دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وأنه (١) كالإقدام على ما علم مفسدته ؛ كما استدل به شيخ الطائفة «قدس‌سره» على أن الأشياء على الحظر أو الوقف (*).

قلت : استقلاله بذلك (٢) ممنوع ، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان ، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته ، ولا يعاملون معه (٣) ما علم مفسدته.

______________________________________________________

دفعه ، فتكون هذه الكبرى بيانا للمشكوك وصالحة لرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فالمتحصل : نعم احتمال الوجوب لا يلازم احتمال المنفعة ، واحتمال الحرمة لا يلازم احتمال المضرة ولا العقاب الأخروي ؛ «ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام ...» الخ. وهذا المقدار كاف في حكم العقل بلزوم الاجتناب عن محتمل الحرمة الملازم لاحتمال المفسدة ، فإن المفسدة المحتملة مما لا يجوز الإقدام عليها ، كما لا يجوز الإقدام على المفسدة المعلومة.

(١) عطف على «قبح» ، وضميره راجع على الإقدام ، أي : وبأن الإقدام على «ما لا تؤمن مفسدته كالإقدام على ما علم مفسدته» في القبح عقلا.

(٢) أي : استقلال العقل بقبح الإقدام على محتمل المفسدة ، وأنه كالإقدام على معلوم المفسدة ممنوع. هذا جواب عن الإشكال المذكور.

وحاصل الجواب : أن ما ذكر من الحكم العقلي ممنوع لشهادة الوجدان ، وجريان عادة العقلاء على عدم التحرز عن محتمل المفسدة ، ولزوم التحرز عن معلومها ، فإنهم يركبون أمواج البحار ويقتحمون أهوال البراري والقفار للتجارة وغيرها ، مع احتمال الغرق وغيره من الأخطار ؛ لا مع العلم به.

هذا مضافا إلى إذن الشارع في الإقدام على المفسدة المحتملة في الشبهات الموضوعية ، بمثل قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» ، فلو كان الإذن في الإقدام عليها قبيحا كقبح الإقدام على المفسدة المعلومة لم يأذن فيه ؛ لأن الإذن في الإقدام على القبيح قبيح ، ويمتنع صدور القبيح عن الحكيم تعالى.

فصدور الإذن فيه منه تعالى يشهد بعدم قبحه ، فلا أصل للقاعدة المذكورة.

(٣) أي : مع ما لا تؤمن مفسدته.

__________________

(*) عدة الأصول ٢ : ٧٥٠.

١٨١

كيف (١)؟ وقد أذن الشارع بالإقدام عليه ، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح ، فتأمل (٢).

______________________________________________________

(١) يعني : كيف يكون الإقدام على محتمل المفسدة قبيحا؟ والحال أن الشارع قد أذن في الإقدام عليه ، مع قضاء الضرورة بامتناع صدور الإذن في ارتكاب القبيح منه.

(٢) لعله إشارة إلى أن إذن الشارع في ارتكاب محتمل المفسدة لا يكون شاهدا على عدم قبحه ارتكابه ؛ إذ من الممكن إذنه في ارتكاب محتمل المفسدة مع بقائه على قبحه ، غاية الأمر : أن إذنه فيه سبب لتدارك قبحه ولو بالمصلحة التسهيلية ، أو كاشف عن وجود المزاحم الأهم أو المساوي ، أو إشارة إلى تفريق العقلاء بين المفاسد المحتملة ، ففي بعضها لا يجيزونها ولا يقدمون عليها ؛ لأن المفسدة المحتملة كبيرة. هذا بخلاف المفاسد الجزئية.

أو إشارة إلى : أن التخلص بإذن الشارع في الشبهة الموضوعية عن قبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته يخرجنا عن التمسك بالدليل العقلي على البراءة ، ويحوجنا في الجواب عن تلك القاعدة إلى الترخيص الشرعي.

هذا تمام الكلام في الأدلة الأربعة التي أقيمت على جريان البراءة في الشبهة البدوية ـ وجوبية كانت أم تحريمية ، موضوعية أم حكمية ـ من غير فرق في الشبهة الحكمية بين كون سبب الشبهة إجمال النص أو فقدانه أو تعارض النصين ، كل ذلك لإطلاق أدلة البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور تالية :

١ ـ تقريب الاستدلال العقلي على البراءة يتوقف على مقدمة وهي :

أولا : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما يكون دليلا على البراءة ، بناء على ما هو مذهب العدلية من القول بالحسن والقبح العقليين.

وأما بناء على قول الأشاعرة الذين لا يقولون بهما : فلا يكون دليلا على البراءة ؛ إذ لا قبح حتى يحكم به العقل.

وثانيا : بأن يكون المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعا لحكم العقل بقبح العقاب هو البيان الواصل إلى المكلف ؛ لا البيان الواقعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك : حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد فحصه موارد وجود التكليف ، وعدم وجدانه دليلا عليه ، فيكون حينئذ

١٨٢

.................................................................................................

______________________________________________________

معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول ؛ لأن فوت التكليف حينئذ مستند إلى عدم البيان من المولى ؛ لا إلى تقصير من المكلف.

٢ ـ الإشكال على هذه القاعدة بقاعدة عقلية ثانية : ـ وهي وجوب دفع الضرر المحتمل ـ فيقال في تقريب الإشكال : بأن القاعدة الثانية تصلح للبيانية ، فتكون واردة على القاعدة الأولى ، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها.

وحاصل جواب المصنف عن هذا الإشكال : أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان واردة على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ إذ بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان تنفي احتمال الضرر الأخروي ، بمعنى العقاب ، فلا يبقى موضوع لقاعدة دفع الضرر المحتمل ؛ إذ ليس هناك احتمال الضرر الأخروي أصلا.

وأما الضرر الدنيوي وإن كان محتملا ؛ إلا إنه مما لا يجب دفعه لا عقلا ولا شرعا.

٣ ـ الإشكال بأن هناك قاعدة ثالثة : ـ وهي حكم العقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ـ واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

فيقال في تقريب هذا الإشكال : إن احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة ، واحتمال المفسدة كالعلم بها مما يجب دفعه ، فاحتمال الحرمة يجب دفعه بالاجتناب عن محتمل الحرمة ، فتكون هذه القاعدة بيانا للمشكوك ، وصالحة لرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

مدفوع : بأن استقلال العقل بقبح الإقدام على محتمل المفسدة ، وأنه كالإقدام على معلوم المفسدة ممنوع بوجهين :

الأول : شهادة الوجدان وجريان ديدن العقلاء على عدم التحرز عن محتمل المفسدة ، ولزوم التحرز على معلوم المفسدة.

الثاني : أنه قد أذن الشارع في الإقدام على المفسدة المحتملة في الشبهات الموضوعية.

