دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

لمنافاته لما استقل به العقل.

وحاصل الدفع : أن هذا القياس قياس مع الفارق ؛ لأن حكم العقل في العلم تنجيزي ، وفي الظن تعليقي كما عرفت.

٧ ـ وقد يقال : إنه لا وجه لتخصيص الإشكال على دليل الانسداد ـ بناء على الحكومة ـ بالنهي عن القياس المفروض إفادته للظن ، مع وحدة الملاك فيه وفي الأمر بما لا يفيد الظن كاليد والسوق مثلا ؛ إذ كما يكون النهي منافيا لحكم العقل وموجبا لارتفاعه ، كذلك الأمر ، فإن العقل حاكم بقبح الاكتفاء بما دون الظن ، فلا فرق في انتفاء حكم العقل بين النصب والردع ؛ لأن حكمه معلق على عدم النصب والردع ، فنصب الطريق والنهي عنه من واد واحد في تعليق حكم العقل على عدم تصرف الشارع ، فلا مجال لتقرير الإشكال بالنسبة إلى خصوص النهي عن القياس.

٨ ـ مناقشة المصنف في بعض الوجوه المذكورة لدفع الإشكال على عموم نتيجة دليل الانسداد.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : «تارة : بأن المنع عن القياس» وحاصله : أن خصوصية القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفة الواقع ، وهذا المعنى لما خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنية عند فقد العلم ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبين عند العقل حاله ، فيحكم بعدم جواز الركون إليه.

ومنها : ما أشار إليه بقوله : «وأخرى : بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة».

وحاصل هذين الوجهين : أن العقل إنما يحكم بلزوم اتباع الظن لكونه أقرب إلى الواقع ، وعدم مزاحمته بالمفسدة الغالبة ، وكونه غالب الإيصال إليه ، فإذا كشف نهي الشارع عن أن الظن الحاصل من القياس غير مصيب للواقع غالبا ، أو أن المفسدة المترتبة على العمل به أكثر من مصلحته ، فلا محالة يحكم العقل بعدم جواز الركون إليه تخصيصا ؛ لحكمه بمراعاة الظن.

٩ ـ ردّ المصنف على هذين الوجهين : أن هذين الوجهين يفيدان صحة النهي عن القياس ، بمعنى : أن الشارع نهى عن القياس لكونه كثير المخالفة ، أو لكون مفسدته مزاحمة لمصلحة الواقع.

وبعبارة أخرى : أنه قد مرّ غير مرة : إن النهي عن الظن القياسي من جهتين ، والوجهان المتقدمان عن الشيخ «قدس‌سره» يصححان النهي عنه باعتبار الجهة الأولى ، ولا

٦١

.................................................................................................

______________________________________________________

يصححانه باعتبار الجهة الثانية ، مع أن صحة النهي من الجهة الثانية هي محل الكلام في المقام.

١٠ ـ وقد ذكر الشيخ في الرسائل جوابين آخرين عن إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد.

وفي كلا الجوابين نظر قد أشار إليه المصنف بقوله : وأما ما قيل.

وحاصل الجواب الأول من الشيخ «قدس‌سره» : أنه لا مجال لإشكال المنافاة بين نهي الشارع عن القياس ، وبين حكم العقل بحجية مطلق الظن ؛ لاختصاص النهي عن العمل بالقياس بحال الانفتاح ، وعدم شموله لحال الانسداد.

وحاصل الجواب الثاني منه «قدس‌سره» : أن خروج القياس عن عموم النتيجة تخصص لا يكون تخصيصا في حكم العقل حتى يتوجه الإشكال إليه ؛ إذ بعد ملاحظة النهي عن العمل به لا يحصل الظن منه حتى يشمله حكم العقل بحجية مطلق الظن.

وأما ردّ المصنف عليهما يكون بوجهين :

أحدهما : ما يكون جوابا عن كل منهما على حدة ، والآخر ما يشتركان فيه.

أما الأول : فحاصل رد المصنف على الجواب الأول هو : عدم صحة منع عموم النهي عن القياس لحال الانسداد ، وعن الجواب الثاني : هو عدم صحة منع حصول الظن من القياس.

وأما الوجه الثاني المشترك لكلا الجوابين أعني : المنعين فحاصله : أن هذين الجوابين من الشيخ «قدس‌سره» لا يدفعان إشكال خروج القياس ، ضرورة : أن الإشكال على خروجه إنما هو على فرض حصول الظن منه ، فمنع هذا الإشكال تارة : بأن القياس لا يفيد الظن بعد منع الشارع عنه. وأخرى : بجواز العمل بالظن الحاصل من القياس حال الانسداد ؛ لعدم شمول النهي له خروج عن الفرض ، وهدم لموضوع الإشكال ، فهو في الحقيقة تسليم للإشكال لا دفع له ، مع بقاء موضوعه.

وكيف كان ؛ فلو سلّمنا المنعين ، أعني : الجوابين من الشيخ «قدس‌سره» فإشكال خروج القياس فيما إذا فرض كونه مفيدا للظن بعد باق.

١١ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

إن خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة إنما هو من باب التخصص ؛ لا من باب التخصيص كي يرد عليه بأن حكم العقل غير قابل للتخصيص.

٦٢

فصل

إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص (١) ؛ فالتحقيق أن يقال ـ بعد تصور المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد ـ : أنه لا استقلال للعقل بحجية ظن احتمل

______________________________________________________

في الظن المانع والممنوع

(١) قبل الخوص في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أنه تارة : يقوم ظن على عدم حجية ظن بالخصوص ؛ كما إذا قام دليل ظني كالشهرة على عدم حجية ظن آخر ؛ كالظن الحاصل من الاستحسان.

وأخرى : يقوم ظن على عدم الدليل على اعتبار ظن ؛ كما إذا قامت الشهرة على عدم حجية الشهرة ، حيث يكون مرجع الشهرة المنعقدة على عدم حجية الشهرة إلى انعقاد الشهرة على عدم الدليل على حجية الشهرة ، وبقائها تحت أصل عدم الحجية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هو القسم الأول ، وهو ما إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص.

