دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

نعم ، لو كانت جميع مقدّماته ممّا يرتضيها هذا المجتهد وكان التفاوت بينهما أنّه اطّلع على ما لم يطّلع هذا ، أمكن أن يكون قوله حجّة في حقّه ، لكنّ اللازم حينئذ أن يتفحّص في جميع المسائل إلى حيث يحصل الظنّ بعدم وجود دليل التكليف ، ثمّ الرجوع إلى هذا المجتهد.

فإن كان مذهبه مطابقا للبراءة كان مؤيّدا لما ظنّه من عدم الدليل ، وإن كان مذهبه مخالفا للبراءة كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف ، فإن لم يحتمل في حقّه الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقليّة من الأخبار ، اخذ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه

____________________________________

لعلّ مراده رحمه‌الله أنّ مقتضى ما ذكره من اشتراط الفحص إنّما هو الفحص البالغ حدّ العلم ، وإذا تعذّر بهذه المرتبة ، كما سيأتي يتعيّن الأخذ بالظنّ لكن لا كلّ ظنّ ، بل ما هو أقرب إلى العلم من مراتب الظنّ ، وهو ليس إلّا البالغ حدّ الاطمئنان ، والمراد باليأس هنا هو هذا. انتهى.

(نعم ، لو كانت جميع مقدّماته ممّا يرتضيها هذا المجتهد وكان التفاوت بينهما أنّه) ، أي : المجتهد الأوّل (اطّلع) وعلم بوجود دليل أو عدمه ، و (لم يطّلع) المجتهد الثاني عليه (أمكن أن يكون قوله حجّة في حقّه).

أي : أمكن الحكم بحجيّة قول المجتهد الأوّل في حقّ المجتهد الثاني من باب الاضطرار ، ويحتمل أن لا يكون قوله حجّة.

ووجه عدم الحجيّة ، هو أنّ اعتبار الفحص إلى حدّ العلم إذا أوجب تعطيل أكثر الأحكام بحيث يعسر الاحتياط فيه ، لكان معنى ذلك انسداد باب العلم ، ومعه يكون الظنّ حجّة ، فلا وجه للتقليد ، بل يكتفي بالفحص إلى حدّ اليأس ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(لكنّ اللازم حينئذ أن يتفحّص في جميع المسائل إلى حيث يحصل الظنّ بعدم وجود دليل التكليف ، ثمّ الرجوع إلى هذا المجتهد) ؛ لأنّ جواز التقليد بمعنى الرجوع إلى مجتهد آخر إنّما هو من باب الاضطرار ، والمتيقّن منه هو صورة حصول الظنّ بعدم الدليل بعد الفحص ، كما في الأوثق.

ونكتفي هنا في توضيح كلام المصنّف قدس‌سره كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، فنقول :

إنّه إذا رجع المجتهد إلى مجتهد آخر بعد الفحص عن الدليل والظنّ بعدمه (فإن كان مذهبه مطابقا للبراءة كان مؤيّدا لما ظنّه من عدم الدليل ، وإن كان مذهبه مخالفا للبراءة

٢٠١

كروايته. ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن علي بن بابويه عند إعواز النصوص ، والتقييد بإعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى ، وإن احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ، لم يكن دليل على اعتباره في حقّه وتعيّن العمل بالبراءة.

____________________________________

كان شاهد عدل على وجود دليل التكليف ، فإن لم يحتمل في حقّه الاعتماد على الاستنباطات الحدسيّة أو العقليّة من الأخبار) كعلي بن بابويه القمّي قدس‌سره حيث كان يفتي بمضمون الخبر من دون اعتماد على استنباط حكم منه بالحدس والعقل (اخذ بقوله في وجود دليل وجعل فتواه كروايته).

إذ لا يكون أخذ قوله بمعنى حجيّة ما فهمه من الخبر ، لعدم حجيّة فهم مجتهد لمجتهد آخر.

(ومن هذا القبيل ما حكاه غير واحد من أنّ القدماء كانوا يعملون برسالة الشيخ أبي الحسن عليّ بن بابويه عند إعواز النصوص ، والتقييد بإعواز النصوص مبني على ترجيح النصّ المنقول بلفظه على الفتوى التي يحتمل الخطأ في النقل بالمعنى) ، فلا يجوز الأخذ بالفتوى مع وجود النصّ المنقول باللفظ.

(وإن احتمل في حقّه ابتناء فتواه على الحدس والعقل ، لم يكن دليل على اعتباره في حقّه) ، لما عرفت من عدم حجيّة فهم مجتهد لمجتهد آخر ، وتعيّن عليه حينئذ العمل بالبراءة.

* * *

٢٠٢

تذنيب

ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا أخر :

الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى ، مثل أن يقال في أحد الإناءين المشتبهين :

الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فإنّه يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر أو

____________________________________

(تذنيب : ذكر الفاضل التوني لأصل البراءة شروطا أخر).

وقد ذكر المصنّف قدس‌سره شرطين منها :

أحدهما : أن لا يكون إجراء أصل البراءة مستلزما لثبوت حكم إلزامي من جهة اخرى.

وثانيهما : أن لا يكون جريانها موجبا للضرر بمسلم أو من في حكمه ، وسيأتي تفصيلهما في المتن إن شاء الله تعالى.

ثمّ يظهر من المثال عدم اختصاصهما بأصل البراءة ، بل يجريان في الاستصحاب أيضا ، لأنّ أصل عدم بلوغ الماء كرّا وأصل عدم تقدّم الكرّيّة يكون من قبيل الاستصحاب ، فلا بدّ ـ حينئذ ـ من عدم الفرق بين البراءة ، وبين أصل العدم وأصل عدم التقدّم.

وكيف كان ، فقد أشار إلى الشرط الأوّل بقوله :

(الأوّل : أن لا يكون إعمال الأصل) النافي الأعمّ من أصل البراءة ، أو أصل عدم الحدوث ، أو أصل عدم التقدّم ، كما عرفت ، (موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة اخرى) ، فإذا انتفى الشرط المزبور ، بأن يكون جريان الأصل موجبا لثبوت حكم إلزامي شرعي من جهة اخرى ، كما في الأمثلة المذكورة في المتن ، لا يجري الأصل لكونه ـ حينئذ ـ أصلا مثبتا ، والأصل المثبت ليس بحجّة ، وذلك لأنّ مفاد أصالة عدم الحدوث أو أصالة عدم تقدّم الحادث ـ كما في أمثلة المتن ـ ليس إلّا نفي الحدوث أو تقدّمه.

وأمّا إثبات شيء آخر كوجوب الاجتناب عن الإناء الثاني في المثال الأوّل ، أو عن الملاقي في المثال الثاني ، أو عن الماء في المثال الثالث ، فلا يمكن إلّا على القول باعتبار الأصل المثبت ، فلا بدّ من نفي الحكم بالأصل كما في الأمثلة المذكورة.