«فتأمل» لعله إشارة إلى فرق العقلاء بين المفاسد الكبيرة والصغيرة ، فحكمهم بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته إنما هو في القسم الأول دون الثاني.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو تمامية الاستدلال بالدليل العقلي على البراءة.

فيصح الاستدلال بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان على البراءة.

١٨٣

واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة ، بالأدلة الثلاثة (١):

أما الكتاب (٢) : فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم ، وعن الإلقاء في التهلكة والآمرة بالتقوى.

______________________________________________________

في أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط

(١) يعني : «الكتاب ـ السنة ـ العقل».

(٢) استدل الأخباريون بطوائف من الآيات على وجوب الاحتياط :

الأولى : ما دل على النهي عن القول بغير علم ، كقوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(١) ، وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)(٢).

الثانية : ما دل على النهي عن الإلقاء في التهلكة ، كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(٣).

الثالثة : ما أمر فيها بالتقوى ، كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ)(٤) ، وقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(٥) هذا مجمل الكلام في الآيات.

وأما تفصيل الكلام فيها فيقع في مقامين :

المقام الأول : تقريب الاستدلال بهذه الآيات على وجوب الاحتياط.

المقام الثاني : في الجواب عن الاستدلال بها على الاحتياط.

وأما تقريب الاستدلال بالطائفة الأولى على وجوب الاحتياط :

فلأن الحكم بجواز ارتكاب محتمل الحرمة ونسبته إلى الشارع افتراء على الشارع ، فيكون تشريعا محرما ، وكذلك القول بالإباحة في محتمل الحرمة قول بغير علم ، فيكون محرما بهذه الطائفة من الآيات.

وأما الجواب عن الاستدلال بهذه الطائفة : فتارة : بالنقض ، وأخرى بالحل.

أما النقض : فيقال : لو كان الحكم بجواز ارتكاب محتمل الحرمة قولا بغير علم لكان القول بوجوب الاحتياط فيه أيضا قولا بغير علم.

وأما الحل : فلأن الحكم بالجواز استنادا إلى ما مر من الأدلة ليس قولا بغير علم ؛ لأن

__________________

(١) الإسراء : ٣٦.

(٢) الأعراف : ٣٣.

(٣) البقرة : ١٩٥.

(٤) آل عمران : ١٠٢.

(٥) التغابن : ١٧٠.

١٨٤

والجواب : إن القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم ؛ لما دل على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل ، ومعهما لا مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا ، ولا فيه مخالفة التقوى ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الترخيص في محتمل الحرمة حكم ظاهري ثابت بأدلة قطعية ، بل القول بغير علم صادق في الحكم بوجوب الاحتياط لعدم دليل عليه.

وأما تقريب الاستدلال بالطائفة الثانية على وجوب الاحتياط : فلأن ارتكاب الشبهة التحريمية يكون من الإلقاء في التهلكة ، فيكون محرما ، فلا بد من الاحتياط في المشتبه ، وهو المطلوب.

وأما الجواب عنها : فلأن المراد من التهلكة : إن كان هو العقاب الأخروي فهو منفي بدليل البراءة ، فدليل البراءة وارد على الآية كوروده على قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

وإن كان هو الضرر الدنيوي : فمضافا إلى كون الشبهة موضوعية لا يجب فيها الاحتياط ، فإنه ليس كل ضرر دنيوي يعدّ تهلكة ؛ بل التهلكة ما يؤدي إلى الموت ، ومن المعلوم : أن المحرمات المحتملة لا يحتمل فيها الضرر بهذا المعنى.

وأما تقريب الاستدلال بالطائفة الثالثة على وجوب الاحتياط : فلأن الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى ، وكل ما كان كذلك واجب ينتج : «الاجتناب عن محتمل الحرمة واجب».

وأما الجواب عنها : فلأن ارتكاب محتمل الحرمة لا يكون منافيا للتقوى ؛ لأن التقوى عبارة عن ترك ما نهى الشارع عنه ، وفعل ما أمر به.

وأما محتمل الحرمة الذي لا يوجد دليل على حرمته ورخص الشارع على ارتكابه : فارتكابه لا ينافي التقوى. هذا مضافا إلى أن آيات التقوى تدل على استحباب الاتقاء ، فتكون خارجة عن المقام ؛ لأن النزاع إنما هو في وجوب الاحتياط. وأما استحبابه فهو مورد للاتفاق.

فالمتحصل : أنه بعد دلالة الدليل العقلي والنقلي على البراءة لا يكون فعل محتمل الحرمة مخالفا للتقوى ، ولا موجبا للتهلكة بمعنى العقوبة ، ولا الحكم بجواز ارتكابه قولا بغير علم.

ولهذا يقول المصنف «قدس‌سره» : «إن القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا ليس قولا بغير علم ...» الخ.

١٨٥

وأما الأخبار (١) : فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة ، معللا في بعضها : بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة ، من الأخبار الكثيرة الدالة عليه

______________________________________________________

الاستدلال بالسنة على وجوب الاحتياط

(١) وقد أشار المصنف «قدس‌سره» إلى طائفتين من الأخبار

الأولى : ما دل على وجوب التوقف.

الثانية : ما دل على وجوب الاحتياط.

ثم الطائفة الأولى : ـ وهي الأخبار الآمرة بالتوقف ـ على طائفتين :

إحداهما : هي الأخبار الدالة على مطلوبية التوقف مطابقة لاشتمالها على مادة الوقوف.

ثانيتهما : هي الأخبار الدالة على التوقف التزاما ؛ لعدم اشتمالها على مادة الوقوف ؛ بل هي الآمرة بالكف والتثبت عند الشبهة ، ولازم الكف عن الشبهة هو : التوقف وعدم الدخول في الشبهة.

وأما تقريب الاستدلال : بأخبار التوقف المعللة ـ مثل قوله «عليه‌السلام» في ذيل مقبولة عمر بن حنظلة بعد تكافؤ المرجحات في الخبرين المتعارضين ـ «فأرجه حتى تلقى إمامك ، فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١) ، فيتوقف على مقدمة : وهي بيان أمور :

الأول : أن كلمة «خير» وإن كانت من صيغ التفضيل إلا إنها منسلخة هنا عن التفضيل ، فلا يكون المراد منها التفضيل في هذه الأخبار ؛ إذ لا خير في الاقتحام في الهلكة حتى يكون معناها : أن الخير في الوقوف عند الشبهة أكثر من الاقتحام فيها.

الثاني : أن يكون المراد بالتوقف التوقف العملي أي : مطلق السكون وعدم المضي في ارتكاب الفعل ، فوجوب التوقف بهذا المعنى معناه : وجوب الاحتياط في موارد الشبهة.

