دروس في الرسائل - ج ٤

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الرسائل - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: ياران
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

وممّا ذكرنا ظهر عدم صحّة الاستدلال بموثّقة عمّار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : (إذا شككت فابن على اليقين) قلت : هذا أصل؟ قال : (نعم) (١).

فإنّ جعل البناء على الأقلّ ينافي ما جعله الشارع أصلا في غير واحد من الأخبار ، مثل

____________________________________

وقد تقدّم ظهور الصحيحة في قاعدة البناء على اليقين بالبراءة فلا يصحّ الاستدلال بها على حجيّة الاستصحاب.

وبالجملة ، إنّ دعوى دلالة قوله عليه‌السلام : (ولا ينقض اليقين بالشكّ) على قاعدتي الاستصحاب والبناء على اليقين بالبراءة ـ الحاصل بالبناء على الأكثر فيعمل بالبناء على الأكثر في مورد الرواية وبقاعدة الاستصحاب في غير مورد الرواية ـ مدفوعة بأنّها مستلزمة لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى مع عدم وجود الجامع ، وهذا بخلاف ما ذكره صاحب الفصول قدس‌سره حيث إنّ كلامه لا يستلزم لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى ، وبذلك يكون هذا الاحتمال الرابع أضعف من الاحتمال الثالث ، ووجه الأضعفيّة هو ما ذكرنا من لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى في هذا الاحتمال الرابع دون الاحتمال الثالث ، فتأمّل.

(وممّا ذكرنا) من ظهور الصحيحة في قاعدة البناء على اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر لا في قاعدة الاستصحاب بالبناء على الأقلّ (ظهر عدم صحّة الاستدلال بموثّقة عمّار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : (إذا شككت فابن على اليقين) قلت : هذا أصل؟ قال : (نعم). فإنّ جعل البناء على الأقلّ) على فرض كون المراد من البناء على اليقين الذي جعل أصلا هو البناء على الأقلّ حتى يكون دليلا على الاستصحاب.

أي : جعل البناء على الأقلّ أصلا في هذه الموثّقة (ينافي ما جعله الشارع أصلا في غير واحد من الأخبار) من البناء على الأكثر ، فيحتمل أن يكون المراد من البناء على اليقين في الموثّقة هو البناء على اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر ثمّ الإتيان بصلاة الاحتياط ، كما يحتمل أن يكون المراد من البناء على اليقين هو الاستصحاب المستلزم للبناء على الأقلّ من باب التقيّة.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٣١ / ١٠٢٥. الوسائل ٨ : ٢١٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ٢.

٣٨١

قوله عليه‌السلام : (أجمع لك السّهو كلّه في كلمتين : متى شككت فابن على الأكثر) (١) ، وقوله عليه‌السلام فيما تقدّم : (ألا أعلّمك شيئا) (٢) إلى آخر ما تقدّم.

فالوجه فيه : إمّا الحمل على التقيّة ، وإمّا ما ذكره بعض الأصحاب في معنى الرواية ، بإرادة البناء على الأكثر ثمّ الاحتياط بفعل ما ينفع لأجل الصلاة على تقدير الحاجة ، ولا يضرّ بها على تقدير الاستغناء.

نعم ، يمكن أن يقال بعدم الدليل على اختصاص الموثّقة بشكوك الصلاة ، فضلا عن الشكّ في ركعاتها ، فهو أصل كلّيّ خرج منه الشكّ في عدد الركعات ، وهو غير قادح.

لكن يرد عليه : عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشكّ ولا المتيقّن السابق على

____________________________________

ومن المعلوم أنّ حمل الموثّقة على الاحتمال الأوّل ـ أي : قاعدة البناء على اليقين بالبراءة ـ أولى من حملها على الاحتمال الثاني وذلك لوجوه :

الأوّل : إنّ الموثّقة ظاهرة في قاعدة البناء على اليقين بالبراءة.

والثاني : إنّها لو لم تكن ظاهرة فيها بنفسها لكانت ظاهرة فيها بقرينة سائر الأخبار الواردة في مقام بيان القاعدة المذكورة ، بالبناء على الأكثر والإتيان بصلاة الاحتياط.

والثالث : إنّ حمل الموثّقة على الاستصحاب والبناء على الأقلّ من باب التقيّة مخالف للأصل ، كما مرّ في الصحيحة الثالثة ، إلّا أن يقال بأن ما ذكر من أولويّة الحمل على قاعدة اليقين بالبراءة إنّما يصحّ في الصحيحة دون الموثّقة ، وذلك لأنّ الصحيحة إنّما وردت في شكوك الركعات ، فإمّا تحمل على التقيّة أو على اليقين بالبراءة فيقال : إنّ حملها على اليقين بالبراءة أولى من حملها على التقيّة.

وهذا بخلاف الموثّقة ، وذلك لعدم ورودها في باب الصلاة إذ لا قرينة لنا على ذلك ، فلا مانع ـ حينئذ ـ من حملها على بيان قاعدة كلّية استصحابيّة ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فهو أصل كلّيّ خرج منه الشكّ في عدد الركعات ، وهو غير قادح).

إذ ما من عامّ إلّا وقد خصّ ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

__________________

(١) الفقيه ١ : ٢٢٥ / ٩٩٢. الوسائل ٨ : ٢١٢ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ١.

(٢) التهذيب ٢ : ٣٤٩ / ١٤٤٨ ، الوسائل ٨ : ٢١٣. أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ٨ ، ح ٣.

٣٨٢

المشكوك اللاحق. فهو أضعف دلالة من الرواية الآتية الصريحة في اليقين السابق ، لاحتمالها لإرادة إيجاب العمل بالاحتياط ، فافهم.

ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : (من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ

____________________________________

(لكن يرد عليه : عدم الدلالة على إرادة اليقين السابق على الشكّ ولا المتيقّن السابق على المشكوك اللاحق).

وحاصل الإيراد ، هو أنّ محلّ الاستصحاب هو سبق المتيقّن على المشكوك دائما وسبق وصف اليقين على وصف الشكّ غالبا ، فهناك أثر دائمي وهو سبق المتيقّن على المشكوك ، وأثر غالبيّ وهو سبق اليقين زمانا على الشكّ ، ولا دلالة للموثّقة عليهما ، فكيف تدلّ على حجيّة الاستصحاب على نحو الأصل الكلّي حتى يقال بخروج ما خرج منه وبقاء الباقي فيه؟

(فهو أضعف دلالة من الرواية الآتية الصريحة في اليقين السابق).