وحينئذ لا يجوز أن يقال في المثال الأوّل : (الأصل عدم وجوب الاجتناب عنه ، فإنّه

٢٠٣

عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا ، أو عدم تقدّم الكرّيّة ، حيث يعلم بحدوثها على ملاقاة النجاسة ، فإنّ إعمال الاصول يوجب الاجتناب عن الإناء الآخر أو الملاقي أو الماء.

أقول : توضيح الكلام في هذا المقام :

____________________________________

يوجب الحكم بوجوب الاجتناب عن الآخر) فيكون مثبتا ولا يجوز العمل به ، بل يعمل بقاعدة الشبهة المحصورة التي تقتضي وجوب الاحتياط والاجتناب عن كلا الإنائين المشتبهين.

وكذا لا يجوز في المثال الثاني أن يقال : الأصل (عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا) فيما إذا كان هناك ماء قليل ثمّ زيد عليه مقدار ماء حتى شكّ في كرّيّته ، ثمّ لاقى نجسا ، لأنّ إجراء أصالة عدم بلوغ الكرّيّة موجب لوجوب الاجتناب ، فيكون مثبتا ولا يجوز العمل به ، بل تجري أصالة الطهارة كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، وهكذا تجري أصالة الطهارة في المثال الثالث. هذا تمام الكلام في بيان وجه الشرط الأوّل.

(أقول : توضيح الكلام في هذا المقام).

من هنا يبدأ المصنّف قدس‌سره في ذكر قسمين من أقسام ترتّب الحكم الإلزامي من جهة اخرى على جريان الأصل تمهيدا لردّ ما ذكره الفاضل التوني قدس‌سره ، والأولى لنا أن نبيّن صور ترتّب الإلزام من جهة اخرى على جريان الأصل إجمالا حتى يتّضح ما يأتي في كلام المصنّف قدس‌سره تفصيلا ، فنقول :

إنّ ترتّب الحكم الإلزامي على الأصل يتصوّر على أقسام :

منها : أن يكون ترتّب الإلزام على الأصل كترتّب المسبّب على السبب ، بأن يكون الأصل مثبتا لموضوع الحكم الإلزامي ، ولو من جهة رفع المانع عنه.

ومنها : أن يكون الترتّب المذكور من باب الملازمة الناشئة عن العلم الإجمالي ، بمعنى أن لا يكون بينهما ترتّب ذاتا أصلا لا شرعا ولا عقلا ولا عادة ، إلّا أنّ العلم الإجمالي أوجب الترتّب المذكور ، كما ترى ذلك في مثال العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين حيث أوجب ترتّب وجوب الاجتناب عن أحدهما على أصالة عدم وجوب الاجتناب عن الآخر ، وترتّب نجاسة أحدهما على طهارة الآخر ، ولو لا العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما لم يكن هناك ترتّب بين نجاسة أحدهما وطهارة الآخر بحسب الواقع.

٢٠٤

إنّ إيجاب العمل بالأصل لثبوت حكم آخر ؛ إمّا بإثبات الأصل المعمول به لموضوع انيط به حكم شرعي ، كأن يثبت بالأصل براءة ذمّة الشخص الواجد لمقدار من المال واف بالحجّ من الدّين ، فيصير بضميمة أصالة البراءة مستطيعا ، فيجب عليه الحجّ ، فإنّ الدّين مانع عن الاستطاعة ، فيدفع بالأصل ويحكم بوجوب الحجّ بذلك المال ، ومنه المثال الثاني ، فإنّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا يوجب الحكم بقلّته التي انيط بها الانفعال.

____________________________________

ومنها : أن يكون الترتّب بينهما عقليّا كترتّب وجوب المهمّ على عدم وجوب الأهمّ ، بناء على القول باستحالة الترتّب ، وحينئذ لو فرض ترخيص الشارع ترك الأهمّ ولو ظاهرا ، كان المهمّ واجبا عقلا. هذا تمام الكلام في بيان صور ترتّب الإلزام على الأصل ، إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره اكتفى بذكر القسم الأوّل والثاني.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى القسم الأوّل بقوله :

(إنّ إيجاب العمل بالأصل لثبوت حكم آخر ؛ إمّا بإثبات الأصل المعمول به لموضوع انيط به حكم شرعي ، كأن يثبت بالأصل براءة ذمّة الشخص الواجد لمقدار من المال واف بالحجّ من الدّين ، فيصير بضميمة أصالة البراءة مستطيعا ، فيجب عليه الحجّ ، فإنّ الدّين مانع عن الاستطاعة ، فيدفع بالأصل) فيكون الأصل مثبتا لموضوع وجوب الحجّ وهو الاستطاعة ، لأنّها تحصل بوجود المقتضي ، أعني : المال ، وعدم المانع وهو الدين ، والأوّل موجود بالوجدان ، والثاني يثبت بالأصل.

ومن هنا يعلم أنّ المراد بالموضوع ليس خصوص تمام ما يترتّب عليه الحكم الشرعي ، بل أعمّ ممّا له المدخليّة فيه ولو بنحو الجزئيّة أو الشرطيّة.

(ويحكم بوجوب الحجّ بذلك المال ، ومنه المثال الثاني ، فإنّ أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا يوجب الحكم بقلّته التي انيط بها الانفعال).

لأنّ الحكم بالانفعال والنجاسة مترتّب في الأدلّة على الماء القليل ، أي : غير الكرّ ، كما أنّ الحكم بعدمها مترتّب على كون الماء كرّا ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء) (١) حيث إنّه يدلّ بالمنطوق على عدم الانفعال بمجرّد الملاقاة إذا كان كرّا ،

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ / ١. الفقيه ١ : ٨ / ١٢. التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩. الاستبصار ١ : ٦ / ١. الوسائل ١ : ١٥٨ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ١.

٢٠٥

وإمّا لاستلزام نفي الحكم به حكما يستلزم عقلا ، أو شرعا ، أو عادة ولو في هذه القضيّة الشخصيّة لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين.

فإن كان إيجابه للحكم على الوجه الأوّل ـ كالمثال الثاني ـ فلا يكون ذلك مانعا عن

____________________________________

وبالمفهوم على الانفعال بمجرّدها إذا كان غير كرّ. هذا تمام الكلام في القسم الأوّل.

وقد أشار المصنّف قدس‌سره إلى القسم الثاني بقوله : (وإمّا لاستلزام نفي الحكم به حكما يستلزم عقلا ، أو شرعا ، أو عادة).

والأوّل : كما في دوران الأمر بين المحذورين ، لأنّ نفي أحد الضدّين ملازم عقلا لإثبات الضدّ الآخر في الضدّين اللذين لا ثالث لهما.