الثالث : أنه لا بد من السنخية بين العلة والمعلول ، بمعنى : أنه لا يصح تعليل الحكم التحريمي بعلة جائزة لعدم السنخية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ظهور المقبولة وما بمضمونها في وجوب التوقف والاحتياط واضح ؛ إذ يستفاد من التعليل : وجوب التوقف في كل شبهة ، ومعنى التوقف : عدم الحركة بارتكاب الشبهة ، وهو مدعى الأخباريين.

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ / ذيل ح ١٠ ، الفقيه ٣ : ٨ / ذيل ٣٢٣٣ ، تهذيب الأحكام ٦ : ٣٠١ / ذيل ح ٨٤٥.

١٨٦

مطابقة أو التزاما ، وبما (١) دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة بألسنة مختلفة (٢).

والجواب : إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية (٣) ، مع دلالة النقل على الإباحة ، وحكم العقل بالبراءة كما عرفت.

______________________________________________________

وأما من الأخبار الدالة على التوقف التزاما : فهي موثقة حمزة بن طيار : أنه عرض على أبي عبد الله «عليه‌السلام» بعض خطب أبيه «عليه‌السلام» ، حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : «كف واسكت» ، ثم قال أبو عبد الله «عليه‌السلام» : «إنه لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلا الكف عنه والتثبت والرد إلى أئمة الهدى ؛ حتى يحملوكم فيه على القصد ، ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(١)» (٢).

ودلالة هذه الرواية وما بمضمونها على وجوب التوقف التزاما عند الشبهة واضحة ؛ إذ لازم الكف والتثبت هو : التوقف من حيث العمل ، والسؤال من أهل الذكر وهم الأئمة «عليهم‌السلام» ؛ على ما في بعض التفاسير (٣).

(١) عطف على «بما» في قوله : «فبما دل» ، وهذا إشارة إلى الطائفة الثانية من الأخبار التي تدل على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية.

(٢) والظاهر : أن مراده «قدس‌سره» من الألسنة المختلفة هو : دلالتها على وجوب الاحتياط مطابقة والتزاما.

فالأول : هو ما اشتمل منها على مادة الاحتياط بهيئات مختلفة مثل : «احتط» و «فعليكم بالاحتياط» (٤) و «خذ بالحائطة لدينك» (٥) ، ونحوها.

والثاني : ـ وهو ما دل على وجوب الاحتياط التزاما مثل : ما ورد من النهي عن القول ـ يعني : الإفتاء ـ بغير علم ، فيدل بالالتزام على وجوب الاحتراز عن المشتبه عملا ، وعدم جواز الاقتحام فيه.

(٣) هذا جواب عن أخبار التوقف المشتملة على التعليل ، وحاصله : ـ على ما في

__________________

(١) النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧.

(٢) الكافي ١ : ٥٠ / ١٠ ، الوسائل ٢٧ : ٢٥ / ٣٣١١٣.

(٣) تفسير العياشي ٢ : ١١٧ / ١٦٠ ، ٢٦٠ / ٣٠ ، ٣٢ تفسير القمي ٢ : ٨٦ ، تفسير فرات : ٢٣٥ / ٣١٥ / ٣١٦ ، مجمع البيان ٧ : ٧٣.

(٤) الكافي ١ : ٢٩١ / ذيل ح ١ ، تهذيب الأحكام ٥ : ٤١٧ / ذيل ح ١٦٣٩.

(٥) تهذيب الأحكام ٢ : ٢٥٩ / ذيل ح ١٠٣١ ، الوسائل ٤ : ١٧٦ / ٤٨٤٠.

١٨٧

وما دل على وجوب الاحتياط (١) لو سلم وإن كان واردا على حكم العقل فإنه كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.

______________________________________________________

«منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣٣٣» ـ أن هذه الروايات أجنبية عن إثبات وجوب الاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص.

بيان ذلك : أن هذه الروايات مشتملة على موضوع وهو الهلكة ، المراد بها ـ بقرينة بعضها كمقبولة عمر بن حنظلة ـ العقوبة ؛ إذ النهي الظاهر في التحريم لا يكون إلا عما هو حرام ، والحرمة توجب استحقاق العقوبة لا الهلكة الدنيوية كما هو واضح ، وعلى محمول وهو وجوب التوقف المستفاد من الأمر به بمثل قوله «عليه‌السلام» : «قفوا عند الشبهة» ، وقوله : «فإن الوقوف خير ...» (١) الخ. بالتقريب المتقدم ، ولا ريب في : أن نسبة المحمول إلى الموضوع كنسبة المعلول إلى العلة في تأخره عنها رتبة ، فلا بد حينئذ من وجود العقوبة قبل الأمر بالتوقف حتى ينبعث عنها الأمر به ، وهذا يختص بما إذا أحرز من الخارج ما يصحح العقوبة عليه ، وهو منحصر في الشبهة البدوية قبل الفحص ، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي. وأما في المقام ، فبما أن المقصود إجراء البراءة بعد الفحص واليأس من الدليل ؛ لما دل من الدليل العقلي والنقلي على جريانها بعد إحراز عدم البيان ، فلا مانع من إجراء البراءة. ولا يمكن إثبات البيان بنفس أخبار التوقف ؛ لأنه مستلزم للدور كما لا يخفى.

تقريب الدور : أن وجوب التوقف متوقف على الهلكة ؛ لأنه معلول لها ، والهلكة متوقفة على البيان ؛ لقبح العقاب بدونه ، فلو توقف البيان على وجوب التوقف كان وجوب التوقف متوقفا على وجوب التوقف وهو الدور.

والمراد من «النقل» من قوله : «مع دلالة النقل على الإباحة» : هي أحاديث الرفع والحل والسعة الدالة على إباحة ما لا تعلم حرمته ظاهرا ؛ «كما عرفت» في أدلة البراءة.

ومن هنا يظهر الجواب عن الأخبار التي تدل على وجوب التوقف التزاما.

وهناك وجوه أخرى في الجواب تركناها رعاية للاختصار.

(١) إشارة إلى الجواب عن أخبار الاحتياط مطلقا ، سواء دلت على الاحتياط مطابقة أو التزاما. والأول : مثل قول أمير المؤمنين «عليه‌السلام» لكميل بن زياد : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ، والثاني : ما ورد من النهي عن القول بغير علم.

وكيف كان ؛ فحاصل ما أفاده المصنف في الجواب يرجع إلى وجوه ثلاثة :

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢١٥ / ١٠٢ ، الكافي ١ : ٥٠ / ١ ، وفيهما «الوقوف عند الشبهة».

