصّرا ، فالأوّل وغيره ، فالثاني كالسيّد صدر الدين والبحريني وغيرهما. انتهى كلامه رحمه‌الله.

إذا عرفت هذه الامور فاعلم إنّ الجاهل المزبور إن كان غافلا عن كلا الحكمين ـ أعني : الحكم الواقعي وحكم السؤال ـ وكان قاصرا صرفا وغافلا بحتا ، فهو خارج عن محلّ الخلاف ولا إشكال في عدم استحقاقه العقاب.

إنّما الإشكال في باقي الأقسام ، ومن جملتها من حصل له التفات إلى ثبوت الحكم في الجملة وتساهل في تحصيل العلم به إلى أن عرضت له الغفلة عن ثبوته ، فظاهر المشهور عدم معذوريّته في صورة المخالفة دون الموافقة ، وتحقيق الكلام فيه يطلب ممّا في المتن. انتهى كلامه رحمه‌الله.

وقد أشار إلى هذا الذيل ـ المصنّف ـ قدس‌سره بقوله :

(أمّا العقاب : فالمشهور أنّه على مخالفة الواقع لو اتفقت) ، وظاهره أنّ وجوب الفحص

١٣٦

العقاب على شرب العصير ، لا على ترك التعلّم.

أمّا الأوّل : فلعدم المقتضي للمؤاخذة.

عدا ما يتخيّل من ظهور أدلّة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي ، وهو مدفوع : بأنّ المستفاد من أدلّته بعد التأمّل إنّما هو وجوب الفحص لئلّا يقع في مخالفة الواقع ، كما لا يخفى ، أو ما يتخيّل من قبح التجرّي بناء على أنّ الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة ، كالإقدام على ما يعلم كونه كذلك ، كما صرّح به جماعة ، منهم الشيخ في العدّة وأبو

____________________________________

والتعلّم طريقي ، فلا يترتّب العقاب على ترك الفحص والتعلّم ، بل العقاب إنّما هو على مخالفة الواقع لو اتفقت ، كأن يشرب العصير العنبي وكان شربه في الواقع حراما ، ولا يكون وجوب التعلّم نفسيّا حتى يترتّب على تركه العقاب ، وإن لم يخالف الواقع ، كما توهّمه بعض ، وعلى ما تأتي الإشارة إليه.

(أمّا الأوّل) وهو عدم العقاب إذا لم يتفق كونه حراما كما أشار إليه بقوله :

(فإن لم يتفق كونه حراما واقعا فلا عقاب).

والحاصل ؛ أمّا عدم العقاب (فلعدم المقتضي للمؤاخذة) إلّا على القول بكون وجوب تعلّم الأحكام الشرعيّة نفسيّا ، كما ذهب إليه صاحب المدارك والمحقّق الأردبيلي قدس‌سرهما.

أو على القول بقبح التجرّي بناء على أنّ الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة عند العقل كالإقدام على ما يعلم فيه المضرّة.

وكلا القولين غير مرضي عند المصنّف قدس‌سره ؛ فلذا عبّر عنهما بالتخيّل.

حيث أشار إلى الأوّل بقوله :

(عدا ما يتخيّل من ظهور أدلّة وجوب الفحص وطلب تحصيل العلم في الوجوب النفسي) ، فيعاقب على هذا القول على ترك الفحص والتعلّم ، إلّا أنّه مدفوع بما ذكرناه من أنّ وجوب الفحص والتعلّم طريقي من باب المقدّمة (لئلّا يقع في مخالفة الواقع) ، والمفروض في المثال المذكور في المتن عدمها.

وقد أشار إلى الثاني بقوله :

(أو ما يتخيّل من قبح التجرّي بناء على أنّ الإقدام على ما لا يؤمن كونه مضرّة ،

١٣٧

المكارم في الغنية.

لكنّه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل.

وأمّا الثاني : فلوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي الدالّ على وجوب الشيء أو تحريمه ، ولا مانع منه عدا ما يتخيّل من جهل المكلّف به ، وهو غير قابل للمنع عقلا ولا

____________________________________

كالإقدام على ما يعلم كونه كذلك ، كما صرّح به جماعة منهم الشيخ في العدّة وأبو المكارم في الغنية).

ثمّ أشار إلى ردّه بقوله : (لكنّه قد أسلفنا الكلام في صغرى وكبرى هذا الدليل).

أي : تقدّم الكلام في قبح التجرّي وترتّب العقاب عليه وعدمه في بحث القطع ، وقلنا : إنّ قبحه فاعلي لا يترتّب عليه العقاب ، وتفصيل ذلك كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. لأنّ الضّرر المحتمل يمكن أن يكون اخرويا ويمكن أن يكون دنيويا.

أمّا على الأوّل ، فدفعه واجب إرشادي يترتّب على مخالفته نفس هذا العقاب المحتمل لو صادف الواقع ، وإلّا كما هو المفروض يدخل في التجرّي وقبحه فاعلي عند المصنّف قدس‌سره لا فعلي.

وأمّا على الثاني ، فلا يجب دفعه عقلا ، وعلى تقدير وجوبه فقد أذن فيه الشرع ، كما مرّ في الشبهة الموضوعيّة. هذا تمام الكلام في الضّرر المحتمل.

وأمّا الضّرر المقطوع فإن كان اخرويا فدفعه واجب إرشادي يترتّب على مخالفته نفس هذا العقاب لو صادف الواقع ، وإلّا فيدخل في التجرّي ، كما مرّ في مبحث القطع حيث يكون قبحه فاعليا عند المصنّف قدس‌سره.