ووجه الأضعفيّة ، هو أنّ الرواية الآتية تدلّ على العلامة الغالبيّة وهو سبق اليقين على الشكّ وإن كانت لا تدلّ على العلامة الدائميّة ، أعني : سبق المتيقّن على المشكوك ، وهذه الرواية لا تدلّ على واحدة منهما ؛ ولذلك تكون أضعف دلالة من الرواية الآتية من هذه الجهة المذكورة.

(لاحتمالها لإرادة إيجاب العمل بالاحتياط).

أي : لاحتمال إرادة تحصيل اليقين بالبراءة بالاحتياط من الموثّقة دون الرواية الآتية ، فلا تحتمل إرادة الاحتياط منها حينئذ ، كما سيصرّح به.

نعم ، تحتمل إرادة قاعدة اليقين والشكّ الساري منها ، كما في شرح التنكابني.

(فافهم) لعلّه إشارة إلى أنّ ما ذكر من احتمال إرادة قاعدة اليقين بالبراءة وإيجاب العمل بالاحتياط من الموثّقة معارض لاحتمال إرادة الاستصحاب منها ، ولا قرينة على تعيين أحدهما على الآخر ، فتكون الموثّقة ـ حينئذ ـ مجملة فلا يصحّ الاستدلال بها على شيء منها.

(ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال أمير

٣٨٣

لا ينقض اليقين) (١). وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : (من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ) (٢). وعدّها المجلسي في البحار في سلك الأخبار التي يستفاد منها القواعد الكلّية.

أقول : لا يخفى أنّ الشكّ واليقين لا يجتمعان حتى ينقض أحدهما الآخر ، بل لا بدّ من اختلافهما ، إمّا في زمان نفس الوصفين ، كأن يقطع يوم الجمعة بعدالة زيد في زمان ثمّ يشكّ يوم السبت في عدالته في ذلك الزمان ، وإمّا في زمان متعلّقهما وإن اتّحد زمانهما ، كأن يقطع يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة ويشكّ في زمان هذا القطع بعدالته في يوم السبت وهذا هو الاستصحاب. وليس منوطا بتعدّد زمان الشكّ واليقين ، كما عرفت في المثال ، فضلا عن تأخّر الأوّل عن الثاني.

وحيث إنّ صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين وظاهرها اتّحاد زمان متعلّقيهما ، تعيّن حملها على القاعدة الاولى.

____________________________________

المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه : (من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ، فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين). وفي رواية اخرى عنه عليه‌السلام : (من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ)).

وتقريب الاستدلال بهاتين الروايتين هو أنّ قوله عليه‌السلام : (فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين) في الرواية الاولى ، وقوله عليه‌السلام : (فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ) في الرواية الثانية يدلّ على حجيّة الاستصحاب ، إذ المستفاد منهما هي قاعدة كلّية عامّة ، بل العموم فيهما أولى وأوضح من العموم في الصحاح المتقدّمة ، وذلك لعدم تطرّق احتمال كون (اللام) للعهد هاهنا ، إذ لم يذكر لليقين والشكّ متعلّق حتى يكون (اللام) إشارة إلى ذلك ، فدلالة هاتين الروايتين على حجيّة الاستصحاب إذن أوضح من دلالة الصحاح المتقدّمة ومع ذلك فقد رجّح المصنّف قدس‌سره احتمال أن يكون المراد منهما قاعدة اليقين دون الاستصحاب ، حيث أشار المصنّف قدس‌سره إلى ترجيح احتمال قاعدة اليقين على قاعدة الاستصحاب بقوله :

(وحيث إنّ صريح الرواية اختلاف زمان الوصفين وظاهرها اتّحاد زمان متعلّقيهما ، تعيّن

__________________

(١) الخصال ٢ : ٦١٩ / ١٠. الوسائل ١ : ٢٤٧ ، أبواب نواقض الوضوء ، ب ١ ، ح ٦.

(٢) الإرشاد (سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد) ١١ / ١ : ٣٠٢. تحف العقول : ١٠٩.

٣٨٤

وحاصلها : عدم العبرة بطروّ الشكّ في شيء بعد اليقين بذلك الشيء.

____________________________________

حملها على القاعدة الاولى).

أي : قاعدة الشكّ الساري ، فلا بدّ أوّلا : من بيان الفرق بين قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب ، وثانيا : من بيان ظهور الرواية في قاعدة الشكّ الساري دون الاستصحاب.

أمّا الفرق بينهما فيحتاج إلى مقدّمة وهي :

إنّ الشكّ واليقين ممّا لا يجتمعان في زمان واحد على متعلّق واحد وذلك لتنافيهما مفهوما ، فوجودهما معا لا يمكن إلّا بالاختلاف والتعدّد من جهة متعلّقيهما أو من جهة زمان الوصفين.

وبعد هذه المقدّمة نقول : إنّ المعتبر في الاستصحاب هو الاختلاف والتعدّد في متعلّق الشكّ واليقين وإن اتّحد زمان الوصفين ، بينما في قاعدة اليقين هو الاختلاف والتعدّد في زمان الوصفين مع وحدة المتعلّق ، كاليقين بعدالة زيد يوم الجمعة ثمّ الشكّ يوم السبت في عدالته يوم الجمعة ، فالشكّ ـ حينئذ ـ يسري إلى متعلّق اليقين. هذا تمام الكلام في الفرق بين القاعدتين.

وأمّا بيان ظهور الرواية في قاعدة اليقين ، فلأنّ صريحها هو اختلاف زمان الوصفين وظاهرها وحدة متعلّقيهما ، وقد عرفت أنّ اختلاف الوصفين زمانا مع وحدتهما متعلّقا هو المعتبر والمناط في قاعدة اليقين دون الاستصحاب.

وبعبارة اخرى : إنّ لفظ(كان) في قوله عليه‌السلام : (من كان على يقين) في كلتا الروايتين ظاهر في انعدام اليقين حين الشكّ ، وهذا هو المناط في قاعدة اليقين ، وذلك لأنّ اليقين في قاعدة الاستصحاب لا ينعدم زمان الشكّ ولا ينافيه ، لاختلافهما في المتعلّق ، كما مرّ.

فالمتحصّل من الجميع ، هو أنّ المراد من الروايتين هي قاعدة اليقين دون الاستصحاب ، لأنّهما تدلّان على اختلاف زمان الوصفين.

(وحاصلها : عدم العبرة بطروّ الشكّ في شيء بعد اليقين بذلك).