وكيف كان ؛ فالغرض من عقد هذا الفصل : بيان حكم الظن المانع والممنوع من حيث الاعتبار والحجية ، فإذا منع ظن عن العمل بظن مخصوص ، كما إذا قامت الشهرة على عدم حجية الظن الحاصل من الاستحسان ، كما إذا قام الاستحسان على وجوب الزكاة في النقود الورقية في يومنا هذا تشبيها لها بالدرهم والدينار ، فحصل الظن بوجوب الزكاة في النقود الورقية من الاستحسان في حال الانسداد. وهذا هو الظن الممنوع والظن الحاصل من الشهرة هو الظن المانع ، فإنه بناء على تقرير مقدمات الانسداد على نحو الحكومة لا ريب في تساويهما ـ المانع والممنوع ـ في نظر العقل من حيث الحجية ؛ إذ المفروض : إفادة كليهما للظن. هذا من جهة. ومن جهة أخرى : يستحيل العمل بكليهما معا كما هو واضح ، فلا بد من الأخذ بأحدهما فقط.

فيقع الكلام فيما هو مقتضى مقدما الانسداد ؛ هل هو الأخذ بالظن الممنوع والحكم بوجوب الزكاة في النقود الورقية؟ أو أنها تقتضي تقديم الظن المانع ، فتصير النتيجة :

٦٣

.................................................................................................

______________________________________________________

وجوب الأخذ بالظن الحاصل من الشهرة ، والحكم بعدم وجوب الزكاة في النقود الورقية أو أنها تقتضي تقديم ما له مرجح منهما أو يتساقطان؟ وجوه ؛ بل أقوال :

١ ـ وجوب العمل بالظن الممنوع.

٢ ـ وجوب العمل بالظن المانع.

٣ ـ وجوب الأخذ بما له مرجح.

٤ ـ تساقط الظنين والرجوع إلى الأصول العمليّة.

أما وجه وجوب الأخذ بما له مرجح : فهو واضح ، بمعنى : وجوب الأخذ بأقوى الظنين ، خصوصا إذا قلنا بأن نتيجة مقدمات الانسداد جزئية من ناحية المراتب.

وأما وجه سائر الوجوه : فهو مبني على كون نتيجة مقدمات الانسداد حجية الظن في الفروع أو الأصول أو كليهما ، فإن قلنا : إن نتيجتها هي الحجية في الفروع فالمقدم هو الظن الممنوع ، وإن قلنا : إن النتيجة هي الحجية في الأصول : فالمقدم هو الظن المانع ، وإن قلنا بحجية كليهما معا : فيتساقطان.

ومختار المصنف هو : تقديم الظن المانع ؛ كما أشار إليه بقوله : «فالتحقيق أن يقال بعد تصور المنع ...» الخ.

وتوضيح ما أفاده المصنف في وجهه ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٧٤» ـ : أن حكم العقل بحجية الظن معلق على إحراز عدم الردع عنه فاحتماله مانع عن حكمه بها ، ومع احتمال المنع عن الظن الحاصل من الاستحسان مثلا ـ فضلا عن قيام الظن على عدم اعتباره ـ لا يستقل العقل بحجية الظن الحاصل منه ؛ لما تقدم في الفصل السابق من : عدم استقلال العقل بحجية الظن ، مع احتمال المنع عنه شرعا ، فلا بد من الاقتصار على ظن لا يحتمل المنع عنه أصلا ، وهو الظن المانع كالشهرة في المثال المتقدم ، فإن وفى بالأحكام فهو المطلوب ؛ وإلا ضم إليه ظن احتمل المنع عنه ـ لا ما ظن بعدم اعتباره ـ ويكون الظن الذي يحتمل المنع عنه حجة شرعا ، ولا يعتنى باحتمال المنع عنه ؛ وذلك للعلم باهتمام الشارع بالأحكام ، والمفروض : قيامه ببعضها ، فيجب الأخذ به. انتهى موضوع الحاجة من كلامه مع توضيح وتصرف منا.

قوله : «بعد تصور المنع عن بعض الظنون» يعني : بعد إمكانه كالقياس ؛ إذ بناء على استحالة المنع حتى عن مثل القياس ـ كما مال إليها بعض في الفصل السابق في دفع إشكال خروج القياس عن نتيجة دليل الانسداد بناء على الحكومة ـ يمتنع فرض قيام ظن

٦٤

المنع عنه ، فضلا عما إذا ظن كما أشرنا إليه في الفصل السابق (١) ، فلا بد (٢) من الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه (٣) بالخصوص (٤) ، فإن كفى (٥) وإلا فبضميمة ما لم يظن المانع عنه ؛ وإن احتمل (٦) مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد وإن انسد باب هذا الاحتمال معها كما لا يخفى ، وذلك (٧) ضرورة : أنه لا احتمال مع

______________________________________________________

كالشهرة على المنع عن ظن آخر ؛ كالظن الحاصل من الاستحسان.

لكن قد عرفت هناك : عدم استحالة المنع ؛ بل إمكانه ووقوعه كالمنع عن القياس نظرا إلى أن حكم العقل بحجية الظن تعليقي لا تنجيزي.

(١) حيث قال : «ضرورة : عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع».

(٢) هذا نتيجة عدم استقلال العقل بحجية ظن ظن أو احتمل المنع عنه ، وعلى هذا : فاستقلال العقل بحجية الظن لا يكون في مورد الظن بالمنع أو احتماله ؛ بل ينحصر في مورد واحد ، وهو القطع بعدم ردع الشارع عنه.

(٣) كخبر الواحد الذي يعلم بعدم الردع عنه بالخصوص.

(٤) يعني : لا بنحو العموم المقتضي لعدم حجية شيء من الظنون ، مثل قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) الدال على عدم حجية شيء من الظنون ضرورة : أنه لا عبرة بهذا النهي العام ؛ للزوم رفع اليد عنه بدليل الانسداد المقتضي لحجية الظن.

(٥) يعني : فهو المطلوب ، ولم يجز التعدي عنه إلى موهوم المنع أو مشكوكه ، فضلا عن محتمله أو مظنونه ؛ «وإلا» أي : وإن لم يكف ما قطع بعدم الردع عنه بالخصوص في استفادة الأحكام ، فلا بد من ضم ما يحتمل المنع عنه إليه ، دون ما ظن المنع عنه.

(٦) أي : وإن احتمل المنع عن بعض الظنون بلحاظ حال الانفتاح ، فإن ذلك الاحتمال مانع عن حجيته حاله لا حال الانسداد ؛ لعدم العبرة ـ حال الانسداد ـ باحتمال المنع. وضمير «معها» راجع على المقدمات. فمعنى العبارة : «وإن انسد باب هذا الاحتمال» أي : احتمال المنع مع وجود مقدمات الانسداد. وإنما قيدنا الظن المحتمل منعه بكون احتمال منعه قبل مقدمات الانسداد ؛ لأن الظن المحتمل منعه بعد تمامية مقدمات الانسداد حاله حال الظن المقطوع منعه ؛ لما عرفت ـ في فصل الظن القياسي ـ من أن احتمال المنع كالقطع بالمنع في خروج الظن عن حكم العقل بحجية مطلق الظن تخصصا.