١٨٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : ما أشار إليه بقوله : «لو سلم» ، وتوضيحه : أن أوامر الاحتياط مثل : «وقفوا عند الشبهة» ، و «عليكم بالكف والتثبت» ، و «خذ بالحائطة لدينك» ، و «وعليكم بالاحتياط» ونحوها ؛ وإن كانت ظاهرة بدوا في الوجوب المولوي المستلزم لترتب المثوبة على موافقته والعقوبة على مخالفته ؛ إلا إنها تصرف عن هذا الظهور إلى الإرشاد أو الطلب المولوي الجامع بين الوجوب والندب أو الاستحباب ، كقوله «عليه‌السلام» في مرفوعة أبي شعيب : «أورع الناس من وقف عند الشبهة» (١) ، وقوله «عليه‌السلام» : «لا ورع كالوقوف عند الشبهة» (٢) ، وقوله «عليه‌السلام» : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» (٣).

وأما ما لا بد من حمله على الطلب الجامع : فمثل قوله «عليه‌السلام» : «الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة» (٤) ، وقوله «عليه‌السلام» : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ونحوهما ، فإن حمل هذه الروايات على الوجوب مستلزم لارتكاب التخصيص بإخراج الشبهات الوجوبية والموضوعية عنها ؛ لاعتراف الأخباريين بعدم وجوب الاحتياط فيها ، مع أن سياقها آب عن التخصيص ، وحملها على الاستحباب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط مما تنجّز فيه التكليف ودار المكلف به بين أطراف محصورة ، وعليه : فتتعيّن إرادة مطلق الرجحان الجامع بين الوجوب والاستحباب ، فالاحتياط واجب في بعض الموارد كالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومستحب في بعض الموارد كالشبهات البدوية بعد الفحص.

نعم ؛ مع الغض عما تقدم والبناء على الأخذ بظواهر أوامر الاحتياط في الوجوب المولوي : يكون ما دل على وجوبه واردا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، ورافعا لموضوعه ؛ لوجود البيان الظاهري المصحح للعقوبة على مخالفته. هذا ما أشار إليه بقوله : «لو سلم» يعني : لو سلم دلالتها على الوجوب ، ولم نقل بوجود قرائن تدل على أن الأمر فيها للاستحباب أو الإرشاد. «وإن كان واردا على حكم العقل ...» الخ.

__________________

(١) الخصال : ١٦ : ٥٦ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٢ / ٣٣٤٩٢.

(٢) نهج البلاغة ٤ : ٢٦ / جزء من ١١٣ ، الوسائل ٢٧ : ١٦١ / ٣٣٤٨٦.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٤.

(٤) المحاسن ١ : ٢٧٥ / ١٠٢ ، الكافي ١ : ٥٠ / ٩ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٤٧٤ / ذيل ح ٩٢٤ ، الوسائل ٢٠ : ٢٥٥ / ذيل ح ٢٥٥٧٣.

١٨٩

ولا يصغى إلى ما قيل (١) : من «أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن

______________________________________________________

قوله : «فإنه كفى بيانا» تعليل للورود على حكم العقل ، يعني : فإن ما دل على وجوب الاحتياط كاف في البيانية على التكليف المحتمل لتنجزه به.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الجواب عن أخبار التوقف والاحتياط.

والقائل هو الشيخ الأنصاري ، وقد أجاب بهذا الوجه عن خصوص أخبار التوقف ، فإنه «قدس‌سره» بعد أن أجاب عن تلك الأخبار ـ بحمل الأمر على الطلب المشترك بين الوجوب والندب أورد على نفسه إشكالا حاصله : استكشاف وجوب الاحتياط شرعا ، حيث قال ما هذا لفظه : «فإن قلت : إن المستفاد منها ـ يعني : من الأخبار ـ احتمال التهلكة في مخالفة كل محتمل التكليف ـ إلى أن قال ـ فيكشف هذا الأخبار عن عدم سقوط عقاب التكاليف المجهولة لأجل الجهل ، ولازم ذلك إيجاب الشارع الاحتياط ؛ إذ الاقتصار في العقاب على نفس التكاليف المختفية من دون تكليف ظاهري بالاحتياط قبيح ، فيكون إيجاب الاحتياط طاردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لكونه بيانا.

ثم أجاب عنه بقوله : «قلت : إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب الواقعي فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح كما اعترف به. وإن كان حكما ظاهريا نفسيا : فالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته ؛ لا مخالفة الواقع ، وصريح الأخبار إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير الحرمة الواقعية» (١). انتهى.

وحاصل الجواب : أن إيجاب الاحتياط لا يمكن أن يكون طاردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

توضيح ذلك : إن إيجاب الاحتياط شرعا إن كان لأجل التحرز عن العقاب على الحكم الواقعي المجهول لكان قبيحا ؛ إذ على هذا كان العقاب على التكليف المجهول عقابا بلا بيان إذا المفروض : لا بيان له ؛ لأن إيجاب الاحتياط لا يرفع الجهل بالواقع ، فيكون العقاب عليه عقابا على المجهول ، وهو قبيح عقلا كما اعترف به المستشكل نفسه وإن كان إيجاب الاحتياط نفسيا ، لوجود ملاك في نفس الاحتراز عن الشبهة ومع الغض عن الحكم الواقعي المجهول : فاللازم ترتب العقاب على مخالفته لا مخالفة الواقع ، وهذا المعنى وإن كان صحيحا في نفسه إلا إنه غير مقصود للأخباريين ، حيث إنهم التزموا بدلالة أخبار التوقف والاحتياط في الشبهات لأجل الاحتراز عن الهلكة المحتملة المترتبة على الاقتحام في الشبهات ؛ لا لأجل الاحتراز عن مخالفة الاحتياط ، وهذا البيان

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ٧١.

١٩٠

عقاب الواقع المجهول : فهو قبيح (١) ، وإن كان نفسيا : فالعقاب على مخالفته (٢) لا على مخالفة الواقع (٣)» ؛ وذلك (٤) لما عرفت من : أن إيجابه يكون طريقيا ، ...

______________________________________________________

ظاهر في مطلوبية الاحتياط في نفسه ، وليس كذلك ؛ بل الغرض منه هو التحفظ على الأحكام الواقعية.

والحاصل : أنه ـ مع بطلان كل من الاحتمالين في استفادة وجوب الاحتياط شرعا من الأخبار المتقدمة ـ لا محيص عن حملها على الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام الشيخ «قدس‌سره».

(١) لأن الشيء المجهول لا عقاب عليه ؛ لما تقدم من قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ إذ لا يرتفع بإيجاب الاحتياط شرعا ما هو مناط قبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول وهو الجهل به ؛ كحرمة شرب التتن ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان. وضمير «فهو» راجع على ترتب العقاب على المجهول المستفاد من سياق الكلام.

(٢) أي : مخالفة الاحتياط لكونه حينئذ ذا مصلحة في نفسه ، مع الغض عن الواقع مثل : حصول ملكة التقوى له ، كما ربما يستفاد ذلك من مثل قوله «عليه‌السلام» : «فهو لما استبان له من الإثم أترك». وضمير «مخالفته» راجع على الاحتياط.