فمن تيقّن يوم الجمعة بعدالة زيد وصلّى خلفه ثمّ شكّ يوم السبت في عدالته يوم الجمعة حين صلّى خلفه ، لا يعتني بشكّه ، أي : لا يعيد صلاته ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

٣٨٥

ويؤيّده : أنّ النقض ـ حينئذ ـ محمول على حقيقته ، لأنّه رفع اليد عن نفس الآثار التي رتّبها سابقا على المتيقّن بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المراد بنقض اليقين فيه : رفع اليد عن ترتّب الآثار في غير زمان اليقين. وهذا ليس نقضا لليقين السابق إلّا إذا اخذ متعلّقه مجرّدا عن التقييد بالزمان الأوّل.

وبالجملة ، فمن تأمّل في الرواية وأغمض عن ذكر بعض أدلّة الاستصحاب ، جزم بما ذكرناه في معنى الرواية.

اللهمّ إلّا أن يقال بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين : إنّ الظاهر تجريد متعلّق اليقين عن التقييد بالزمان ، فإنّ قول القائل : «كنت متيقّنا أمس بعدالة زيد» ظاهر في إرادة أصل العدالة ، لا العدالة المتقيّدة بالزمان الماضي ، وإن كان ظرفه في الواقع

____________________________________

(ويؤيّده : أنّ النقض ـ حينئذ ـ محمول على حقيقته).

أي : يؤيّد حمل الرواية على قاعدة اليقين أنّ النقض حين الحمل على قاعدة الشكّ الساري محمول على حقيقته ، لأنّ نقض اليقين فيها عبارة عن رفع اليد عن الآثار التي رتّبها على اليقين سابقا ، والحكم بتدارك ما فعل حال اليقين ، كإعادة الصلاة التي صلّى خلف من كان معتقدا بأنّه عادل ، وهو نقض حقيقة أو أقرب المجازات بالنسبة إلى المعنى الحقيقي للنقض وهو رفع الهيئة الاتّصاليّة في الشيء المحسوس كالحبل.

وهذا بخلاف النقض في باب الاستصحاب إذ يكون النقض فيه بمعنى عدم ترتّب الآثار في المستقبل بعد زمان الشكّ ، وذلك بأن لا يصلّي خلف من شكّ في بقاء عدالته ، وهذا المعنى في الحقيقة دفع وليس برفع ، فالنقض بمعنى الرفع متحقّق في قاعدة اليقين دون الاستصحاب إذن.

نعم ، يمكن صدق النقض في مورد الاستصحاب ـ أيضا ـ فيما إذا اخذ متعلّق اليقين مجرّدا عن التقيد بالزمان الأوّل ، إذ يرجع معنى النقض في المثال المذكور ـ حينئذ ـ إلى عدم ترتيب الأثر على العدالة بعد كونها موردا للأثر ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(إلّا إذا اخذ متعلّقه مجرّدا عن التقييد بالزمان الأوّل).

ثمّ أشار إلى كون الرواية منطبقة على الاستصحاب ـ أيضا ـ بقوله :

(اللهمّ إلّا أن يقال بعد ظهور كون الزمان الماضي في الرواية ظرفا لليقين ... إلى آخره).

٣٨٦

ظرف اليقين. لكن لم يلاحظه على وجه التقييد ، فيكون الشكّ فيما بعد هذا الزمان بنفس ذلك المتيقّن ، مجرّدا عن ذلك التقييد ، ظاهرا في تحقق أصل العدالة في زمان الشكّ ، فينطبق على الاستصحاب ، فافهم.

____________________________________

وغرض المصنّف قدس‌سره هنا هو استظهار الاستصحاب من الرواية وذلك يتوقّف على بيان مقدّمة وهي :

إنّ الضابط في قاعدة اليقين أمران كما تقدّم :

الأوّل : هو اختلاف اليقين والشكّ زمانا.

والثاني : وحدة متعلّقهما ، وذلك بأن يتعلّق الشكّ بنفس ما تعلّق به اليقين ، كما أوضحنا لك في المثال ، وهو ما إذا علم بعدالة زيد في يوم الجمعة فشكّ يوم السبت بعدالته يوم الجمعة بحيث يسري الشكّ من يوم السبت إلى يوم الجمعة.

وأمّا المناط في الاستصحاب فهو تعدّد المتعلّق واختلاف متعلّق اليقين والشكّ زمانا ، سواء اختلف زمان الشكّ واليقين أم لم يختلف ، ومن هنا نقول : إنّ حمل الرواية على قاعدة اليقين مبنيّ على تحقّق ما ذكر من الأمرين ، وذلك بأن تدلّ الرواية على اختلاف الوصفين زمانا وتأخّر زمان الشكّ عن اليقين واتّحاد متعلّقهما ، ولكن لا دلالة لها على شيء منهما ، وذلك لأنّ دلالتها على اختلاف الوصفين زمانا وتأخّر الشكّ عن اليقين مبنيّة على كون ذكر ال(فاء) ـ في قوله عليه‌السلام : (من كان على يقين فشكّ) في الرواية الاولى ، أو (فأصابه شكّ) في الرواية الثانية ـ لاعتبار تأخّر الشكّ عن اليقين وليس الأمر كذلك ، بل ذكر ال(فاء) في الروايتين إنّما كان من جهة الغلبة ، حيث إنّ الغالب في موارد الاستصحاب هو تأخّر الشكّ عن اليقين.

وأمّا دلالة الرواية على وحدة متعلّق الوصفين ، فهي مبنيّة على أخذ الزمان الماضي قيدا للمتيقّن لا ظرفا لليقين ، ولا دلالة لها على ذلك ، بل الظاهر منها كونه ظرفا لليقين ، وذلك لأنّ الأصل في الزمان هو الظرفيّة ، فكونه قيدا يحتاج إلى دليل وهو منتف في المقام ، ولازم كون الزمان ظرفا هو اختلاف متعلّق اليقين والشكّ زمانا وهو المناط في الاستصحاب ، فتكون الرواية ـ حينئذ ـ دالّة على حجيّة الاستصحاب دون قاعدة اليقين.

(فافهم) لعلّه إشارة إلى أنّ الرواية تنطبق على قاعدة اليقين كما تنطبق على

٣٨٧

ثمّ لو سلّم أنّ هذه القاعدة بإطلاقها مخالفة للإجماع ، أمكن تقييدها بعدم نقض اليقين السابق بالنسبة إلى الأعمال التي رتّبها حال اليقين به ، كالاقتداء ـ في مثال العدالة ـ بذلك الشخص ، والعمل بفتواه أو شهادته ، أو تقييد الحكم بصورة عدم التذكّر لمستند القطع السابق وإخراج صورة تذكّره والتفطّن لفساده وعدم قابليّته لإفادة القطع.

____________________________________

الاستصحاب ، فلا يمكن حملها على إرادة الاستصحاب منها معيّنا ، ولا يصحّ الاستدلال بها على حجيّة الاستصحاب بمقتضى ما هو المعروف من أنّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

قوله : (ثمّ لو سلّم أنّ هذه القاعدة بإطلاقها مخالفة للإجماع ... إلى آخره).