والثاني : كما في الظهر والجمعة حيث أوجب الشارع أحدهما يوم الجمعة ، فنفي وجوب أحدهما ملازم شرعا لوجوب الآخر.

والثالث : كأصالة عدم تقدّم الكرّيّة الملازم عادة لتأخّر الموجب لوجوب الاجتناب.

(ولو في هذه القضية الشخصيّة).

أي : سواء كانت الملازمة كلّية كالأمثلة المتقدّمة ، أو اتفاقيّة جزئيّة كما في مثال الإناءين ، فإنّه قد تتّفق نجاسة أحدهما ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف.

و (لثبوت حكم تكليفي في ذلك المورد) ، كما في أصالة عدم تقدّم الكرّيّة المستلزم لنجاسة هذا الماء (أو في مورد آخر ، كنفي وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين) المستلزم لوجوب الاجتناب عن الآخر ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي. هذا تمام الكلام في القسم الثاني.

ثمّ ردّ المصنّف قدس‌سره كلام الفاضل التوني قدس‌سره على التقديرين ، حيث أشار إلى ردّ كلامه على التقدير الأوّل بقوله : (فإن كان إيجابه للحكم) الإلزامي المترتّب على الأصل (على الوجه الأوّل) ، بأن يكون ترتّب الحكم الإلزامي على الأصل كترتّب المسبّب على السبب ، كترتّب وجوب الحجّ على أصالة عدم المانع وهو الدّين في مثال الاستطاعة ، وترتّب وجوب الاجتناب عن الملاقي للنجس على أصالة عدم بلوغ الملاقي للنجاسة كرّا في المثال الثاني.

٢٠٦

جريان الأصل ، لجريان أدلّته من العقل والنقل من غير مانع.

ومجرّد إيجابه حكما وجوديّا آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلّته ، كما لا يخفى على من تتبّع

____________________________________

(فلا يكون ذلك مانعا عن جريان الأصل ، لجريان أدلّته من العقل والنقل من غير مانع).

أمّا جريان دليل العقل ، فلحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان عند الشكّ في الدّين مثلا ، من دون فرق بين ترتّب وجوب الحجّ على عدم الدّين ، وبين عدم ترتّبه عليه.

وأمّا جريان النقل ، فلشمول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رفع ما لا يعلمون) (١) للمقام ، لأنّ وجوب الدّين ممّا لا يعلمون ، وكذا بناء العقلاء بالحكم بالعدم عند الشكّ في الحدوث ، فلا مانع من جريان الأصل إلّا توهّم تعارض أصالة عدم وجوب الدّين بأصالة عدم وجوب الحجّ.

فيقال في دفع هذا التوهّم بتقديم أصالة عدم الدّين أو عدم وجوبه على أصالة عدم وجوب الحجّ ، وذلك لتقدّم الأصل السببي على الأصل المسبّبي ، والأصل في جانب الحجّ مسبّبي لكون الشكّ في وجوبه مسبّب عن الشكّ في وجوب الدّين ، فإذا حكم بعدم وجوب أداء الدّين من جهة أصل البراءة حكم بوجوب الحجّ أيضا ، ولا يجري عدم الوجوب فيه ، لتقدّم الأصل السببي على المسبّبي.

لا يقال : إنّ أصل عدم وجوب الدّين ، أو أصل عدم المانعيّة مثبت لكونه موجبا لثبوت الاستطاعة ثمّ يترتّب عليها وجوب الحجّ ، ومن المعلوم أنّ الأصل المثبت ليس بحجّة ، فإنّه يقال : إنّ الاستطاعة عبارة عن وجود المال الوافي بالحجّ مع عدم ثبوت الدّين ، والأوّل ثابت بالوجدان والثاني بالأصل ، فلا يكون الأصل مثبتا لترتّب وجوب الحجّ على ثبوتهما معا لا على ثبوت عدم الدّين فقط كي يكون مثبتا.

وبعبارة اخرى : إنّ الاستطاعة ليست شيئا في طول المال الوافي وعدم الدّين ، لكي يثبت بعد إحرازهما موضوع الاستطاعة ، فيجب الحجّ حتى يكون ترتّب وجوبه مع الواسطة ، بل هي عبارة اخرى عن ثبوتهما فيكون ترتّب وجوب الحجّ بلا واسطة كما في التعليقة.

وبالجملة ، إنّ ما ذكره الفاضل التوني قدس‌سره من عدم جريان الأصل لكونه مثبتا غير صحيح

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الخصال ٢ : ٤١٧ / ٩. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب ٥٦ ، ح ١.

٢٠٧

الأحكام الشرعيّة والعرفيّة.

ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع ، فإذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الإباحة بحيث لو كان محرّم الاستعمال لم تجب الصلاة لفقد الطهورين ، فلا مانع من إجراء أصالة الحلّ وإثبات كونه واجدا للطهور ، فتجب عليه الصلاة. ومثاله العرفي ما إذا قال المولى لعبده : إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا ، فإنّ العقلاء يوجبون عليه الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شيء على نفسه من قبل المولى.

وإن كان على الوجه الثاني الراجع إلى وجود العلم الإجمالي بثبوت حكم مردّد بين

____________________________________

(ومجرّد إيجابه حكما وجوديا آخر لا يكون مانعا عن جريان أدلّته ، كما لا يخفى على من تتبّع الأحكام الشرعيّة) حيث يعلم بأنّه لم يقل أحد بعدم جريان البراءة عن الدّين فيما لزم منها وجوب الحجّ.

والحاصل : إنّ الأصل يجري دائما أو غالبا في شرط الموضوع أو قيده أو مانعة ، ولا يجري في ذات الموضوع ، فلو لم نقل بجريان الأصل في هذه الموارد لكانت موارد جريان الاصول نادرة إن لم نقل بكونها غير موجودة ، ومن هنا يعلم أنّ إثبات جزء الموضوع أو قيده بالأصل لا يكون مانعا عن جريانه.

(ومرجعه في الحقيقة إلى رفع المانع).

بمعنى : إنّه إذا حكم بعدم الدّين بأصل البراءة يرتفع مانع وجوب الحجّ وهو الدّين.

(فإذا انحصر الطهور في ماء مشكوك الإباحة بحيث لو كان محرّم الاستعمال لم تجب الصلاة لفقد الطهورين ، فلا مانع من إجراء أصالة الحلّ وإثبات كونه واجدا للطهور) بعد ارتفاع المانع بإجراء أصالة الحلّ (فتجب عليه الصلاة ، ومثاله العرفي ما إذا قال المولى لعبده : إذا لم يكن عليك شغل واجب من قبلي فاشتغل بكذا ، فإنّ العقلاء يوجبون الاشتغال بكذا إذا لم يعلم بوجوب شيء على نفسه من قبل المولى) فيبنون على عدم وجوب شيء آخر ، ويرتفع به المانع عن وجوب الاشتغال بما هو مطلوب للمولى ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف. هذا تمام الكلام فيما إذا كان ترتّب الحكم الإلزامي على الأصل على الوجه الأوّل.