(٣) مع أن مقصود الأخباريين ـ كما عرفت ـ كون مخالفة الاحتياط موجبة للوقوع في الهلكة من ناحية التكليف المحتمل ؛ لا على مخالفة نفس الاحتياط بما هو.

وكيف كان ؛ فعلى كلا التقديرين لا يمكن أن يكون الاحتياط طاردا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(٤) تعليل لقوله : «ولا يصغى» يعني : أن وجه عدم الإصغاء إلى ما قيل ما عرفت من «أن إيجابه يكون طريقيا». فهذا رد لجواب الشيخ «قدس‌سره» عما أورده على نفسه من الإشكال المتقدم ، وقد عرفت الإشكال مع جوابه.

وتوضيح هذا الرد من المصنف على الشيخ «قدس‌سرهما» : أن الأمر المولوي بالاحتياط ـ على فرض تسليم وجوبه شرعا ـ لا ينحصر في القسمين الباطلين أعني : النفسي والمقدمي ؛ ليبطل وجوب الاحتياط ، وتجري أدلة البراءة بلا معارض ، بل هناك قسم آخر منه ـ وهو الوجوب الطريقي بمعنى إيجاب الاحتياط بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول ؛ بأن يكون الغرض من إنشاء وجوب الاحتياط إقامة الحجة على التكليف الواقعي المجهول ؛ بحيث توجب تنجزه وحفظه حال الجهل به ، لاهتمام الشارع

١٩١

وهو (١) عقلا مما يصح أن يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة ، كما هو (٢) الحال في أوامر الطرق والأمارات والأصول العملية ؛ إلا إنها تعارض بما هو أخص وأظهر ، ضرورة : أن ما دل على حلية المشتبه أخص ؛ بل هو في الدلالة على الحلية

______________________________________________________

بمصلحته ، وحينئذ : فإذا خالفه واتفق مصادفته للواقع استحق العقوبة على ذلك ؛ لصدق العصيان عليه بعد تنجزه على المكلف بإيجاب الاحتياط ، فالعقاب حينئذ على الواقع المجهول عقاب مع البيان ، وعليه : فتكون أدلة إيجاب الاحتياط واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لصلاحيتها للبيانية ، فلا يحكم العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان وقبح العقاب مع إيجاب الاحتياط كما يحكم به بدونه.

(١) هذا الضمير وضمير «به» راجعان على الإيجاب الطريقي.

(٢) أي : كما يصح الاحتجاج من المولى على عبده على مخالفة الواقع بسبب الأمر بسلوك الطرق والأصول المثبتة ، ولا يقبح المؤاخذة عليها ، فكذا لا يقبح العقاب على المخالفة بسبب إيجاب الاحتياط ؛ لأن جميعها قد وضع طريقا لدرك مصلحة الواقع ، ومع ذلك فإنها كلها واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ولا فرق بين الاحتياط شرعا في الشبهة البدوية ـ إذا قلنا به ـ والاحتياط عقلا في الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وكيف كان ؛ فالحق في الجواب أن نقول : إن أخبار الاحتياط وإن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان «إلا إنها تعارض بما هو أخص» منها «وأظهر». وضمير «أنها» راجع على أخبار الاحتياط المستفاد من قوله : «وما دل على وجوب الاحتياط» ، وهذا استدراك على قوله : «وإن كان واردا على حكم العقل» ، وإشارة إلى الوجه الثالث من الجواب عن تلك الأخبار.

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣٤٦» ـ أن أخبار الاحتياط ـ بناء على ظهورها في الوجوب المولوي ـ وإن كانت واردة على قاعدة القبح ؛ لصلاحيتها للبيانية كما عرفت ، ولا يبقى معها موضوع للبراءة العقلية ؛ إلا إنها معارضة بأخبار البراءة ، ويتعين تقديمها على أخبار الاحتياط لوجهين :

أحدهما : أخصية موضوع أخبار البراءة من موضوع أخبار الاحتياط ، ومن البديهي : تقدم الخاص على العام.

والآخر : أظهريتها في الدلالة على حلية المشتبه من دلالة تلك الأخبار على وجوب الاحتياط في الشبهات.

وأما توضيح الوجه الأول : فلأن ما دل على البراءة وحلية المشتبه مثل قوله : «كل

١٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام» ، و «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» ، وحديث الرفع والسعة ونحوها ، لا يشمل الشبهات قبل الفحص ؛ إذ لا خلاف بين الأصولي والأخباري في وجوب الاحتياط فيها ، وإنما الخلاف بينهما في وجوبه فيها بعد الفحص.

وما دل على وجوب الاحتياط مثل قوله «عليه‌السلام» : «فعليكم بالاحتياط» يدل عليه مطلقا ، يعني : قبل الفحص وبعده ، فيكون أعم مما دل على البراءة ، ولا ريب في وجوب تخصيص العام بالخاص ، فيخصص ما دل على وجوب الاحتياط بما دل على البراءة.

فالنتيجة : أنه يجب الاحتياط في كل شبهة إلا في الشبهات البدوية بعد الفحص ، وهو المطلوب.

وأما توضيح الوجه الثاني : فلأنه ـ مع الغض عن أخصية موضوع أخبار البراءة من موضوع أخبار الاحتياط ، وتسليم أن الموضوع في كل منهما عنوان المشتبه والمجهول ـ يتعين تقديم أخبار البراءة عليها بمناط الأظهرية ، ضرورة : أن دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التوقف والاحتياط عن الشبهات مستندة إلى ظهور هيئة «افعل» في قولهم «عليهم‌السلام» : «احتط لدينك» في الوجوب ، ولا شك في عدم صراحة الصيغة فيه ، وهذا بخلاف أدلة البراءة ، فإنها إما نص في حلية مشتبه الحكم مثل حديث الحل الوارد فيه «فهو حلال» ، وما أظهر في البراءة مثل حديث الرفع والسعة ونحوهما.

فإنها لو لم تكن نصا في الترخيص فلا أقل من كونها أظهر فيه من دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التحرز عن المشتبه ، ومن المقرر في محله : تقدم الأظهر على الظاهر ، وعدم ملاحظة قواعد التعارض بينهما.

وعليه : فتقدم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط بمناط الأظهرية.

هذا على ما هو الموجود في المتن من عطف «أظهر» على «أخص» بالواو ، وأما بناء على كون العطف ب «أو» كما في بعض النسخ فمعنى العبارة : أن تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط مستند إلى أحد الوجهين على سبيل منع الخلو ، يعني : أن أدلة البراءة قرينة على التصرف في أدلة الاحتياط فتقدم عليها ؛ إما لأن موضوعها أخص من موضوع أدلة الاحتياط ، وإما لأنها أظهر في الترخيص من أدلة الاحتياط في وجوب التحرز.