(٧) أي الذي ذكرنا من كون احتمال المنع قبل مقدمات الانسداد غير ضار ، «ضرورة : أنه لا احتمال» للمنع «مع الاستقلال» للعقل بحجية كل ظن.

٦٥

الاستقلال حسب الفرض (١).

ومنه (٢) انقدح : أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما ، فافهم.

______________________________________________________

قوله : «ضرورة» تعليل لانسداد باب احتمال المنع عن بعض الظنون مع مقدمات الانسداد ، وحاصله : ـ على ما «في منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٧٧» ـ أنه ـ مع مقدمات الانسداد ـ ينسد باب احتمال المنع عن بعض الظنون ، فلو لم ينسد بابه لزم عدم استقلال العقل بحجية الظن ، والمفروض استقلاله.

(١) أي : فرض الانسداد.

والمتحصل مما أفاده : أن الظنون غير المحتمل منعها إن كانت وافية بمعظم الفقه ، فالعقل يحكم بحجيتها فقط ، ولا يحكم باعتبار ما يحتمل منعه من الأمارات ، فضلا عن مظنون المنع ، وإن لم تكن وافية ، فيضم إليها ما لا يظن المنع عنه ؛ وإن احتمل مع الغض عن مقدمات الانسداد ، وانسد هذا الاحتمال بسببها ؛ لمنافاته لاستقلال العقل كما عرفت.

(٢) هذا رد لما استظهره الشيخ «قدس‌سره» من كلمات جمع من المحققين في مسألة تقديم الظن المانع أو الممنوع ؛ من ابتناء الأقوال فيها على ما يستفاد من دليل الانسداد ، وأن تقديم الظن الممنوع مبني على القول بأن النتيجة حجية الظن في الفروع ، وتقديم الظن المانع مبني على القول بأن النتيجة حجيته في الأصول ، قال الشيخ : «ذهب بعض مشايخنا إلى الأول بناء منه على ما عرفت سابقا من بناء غير واحد منهم على أن دليل الانسداد لا يثبت اعتبار الظن في المسائل الأصولية التي منها مسألة حجية الظن الممنوع ، ولازم بعض المعاصرين الثاني ـ أي : تقديم المانع ـ بناء على ما عرفت منه من : أن اللازم بعد الانسداد تحصيل الظن بالطريق ، فلا عبرة بالظن بالواقع ما لم يقم على اعتباره الظن ، وقد عرفت ضعف كلا البناءين ...» (١) الخ.

وقوله المصنف : «ومنه انقدح ...» الخ ، يعني : مما حققناه بقولنا : «ضرورة : أنه لا احتمال مع الاستقلال» ظهر : أنه لا تتفاوت الحال في وجوب الأخذ بالمانع وطرح الممنوع بين ما اختاره صاحب الفصول وغيره ؛ من اقتضاء مقدمات الانسداد حجية الظن في الأصول أي : بالطرق المتكفلة للأحكام فقط ، وبين ما ذهب إليه آخرون

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣٢.

٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كصاحب الرياض وشريف العلماء على ما حكي عنهما «قدس‌سرهما» من اختصاص حجية الظن بالفروع فقط ، وبين ما اختاره المصنف تبعا للشيخ من اقتضائها حجيته إذا تعلق بكل من الواقع والطريق ، وأن الأقوال في هذه المسألة ليست مبنية على ما يستفاد من دليل الانسداد.

وجه عدم تفاوت الحال : ما عرفت من : أنه مع احتمال المنع فضلا عن ظنه لا استقلال للعقل بحجية الظن ، سواء كانت نتيجة الانسداد حجية الظن بالفروع أم بالأصول أم بهما.

أما الأول : أعني : عدم استقلال العقل بحجية غير الظن المانع فيما إذا كانت نتيجة الانسداد حجية الظن بالفروع : فلأن احتمال عدم حجية ظن بالفروع كاف في منع استقلال العقل بحجية ذلك الظن ، بعد ما تقدم من أن المانع هو الردع الواقعي اللازم منه كفاية احتماله في منع استقلال العقل ، فدليل الانسداد وإن لم يثبت حجية خصوص الظن بالطريق أي : الظن المانع ؛ لكنه لا يثبت عدم حجيته أيضا ، فهو باق تحت عموم نتيجة دليل الانسداد ، وهذا بخلاف الظن الممنوع المتعلق بالفروع ، فإن احتمال حجية الظن المانع الموجب لاحتمال عدم حجية الظن الممنوع لما كان باقيا على حاله ؛ لشمول دليل الانسداد له كما تقدم ، فهو يمنع استقلال العقل بحجية الظن الممنوع.

وأما الثاني ـ أعني : عدم استقلاله بحجية غير الظن المانع ، فيما إذا كانت النتيجة حجية الظن بالطريق ـ فلأن المفروض : اقتضاء دليل الانسداد لحجيته ، فالعقل مستقل بها ، فيكون الظن المانع هو الحجة فقط ، فلا يجوز العمل بالممنوع.

وأما الثالث ـ أعني : عدم استقلاله بحجية غير المانع فيما إذا كانت النتيجة حجية الظن بالفروع والطريق معا ـ فلأن دليل الانسداد وإن كان مقتضيا لحجية كل من الظن بالفروع والأصول ـ أي : الممنوع والمانع ـ إلا إن اقتضاءه لحجية المانع تنجيزي ؛ لعدم إناطته بشيء واقتضائه لحجية الممنوع تعليقي ، يعني : أنه معلق على عدم ما يمنع استقلال العقل بحجيته ، وحيث إن شمول نتيجة الانسداد للظن المانع موجب لسلب استقلال العقل بحجية الظن الممنوع ، فيسقط عن الحجية ، فيكون المانع هو الحجة دون الممنوع ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٧٩».

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى ضعف الاستظهار المذكور في نفسه ، وأن ما بنى عليه المحققون في نتيجة دليل الانسداد من حجية الظن في الفروع أو الأصول لا يقتضي ما

٦٧

.................................................................................................

______________________________________________________

استظهره الشيخ «قدس‌سره» منه من حجية الظن الممنوع أو المانع.