ثمّ أشار قدس‌سره إلى ما إذا كان ترتّب الإلزام على الأصل على الوجه الثاني بقوله :

٢٠٨

حكمين ، فإن اريد بإعمال الأصل في نفي أحدهما إثبات الآخر ، ففيه :

إنّ مفاد أدلّة أصل البراءة مجرّد نفي التكليف دون إثباته ، وإن كان الإثبات لازما واقعيّا لذلك النفي ، فإنّ الأحكام الظاهريّة إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلّتها ولا يتعدّى إلى أزيد منه بمجرّد ثبوت الملازمة الواقعيّة بينه وبين ما ثبت ، إلّا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر ، كما ذكرنا في مثال براءة الذمّة عن الدّين والحجّ ، وسيجيء توضيح ذلك في باب تعارض الاستصحابين.

____________________________________

(وإن كان على الوجه الثاني)

بأن يكون ترتّب الحكم الإلزامي على الأصل من جهة الملازمة الناشئة من العلم الإجمالي ، كالعلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين ، هذا هو المقصود من قوله : (وإن كان على الوجه الثاني الراجع إلى وجود العلم الإجمالي بثبوت حكم مردّد بين حكمين) إلّا أنّ عبارة المصنّف قدس‌سره قاصرة لعدم شمولها الإناءين المشتبهين لكونهما من قبيل دوران الأمر في حكم بين عروضه لأحد موضوعين ، وحينئذ فلو قال بثبوت حكم مردّد بين موضوعين كان أولى ، كما في الأوثق بتصرّف.

(فإن اريد بإعمال الأصل في نفي أحدهما إثبات الآخر).

بأن يراد من إجراء أصالة عدم تقدّم الكرّيّة على الملاقاة إثبات تقدّم الملاقاة عليها ووجوب الاجتناب عن الماء ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(ففيه : إنّ مفاد أدلّة أصل البراءة) وكذلك أصل العدم (مجرّد نفي التكليف دون إثباته) أي : التكليف من جهة اخرى ، فكلام الفاضل التوني قدس‌سره صحيح في هذا الفرض ، لأنّ إثبات التكليف من جهة اخرى لازم عقلي للأصل فيكون مثبتا وليس بحجّة ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فإنّ الأحكام الظاهريّة إنّما تثبت بمقدار مدلول أدلّتها).

ومن المعلوم أنّ مدلول أدلّة أصل البراءة هو نفي التكليف فقط دون إثباته من جهة اخرى ، وهذا بخلاف الطرق والأمارات حيث مثبتاتها ولوازمها العقليّة حجّة. فلو قامت البيّنة على عدم تقدّم الكرّيّة تثبت بها بنجاسة الماء ، ولا تثبت بأصالة العدم (إلّا أن يكون الحكم الظاهري الثابت بالأصل موضوعا لذلك الحكم الآخر) فيترتّب الحكم الآخر على

٢٠٩

وإن اريد بإعماله في أحدهما مجرّد نفيه دون الإثبات ، فهو جار ، إلّا أنّه معارض بجريانه في الآخر.

فاللازم إمّا إجراؤه فيهما ، فيلزم طرح ذلك العلم الإجمالي لأجل العمل بالأصل ، وإمّا إهماله فيهما ، فهو المطلوب.

وإمّا إعمال أحدهما بالخصوص فترجيح بلا مرجّح.

نعم ، لو لم يكن العلم الإجمالي في المقام ممّا يضرّ طرحه لزم العمل بهما ، كما تقدّم أنّه أحد الوجهين فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم.

____________________________________

الموضوع الثابت بالأصل ، لأنّ ترتّب الحكم على موضوعه بعد ثبوته بالأصل بديهي ، كما عرفت في القسم الأوّل.

(وإن اريد بإعماله في أحدهما مجرّد نفيه دون الإثبات) بأن يراد بأصالة عدم وجوب الاجتناب عن أحد الإناءين شربه والتوضّؤ به ، دون إثبات نجاسة الآخر ووجوب الاجتناب عنه (فهو جار ، إلّا أنّه معارض بجريانه في الآخر).

ويفهم من هذا الكلام أنّ عدم جريان الأصل في الشبهة في أحد أطرافها لأجل المعارضة ، وهو أحد المسلكين الذي سلكه المحقّق القمّي رحمه‌الله وغيره.

إلّا أنّ التحقيق عند المصنّف قدس‌سره عدم جريانه من أوّل الأمر لمكان العلم الإجمالي ، حيث إنّه قدس‌سره فهم كون المراد بالعلم المأخوذ غاية لأصل البراءة والحلّية هو الأعمّ من الإجمالي والتفصيلي ، كما في شرح التنكابني بتوضيح منّا.

(وإمّا إعمال أحدهما بالخصوص فترجيح بلا مرجّح) من دون حاجة إلى الشرح والتوضيح ، وإمّا إعمال أحدهما على نحو التخيير فهو مبني على كون المتعارضين حجّة من باب السببيّة لا الطريقيّة ، كما يأتي في بحث التعادل والترجيح ، فسقوط الأصلين من الطرفين ليس إلّا لعدم شمول أدلّة الاعتبار لهما ، فحينئذ لا يكون سقوط العمل بالأصل في المقام لأجل المانع والمعارض ، بل لعدم المقتضي لاعتباره ، كما في بحر الفوائد بتوضيح وتلخيص منّا.

(نعم ، لو لم يكن العلم الإجمالي في المقام) وهو ما لم يراد بالأصل إثبات حكم آخر(ممّا يضرّ طرحه) من جهة عدم لزوم المخالفة العمليّة من طرح العلم الإجمالي وعدم قدح

٢١٠

وكيف كان ، فسقوط العمل بالأصل في المقام لأجل المعارض ، ولا اختصاص لهذا الشرط بأصل البراءة ، بل يجري في غيره من الاصول والأدلّة.

ولعلّ مقصود صاحب الوافية ذلك ، وقد عبّر هو رحمه‌الله عن هذا الشرط في باب الاستصحاب بعدم المعارض.

وأمّا أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا ، فقد عرفت أنّه لا مانع من استلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي ، فإنّه نظير أصالة البراءة من الدين المستلزم لوجوب الحجّ.

وقد فرّق بينهما المحقّق القمّي رحمه‌الله ، حيث اعترف «بأنّه لا مانع من إجراء البراءة في الدين

____________________________________

المخالفة الالتزاميّة (لزم العمل بهما) ، أي : بالأصلين (كما تقدّم أنّه أحد الوجهين فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والتحريم) والوجه الآخر عدم جريانه أصلا ، ولزوم التخيير كما في شرح الاعتمادي.