وإن كان دنيويا فدفعه واجب مولوي يترتّب على مخالفته العقاب مطلقا إن كان القطع تمام الموضوع ، وإلّا ففي صورة المصادفة وفي غيرها يدخل في التجرّي وقبحه فاعلي. هذا تمام الكلام في عدم العقاب لدى ارتكاب محتمل الحرمة إن لم يتفق كونه حراما واقعا.

وأمّا العقاب على مخالفة الواقع ، فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وأمّا الثاني) وهو ترتّب العقاب على مخالفة الواقع لو اتفقت لا على ترك التعلّم (فلوجود المقتضي ، وهو الخطاب الواقعي الدالّ على وجوب شيء أو تحريمه) ، الأوّل ، كقول

١٣٨

شرعا.

أمّا العقل ، فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي ، وكان قادرا على إزالة الجهل عن نفسه.

وأمّا النقل ، فقد تقدّم عدم دلالته على ذلك ، وأنّ الظاهر منها ـ ولو بعد ملاحظة ما تقدّم من أدلّة الاحتياط ـ الاختصاص بالعاجز ، مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدّمة في

____________________________________

الشارع فرضا : الدّعاء واجب ، والثاني ، كقوله : والعصير حرام.

أمّا عدم المانع فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(ولا مانع منه عدا ما يتخيّل من جهل المكلّف به ، وهو غير قابل للمنع عقلا ولا شرعا).

(أمّا العقل ، فلا يقبّح مؤاخذة الجاهل التارك للواجب إذا علم أنّ بناء الشارع على تبليغ الأحكام) بالطرق المتعارفة (على النحو المعتاد المستلزم لاختفاء بعضها لبعض الدواعي) ، فيجب على المكلّف الفحص والتعلّم فيما عدا الضروريات إن كان قادرا على إزالة الجهل به ، كما هو المفروض في المقام ، فلو ترك التعلّم والفحص لا يكون عقابه على مخالفة الواقع قبيحا عند العقل.

وأمّا عدم المانع شرعا فقد أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وأمّا النقل ، فقد تقدّم عدم دلالته على ذلك ، وأنّ الظاهر منها ولو بعد ملاحظة) تعارضه مع (ما تقدّم من أدلّة الاحتياط) والتوقف (الاختصاص بالعاجز [عن التعلّم]) ، أي : اختصاص ما دلّ على البراءة بالعاجز عن معرفة الحكم بالفحص والسؤال جمعا بينهما ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي والأوثق. هذا تمام الكلام في الوجه الأوّل.

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى الوجه الثاني ـ أي : العقاب بنفس مخالفة الواقع ـ بقوله :

(مضافا إلى ما تقدّم في بعض الأخبار المتقدّمة في الوجه الثالث) الدالّ على وجوب الفحص كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيمن غسّل مجدورا أصابته جنابة فكزّ فمات : (قتلوه قتلهم الله ، ألا سألوا ، ألا يمّموه؟) (١).

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥٩ / ٢١٨. الوسائل ٣ : ٣٤٦ ، أبواب التيمم ، ب ٥ ، ح ٣.

١٣٩

«الوجه الثالث» المؤيّدة بغيرها ، مثل رواية تيمّم عمّار المتضمّنة لتوبيخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه بقوله : (أفلا صنعت هكذا) (١).

وقد يستدلّ أيضا بالإجماع على مؤاخذة الكفّار على الفروع مع أنّهم جاهلون بها.

وفيه : إنّ معقد الإجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاصول ، ومؤاخذتهم عليها بالشروط المقرّرة للتكليف ، وهذا لا ينفي دعوى اشتراط العلم بالتكليف في حقّ المسلم والكافر.

وقد خالف فيما ذكرنا صاحب المدارك تبعا لشيخه المحقّق الأردبيلي ، حيث جعلا عقاب

____________________________________

حيث إنّ مفاده هو العقاب على مخالفة الواقع لا على ترك التعلّم.

(المؤيّدة بغيرها ، مثل رواية تيمّم عمّار) حيث تيمّم بجميع بدنه (المتضمّنة لتوبيخ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إيّاه بقوله :) كذلك يتمرّغ الحمار(أفلا صنعت هكذا).

فإنّ التوبيخ وإن لم يستلزم عقاب الجاهل المقصّر على مخالفة الواقع إلّا أنّه يؤيّده ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

وأمّا الوجه الثالث للعقاب على نفس مخالفة الواقع ، فهو ما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وقد يستدلّ أيضا بالإجماع على مؤاخذة الكفّار على الفروع مع أنّهم جاهلون بها) ، فإنّ الإجماع قد قام على مؤاخذتهم على مخالفة الأحكام لا على ترك تعلّمها.

(وفيه : إنّ معقد الإجماع تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع كالاصول ... إلى آخره).

وحاصل الإشكال على الاستدلال بالإجماع ، هو أنّ الإجماع المذكور إنّما هو في مقابل أبي حنيفة ، حيث قال بعدم تكليف الكفّار بالفروع.

ومقصودهم منه إثبات تساوي الكفّار والمسلمين في التكليف بالفروع في صورة وجود شرائطه ، ومنها العلم بالأحكام ، فلا ينافي حينئذ الإجماع المذكور عقاب الجاهل على ترك التعلّم لا على مخالفة الواقع ، فلا يكون الإجماع المزبور دليلا على عقاب الجاهل بنفس مخالفة الواقع.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٥٧ / ٢١٢. الوسائل ٣ : ٣٦٠ ، أبواب التيمّم ، ب ١١ ، ح ٨.

١٤٠