دفع لما ربّما يتوهّم من أنّ قاعدة اليقين بإطلاقها على فرض حمل الرواية عليها مخالفة للإجماع ، وذلك لأنّ الإجماع قام على عدم العبرة باليقين إذا انكشف فساد مدركه.

وحاصل الدفع : أوّلا : إنّه لا نسلّم أن يكون عدم اعتبار القاعدة من جهة كون إطلاقها مخالفا للإجماع ، بل نقول : إنّ عدم اعتبارها لعدم الدليل على ذلك.

وثانيا : حتى لو سلّم كون إطلاقها مخالفا للإجماع ولكن أمكن تقييدها بأحد تقييدين :

أولهما : هو التقييد بعدم النقض بالنسبة إلى الآثار السابقة التي رتّبها حال اليقين به (كالاقتداء ـ في مثال العدالة ـ بذلك الشخص ، والعمل بفتواه أو شهادته) لا الآثار اللاحقة ، فلا يعيد ما مضى ولا يقتدي به من بعد.

وثانيهما : هو التقييد بصورة عدم التذكّر بفساد مدرك اليقين ، وذلك بأن لا يعتني بالشكّ في صورة عدم التذكّر بفساد مدرك القطع ، ويعتني به في صورة العلم بفساد مدرك اليقين فلا يعتني ـ حينئذ ـ باليقين ، بل يعيد ما مضى.

ثمّ إنّ الأقوال في قاعدة اليقين ثلاثة كما في شرح الاستاذ الاعتمادي :

أحدها : عدم اعتبارها لعدم الدليل عليها.

ثانيها : اعتبارها مطلقا وأنّ الرواية المتقدّمة تدلّ على اعتبارها كذلك ، فيكون إطلاقها متّبعا.

وثالثها : هو أنّ الروايات المتقدّمة وإن دلّت عليها إلّا أنّ الإجماع قام على عدم العبرة باليقين بعد عروض الشكّ ، أو قام على عدم العبرة به إذا انكشف فساد مدركه ، كما هو

٣٨٨

فالإنصاف : إنّ قوله عليه‌السلام : (فإنّ اليقين لا ينقض بالشكّ) (١) ـ بملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله : (ولا ينقض اليقين بالشكّ) ـ ظاهره مساوقته لها ، ويبعد حمله على المعنى الذي ذكرنا ، لكنّ سند الرواية ضعيف بالقاسم بن يحيى لتضعيف العلّامة له في الخلاصة ، وإن ضعّف ذلك بعض باستناده إلى تضعيف ابن الغضائري المعروف عدم قدحه ، فتأمّل.

ومنها : مكاتبة عليّ بن محمّد القاساني ، قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرّؤية وافطر للرّؤية) (٢) فإنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والإفطار على رؤية هلالي رمضان

____________________________________

المستفاد من المتن.

(فالإنصاف : إنّ) الرواية سيّما بملاحظة (قوله عليه‌السلام : (فإنّ اليقين لا ينقض بالشكّ)) و (بملاحظة ما سبق في الصحاح من قوله عليه‌السلام : (لا ينقض اليقين بالشكّ)) ظاهرة في حجيّة الاستصحاب (ويبعد حمله على المعنى الذي ذكرنا) ، أي : قاعدة اليقين (لكنّ سند الرواية ضعيف بالقاسم بن يحيى لتضعيف العلّامة له في الخلاصة ، وإن ضعّف ذلك) ، أي : تضعيف العلّامة ، قدس‌سره (باستناده) ، أي : تضعيف العلّامة (إلى تضعيف ابن الغضائري المعروف عدم قدحه) ، أي : عدم قدح تضعيف ابن الغضائري ، فلا يعتنى بتضعيف العلّامة قدس‌سره لكونه مستندا إلى تضعيف ابن الغضائري الذي لا يقدح.

(فتأمّل) لعلّه إشارة إلى منع كون تضعيف العلّامة قدس‌سره مستندا إلى تضعيف ابن الغضائري ، أو هو إشارة إلى منع عدم قدح تضعيف ابن الغضائري بعد اعتماد العلّامة والنجاشي قدس‌سرهما على تضعيفه.

أو هو إشارة إلى أنّ تضعيف ابن الغضائري وإن لم يوجب الضعف إلّا أنّه يوجب جهالة حال الراوي ، وهذا يكفي في عدم حجيّة الرواية ، وحينئذ لا يصحّ الاستدلال بها على حجيّة الاستصحاب.

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥٢ / ٣. التهذيب ٢ : ١٨٦ / ٧٤٠. الاستبصار ١ : ٣٧٣ / ١٤١٦. الوسائل ٨ : ٢١٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ٣.

(٢) التهذيب ٤ : ١٥٩ / ٤٤٥ ، الاستبصار ٢ : ٦٤ / ٢١٠. الوسائل ١٠ : ٢٥٦ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ٣ ، ح ١٣ ، باختلاف يسير في جميعها.

٣٨٩

وشوّال لا يستقيم إلّا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشكّ ، أي : مزاحما به.

والإنصاف : إنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ، إلّا أنّ سندها غير سليم.

____________________________________

(ومنها : مكاتبة عليّ بن محمّد القاساني ، قال : كتبت إليه ـ وأنا بالمدينة ـ عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرّؤية وافطر للرّؤية)).

وتقريب الاستدلال بها إنّما يتمّ فيما إذا كان المراد بقوله عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ) هو أنّ اليقين بشعبان الذي لا يجب فيه الصوم لا يدخله حكما الشكّ بدخول رمضان حتى يخرج عن حكم شعبان الذي هو عدم الوجوب بمجرّد الشكّ في دخول رمضان ، بل لا بدّ من اليقين بدخول رمضان ، وعبّر عن اليقين بدخول رمضان بقوله عليه‌السلام : (صم للرؤية) ثمّ بيّن أنّ هذا الحكم لا يختصّ باليقين بشعبان والشكّ في دخول رمضان ، بل كذلك الحكم بالنسبة إلى اليقين برمضان والشكّ في دخول شوّال ، فلا يجوز الخروج ـ حينئذ ـ عن حكم رمضان بمجرّد الشكّ في دخول شوّال ، بل لا بدّ من رفع اليد عن حكم رمضان من الرؤية ، أي : اليقين بدخول شوّال ، فمعنى قوله عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ) ، أي : حكم اليقين لا يرفعه الشكّ في كلّ مورد ، بل الذي يرفعه هو اليقين بخلافه.