(وكيف كان ، فسقوط العمل بالأصل في المقام) ، أي : فيما لم يراد به إثبات شيء آخر ، بل اريد منه مجرّد النفي (لأجل المعارض) لا لما ذكره الفاضل التوني قدس‌سره من أنّ اعتبار هذه الاصول إنّما هو لنفي الشيء لا لإثبات شيء آخر ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

فالحاصل ، هو اعتبار انتفاء المعارض في العمل بأصل البراءة (ولا اختصاص لهذا الشرط) ، أي : انتفاء المعارض (بأصل البراءة ، بل يجري في غيره من الأصول والأدلّة ، ولعلّ مقصود صاحب الوافية) ، أي : الفاضل التوني قدس‌سره من الشرط المذكور هو انتفاء المعارض بقرينة أنّه قد عبّر في باب الاستصحاب بعدم المعارض.

وبالجملة ، إنّ ما يرد عليه :

أوّلا : هو عدم اختصاص هذا الشرط بأصل البراءة.

وثانيا : عدم جريانه في جميع الأمثلة المذكورة ، فإنّ أصل العدم في بعضها ـ كأصالة عدم وجوب أداء الدين في مثال الاستطاعة ـ أصل سببي يتقدّم على الأصل المسبّبي وهو عدم وجوب الحجّ ، كما عرفت.

(وأمّا أصالة عدم بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا ، فقد عرفت أنّه لا مانع من استلزام جريانها الحكم بنجاسة الملاقي ، فإنّه نظير أصالة البراءة من الدين المستلزم لوجوب الحجّ) ، إذ بالأصل يحرز موضوع الحكم فيترتّب عليه الحكم.

٢١١

وإن استلزم وجوب الحجّ ، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرّيّة ، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء ، ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلا.

ثمّ إنّ مورد الشكّ في البلوغ كرّا الماء المسبوق بعدم الكرّيّة. وأمّا المسبوق بالكرّيّة ، فالشكّ في نقصانه من الكرّيّة ، والأصل هنا بقاؤها. ولو لم يكن مسبوقا بحال ، ففي الرجوع

____________________________________

(وقد فرّق بينهما) ، أي : بين أصالة بلوغ الماء الملاقي للنجاسة كرّا وبين أصالة البراءة من الدين (المحقّق القمّي رحمه‌الله ، حيث اعترف بأنّه لا مانع من إجراء البراءة في الدين وإن استلزم وجوب الحجّ ، ولم يحكم بنجاسة الماء مع جريان أصالة عدم الكرّيّة ، جمعا بينها وبين أصالة طهارة الماء).

وحاصل الفرق المذكور ، كما في التنكابني وشرح الاستاذ الاعتمادي ، هو إجراء البراءة من الدين والحكم بوجوب الحجّ في المثال الثاني ، وإجراء أصالة عدم بلوغ الكرّيّة في المثال الأوّل ، إلّا أنّه لم يحكم بنجاسة الماء والاجتناب عمّا لاقاه ، لمعارضته باستصحاب طهارة الماء وطهارة الملاقي ، بل جمع بين أصالة عدم البلوغ وأصالة الطهارة ، حيث حكم بعدم جواز غسل الثوب النجس بالماء بمقتضى أصالة عدم الكرّيّة وبعدم وجوب الاجتناب عنه ووجوب التوضؤ به ، فلا يجوز التيمّم بمقتضى أصالة الطهارة.

ومن هنا يظهر أنّ ما ذكره الاستاذ الاعتمادي في وجه الجمع بين الأصلين ـ من جواز غسل الثوب النجس به ، لأنّه أثر طهارة الماء ، وعدم جواز إدخاله فيه ، لأنّه أثر عدم الكرّيّة ـ لا يرجع إلى محصّل صحيح ، فتأمّل. هذا تمام الكلام في الفرق بين الأصلين.

ثمّ يردّ المصنّف قدس‌سره هذا الفرق بقوله :

(ولم يعرف وجه فرق بينهما أصلا).

لأنّه فرّق بين شيئين لا فرق بينهما ، هذا مع عدم الحاجة إلى الجمع المذكور ، لعدم التعارض بين الأصل السببي والمسبّبي.

(ثمّ إنّ مورد الشكّ في البلوغ كرّا الماء المسبوق بعدم الكرّيّة) لما عرفت في المثال السابق من أنّه مجرى أصالة عدم البلوغ ، ثمّ الحكم بتنجّس الماء المسبوق بعدم الكرّيّة.

(وأمّا المسبوق بالكرّيّة فالشكّ في نقصانه من الكرّيّة) ، أي : الشكّ المتصوّر في الماء المسبوق بالكرّيّة هو الشكّ في نقصانه بعد أخذ مقدار الماء منه ، ومقتضى (الأصل هنا

٢١٢

إلى طهارة الماء للشكّ في كون ملاقاته مؤثّرة في الانفعال ، فالشكّ في رافعيّتها للطهارة ، أو إلى النجاسة ، لأنّ الملاقاة مقتضية للنجاسة ، والكرّيّة مانعة عنها بمقتضى قوله عليه‌السلام : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) (١) ونحوه ، ممّا دلّ على سببيّة الكرّيّة ، لعدم الانفعال المستلزمة لكونها مانعة عنه ، والشكّ في المانع في حكم العلم بعدمه ، وجهان.

وأمّا أصالة عدم تقدّم الكرّيّة على الملاقاة ، فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة

____________________________________

بقاؤها) ، أي : بقاء الكرّيّة والحكم بالطهارة.

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى ما لم يعلم فيه الحالة السابقة أو لم يكن مسبوقا بحال بقوله : (ولو لم يكن مسبوقا بحال) بأن أخذ من البحر مقدارا من الماء دفعة ولم يعلم مقداره ثمّ لاقى نجسا ، ففي الرجوع إلى طهارة الماء أو إلى النجاسة وجهان ، والوجه لكلّ واحد من الرجوع إلى الطهارة أو النجاسة مذكور في المتن تفصيلا.

وحاصل وجه الرجوع إلى طهارة الماء ، هو أنّ القلّة شرط لانفعال الماء بالملاقاة ، وحينئذ يكون الشكّ في كون الماء الموجود قليلا أو كثيرا موجبا للشكّ في كون الملاقاة رافعة للطهارة ، فيرجع ـ حينئذ ـ إلى قاعدة الطهارة أو استصحابها ، ويحكم بطهارة الماء.

وحاصل وجه الرجوع إلى النجاسة ، هو أنّ الكثرة والكرّيّة مانعة عن الانفعال ، كما يدلّ عليه قوله عليه‌السلام : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء) فالشكّ في الكثرة والكرّيّة شكّ في وجود المانع ، فيبنى على عدمه ، ويحكم بتأثير المقتضي للنجاسة وهي الملاقاة ، فيحكم بالنجاسة.