قال المصنف في حاشيته على «الرسائل» معلقا على قول الشيخ «قدس‌سره» ما هذا لفظه : «لا يخفى : أن هذا البناء لا يقتضي وجوب العمل بالممنوع ، ضرورة : أن عدم حجية الظن إلا في الفروع لا يلازم حجيته فيها مطلقا ؛ ولو ظن عدم اعتباره ـ إلى أن قال : كما إنه ليس لازم من ذهب إلى حجية الظن في الأصول حجية المانع مطلقا ؛ لإمكان أن يكون كل من المانع والممنوع فيها ؛ كما لو قام ظن على عدم حجية ظن قام على حجية أمارة أو أصل ، وإنما يصح ذلك فيما كان الممنوع في فرع».

وكيف كان ؛ فالكلام في المقام طويل ، فمن شاء تفصيل ذلك فليرجع إلى المفصلات.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور تالية :

١ ـ الظن المانع والممنوع : توضيح ذلك : كما إذا قامت الشهرة على عدم حجية الظن الحاصل من الاستحسان.

فالظن الحاصل من الشهرة يسمى مانعا ، والظن الحاصل من الاستحسان يسمى ممنوعا وهما متساويان في نظر العقل عند الانسداد من حيث الحجية ؛ لإفادة كليهما للظن. غاية الأمر : لا يمكن الأخذ بكليهما معا ، فلا بد من الأخذ بأحدهما فقط ، فيقع الكلام فيما هو مقتضى مقدمات الانسداد ؛ هل هو حجية الظن الممنوع أو المانع ، أو تقديم ما له مرجح أو حجية كليهما هناك وجوه ؛ بل أقوال.

٢ ـ وجه الأخذ بما هل مرجح : واضح ، لا يحتاج إلى البيان. وأما وجه سائر الوجوه والأقوال : فهو مبني على كون نتيجة مقدمات الانسداد هل هي حجية الظن في الفروع ، أو في الأصول ، أو في كليهما.

فإن قلنا : بأن النتيجة هي الحجية في الفروع : فالمقدم هو الظن الممنوع ، وإن قلنا : إن النتيجة هي الحجية في الأصول : فالمقدم هو الظن الممنوع ، وإن قلنا : بأن النتيجة حجية كليهما معا : فيتساقطان.

٣ ـ رأي المصنف :

هو تقديم الظن المانع.

٦٨

فصل

لا فرق (١) في نتيجة دليل الانسداد بين الظن بالحكم من أمارة عليه ، وبين الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية ؛ كقول اللغوي فيما يورث الظن بمراد الشارع من لفظه ، وهو واضح.

______________________________________________________

الظن بألفاظ الآية أو الرواية

(١) أي : لا فرق في عموم النتيجة بين حصول الظن بالحكم الشرعي من أمارة عليه بلا واسطة ؛ كما إذا قامت الشهرة على وجوب شيء أو حرمته ، وبين حصول الظن بالحكم الشرعي من أمارة عليه مع الواسطة ؛ كالظن الحاصل من أمارة على تفسير لفظ من ألفاظ الكتاب أو السنة ؛ «كما إذا قال اللغوي : إن الصعيد هو مطلق وجه الأرض ، فأورث الظن في قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) بجواز التيمم بالحجر مثلا ، مع وجود التراب الخالص». أو على وثاقة راو ينقل الحكم عن المعصوم «عليه‌السلام» ، فأورث الظن بذلك الحكم.

والوجه في عدم الفرق : هو إطلاق حكم العقل بحجية الظن حال الانسداد ، فلا فرق عنده بين ظن يوصلنا إلى الحكم الواقعي بلا واسطة ، أو مع الواسطة ، فلا حاجة إلى إعمال انسداد آخر صغير في مثل هذه الموارد «أي : موارد الرجوع إلى قول اللغوي ، وعلماء الرجال» ؛ بل يكفي جريان مقدمات الانسداد الكبير في معظم أحكام الفقه.

ثم إن الظن الحاصل من قول اللغوي حجة إذا كان متعلقا بحكم شرعي ، وليس بحجة في تشخيص موضوعات الأحكام ؛ كالألفاظ الواردة في رسائل الوصية أو الوقف ؛ لأن المفروض : هو انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام ، فتكون مقدمات الانسداد تامة في خصوص الأحكام لا الموضوعات. هذا خلاصة الكلام في المقام.

وكيف كان ؛ فالغرض من عقد هذا الفصل : التنبيه على أن مقتضى إنتاج مقدمات الانسداد : حجية الظن بمناط الأقربية إلى الواقع ، وقبح ترجيح المرجوح على الراجح هو حجية الظن مطلقا ، سواء تعلق بالحكم الشرعي بلا واسطة أو معها كما عرفت ؛ إذ بعد حجية مطلق الظن بالانسداد لا فرق في الحجية بين تعلقه بالحكم الشرعي بلا واسطة ؛

٦٩

ولا يخفى : أن اعتبار ما يورثه (١) ...

______________________________________________________

كنقل الراوي عن الإمام «عليه‌السلام» وجوب صلاة الجمعة ، وبين تعلقه بالحكم مع الواسطة أي : بأمارة أخرى غير الأمارة الدالة على نفس الحكم ، كما إذا ورد الأمر بالتيمم بالصعيد في قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، وشككنا في جوازه بمطلق وجه الأرض الشامل للحجر مثلا ، وفرضنا انسداد باب العلم والعلمي بجوازه ، فإذا قال اللغوي : «الصعيد هو مطلق وجه الأرض» ، وفرضنا إفادة كلامه للظن ، فإنه حينئذ : يحصل لنا الظن بالحكم الشرعي وهو جواز التيمم بمطلق وجه الأرض ؛ لكن بواسطة قول اللغوي ، فيجوز لنا أن نقول حينئذ هكذا : يجوز التيمم بالصعيد ؛ لأن الصعيد هو مطلق وجه الأرض ، فيجوز التيمم بمطلق وجه الأرض ، فإذا ثبت جواز التيمم بمطلق وجه الأرض ثبت جوازه بالحجر أيضا ؛ لأنه من أفراد مطلق وجه الأرض. فالنتيجة هي : حجية قول اللغوي بدليل الانسداد.

وكذا الكلام بالنسبة إلى الظن الحاصل من كلام الرجالي في تمييز المشتركات مثلا ، كما إذا قال : إن عمر بن يزيد الواقع في سند الرواية الكذائية هو الثقة بقرينة كون الراوي عنه ثقة ، فإن توثيقه موجب للظن بالحكم الشرعي الذي تضمنته الرواية.