قوله : «ضرورة» بيان لقوله : «أنها تعارض بما هو أخص وأظهر».

ضمير «هو» في قوله : «بل هو في الدلالة» راجع على «ما» الموصول ، يعني : أن

١٩٣

نص ، وما دل (١) على الاحتياط ، غايته أنه ظاهر في وجوب الاحتياط. مع (٢) أن هناك

______________________________________________________

الأخصية وإن كانت ملازمة غالبا للأظهرية ، إلا إن في المقام خصوصية تجعل أخبار البراءة نصا في الترخيص ، وتلك الخصوصية عبارة عن كون الدال على البراءة هي المواد مثل : «حلال ومطلق وسعة» ونحوها دون الهيئات ، فإنه ليس شيء أوضح دلالة على الحلية والترخيص من مثل قوله «عليه‌السلام» : «فهو حلال» ، بخلاف الهيئات كما في أدلة الاحتياط ، فإن هيئة «افعل» كما في قوله «عليه‌السلام» : «احتط لدينك» ليست أكثر من كونها ظاهرة في الوجوب.

(١) عطف على «ما دل» ووجه ظهورها في وجوب الاحتياط ما عرفت من دلالة الهيئة عليه ، ومن المعلوم : أن الهيئة ظاهرة في الوجوب ، وليست نصا فيه ، فيمكن رفع اليد عنه بقرينة ما هو نص أو أظهر منه ، كما هو الحال في رفع اليد عما هو ظاهر في الوجوب بقرينة الاستحباب ، فتحمل أوامر الاحتياط على الفضل.

(٢) يعني : أن ما ذكرناه إلى هنا من تقديم أخبار البراءة على أدلة الاحتياط بمناط الأخصية أو الأظهرية إنما هو مع تسليم دلالة أخبار الاحتياط على الطلب المولوي ، حتى تصل النوبة إلى علاج المانع ، وهو تعارضها مع أدلة البراءة بتقديمها على أدلة الاحتياط بالجمع الدلالي ، ولكن لا مجال لهذا الجمع بعد قصور أخبار الاحتياط عن إثبات الطلب المولوي ولو الاستحبابي منه ، وذلك لوجود قرائن داخلية وخارجية دالة على أن الأمر بالاحتياط للإرشاد. وضمير «أنه» راجع على ما دل على وجوب الاحتياط.

ثم إن سياق كلام المصنف يقتضي جعل ـ قوله : «مع أن هناك قرائن دالة على أنه للإرشاد» ـ جوابا عن خصوص أخبار الاحتياط ؛ لأنه ذكره في ذيل الجواب عنها ، لكن بعض القرائن التي أقامها على كون الأمر به للإرشاد غير مختص بها ؛ بل يختص بعضها بأخبار الوقوف.

وعليه : فيمكن أن يكون نظره ـ وإن كان خلاف ظاهر عبارته ـ إلى الجواب عن مجموع أخبار الوقوف والاحتياط.

وكيف كان ؛ فهذه القرائن هي التي نبه عليها الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، وهي بين ما يشترك فيها جميع الأخبار ، وبين ما تختص ببعضها وهي ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣٥٦» ـ كثيرة :

القرينة الأولى : لزوم محذور تخصيص الأكثر لو لم يكن الأمر للإرشاد.

بيانه : أن موضوع الأمر بالتوقف والاحتياط هو الشبهة ، والأخذ بظاهره من الطلب

١٩٤

.................................................................................................

______________________________________________________

المولوي اللزومي مستلزم لتخصيص الأكثر ، ضرورة : أن عنوان «الشبهة» صادق على الشبهات مطلقا يعني : الحكمية والموضوعية ، الوجوبية منهما والتحريمية. وقد اتفق الفريقان على جريان البراءة في غير الحكمية التحريمية ، فيلزم حينئذ تخصيص الأكثر ؛ لخروج أكثر الشبهات عن موضوع الأمر بالتوقف والاحتياط. وهي الشبهات الموضوعية مطلقا والشبهات الحكمية الوجوبية ، ومن المعلوم : أن تخصيص الأكثر مستهجن ، فلا يصار إليه. كما أن حمل الأمر بهما على الندب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط كالشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فلا مناص عن حمله على الإرشاد المطلق ، فيكون إرشادا إلى وجوب الاحتياط في مورد وجوبه وهو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، وإلى استحبابه في غيرها.

القرينة الثانية : إباء سياقها عن التخصيص.

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣٥٧» ـ أنك قد عرفت آنفا عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية الوجوبية والموضوعية مطلقا ؛ ولو كان الأمر به مولويا ، وحينئذ : فلو كان الأمر بالتوقف والاحتياط للطلب المولوي اللزومي ، فلا بد من ارتكاب التخصيص في تلك الأخبار بأن يقال : «لا خير في الاقتحام في الهلكة بارتكاب الشبهات إلا إذا كانت الشبهة موضوعية مطلقا أو حكمية وجوبية» ، مع أن سياقها آب عن التخصيص ؛ وذلك لأن مقتضى تخصيصها بها أن في ارتكابها ـ يعني : الشبهات الموضوعية والوجوبية ـ الخير ، وهذا لا معنى له ، وعليه : فحيث أن كلمة خير منسلخة هنا عن التفضيل كما عرفت فيتعين ـ بمقتضى هذا التعليل ـ الاجتناب عن جميع الشبهات ؛ إذ المعنى على تقدير الانسلاخ : إن الوقوع في الهلكة لا خير فيه أصلا ؛ بل الخير كله في الوقوف عند الشبهة وعدم الاقتحام فيها. ولكن المحدثين لما اعترفوا بورود الترخيص في ارتكاب بعض الشبهات فلا مناص عن حمل الأمر في تلك الأخبار على الإرشاد حتى يتبع المرشد إليه في الوجوب الاستحباب.

هذا في أخبار الوقوف ، وكذا قوله «عليه‌السلام» في خبر التثليث : «فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات» ، فإن الشبهة الموضوعية التي تجري فيها أدلة البراءة ليست قسما رابعا ، لأن ظاهر الحديث حصر الأمور في ثلاثة أقسام : الحلال البين والحرام البيّن والشبهات ، ولا شك : في اندراج الشبهة الموضوعية في القسم الثالث ، ومقتضاه : الاحتياط فيها ، وقد التزم الكل بالبراءة فيها ، مع أنها ليست من الحلال البين قطعا ، فلا

١٩٥

قرائن دالة على أنه للإرشاد ، فيختلف (١) إيجابا واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه ،. ويؤيده (٢) : أنه (٣) لو لم يكن للإرشاد لوجب (٤) تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات (٥) إجماعا ، مع أنه (٦) آب عن التخصيص قطعا.