وبعبارة اخرى ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي حيث قال : فوجه الطهارة أنّ الملاقاة ليست علّة للتنجّس ، بل لا بدّ من العلم بعدم المانع ، ولا يكفي عدم العلم بالمانع ، وأصالة عدم المانع أصل مثبت لأنّه لا يثبت أنّ هذا الماء ليس بكر ، فيرجع إلى قاعدة الطهارة واستصحابها ، ووجه التنجّس أنّ الملاقاة مقتضية للنجاسة والمانع وهو الكرّيّة غير معلوم ، وعدم العلم بالمانع في قوّة العلم بعدم المانع بمقتضى طريقة العقلاء ، فيعمل على طبق المقتضي ويحكم بالنجاسة.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٢ / ١. الفقيه ١ : ٨ / ١٢. التهذيب ١ : ٤٠ / ١٠٩. الاستبصار ١ : ٦ / ١. الوسائل ١ : ١٥٨ ، أبواب الماء المطلق ، ب ٩ ، ح ١.

٢١٣

بالعدم حتى يجري فيه الأصل.

نعم ، نفس الكرّيّة حادثة ، فإذا شكّ في تحقّقها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها ، وهذا معنى عدم تقدّم الكرّيّة على الملاقاة ، لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرّيّة ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّيّة فيتعارضان ، ولا وجه لما ذكره من الأصل.

وقد يفصّل فيها بين ما كان تاريخ واحد من الكرّيّة والملاقاة معلوما ، فإنّه يحكم بأصالة تأخّر المجهول ، بمعنى عدم ثبوته في زمان يشكّ في ثبوته فيه ، فيلحقه حكمه

____________________________________

(وأمّا أصالة عدم تقدّم الكرّيّة على الملاقاة) في المثال الثالث من الأمثلة المذكورة (فهو في نفسه ليس من الحوادث المسبوقة بالعدم حتى يجري فيه الأصل) ، بل التقدّم والتأخّر والتقارن امور منتزعة عن وجود شيء في وقت لم يوجد فيه آخر ، أو عن عدم وجود شيء في زمان وجد فيه آخر ، أو عن وجود شيء في زمان آخر.

ومن المعلوم أنّ حدوث الأمر الانتزاعي تابع لحدوث منشأ انتزاعه ، فلا يجري فيه الأصل ، كأن يقال : الأصل عدم تقدّم الشيء الفلاني ، بل يجري في منشأ انتزاعه ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(نعم ، نفس الكرّيّة حادثة ، فإذا شكّ في تحقّقها حين الملاقاة حكم بأصالة عدمها ، وهذا معنى) أصالة (عدم تقدّم الكرّيّة على الملاقاة ، لكن هنا أصالة عدم حدوث الملاقاة حين حدوث الكرّيّة ، وهو معنى عدم تقدّم الملاقاة على الكرّيّة فيتعارضان).

وحاصل الكلام في ردّ الفاضل التوني قدس‌سره كما في شرح الاعتمادي : إنّ الفاضل التوني قدس‌سره تخيّل بأنّ المانع من إجراء أصالة عدم تقدّم الكرّيّة هو لزوم ثبوت التكليف من جهة اخرى ، وردّه المصنّف قدس‌سره بأنّه لا مانع من إجرائه من هذه الجهة ، وإنّما المانع هو تعارضه بأصل آخر فيتساقطان ويجيء فيه الوجهان المتقدّمان للطهارة والنجاسة.

(ولا وجه لما ذكره من الأصل).

أي : من جريان الأصل ، لكن لا لما ذكره من ثبوت الإلزام من جهة اخرى ، بل من جهة التعارض.

(وقد يفصّل فيها) ، أي : في مسألة أصالة عدم تقدّم الكرّيّة (بين ما كان تاريخ واحد من الكرّيّة والملاقاة معلوما ... إلى آخره).

٢١٤

من الطهارة والنجاسة ، وقد يجهل التاريخان بالكلّية وقضيّة الأصل في ذلك التقارن ، ومرجعه إلى نفي وقوع كلّ منهما في زمان يحتمل وقوعه فيه ، وهو مقتضى ورود النجاسة على ما هو كرّ حال الملاقاة فلا يتنجّس به» انتهى.

____________________________________

أقول : إنّ المفصّل هو صاحب الفصول قدس‌سره وحاصل الكلام في هذا التفصيل هو أنّ المثال المذكور لا يخلو من احتمالين :

الأوّل : أن يكون تاريخ أحدهما معلوما.

وثانيهما : أن يكون تاريخ كليهما مجهولا.

ثمّ إنّ الأقوال في الاحتمال الأوّل ثلاثة :

أحدها : إثبات تأخّر المجهول بالأصل ، وترتيب آثاره عليه ، كما ذهب إليه المفصّل.

وثانيها : عدم إجراء الأصل فيه أصلا.

وثالثها : إجراء الأصل في طرف المعلوم أيضا ، وجعله معارضا للأصل في طرف المجهول ، كما ذهب إليه صاحب الفصول قدس‌سره من جريان الأصل في جانب المجهول دون المعلوم لعدم الشكّ فيه ، فيثبت بالأصل تأخّر المجهول (فيلحقه حكمه) ، أي : فيلحق تأخّر المجهول حكمه (من الطهارة) إن كان المجهول هو الملاقاة (والنجاسة) إن كان المجهول هو الكرّيّة.

ثمّ أشار المصنّف قدس‌سره إلى الاحتمال الثاني بقوله :

(وقد يجهل التاريخان بالكلّية).

وهذا الاحتمال لا يخلو من أحد أمرين :

أحدهما : هو انتفاء احتمال التقارن.

وثانيهما : احتمال التقارن.

فعلى الأوّل يتعارض الأصلان ويجيء الوجهان المتقدّمان للنجاسة والطهارة.

وعلى الثاني يجري الأصلان ويثبت بهما التقارن ، فيحكم بالطهارة ، إذ لازم التقارن هو الملاقاة حال الكرّيّة.

وحاصل التفصيل أنّ الحكم فيما إذا كان تاريخ أحدهما معلوما يختلف حسب فرض ما هو المجهول ، كما عرفت ، وفيما إذا كان تاريخ كليهما مجهولا هو الطهارة فقط.

٢١٥

وفيه : إنّ تقارن ورود النجاسة والكرّيّة موجب لانفعال الماء ، لأنّ الكرّيّة مانعة عن الانفعال بما يلاقيه بعد الكرّيّة على ما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) ، فإنّ الضمير المنصوب راجع إلى الكرّ المفروض كرّيّته ، فإذا حصلت الكرّيّة حال الملاقاة كان المفروض الملاقاة غير كرّ ، فهو نظير ما إذا حصلت الكرّيّة بنفس الملاقاة فيما إذا تمّم الماء النجس كرّا بطاهر ، والحكم فيه النجاسة.