والسر في عدم الفرق في ذلك كله : وحدة المناط في حجية الظن ـ وهو الأقربية إلى الواقع ـ في الجميع كما تقدم ، وهذا المناط يوجب التلازم بينه وبين مؤدى الأمارة ، فيكون الجميع حجة ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٨٢».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية كما هو العادة.

(١) الضمير المستتر راجع على الموصول المراد به الأمارة ، والضمير البارز راجع على الظن بالحكم ، واسم «كان» ضمير مستتر راجع على الموصول في «فيما» أو «بما» المراد به الحكم.

وغرضه من هذا الكلام : أن اعتبار الأمارة الموجبة للظن بالحكم مع الواسطة ـ كقول اللغوي ـ مختص بأحكام انسد فيها باب العلم والعلمي ، فمع انفتاح باب العلم والعلمي بها لا يكون ذلك الظن الحاصل من تلك الأمارة حجة فيها ـ أي : في الأحكام ـ وإن انسد باب العلم والعلمي في اللغة ، فالمدار في حجية قول اللغوي على انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام دون انسداد بابهما في اللغة مع فرض الانفتاح في أكثر الأحكام.

والحاصل : أن المعيار في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي هو : انسداد باب العلم بالأحكام دون اللغات.

٧٠

لا يختص (١) عنه فيما إذا كان مما ينسد فيه باب العلم فقول أهل اللغة حجة (٢) فيما يورث الظن بالحكم مع الانسداد ؛ ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.

نعم (٣) ؛ لا يكاد يترتب عليه أثر آخر (٤) من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو

______________________________________________________

(١) الظاهر أنه هو الصحيح ؛ إذ هو في مقام بيان مورد حجية الظن الحاصل من اللغوي ، فما في بعض النسخ من «لا يختص» لعله سهو من النساخ.

(٢) يعني : إذا انسد باب العلم باللغة في مورد ـ كلفظ الصعيد في المثال المتقدم ـ كان قول اللغوي حجة فيه إذا أورث الظن بالحكم الشرعي ، مع انسداد باب العلم بالأحكام ، ولو فرض انفتاح باب العلم باللغة في غير ذلك المورد ؛ إذ المناط في حجية الظن بالحكم الشرعي الثابتة بدليل الانسداد في مورد كلفظ الصعيد تحقق الانسداد ؛ ولو في خصوص ذلك المورد.

(٣) استدراك على حجية الظن بالحكم الشرعي ، الحاصل ذلك الظن من كلام اللغوي بدليل الانسداد.

وحاصله : منع الملازمة في حجيته إذا تعلق بالحكم الشرعي مع حجيته في الموضوعات الخارجية.

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٨٣» ـ أن حجية قول اللغوي في الأحكام إذا أوجب الظن بها لا تستلزم حجيته في الموضوعات الخارجية ؛ كالوصية والإقرار وغيرهما من الموضوعات ذوات الآثار ؛ لاختصاص دليل الانسداد بالأحكام الكلية ، فلا يثبت حجية الظن في غيرها كلفظ «كثير» و «بعض» إذا ورد في وصية أو إقرار ؛ كما إذا أوصى زيد بأن يعطى كثير من أمواله لعمرو ، أو أقر بأن بعض عقاره لبكر ، فإن الظن المتعلق بهما بواسطة قول اللغوي لا يكون حجة ؛ بل يتوقف حجيته في الموضوعات ذوات الآثار على قيام دليل غير دليل الانسداد على حجية الظن مطلقا في تلك الموضوعات ، سواء حصل من قول اللغوي أم غيره ، أو قيام دليل على حجية قول اللغوي في كل مورد حكما كان أو موضوعا ، فالظن الحاصل من قول اللغوي بمراد الموصي لا يصير حجة إلا بأحد هذين النحوين.

وهذا الاستدراك أفاده الشيخ أيضا بقوله : «وهل يعمل ذلك الظن في سائر الثمرات المترتبة على تعيين معنى اللفظ غير مقام تعيين الحكم الشرعي الكلي كالوصايا والأقارير والنذور؟ فيه إشكال والأقوى العدم ...» (١) الخ.

(٤) يعني : غير تعيين مراد الشارع ، و «من تعيين» بيان له وضمير «عليه» راجع على

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣٨.

٧١

غيرهما (١) من الموضوعات الخارجية ؛ إلا (٢) فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص (٣) ، أو ذاك (٤) المخصوص ، ومثله (٥) الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي ؛ كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا لا آخر (٦).

فانقدح (٧) : أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد ؛ ولو لم يقم دليل على

______________________________________________________

اعتبار قول اللغوي في الأحكام.

(١) أي : كالوقف والنذر اللذين هما من الموضوعات الخارجية ، التي يترتب عليها أحكام شرعية جزئية.

(٢) استثناء من قوله : «لا يكاد يترتب» يعني : لا يكاد يترتب على الظن «أثر آخر» غير الحكم «من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من الموضوعات الخارجية ؛ إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص» ؛ بأن قام دليل عام على حجية الظن مطلقا بالنسبة إلى قول اللغوي ؛ كما لو جرت في أقوالهم مقدمات الانسداد كأن يقال : إنا نقطع بتوجه تكاليف إلينا في أبواب الوصايا والأقارير ونحوهما ، وانسد باب العلم والعلمي بمعاني اللغات ، والاحتياط موجب للعسر أو الاختلال ، ويقبح ترجيح المرجوح على الراجح ، فلا بد من كفاية الظن في اللغة.

(٣) متعلق ب «يثبت» يعني : إلا في الموضوع الذي يثبت فيه بالخصوص جواز التعويل على مطلق الظن ، وذلك كالضرر والنسب وغيرهما ، فإذا حصل الظن ـ من أي سبب ـ بترتب الضرر على الفعل الكذائي كان حجة وترتب عليه الحكم الشرعي.

(٤) عطف على «الخصوص».

(٥) أي : ومثل الظن الحاصل بالحكم من أمارة متعلقه بألفاظ الآية أو الرواية : الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي ؛ كالظن الحاصل من قول الرجالي في توثيق بعض الرواة وكذا في تعيين المشتركين في اسم واحد ؛ كتعيين إن زرارة الواقع في سند كذا هو ابن أعين ـ على وزن أحمد ـ الثقة ، بقرينته من يروي عنه ؛ لا ابن لطيفة.