وبالجملة ، إنّ الإمام عليه‌السلام قد حكم بأنّ اليقين لم يقع مدخولا بالشكّ ولا ينقض به ، ثمّ فرّع على هذه الكبرى الكلّية قوله عليه‌السلام : (صم للرؤية وافطر للرؤية) وقد قال المصنّف قدس‌سره بأنّ هذه الرواية أظهر الروايات في الدلالة على حجيّة الاستصحاب.

ووجه الأظهريّة ، هو عدم وجود ما يجعل (اللام) إشارة إليه في الرواية وعدم احتمال غير الاستصحاب منها ، وذلك لأنّ تفريع الصوم للرؤية لا يناسب قاعدة الاشتغال ، بل يناسب الاستصحاب ، فيكون مفاد الرواية ـ حينئذ ـ (صم للرؤية) استصحابا وذلك لعدم وجوب الصوم ، (وافطر للرؤية) استصحابا لوجوبه أيضا ، ولا إشكال في الرواية من حيث الدلالة.

(إلّا أنّ سندها غير سليم) ، وذلك لأنّ القاساني سمع عنه مذاهب منكرة ، كما في شرح التنكابني.

٣٩٠

هذه جملة ما وقفت عليه من الأخبار المستدلّ بها للاستصحاب ، وقد عرفت عدم ظهور الصحيح منها وعدم صحّة الظاهر منها. فلعلّ الاستدلال بالمجموع باعتبار التجابر والتعاضد.

____________________________________

وفي بحر الفوائد : إنّ الوجه في عدم سلامته تضعيف جماعة من أهل الرجال لمحمد ، ويمكن القول بعدم قدحه بناء على انجبار الضعف بالشهرة وحجيّة الخبر المجبور ، حيث إنّ الرواية معمول بها عند الأصحاب ، وقد عوّلوا عليها في كتبهم الفقهيّة.

إلّا أنّ الإشكال لا ينحصر في سند الرواية حتى يقال باندفاعه بما ذكر من انجبار ضعفها سندا بالشهرة ، بل يمكن منعها دلالة ـ أيضا ـ وذلك أنّ دلالتها على حجيّة الاستصحاب مبنية على أن يكون المراد من اليقين في هذه الرواية هو اليقين السابق ، أي : اليقين بأنّ اليوم الماضي كان من شعبان مثلا ، وليس الأمر كذلك ، بل المراد من اليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، ولازم ذلك عدم وجوب الصوم إلّا مع اليقين برمضان ، ومعنى قوله عليه‌السلام : (لا يدخله الشكّ) هو أنّه لا يجوز صوم يوم الشكّ من رمضان ، كما ورد في عدّة من الروايات : (إنّه لا يصام يوم الشكّ بعنوان أنّه من رمضان) (١) وأنّ الصوم فريضة لا بدّ فيها من اليقين ولا يدخلها الشكّ.

وبعبارة اخرى : إنّ قوله عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ) ظاهر في عدم دخول اليوم المشكوك كونه من رمضان فيه ، وحمله على الاستصحاب بدعوى أنّ المراد منه اليقين لا ينقض بالشكّ بعيد ، لغرابة الاستعمال كما في تقريرات سيدنا الاستاذ السيّد الخوئي رحمه‌الله حيث قال في ردّ ما ذكر من الإشكالين ما هذا نصّه :

«والتحقيق هو ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من ظهور الرواية في الاستصحاب ، لأنّه لو كان المراد عدم إدخال اليوم المشكوك فيه في رمضان ، لما كان التفريع بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : (وافطر للرؤية) صحيحا ، فإنّ صوم يوم الشكّ في آخر شهر رمضان واجب لقوله عليه‌السلام : (وافطر للرؤية) مع أنّه يوم مشكوك في كونه من رمضان ، فكيف يصحّ تفريع قوله عليه‌السلام : (وافطر للرؤية) الدالّ على وجوب صوم يوم الشكّ في آخر شهر رمضان على قوله عليه‌السلام : (اليقين لا

__________________

(١) التهذيب ٤ : ١٦١ / ٤٥٤. الوسائل ١٠ : ٢٩٨ ، أبواب أحكام شهر رمضان ، ب ١٦ ، بالمعنى.

٣٩١

وربّما يؤيّد ذلك بالأخبار الواردة في الموارد الخاصّة :

مثل رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذّمّيّ ، وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير. قال : فهل عليّ أن أغسله؟ فقال : (لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه) (١). وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب

____________________________________

يدخله الشكّ) بناء على أنّ المراد منه عدم دخول اليوم المشكوك فيه في رمضان ، فالصحيح أنّ المراد من قوله عليه‌السلام : (اليقين لا يدخله الشكّ) أنّ اليقين لا ينقض بالشكّ ، فلا يجب الصوم في يوم الشكّ في آخر شعبان ، ويجب الصوم في يوم الشكّ في آخر شهر رمضان لليقين بعدم وجوب الصوم في الأوّل واليقين بوجوبه في الثاني ، واليقين لا ينقض بالشكّ ، فيصحّ التفريع بالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : (صم للرؤية) وبالنسبة إلى قوله عليه‌السلام : (وافطر للرؤية)». انتهى.

ثمّ أجاب عن الإشكال الأوّل المحكي عن صاحب الكفاية قدس‌سره بما يلي : «وأمّا ما استشهد به صاحب الكفاية من الروايات الدالّة على عدم صحّة الصوم في يوم الشكّ بعنوان أنّه من رمضان ، فمدفوع بأنّ هذه الروايات وإن كانت صحيحة معمولا بها في موردها ، إلّا أنّها لا تكون قرينة على كون هذه الرواية ـ أيضا ـ واردة لبيان هذا المعنى مع ظهورها في الاستصحاب».

ثمّ أجاب عن الإشكال الثاني الذي أورده المحقّق النائيني بما هذا نصّه :

«وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من غرابة هذا الاستعمال ، فيدفعه وقوع هذا الاستعمال بعينه في الصحيحة الثالثة المتقدّمة في قوله عليه‌السلام : (ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر) ووقع هذا الاستعمال في كلمات العلماء ـ أيضا ـ في قولهم : دليله مدخول ، أي : منقوض ، واللغة ـ أيضا ـ تساعده ، فإنّ دخول شيء في شيء يوجب التفكيك بين أجزائه المتّصلة ، فيكون موجبا لنقضه وقطع هيئته الاتّصالية». انتهى.

(وربّما يؤيّد ذلك بالأخبار الواردة في الموارد الخاصّة : مثل رواية عبد الله بن سنان الواردة فيمن يعير ثوبه الذّمّيّ ، وهو يعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير. قال : فهل

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٣٦١ / ١٤٩٥. الاستبصار ١ : ٣٩٣ / ١٤٩٧. الوسائل ٣ : ٥٢١ ، أبواب النجاسات ، ب ٧٤ ، ح ١ ، باختلاف في جميعها.