كيف (٧) لا يكون قوله : «قف عند الشبهة ، فإن الوقوف عند الشبهة خير من

______________________________________________________

يقال : «من ترك الشبهات إلا الموضوعية نجا من المحرمات» ؛ لأن مقتضى الحصر الاقتصار على الحلال البين فقط ، ولا مفر عن هذا المحذور غير الحمل على الإرشاد.

القرينة الثالثة : ظهور قوله «عليه‌السلام» : «فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» في ترتب الهلكة على ارتكاب الشبهة لا على مخالفة الأمر بالتوقف ، وحيث لا عقوبة على مخالفة الأمر لم يكن مولويا ، فيكون للإرشاد لا محالة. والأمر الإرشادي ما لا يترتب على مخالفته عقاب غير ما يترتب على ارتكاب الشبهة أحيانا من الهلاك والعقاب المحتمل فيها.

هذه جملة من القرائن التي تستفاد من مجموع كلمات الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، وقد أشار في المتن إلى بعضها.

وتركنا ذكر جميع القرائن رعاية للاختصار.

(١) الضمير المستتر راجع على الأمر المستفاد من قوله : «وما دل على الاحتياط».

(٢) أي : ويؤيد كون الأمر بالاحتياط للإرشاد «أنه لو لم يكن للإرشاد ...» الخ.

وهذا إشارة إلى إحدى قرائن الإرشاد وهي القرينة الثانية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٣) الضمير للشأن ، وضميرا «يكن ، تخصيصه» راجعان على الأمر بالاحتياط.

المستفاد من قوله : «ما دل».

(٤) جواب الشرط ، والمعنى واضح ، والضمير المستتر فيه راجع على عدم كون الأمر للإرشاد المدلول عليه ب «لو لم يكن».

(٥) المراد من بعض الشبهات هي : الشبهة الموضوعية مطلقا والحكمية الوجوبية ، وقوله : «إجماعا» متعلق ب «لوجب تخصيصه».

(٦) يعني : مع أن ما دل على الاحتياط آب عن التخصيص قطعا ؛ لما سيذكره بقوله : «كيف لا يكون؟».

(٧) هذا إشارة إلى قرينة أخرى على الإرشاد ، وتختص بأخبار الوقوف المعللة ، وتوضيحها : أن المراد بالهلكة ما يرجع إلى المكلف في الآخرة وهو العقوبة ، ومقتضى

١٩٦

الاقتحام في الهلكة» للإرشاد؟ مع أن الهلكة ظاهرة في العقوبة ، ولا عقوبة في الشبهة البدوية (١) قبل إيجاب الوقوف والاحتياط ، فكيف يعلل إيجابه (٢) بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟

______________________________________________________

التعليل بقوله : «فإن الوقوف» : كون الهلكة ثابتة قبل إيجاب الاحتياط ؛ لأن الهلكة في هذه الأخبار موضوع للحكم بوجوب التوقف ، ومن المعلوم : تقدم الموضوع على الحكم ؛ لأنه كالعلة له ، فلا بد أن تكون العقوبة مفروضة الوجود قبل الأمر بالتوقف حتى يكون إيجابه لأجل التحرز عنها ، ومن الواضح : أن هذه الهلكة ليست على مخالفة الإلزام الواقعي المجهول ؛ لقضاء قاعدة قبح العقاب بلا بيان بقبحها ، فلا بد أن تكون على التكليف المنجز بغير الأمر بالتوقف ، وإلا لزم الدور ـ كما سيأتي ـ وحينئذ : فيختص الأمر بالتوقف بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، والشبهة البدوية قبل الفحص ، ويكون الأمر بالاحتياط إرشادا إلى حكم العقل بوجوبه ؛ لتنجز الواقع بالعلم الإجمالي ، ولا مساس له بالشبهة البدوية بعد الفحص.

نعم ؛ إذا كان أمر الاحتياط نفسيا لا إرشادا إلى التحفظ على الأحكام الواقعية ترتب استحقاق العقوبة على مخالفته ؛ لكن لازمه أجنبية التعليل عن المعلل ؛ لعدم كون التوقف في الشبهة البدوية بعد الفحص معلولا للعقوبة الواقعية ؛ بل واجبا مستقلا مستتبعا للمؤاخذة على مخالفة نفسه ، مع أن ظاهر التعليل بقوله «عليه‌السلام» : «فإن الوقوف عند الشبهة ...» هو التحرز عن عقوبة التكليف الواقعي المجهول ، وقد عرفت : أن لازم ذلك وجود الهلكة قبل الأمر بالاحتياط حتى يحسن الإرشاد إليه بالأمر بالتوقف.

قوله : «للإرشاد» خبر لقوله : «لا يكون».

(١) لاعتراف المحدثين بكونه من العقاب بلا بيان المتسالم قبحه وعدم صدوره من الحكيم ؛ لكنهم يدعون وجود التكليف الظاهري وهو وجوب الاحتياط.

(٢) هذا الضمير وضمير «بأنه» راجعان على الوقوف والاحتياط يعني : بعد أن اتضح لزوم كون الهلكة مفروضة الوجود قبل الأمر بالاحتياط ؛ لأنها علة لوجوده ، فلا يعقل تأخرها عنه ونشوؤها منه لاستلزامه الدور ، بتقريب : أن الهلكة ـ لكونها علة لإيجاب الاحتياط ـ مقدمة عليه رتبته كتقدم سائر العلل على معاليلها ، فلو ترتبت الهلكة على إيجاب الاحتياط كما هو مدعى الخصم ـ حيث يدعي ترتب العقوبة على ترك الاحتياط ؛ لأنه يعترف بقبح المؤاخذة على التكليف المجهول ـ كانت مؤخرة عنه وهو

١٩٧

لا يقال (١) : نعم ؛ ولكنه يستكشف منه على نحو الإن إيجاب الاحتياط من قبل ، ليصح به العقوبة على المخالفة.

______________________________________________________

الدور ، لتوقف إيجاب الاحتياط على الهلكة ، وتوقف الهلكة على إيجاب الاحتياط ، فلا بد من القول بعدم ترتب الهلكة على الأمر بالتوقف والاحتياط ، والالتزام بترتبها على التكليف المنجز بغير الأمر بهما ؛ دفعا لمحذور الدور ، فإذا لم تترتب الهلكة عليه كان الأمر للإرشاد.

وبالجملة : لا يصح جعل الهلكة علة لإيجاب الاحتياط مع فرض ترتب الهلكة عليه كما يدعيه الخصم ؛ لاستلزامه ـ بمقتضى تقدم العلة على المعلوم ـ أن يكون كل منهما مقدما على صاحبه ومؤخرا عنه في آن واحد وهو محال ، فلا محيص عن الالتزام بتقدم الهلكة رتبة على الأمر بالاحتياط دون تأخرها عنه ، بمعنى : كونها معلولة له ؛ بل هي معلولة لشيء آخر كما تقدم. وهذا نظير قوله : «لا تعبر الطريق الفلاني ؛ لأن فيه قاطع الطريق» ، فإن التعليل به لا يصح إلا مع وجوده قبل النهي عن العبور.