ووجه اعتبار هذا الظن ما تقدم من أن مقتضى دليل الانسداد هو : حجية الظن بالحكم الشرعي الكلي ، سواء تعلق بالظن بالواقع بلا واسطة أم معها.

(٦) وهو زرارة بن لطيفة ، أو غيره من الستة الذين هم مجاهيل.

(٧) أي : فظهر بما ذكر من كفاية كل ظن متعلق بالحكم في حال الانسداد : «أن الظنون الرجالية» ، وهي عبارة عن الظن بكثير من الرواة أنهم ثقة أو غير ثقة «مجدية في

٧٢

اعتبار قول الرجالي لا من باب الشهادة ، ولا من باب الرواية.

تنبيه (١) : لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل السند

______________________________________________________

حال الانسداد» أي : انسداد باب العلم في الأحكام الشرعية ؛ «ولو لم يقم دليل» خاص ولا دليل انسداد صغير خاص بباب الرجال ، «على اعتبار قول الرجالي لا من باب الشهادة» ، وهي الإخبار بشيء عن حسّ ؛ بشرط تعدد المخبر وعدالته ؛ بأن يكون اثنين أو أربعة على اختلاف الموارد المعهودة في الشرع ، واندراج قول الرجالي في باب الشهادة إنما هو لأجل تعلقه بموضوع خارجي كالعدالة والوثاقة والاستقامة في المذهب وغير ذلك.

ومن المعلوم : أن الغالب عدم اقتران قول الرجالي بما يعتبر في الشهادة من التعدد والعدالة.

«ولا من باب الرواية» وهي : إخبار واحد أو أزيد ، ففي الشهادة : يعتبر التعدد دون الرواية. واعتبار قول الرجال في حال الانسداد يكون لأجل الانسداد.

وحاصل كلام المصنف : أن الظن الحاصل من قول الرجالي حجة بدليل الانسداد ، من دون حاجة إلى تكليف إثبات حجيته من باب الشهادة أو من باب الرواية.

نعم ؛ على فرض الانفتاح : لا بد لإثبات حجيته من الالتزام بكونه من باب الشهادة أو الرواية ، أو لأجل الوثوق والاطمئنان.

تقليل الاحتمالات المتطرقة في الرواية

(١) وقبل الخوض في أصل المقصود ينبغي بيان ما يمكن أن يكون محل الكلام وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن استكشاف الحكم الشرعي من الخبر يتوقف على حفظ جهات ثلاثة :

١ ـ الصدر. ٢ ـ الدلالة. ٣ ـ جهة الصدور.

فهناك أقسام ، وعمدتها هي ثلاثة :

الأول : إمكان العلم الوجداني في تمامها.

الثاني : إمكان العلمي كذلك.

الثالث : عدم إمكانهما في جميعها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل الكلام هو القسم الثالث ، ثم نقول : إن الغرض من هذا التنبيه : أنه إذا حصل الظن بالحكم الشرعي من أمارة قامت عليه ، وكان احتمال خلافه ناشئا عن أمور كثيرة مرتبطة بسند تلك الأمارة أو متنها أو دلالتها أو غير

٧٣

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك ، وتمكن المكلف من رفع تلك الأمور أو بعضها ؛ ليرتفع احتمال الخلاف ؛ وذلك بالفحص عن وجود حجة رافعة لها من علم أو علمي ، وجب تحصيل تلك الحجة ورفع الاحتمال مهما أمكن ، وإن لم يحصل له بذلك العلم بالحكم ؛ وذلك لأن رفع احتمال الخلاف أو تقليله ربما أوجب قوة في الظن المذكور.

وببيان أوضح ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٨٧» ـ : أنه لا بد في التمسك بالخبر وفهم مراد الشارع منه من إحراز أمور ثلاثة :

أحدها : أصل صدوره.

ثانيها : دلالته على المراد وعدم إجماله.

ثالثها : جهة صدوره ، أعني : إحراز أنه صدر لبيان الحكم الواقعي لا لتقيّة مثلا.

ومن المعلوم : أن إحراز هذه الأمور ـ في ظرف الانفتاح ـ لا بد أن يكون بعلم أو علمي فقط ، ولا يكفي إحرازها بالظن المطلق ، فإذا ورد في سند رواية «عن ابن سنان» مثلا فلا بد من تحصيل الوثوق بأنه عبد الله بن سنان الثقة (١) لا محمد بن سنان الضعيف (٢).

وهكذا الكلام بالنسبة إلى دلالة الخبر وجهة صدوره ، وهل في حال الانسداد ـ كما هو المفروض ـ يتنزل من العلم إلى مطلق الظن ولو بمرتبته الضعيفة ، أم اللازم تحصيل المرتبة القوية منه وهي الموجبة للاطمئنان مثلا وجعل الاحتمال الآخر المخالف للظن ضعيفا جدا؟

اختار المصنف وجوب تقليل الاحتمال والأخذ بخصوص الاطمئنان إذا أمكن ؛ وذلك لأنه ـ بناء على كون نتيجة مقدمات دليل الانسداد حجية الظن حكومة ـ لا يبعد استقلال العقل بالحكم بوجوب تضعيف احتمال خلاف الظن من تقليل الاحتمالات

__________________

(١) هو عبد الله سنان «بن طريف ، مولى بني هاشم ، وكان خازنا للمنصور والمهدي والهادي والرشيد. كوفي ، ثقة من أصحابنا ، جليل ، لا يطعن عليه في شيء. روى عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» ، وقيل : روى عن أبي الحسن موسى «عليه‌السلام» ، وليس يثبت». له كتب. رجال النجاشي : ٢١٤ / ٥٥٨.

(٢) محمد بن سنان : «أبو جعفر الزاهري ، من ولد زاهر جولى عمرو بن المحق الخزاعي .. روى عن الرضا «عليه‌السلام» .. وهو رجل ضعيف لا يعوّل عليه ولا يلتفت إلى ما تفرد به ..» ، رجال النجاشي : ٣٣٨ / ٨٨. وقد حدّث قبل وفاته أنه «كل ما حدثتكم به لم يكن لي سماع ولا رواية ؛ وإنما وجدته». اختيار معرفة الرحال ٢ : ٧٩٦ / ٩٧٦.

٧٤

أو الدلالة أو جهة الصدور مهما أمكن في الرواية (١) ، وعدم اقتصار على الظن الحاصل منها بلا سد بابه (٢) فيه (٣) بالحجة (٤) من علم أو علمي ؛ ...