٣٩٢

غسله هو سبق طهارته وعدم العلم بارتفاعها.

ولو كان المستند قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة ، إذ الحكم في القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة.

نعم ، الرواية مختصّة باستصحاب الطهارة دون غيرها ، ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها ممّا يشكّ في ارتفاعها بالرافع.

ومثل قوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار : (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر) (١) بناء على

____________________________________

عليّ أن أغسله؟ فقال : (لا ، لأنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنّه نجّسه). وفيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة وعدم وجوب غسله هو سبق طهارته ... إلى آخره).

ومحتملات هذه الرواية ثلاثة :

أحدها : اختصاصها باستصحاب الطهارة ، كما في المتن.

وثانيها : شمولها لكلّ استصحاب ثمّ تعدّيها من باب الطهارة إلى غيره ؛ إمّا من باب عدم القول بالفصل ، أو من باب كون الحكم بالاستصحاب منصوص العلّة ، إلّا أن يقال : إنّ العلّة مختصّة بالطهارة فلا يجوز التعدّي منها إلى غيرها.

ثالثها : اختصاصها بقاعدة الطهارة.

إلّا أنّ المصنّف قدس‌سره ردّ كونها في مقام بيان قاعدة الطهارة ، وذلك لأنّ الحكم في قاعدة الطهارة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة والنجاسة ولا دخل لسبق العلم بها في الحكم ، مع أنّ الحكم بالطهارة في الرواية قد علّل بسبق اليقين بالطهارة ، فيكون المراد منها ـ حينئذ ـ هو الاستصحاب وإلّا لم يكن للتعليل المذكور مجال ، بل كان ينبغي التعليل بمجرّد الشكّ في النجاسة والطهارة ، فظهور الرواية في الاستصحاب ممّا لا إشكال فيه ، إلّا أنّها مختصّة باستصحاب الطهارة ، إذا لم يذكر فيها ما يفيد قاعدة كلّية مثل : اليقين لا ينقض بالشكّ.

(ولا يبعد عدم القول بالفصل بينها وبين غيرها).

أي : بين الطهارة وبين غيرها ، بمعنى أنّه كلّ من قال باعتبار الاستصحاب في الطهارة

__________________

(١) التهذيب ١ : ٢٨٥ / ٨٣٢. الوسائل ٣ : ٤٦٧ ، أبواب النجاسات ، ب ٣٧ ، ح ٤.

٣٩٣

أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كلّ شيء إلى أن يعلم حدوث قذارته ، لا ثبوتها له ظاهرا ، واستمرار هذا الثبوت إلى أن يعلم عدمها.

____________________________________

قال به في سائر موارد الشكّ في الرافع أيضا ، فإذا ثبت اعتباره في باب الطهارة بهذه الرواية ، ثبت في غيره لعدم القول بالفصل.

(ومثل قوله عليه‌السلام في موثّقة عمّار : (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر) بناء على أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كلّ شيء إلى أن يعلم حدوث قذارته).

والمحتملات في هذه الرواية وإن كانت سبعة كما في منتهى الاصول ومصباح الاصول ، إلّا أنّ الاستدلال بها على ما يظهر من المصنّف قدس‌سره مبني على أن يكون قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء طاهر) مسوقا لبيان الحكم باستمرار الطهارة بعد الفراغ عن ثبوتها ، وتكون الغاية غاية للحكم باستمرار الطهارة فيكون المعنى حينئذ : إنّ كلّ شيء طهارته مستمرة إلى زمان العلم بالنجاسة ، وهو معنى الاستصحاب وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (بناء على أنّه مسوق لبيان استمرار طهارة كلّ شيء إلى أن يعلم حدوث قذارته).

إذ يكون التقدير حينئذ : إنّ كلّ شيء متيقّن الطهارة سابقا تستمر طهارته إلى حصول العلم بالنجاسة ، هذا هو الاحتمال الأوّل.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو ما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(لا ثبوتها له ... إلى آخره).

أي : لا يتمّ الاستدلال على الاستصحاب بالرواية بناء أن يكون قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء طاهر) مسوقا لبيان الحكم بالطهارة للشيء ، وذلك بأن تكون الغاية قيدا للموضوع وغاية لأصل الحكم بالطهارة ، بل مفاد الرواية ـ حينئذ ـ هو قاعدة الطهارة ، فيكون المعنى : كلّ شيء لم تعلم نجاسته فهو طاهر ، فالرواية ، إمّا تفيد الاستصحاب ، أو قاعدة الطهارة ، وسيأتي ترجيح حملها على قاعدة الطهارة دون الاستصحاب في كلام المصنّف قدس‌سره ، فانتظر.

وحاصل الكلام في هذا المقام ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي : إنّ الرواية يمكن حملها على الاستصحاب ومناطه لحاظ الطهارة السابقة ، ويمكن حملها على قاعدة الطهارة أيضا ، ومناطها مجرّد الشكّ في الطهارة سواء كان مسبوقا بالطهارة أو لم يكن

٣٩٤

فالغاية ـ وهي العلم بالقذارة ـ على الأوّل غاية للطهارة رافعة لاستمرارها. فكلّ شيء محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة. فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة ، وعلى الثاني غاية للحكم بثبوتها ، والغاية وهي العلم بعدم الطهارة رافعة للحكم.

____________________________________

مسبوقا بالطهارة ، كالشكّ في طهارة الحديد شرعا ، فالنسبة بينهما من حيث المناط هي التباين ومن حيث المورد العموم المطلق ، والقاعدة هي الأعمّ من الاستصحاب ، إذ كلّ مورد جرى فيه الاستصحاب بلحاظ الطهارة السابقة ، تجري فيه قاعدة الطهارة ـ أيضا ـ بلحاظ مجرّد الشكّ ، ومادّة الافتراق من جانب القاعدة هي جريانها فيما إذا لم تكن هناك حالة سابقة للطهارة.

وبالجملة ، إن كان غرض الرواية بيان أنّ الشيء المحرز طهارته سابقا تستمر طهارته إلى زمن العلم بالارتفاع فتفيد الاستصحاب أيضا ، وإن كان غرضها ثبوت الطهارة ظاهرا للشيء المشكوك فتفيد قاعدة الطهارة فقط دون الاستصحاب ، وبذلك يظهر أنّ الرواية لا تدلّ على قاعدة الطهارة والاستصحاب معا ، كما قال به صاحب الفصول قدس‌سره على ما سيأتي ذكره في كلام المصنّف قدس‌سره ، بل هي إمّا تدلّ على حجيّة الاستصحاب ، كما هو مقتضى الاحتمال الأوّل أو على قاعدة الطهارة ، كما هو مقتضى الاحتمال الثاني.