____________________________________

(وفيه) ، أي : يرد فيما ذكر من التفصيل والحكم بالطهارة في مجهولي التاريخ بعد إثبات التقارن بالأصل :

أوّلا : إنّ التقارن من الامور الحادثة المسبوقة بالعدم ، فيمكن استصحاب عدمه.

وثانيا : إنّ إثبات التقارن باستصحاب عدم تقدّم كلّ من الحادثين على الآخر لا يتمّ إلّا على القول بالاصول المثبتة ، وذلك لأنّ التقارن ليس من اللوازم الشرعيّة ، حتى لا يكون الاستصحاب المذكور مثبتا.

وثالثا : ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إنّ تقارن ورود النجاسة والكرّيّة موجب لانفعال الماء).

لأنّ علّة الحكم بعدم الانفعال إنّما هو الكرّيّة فلا بدّ من تحقّقها قبل الملاقاة حتى تكون مانعة عن الانفعال ، فالكرّيّة مانعة عنه بشرط أن تكون الملاقاة (بعد الكرّيّة على ما هو مقتضى قوله عليه‌السلام : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجسه شيء) ، فإنّ الضمير المنصوب راجع إلى الكرّ المفروض كرّيّته) حيث فرض في عدم التنجّس أوّلا كون الماء كرّا.

وتوضيح الكلام في هذا المقام كما في شرح الاستاذ الاعتمادي ، هو أنّهم اختلفوا في أنّ التقارن أمر عدمي ، أعني : عدم تقدّم أحد الشيئين على الآخر ، أو وجودي في مقابل التقدّم والتأخّر ، وعلى التقديرين فهل هو ملحق بصورة تقدّم الكرّيّة أو تقدّم الملاقاة؟.

استدلّ للأوّل بأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام : (إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء) هو سببيّة وجود الكر لعدم التنجّس ، والسبب المقارن كالمتقدّم في المانعيّة ، فصورتي التقارن وتقدّم الكرّيّة داخلتان في منطوق قوله عليه‌السلام : (إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء).

واستدلّ للثاني بأنّ ضمير(لم ينجّسه) يرجع إلى الماء المفروض كرّا ، حيث فرض أوّلا كون الماء كرّا حيث قال عليه‌السلام : (الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء) فالمانع هو سبق الكرّيّة ،

٢١٦

إلّا أنّ ظاهر المشهور في ما نحن فيه الحكم بالطهارة ، بل ادّعى المرتضى قدس‌سره عليه الإجماع ، حيث استدلّ بالإجماع على طهارة كرّ رأى فيه نجاسة لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّيّة ، على كفاية تتميم النجس كرّا في زوال نجاسته.

____________________________________

والتقارن كتقدّم الملاقاة داخل في المفهوم ، ففي صورة الشكّ في المتقدّم والمتأخّر إن قلنا بأنّ التقارن أمر وجودي غير خفي ، فلا يثبت بالأصلين ، بل تتعارض الاصول الثلاثة فيجيء الوجهان المتقدّمان للطهارة والنجاسة ، وإن قلنا بأنّه أمر عدمي ، أو واسطة خفيّة ، فهو يثبت بالأصلين ، وحينئذ إن لحق بصورة سبق الكرّيّة ، كما قال المفصّل يحكم بالطهارة ، وإن لحق بصورة سبق الملاقاة ، كما قال المصنّف قدس‌سره يحكم بالنجاسة (إلّا أنّ ظاهر المشهور في ما نحن فيه الحكم بالطهارة).

ويمكن أن يستدلّ لهم بوجوه أخر كما في الأوثق :

أحدها : أن يكون الحكم بالطهارة تعبّديّا ثابتا بالإجماع على خلاف القاعدة ، كما ادّعاه المرتضى.

وفيه : إنّ ظاهر المشهور ورود الحكم على وفق القاعدة.

وثانيها : أن يكون الحكم مبنيّا على اعتبار الاصول المثبتة ، فبعد تعارض الأصلين يرجع إلى قاعدة الطهارة.

وثالثها : أن تكون القلّة شرطا في الانفعال ، وبعد تعارض الأصلين يحصل الشكّ في تحقّق شرط الانفعال حين الملاقاة ، فيحكم بالطهارة لقاعدتها.

ورابعها : كون الكرّيّة مانعة من الانفعال ، وبعد تعارض الأصلين يحصل الشكّ في تحقّق المانع حين الملاقاة ، فيحكم الطهارة لقاعدتها.

كما تأتي الإشارة إلى ذلك في قول المصنّف قدس‌سره : إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب من إحراز عدم المانع ولو بالأصل محلّ تأمّل.

(حيث استدلّ بالإجماع على طهارة كرّ رأى فيه نجاسة لم يعلم تقدّم وقوعها على الكرّيّة ، على كفاية تتميم النجس كرّا في زوال نجاسته).

أي : استدلّ السيّد المرتضى قدس‌سره على الحكم بالطهارة بكفاية إتمام النجس كرّا ، وذلك بأن زيد على الماء القليل النجس ماء طاهر حتى بلغ الكرّ ، حيث إنّ مناط الحكم بالطهارة

٢١٧

وردّه الفاضلان وغيرهما بأنّ الحكم بالطهارة هنا لأجل الشكّ في حدوث سبب النجس ، لأنّ الشكّ مرجعه إلى الشكّ في كون الملاقاة مؤثّرة لوقوعها قبل الكرّيّة أو غير مؤثّرة.

لكنّه يشكل ، بناء على أنّ الملاقاة سبب للانفعال ، والكرّيّة مانعة ، فإذا علم بوقوع السبب في زمان لم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب.

إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ـ ولو بالأصل ـ محلّ تأمّل ،

____________________________________

في المقام وفي مسألة تتميم النجس كرّا واحد وهو حصول التقارن بين الكرّيّة والملاقاة.

(وردّه الفاضلان وغيرهما ... إلى آخره).

وحاصل الردّ ، هو الفرق بين المسألتين ، وذلك لأنّ الشكّ في المقام في وجود سبب التنجّس ، وفي مسألة التتميم في وجود سبب التطهير.

وبعبارة اخرى : المقصود في المقام هو دفع النجاسة ، وفي مسألة التيمم هو رفعها ، ولا شكّ في أنّ الدفع أهون من الرفع ، فالحكم بالطهارة في المقام لا يستلزم الحكم بها في مسألة التتميم كرّا ، إلّا أن يقال بأنّ هذا المقدار لا يكفي في الفرق بينهما حكما ، لأنّ الدليل على الحكم بالطهارة الذي هو قاعدة الطهارة موجود في كلا الموردين.

وبالجملة ، إنّ مقتضى القاعدة في ما نحن فيه هو الطهارة ، وفي مسألة التتميم هو النجاسة ، أمّا الأوّل ، فلأنّ الملاقاة إنّما تقتضي النجاسة إذا حصلت قبل الكرّيّة ، وهو مشكوك ، ورفع الطهارة مشكوك فيحكم ببقائها.