______________________________________________________

المتطرقة في السند أو غيره ، مثلا : إذا ظن بأن زرارة الراوي هو ابن عين ، وكان احتمال إنه ابن لطيفة مثلا ناشئا من أمور يمكن سد بعضها بالحجة من علم أو علمي حتى يصير الظن بأنه ابن أعين في أعلى مراتبه ، فمقتضى القاعدة وجوب السد ؛ لأن العقل الحاكم بكفاية الإطاعة الظنية إنما يحكم بكفاية خصوص الظن الاطمئناني منها ؛ لأنه أقرب إلى الواقع من غيره ، فمع التمكن منه لا تصل النوبة إلى غيره من الظنون الضعيفة.

فعلى هذا يجب تقليل الاحتمالات سواء كانت في السند أم الجهة أم الدلالة.

وهذا خلافا لما حكي عن بعضهم من التفصيل في وجوب تقليل الاحتمالات بين الصدور وغيره ، وأنه لو فرض إمكان تحصيل العلم أو العلمي بالصدور في مسألة كان باب العلم بحكم تلك المسألة مفتوحا ، وإن كان بابه بالنسبة إلى الدلالة وجهة الصدور مسدودا ، وعليه : فلا يجوز التنزل في تلك المسألة إلى الظن الانسدادي ؛ لعدم تحقق الانسداد ؛ بل يجب تحصيل العلم أو العلمي بالصدور ، وتحصيل الجهتين الأخريين إما بالعلم أو العلمي إن أمكن أيضا ؛ وإلا فبالظن المطلق ، وإن لم يكن تحصيل العلم أو العلمي بالصدور ؛ بأن كان باب العلم به مسندا وجب التنزل فيه حينئذ إلى ما استقل به العقل ، أعني : الظن المطلق ؛ وإن أمكن تحصيل العلم أو العلمي بالنسبة إلى الجهتين الأخريين.

وبالجملة : فالمدار في جواز التنزل إلى ما استقل به العقل عند هذا المفصل هو : انسداد باب العلم والعلمي بالنسبة إلى الصدور فقط ، وعند المصنف «قدس‌سره» : هو انسداده بالنسبة إلى أية واحدة من تلك الجهات ؛ لكن المعتبر هو التنزل إلى الظن القوي منه ، المعبر عنه بالاطمئنان إذا أمكن. والسر في عدم الفرق واضح ؛ فإن مجرد كون سند الرواية معلوم الصدور أو مظنونا بالظن الخاص لا يوجب العلم بالحكم الشرعي ؛ ما لم تكن ظاهرة في المقصود ، ولم يحرز أن صدورها لبيان الحكم الواقعي.

وعليه : فلا فرق بين السند وغيره أعني : الجهتين فيما ذكر من عدم جواز التنزل ـ حال الانسداد ـ إلى الظن الضعيف ، مع التمكن من الظن القوي عقلا.

(١) التي هي سبب للظن بالحكم ، وضمير «منها» راجع على السند وأخويه.

(٢) أي : باب الاحتمال ، والأولى تأنيث الضمير لرجوعه إلى الاحتمالات. والمراد بها الاحتمالات المقابلة للظنون أي : الموهومات.

(٣) في السند أو الدلالة أو الجهة ، والأولى تأنيثه أيضا.

(٤) متعلق ب «سد» أي : سد باب الاحتمال يكون بالحجة من علم أو علمي.

٧٥

وذلك (١) لعدم جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف ، مع التمكن من القوي (٢) أو ما بحكمه (٣) عقلا (٤) ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

(١) علة لوجوب تقليل الاحتمالات.

(٢) كما إذا كانت الحجة الموجبة لقلة الاحتمالات علما.

(٣) أي : ما بحكم القوي ؛ كما إذا كان الموجب لقلتها علميا وهو الظن الخاص ، فإنه بحكم الظن القوي ؛ لأنه موجب لقلة الاحتمالات حكما مع بقائها حقيقة.

(٤) قيد لقوله : «لعدم جواز التنزل» يعني : أن عدم جواز التنزل إنما هو بحكم العقل.

فالمتحصل : أن مقتضى هذا الحكم العقلي بعدم جواز التنزل أن أي مورد أمكن العلم والعلمي ولو كان موردا واحدا لم يخبر التنزل ، فلو انسد الباب في الجهات الثلاث في جميع الأخبار ؛ لكن جهة واحدة في خبر واحد يمكن تحصيل العلم والعلمي فيها لا يجوز التنزل إلى الظن في تلك الجهة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور تالية :

١ ـ لا فرق في عموم النتيجة بين حصول الظن بالحكم الشرعي من أمارة قامت عليه بلا واسطة كما إذا قامت على وجوب شيء أو حرمته ، وبين حصول الظن بالحكم الشرعي من أمارة عليه مع الواسطة ؛ كما إذا قال اللغوي : الصعيد هو مطلق وجه الأرض ، فهذا يوجب الظن بجواز التيمم بمطلق الأرض في قوله تعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) ، وكذا الظن الحاصل بالحكم الشرعي من قول الرجالي على وثاقة راوي ينقل الحكم عن المعصوم «عليه‌السلام». والوجه في عدم الفرق هو : إطلاق حكم العقل بحجية الظن حال الانسداد.

٢ ـ أن الظن الحاصل من قول اللغوي حجة إذا كان متعلقا بحكم شرعي ، وليس بحجية في تشخيص موضوعات الأحكام ؛ كالألفاظ الواردة في أبواب الوصية والوقف ونحوهما ؛ لأن المفروض : هو انسداد باب العلم والعلمي في الأحكام ، فتكون مقدمات الانسداد تامة في خصوص الأحكام لا الموضوعات.

فالحاصل : أن المعيار في حجية الظن الحاصل من قول اللغوي أو الرجالي هو انسداد باب العلم بالأحكام لا باللغات والموضوعات.

٣ ـ تنبيه : في تقليل الاحتمالات المتطرقة في السند أو الجهة أو الدلالة أو فيها جميعا ، بمعنى : أنه إذا حصل الظن بالحكم الشرعي من أمارة ، وكان احتمال خلافه ناشئا من

٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

أمور كثيرة مرتبطة بالسند أو الدلالة أو الجهة ، وتمكن المكلف من رفع تلك الأمور أو بعضها بالفحص عن وجود حجة رافعة لها من علم أو علمي : وجب تحصيل تلك الحجة ، ورفع الاحتمال مهما أمكن وإن لم يحصل له بذلك العلم بالحكم وذلك لأن رفع احتمال الخلاف أو تقليله ربما يوجب قوة في الظن المذكور.