(فالغاية ، وهي العلم بالقذارة ، على الأوّل غاية للطهارة).

أي : (طاهر) في قوله عليه‌السلام : (كلّ شيء طاهر) حيث يكون المراد به هو أنّ كلّ شيء محكوم باستمرار طهارته ظاهرا إلى العلم بالقذارة ، فلا يكون قوله عليه‌السلام : (حتى تعلم أنّه قذر) غاية للطهارة الواقعيّة ، لأنّ غاية الطهارة الواقعيّة غير مذكورة ولا مقصودة ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة).

أي : غاية الحكم الواقعي بالطهارة غير مذكورة ، إذ ما ذكر من الغاية غاية لاستمرار الطهارة ، والغاية الواحدة لا يمكن أن تكون غاية للحكم الظاهري والواقعي معا.

وأمّا عدم كون غاية الحكم الواقعي مقصودة فلأجل أنّ المقصود بالبيان على الفرض هو استمرار الطهارة ، وغاية هذا الاستمرار ليس الحكم الواقعي وغايته ، فالطهارة الواقعيّة غير مذكورة ولا مقصودة بالبيان ، فلا يمكن أن تكون غايتها مذكورة ومقصودة بالبيان.

٣٩٥

فكلّ شيء يستمرّ الحكم بطهارته إلى كذا. فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته ، لا نفسها.

والأصل في ذلك أنّ القضيّة المغيّاة ـ سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ، كما في قولنا : الثوب طاهر إلى أن يلاقي نجسا ، أم كانت ظاهريّة مغيّاة بالعلم بعدم المحمول ، كما في ما نحن فيه ـ قد يقصد المتكلّم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا ، من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له ، وقد يقصد المتكلّم به مجرّد الاستمرار ، لا

____________________________________

(وعلى الثاني) ، أي : على الاحتمال الثاني ، وهو كون الرواية مسوقة لبيان أصل الحكم بالطهارة (غاية للحكم بثبوتها ، والغاية وهي العلم بعدم الطهارة رافعة للحكم) ، أي : لأصل الحكم بالطهارة (فكلّ شيء يستمرّ الحكم بطهارته) ، أي : يحكم بطهارته إلى حصول الغاية ، فالمستمر هو أصل الحكم بالطهارة ، لا الحكم بالاستمرار حتى يقال بأنّ هذا المعنى يرجع إلى المعنى الأوّل.

(فإذا حصلت الغاية) وانكشف الخلاف (انقطع الحكم بطهارته لا نفسها) ، أي : ينقطع الحكم بالطهارة ، وذلك بأن لا يحكم بالطهارة بعد العلم بالنجاسة ، ولا تنقطع نفس الطهارة الواقعيّة لما عرفت من أنّ الغاية لم تكن غاية للطهارة الواقعيّة حتى ترتفع بوجودها.

(والأصل في ذلك).

وحاصل كلام المصنّف قدس‌سره في المقام يتلخّص في بيان أمرين ؛ أحدهما كالمقدّمة بالنسبة إلى الآخر :

الأوّل : بيان منشأ الاحتمالين في الرواية ، والفرق بينهما من حيث المورد.

والثاني : بيان ظهور الرواية في قاعدة الطهارة دون الاستصحاب.

أمّا الأمر الأوّل ، فحاصله :

إنّ منشأ الاحتمالين هو ما يقصده المتكلّم من مثل هذه القضية المغيّاة بالغاية ، كما أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله :

(قد يقصد المتكلّم مجرّد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا).

وذلك بأن يكون المراد من قوله : (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر) هو الحكم بأصل الطهارة في مورد عدم العلم بالنجاسة (من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له) أو الحكم

٣٩٦

أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه. والأوّل أعمّ من الثاني من حيث المورد.

وإذا عرفت هذا فنقول : إنّ معنى الرواية ؛ إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد إلى بيان الاستمرار بعد الفراغ من ثبوت أصل الطهارة ، فيكون دليلا على استصحاب الطهارة ، لكنّه خلاف الظاهر ، وإمّا خصوص المعنى الأوّل الأعمّ منه ، وحينئذ لم يكن فيه دلالة على استصحاب الطهارة وإن شمل مورده. لأنّ الحكم في ما علم طهارته ولم يعلم طروّ القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ، بل باعتبار مجرّد كونه مشكوك الطهارة.

____________________________________

بالطهارة من دون اعتبار عدم العلم بالنجاسة حتى تكون الطهارة واقعيّة ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (أو واقعا).

والحاصل أنّ مقصود المتكلّم هو ثبوت المحمول ، أي : الطهارة للموضوع ظاهرا أو واقعا من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له.

(وقد يقصد المتكلّم به مجرّد الاستمرار ، لا أصل الثبوت).

وذلك بأن يكون المراد من (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر) هو أنّ كلّ شيء مستمر الطهارة إلى العلم بالنجاسة (بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه) ، فيكون مفاد قوله : (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر) على التقدير الأوّل قاعدة الطهارة وعلى التقدير الثاني حجيّة الاستصحاب.

ثمّ إنّ الفرق بينهما هو أنّ الأوّل أعمّ موردا من الثاني كما عرفت ، وقد أشار إليه المصنّف قدس‌سره بقوله : (والأوّل أعمّ من الثاني من حيث المورد).

هذا تمام الكلام في الأمر الأوّل الذي جعله المصنّف كالمقدّمة للأمر الثاني ، والذي أشار إليه بقوله :

(وإذا عرفت هذا) ، أي : ما ذكر من إمكان إرادة مجرّد ثبوت المحمول للموضوع إلى حصول الغاية ، وإمكان إرادة استمراره إلى حصولها بعد الفراغ عن أصله ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي.

(فنقول : إنّ معنى الرواية ؛ إمّا أن يكون خصوص المعنى الثاني ... إلى آخره) حتى يكون دليلا على استصحاب الطهارة (وإمّا خصوص المعنى الأوّل الأعمّ منه ، وحينئذ لم يكن فيه

٣٩٧

فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة لا استصحابها ، بل يجري في مسبوق النجاسة على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة.

ثمّ لا فرق في مفاد الرواية بين الموضوع الخارجي الذي يشكّ في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي.