وأمّا الثاني ، فلأنّ الشكّ إنّما هو في زوال النجاسة بالتتميم ، فيحكم ببقائها أيضا ، كما في شرح الاعتمادي ، (لكنّه) ، أي : حكم المشهور بالطهارة في المقام (يشكل ، بناء على أنّ الملاقاة سبب للانفعال ، والكرّيّة مانعة ، فإذا علم بوقوع السبب في زمان) و (لم يعلم فيه وجود المانع ، وجب الحكم بالمسبّب) لما عرفت من أنّ الشكّ في المانع في حكم العلم بعدمه ، فلا بدّ من الحكم بالنجاسة في كلتا المسألتين.

(إلّا أنّ الاكتفاء بوجود السبب من دون إحراز عدم المانع ـ ولو بالأصل ـ محلّ تأمّل).

وحاصل التأمّل ، هو أنّ عدم العلم بالمانع لا يكفي في الحكم بعدمه ما لم يحرز عدمه ولو بالأصل ، إذ حينئذ يكون تأثير المقتضي موقوفا على إحراز عدم المانع ، وعدمه في ما نحن فيه غير محرز ، وذلك لأنّ أصالة عدم المانع لا يثبت عدم تقدّم الكرّيّة إلّا على القول

٢١٨

فتأمّل.

الثاني : أن لا يتضرّر بإعمالها مسلم ، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابته ، فإنّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك ، فيحتمل اندراجه في قاعدة الإتلاف وعموم قوله : (لا ضرر ولا ضرار) (١).

فإنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ، وإلّا فالضرر غير منفي ، فلا علم ـ حينئذ ـ ولا ظنّ بأنّ الواقعة غير منصوصة ، فلا يتحقّق شرط التمسّك بالأصل من فقدان النصّ.

____________________________________

بالأصل المثبت ، ولذلك أصبح الحكم بالنجاسة محلّ تأمّل.

(فتأمّل) لعلّه اشارة إلى إرجاع الأمر في عدم المانع إلى بناء العقلاء ، وهو كفاية عدم العلم بالمانع في العمل على طبق المقتضي ، إذ مقتضى طريقتهم هو عدم العلم بالمانع في قوّة العلم بعدمه ، فيحكم بالنجاسة في كلتا المسألتين.

(الثاني : أن لا يتضرّر بإعمالها مسلم ، كما لو فتح إنسان قفص طائر فطار ، أو حبس شاة فمات ولدها ، أو أمسك رجلا فهربت دابته ، فإنّ إعمال البراءة فيها يوجب تضرّر المالك).

قال في الوافية بعد ذكر الأمثلة المذكورة : إنّه لا يصحّ التمسّك ـ حينئذ ـ ببراءة الذمّة عن الضمان ، وذلك لاحتمال اندراج مثل هذه الصور في قوله عليه‌السلام : (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام) أو في ما يدلّ على حكم من أتلف مالا لغيره ، ثمّ إنّ نفي الضرر محمول على نفي الضرر من غير جبران شرعا بالضمان ، ولا يكون المراد منه نفي حقيقة الضرر ، لأنّ حقيقة الضرر بين المسلمين موجودة.

والحاصل : إنّ احتمال النصّ يمنع من التمسّك بالبراءة ، إذ قد عرفت أنّ شرط التمسّك بالأصل هو فقدان النصّ.

قوله : (فإنّ المراد نفي الضرر من غير جبران بحسب الشرع ... إلى آخره).

دفع لما قد يتوهّم من أنّ أدلّة نفي الضرر إنّما تنفي الضرر ، ولا تثبت الضمان.

وملخّص الدفع : إنّ المراد ليس هو نفي الضرر حقيقة ، وذلك لوجود الضرر بين

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٢٤٣ / ٧٧٧. الوسائل ٢٦ : ١٤ ، أبواب موانع الإرث ، ب ١ ، ح ١٠.

٢١٩

بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضارّ ، ولكن لا يعلم أنّه مجرّد التغرير أو الضمان أو هما معا ، فينبغي له تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح.

ويردّ عليه : أنّه إن كانت قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل ، كان دليلا كسائر الأدلّة الاجتهاديّة الحاكمة على البراءة ، وإلّا فلا معنى للتوقف في الواقعة وترك العمل بالبراءة ، ومجرّد احتمال اندراج الواقعة في قاعدة الإتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل ، والمعلوم تعلّقه بالضارّ في ما نحن فيه هو الإثم والتعزير إن كان متعمدا ، وإلّا فلا يعلم

____________________________________

المسلمين فوق حدّ الإحصاء ، بل المراد أنّه لا وجود للضرر بدون الجبران بالضمان ، فإعمال البراءة عن الضمان في الأمثلة المتقدّمة موجب لضرر المالك ، فينفى بقاعدة لا ضرر ، ومعها لا مجال للرجوع إلى الأصل أصلا.

وبالجملة ، إنّ احتمال شمول أدلّة الضمان للموارد المذكورة يمنع من الرجوع إلى البراءة ، فيكون عدم تضرّر شخص آخر بإعمال البراءة شرطا للرجوع إليها. هذا ملخّص كلام الفاضل التوني قدس‌سره في الوافية حيث يستفاد منه اعتبار عدم الضرر في البراءة.

هذا مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي بتعلّق حكم شرعي بالضارّ في الأمثلة المذكورة يقتضي الاشتغال ، فيجب تحصيل العلم بالبراءة ولو بالصلح ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (بل يحصل القطع بتعلّق حكم شرعي بالضارّ ... إلى آخره).

(ويردّ عليه : أنّه إن كانت قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل) ، بأن يكون كلّ من الإتلاف والإضرار موجبا للضمان وإن كان بالتسبيب إذا كان السبب قريبا كما في الأمثلة المذكورة (كان دليلا كسائر الأدلّة الاجتهاديّة الحاكمة على البراءة) وإن لم تكن قاعدة نفي الضرر معتبرة في مورد الأصل ، بأن يفرض كونها مجملة متيقّنة في موارد الإتلاف والإضرار بالمباشرة ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله :

(وإلّا فلا معنى للتوقّف في الواقعة وترك العمل بالبراءة).

وذلك لأنّ مجرّد احتمال اندراج مورد الأمثلة المذكورة (في قاعدة الإتلاف أو الضرر لا يوجب رفع اليد عن الأصل) وإلّا لزم رفع اليد عنها في جميع موارد إجمال الدليل ، ولم يقل به أحد ، فلا يجوز رفع اليد عن البراءة إذن بمجرّد احتمال شمول دليل الإتلاف ونفي الضرر للمورد وإن كان احتمالا مساويا ، نعم ، على تقدير شمولها للأمثلة المذكورة ونحوها

٢٢٠