هذا ما أشار إليه بقوله : «لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات» ، مثلا : إذا ظن بأن زرارة الراوي هو ابن أعين ، وكان احتمال أنه ابن لطيفة مثلا ناشئا من أمور يمكن سد بعضها بالحجة من علم أو علمي حتى يصير الظن بأنه ابن أعين في أعلى مراتبه : فمقتضى القاعدة : وجوب السد ؛ لأن العقل الحاكم بكفاية الإطاعة الظنية إنما يحكم بكفاية خصوص الظن الاطمئناني منها ؛ لأنه أقرب إلى الواقع من غيره ، فمع التمكن منه لا تصل النوبة إلى غيره من الظنون الضعيفة.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ هو حجية الظن بالحكم الشرعي مطلقا ، يعني : سواء كان متعلقا بالحكم الشرعي بلا واسطة أو معها.

٢ ـ وجوب تقليل الاحتمالات ، سواء كانت في السند أم الجهة أم الدلالة.

٧٧
٧٨

فصل

إنما الثابت (١) بمقدمات دليل الانسداد في الأحكام هو : حجية الظن فيها لا حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها ، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة يومها ، لا في إتيانها ؛ بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها كما لا يخفى.

______________________________________________________

الظن بالاشتغال والامتثال

(١) المقصود من هذا الفصل : بيان عدم اعتبار الظن الانسدادي في مقام الامتثال ، بمعنى : أن الثابت بمقدمات الانسداد هو : حجية الظن في إثبات الأحكام الشرعية لا في إسقاطها وتطبيق المأتي به عليها ، فلو ظن المكلف بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال كان هذا الظن حجة ، وأما لو شك في الساعة الثانية من أول ليلة من الشهر في أنه هل أتى بالدعاء أم لا؟ ثم حصل له الظن بالإتيان لم يكن ظنه هذا حجة ؛ بل يجب عليه الإتيان بالدعاء ؛ لأن مقدمات الانسداد لم تدل على حجية الظن بالامتثال ؛ بل لا بد وأن يرجع في مقام الامتثال إلى القواعد الخاصة بهذا المقام ؛ من استصحاب وقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز ونحوها.

فالظن الانسدادي إنما يكون حجة في مقام إثبات التكليف ، ولا يكون حجة في مقام إسقاط التكليف وامتثاله. هذا مجمل الكلام في المقام.

وأما تفصيل ذلك فيتوقف على مقدمة وهي : إن للعمل بالحجج ـ ومنها الظن الانسدادي ـ مرحلتين :

الأولى : إثبات التكليف واشغال الذمة به من علم أو علمي ؛ كقيام الدليل على وجوب صلاة الجمعة مثلا.

الثانية : امتثال التكليف وتفريغ الذمة عنه ، ولا ملازمة بين المرحلتين في حجية شيء ، بمعنى : أنه إذا صار شيء حجة في مرحلة إثبات التكليف واشغال الذمة به : فلا يستلزم ذلك أن يكون في مرحلة امتثاله والفراغ عنه حجة أيضا ، بتوهم : أن أصل التكليف لما كان ثبوته ظنيا ـ حسب الفرض ـ كان امتثاله ظنيا أيضا ؛ وإن حصل العلم بالإتيان بمتعلقه وانطباقه على المأتي به.

٧٩

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا عرفت هذه المقدمة فالوجه في ذلك واضح ، فإن العقل إنما يستقل بحجية الظن وتقرير الجاهل في خصوص ما انسد عليه باب العلم فيه ، وهو نفس الحكم.

أما فيما يمكنه فيه العلم كالموضوعات الخارجية ومنها امتثال الحكم وتفريغ الذمة عنه : فلا يستقل بحجية الظن فيه ولا يعذر الجاهل.

ففي المقام : إذا ظن بالانسداد أن صلاة الجمعة واجبة كان هذا الظن في مرحلة ثبوت التكليف به حجة قطعا ، ووجبت عليه صلاة الجمعة ، فإذا ظن بالظن الانسدادي أيضا أنه أتى بصلاة الجمعة ، أو علم أنه أتى بصلاة قطعا ، وظن بالانسداد أن ما أتى به مطابق للمأمور به ، مع احتمال عدم الإتيان بها ، أو عدم مطابقته له لاختلال بعض الأجزاء أو الشرائط ، لم يكن هذا الظن حجة ؛ بل لا بد له في مقام الفراغ عما اشتغلت ذمته به من الرجوع إلى غير الظن من علم أو علمي أو أصل كقاعدتي الفراغ والتجاوز.

فحاصل ما اختاره المصنف هو : عدم حجية الظن الانسدادي في مقام الامتثال.

ومثل الظن بأصل الإتيان ـ في عدم الحجية ـ الظن بانطباق عنوان الواقع المنجز على المأتي به ؛ كما إذا علم بأنه أتى في أول الزوال بصلاة ، وبعد مضي زمان صلاة الجمعة حصل له الظن بأنه أتى بها بعنوان صلاة الجمعة لا صلاة الظهر ، فلا يكتفي بها ؛ بل عليه تحصيل اليقين بإتيان الواقع المنجز ، وكذا إذا حصل له الظن بأن قبلة أهل العراق ما بين المشرق والمغرب ؛ لكنه لم يتيقن بوقوع الصلاة إليها ؛ بل ظن به ، فإنه ظن في التطبيق ، ولا يندرج في الظن المعتبر بدليل الانسداد.

فالمتحصل : إن اعتبار الظن بدليل الانسداد إنما هو في نفس الأحكام لا في امتثالها ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٩٢» مع تصرف وتلخيص منا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

وضمير «فيها» و «معها» راجعان على الأحكام ، و «معها» متعلق بالتطبيق. والأولى تبديله ب «عليها». والأولى سوق العبارة هكذا : «لا حجيته في انطباق الواقع على المأتي به في الخارج» ؛ وذلك لأن الكلي هو الذي ينطبق على الفرد المتشخص الموجود في الخارج دون العكس.

قوله : «فيتبع» يعني الظن ، و «في وجوب» متعلق ب «يتبع» ، وضمير «يومها» راجع على الجمعة ، وضميرا «في إتيانها ، بإتيانها» راجعان على صلاة الجمعة.

٨٠