____________________________________

دلالة على استصحاب الطهارة) كي يقال : إنّ الترجيح مع المعنى الأوّل فيكون مفاد الرواية قاعدة الطهارة ، وذلك لأنّ المعنى الثاني على خلاف الظاهر ، كما أشار إليه قدس‌سره بقوله : (لكنّه خلاف الظاهر) من وجهين :

الأوّل : إنّه لا بدّ ـ حينئذ ـ من تقييد الشيء بما كانت له حالة سابقة معلومة ، ومن المعلوم أنّ التقييد المذكور على خلاف الظاهر.

والثاني : إنّ ظاهر الجملة الخبريّة إثبات أصل المحمول لا استمراره بعد الفراغ من أصله ، فيكون حملها على إثبات استمرار المحمول مخالفا لظاهرها.

(فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة لا استصحابها).

لما عرفت من أنّ قاعدة الطهارة تجري في الشيء المشكوك المسبوق بالطهارة أيضا ، إلّا أنّ المناط في جميع مواردها هو لحاظ مجرّد الشكّ.

(بل يجري في مسبوق النجاسة).

أي : تجري قاعدة الطهارة في مسبوق النجاسة وذلك لتحقّق موضوعها ، وهو كون الشيء مشكوك الطهارة من دون فرق بين كونه مسبوقا بالنجاسة أو بالطهارة ، فأصل جريان قاعدة الطهارة هو أقوى الوجهين ، غاية الأمر استصحاب النجاسة حاكم على قاعدة الطهارة.

نعم على الوجه الآخر ـ كما يأتي في باب تعارض القاعدة مع الاستصحاب ـ لا تجري القاعدة في مورد استصحاب النجاسة ، بمعنى : إنّ مورد الثاني خارج عن مورد الأوّلي تخصّصا ، وذلك لأنّ القاعدة مغيّاة بالعلم بالقذارة ، ثمّ العلم بالقذارة حاصل في مورد استصحاب النجاسة ، ولا يبقى موضوع للقاعدة بعد حصول الغاية لأنّ المراد بالعلم بالقذارة أعمّ من العلم السابق واللاحق.

٣٩٨

فعلم ممّا ذكرنا أنّه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين ، من امتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة وفي الشبهة الموضوعيّة واستصحاب الطهارة ، إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكميّة

____________________________________

والوجه الآخر القوي هو جريان القاعدة في مورد استصحاب النجاسة ، وذلك لتحقّق الشكّ ، غاية الأمر هو حكومة الثاني على الأوّل وذلك لأنّ لسان أدلّة الاستصحاب بقاء النجاسة السابقة ، فتكون شارحة ومضيّقة لدائرة (كلّ شيء طاهر حتى تعلم أنّه قذر) ، كما في شرح الاستاذ الاعتمادي بتصرّف واختصار.

ثمّ على تقدير اختصاص الرواية بقاعدة الطهارة يكون مفادها قاعدة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة معا ، فكما تدلّ الرواية على أصالة الطهارة في الشبهات الموضوعيّة كما إذا شكّ في أنّ هذا المائع ماء أو بول ، كذلك تدلّ على أصالة الطهارة في الشبهات الحكميّة كما إذا شكّ في طهارة عذرة الطير غير المأكول ، وذلك بأن يكون المراد من الشيء أعمّ من الكلّي والجزئي بطريق الاشتراك المعنوي ، وليس ما يمنع من إرادة هذا المعنى العامّ إلّا توهّم لزوم استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، كما عن صاحب القوانين قدس‌سره ، ولا بدّ أوّلا : من تقريب التوهّم هنا ، وثانيا : من ردّه وبيان كونه فاسدا.

أمّا تقريب التوهّم ، فحاصله : لزوم استعمال اللفظ الواحد ـ وهو قوله عليه‌السلام : (حتى تعلم أنّه قذر) ـ في أكثر من معنى واحد على تقدير إرادة قاعدة الطهارة في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة معا ، لأنّ المراد من العلم في الشبهة الحكميّة هو العلم الحاصل من الأدلّة الشرعيّة ، وفي الشبهة الموضوعيّة هو العلم الحاصل من الأمارات الخارجيّة ، فيلزم استعمال الغاية في أكثر من معنى واحد.

وأمّا ردّه : أن نقول بعدم لزوم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد في المقام ، وذلك لأنّ المراد بالعلم معناه الحقيقي الوجداني وهو واحد لا يتعدّد بتعدّد الأسباب ، فما ذكره صاحب القوانين قدس‌سره وجها للحكم بعدم إمكان الجمع بين الشبهات الحكميّة والموضوعيّة في الإرادة من الخبر للزوم استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد ، حيث قال : فلا بدّ من الحكم باختصاص الخبر بالشبهات الموضوعية لظهوره فيها لا يرجع إلى محصّل صحيح ، (إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأوّلين ، أعني : قاعدة الطهارة في

٣٩٩

والموضوعيّة.

نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين ، لما عرفت أنّ المقصود في القاعدة مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا ، والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا. والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها ، ولا جامع بينهما.

____________________________________

الشبهة الحكميّة والموضوعيّة) كما عرفت ذلك.

(نعم ، إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين).

لما عرفت من تباينهما مناطا وغاية ، وذلك لأنّ المناط في القاعدة هو مجرّد الشكّ وفي الاستصحاب هو لحاظ الحالة السابقة.

ثمّ إنّ الغاية على الأولى غاية لأصل الحكم بالطهارة ، وعلى الثاني غاية لاستمرار الحكم بالطهارة السابقة.

وبعبارة اخرى : إنّ المقصود في القاعدة هو مجرّد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب هو إبقاؤها في معلوم الطهارة سابقا.

(والجامع بينهما) ، أي : الإثبات والإبقاء (غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا) من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، (نظير الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها ، ولا جامع بينهما).

وحاصل الفرق ، كما في شرح الاعتمادي : إنّه إذا شكّ في دخول رمضان ووجوب الصوم فبمجرّد ملاحظة الشكّ في التكليف تجري البراءة ، وبملاحظة سبق عدم الوجوب يجري استصحابها ، وكذا في الشبهة التحريميّة إذا شكّ في حرمة التتن مثلا تجري البراءة بملاحظة الشكّ في التكليف ، ويجري استصحابها بملاحظة البراءة حال الصغر ، فهما متباينان مناطا لا يصحّ إرادتهما في دليل واحد مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رفع ... ما لا يعلمون) (١).

وبالجملة ، أنّه لا يمكن حمل الرواية على قاعدة الطهارة والاستصحاب معا لعدم الجامع بينهما.

__________________

(١) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤. الخصال ٢ : ٤١٧ / ٩. الوسائل ١٥ : ٣٦٩ ، أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، ب ٥٦ ، ح ١.

٤٠٠