(١) الغرض من هذا الإشكال : استكشاف الأمر المولوي الظاهري بالاحتياط بالبرهان الإني.

وتوضيح الإشكال : يتوقف على مقدمة وهي أمور تالية :

الأول : إن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس هو عدم البيان على الحكم الواقعي فقط حتى يجري بمجرده ؛ ولو مع وجود البيان على الحكم الظاهرى ؛ بل هو عدم البيان على كليهما معا ، فلو وجد البيان على الحكم الظاهري فقط لم تجر القاعدة ، كما لا تجري لو وجد على الحكم الواقعي فقط.

الثاني : أن ظاهر تعليل حكم متعلق بطبيعة هو سريان الحكم في جميع مصاديق تلك الطبيعة ، وعدم اختصاصه ببعض أفرادها كما في قولك : «لا تأكل الرمان لأنه حامض» ، وموضوع الأمر بالتوقف في المقام هو : «الشبهة» ، وهي بإطلاقها تشمل مورد النزاع أعني : الشبهة البدوية بعد الفحص ، فإذا لم يوجد مقيد شمله الحكم بالوقوف.

الثالث : أن الحكم الشرعي إما أن يدل عليه الخطاب بالمطابقة كقوله : «يجب كذا» ، أو «يحرم كذا» ، أو يدل عليه بالالتزام مثل قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(١) فإنه يدل بالالتزام على حرمة القتل عمدا ؛ وإلا لم يكن وجه لجزاء القاتل بخلوده في جهنم.

__________________

(١) النساء : ٩٣.

١٩٨

فإنه يقال : إن مجرد إيجابه (١) واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة ، ولا يخرجها

______________________________________________________

الرابع : أن المقصود من الهلكة ـ كما هو المتبادر منها إلى الذهن أو المنصرف إليه من إطلاقها ـ هو العقاب الأخروي ، ضرورة : أن همّ الشارع صرف العباد عن العقوبة الأخروية.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة ، فنقول : حاصل الإشكال : أنه وإن لم يمكن أن يكون الأمر بالوقوف والاحتياط في الأخبار المثبتة للهلكة للطلب المولوي الإلزامي ؛ بل لا بد من حمله على الإرشاد كما تقدم ، لكن يمكن استفادة طلب ظاهري مولوي آخر من تلك الأخبار بالدلالة الالتزامية ، وذلك لأنه لما كانت العقوبة من آثار الطلب المولوي ـ كما هو المستفاد منها حيث رتبت الهلكة يعني : العقوبة على محتمل التكليف الإلزامي الذي منها الشبهة البدوية بعد الفحص ـ كان الدليل الدال على وجود العقوبة في الشبهة كاشفا عن وجود البيان على التكليف ، ودالا عليه بالدلالة الالتزامية ، وأن الشارع قد اكتفى بذكر اللازم ـ وهو الابتلاء بالعقوبة الأخروية ـ عن بيان ملزومه وهو الوجوب الشرعي.

وبالجملة : فالأخبار المثبتة لترتب الهلكة على ترك الاحتياط في الشبهة التي منها البدوية بعد الفحص كاشفة عن وجوب الاحتياط شرعا ، كشفا بالمعلول عن العلة ؛ وإلا كان المعلول بلا علة والعقاب بلا بيان.

قوله : «نعم» استدراك على قوله : «فكيف يعلل؟» ، وضمير «لكنه» للشأن ، يعني : أن مقتضى ما تقدم من انبعاث الأمر بالتوقف عن الهلكة المفروضة الوجود وإن كان هو وجودها في رتبة سابقة على الأمر ، فلا يمكن استكشاف الهلكة من الأمر ليحمل على كونه مولويا ؛ لكن يمكن استكشاف الأمر المولوي بالاحتياط من الهلكة المترتبة على الأمر به بالبرهان الإني كما عرفت.

وضمير «منه» راجع على التعليل الوارد في مقبولة عمر بن حنظلة : «فإن الوقوف».

قوله : «على نحو الإنّ» إشارة إلى البرهان الإني ، وهو العلم بالعلة من العلم بالمعلول ، واستكشافها منه.

(١) أي : إيجاب الاحتياط.

وتوضيح الجواب عن الإشكال : أن العقاب على مخالفة إيجاب الاحتياط في الشبهة البدوية ما لم يصل إلى المكلف عقاب بلا بيان ؛ إذ المصحح للمؤاخذة هو البيان الواصل ؛ لا التكليف بوجوده الواقعي ، سواء كان الحكم الواقعي نفسيا أم طريقيا

١٩٩

عن أنها بلا بيان ولا برهان ، فلا محيص (١) عن اختصاص ...

______________________________________________________

كإيجاب الاحتياط ، والمفروض : عدم وصوله بغير أخبار الوقوف ، واستكشاف وصوله مما اشتمل على ثبوت الهلكة في ارتكاب الشبهة ، من باب دلالة اللازم على ثبوت ملزومه ـ بدعوى عموم الشبهات في قوله «عليه‌السلام» : «فمن ترك الشبهات» ، أو إطلاق الشبهة في قوله «عليه‌السلام» : «فإن الوقوف عند الشبهة» ـ غير ممكن لاستلزامه الدور ؛ وذلك لأن بيانية أخبار الوقوف للوجوب المولوي منوطة بإمكان الأخذ بظاهر الهلكة وهو العقوبة ليدل قوله : «قفوا» على الوجوب إذ لو أريد بالهلكة معنى آخر غير العقوبة الأخروية لم يدل عليه ، لعدم وجوب دفع غير العقوبة وجوبا مولويا ، وحمل الهلكة على العقوبة منوط بكون قوله : «قفوا» بيانا وإعلاما لحكم المشتبه ـ وهو وجوب الاجتناب عن الواقع المجهول ـ إذ لو لم يكن بيانا ومنجزا له لم يصح حمل الهلكة على ظاهرها ، أعني : العقوبة.

وبعبارة أخرى على ـ ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣٧٠» ـ : الأخذ بظاهر «قفوا» من الوجوب المولوي متوقف على حمل الهلكة على العقوبة ، وحملها عليها متوقف على كون الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي ، فبيانية أخبار الوقوف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها له ، وهو الدور. ومن هنا يظهر الفرق بين المقام ، وما ورد من الوعيد الصريح في العقوبة الأخروية على بعض الأفعال ـ كقتل المؤمن متعمدا ـ الدال بالالتزام على حرمته المولوية ، حيث إن الوعيد لا بد أن يكون بمقتضى دلالة الاقتضاء كناية عن التحريم وبيانا عليه ، ولا يلزم منه محذور الدور ؛ لأن الدور هناك كان ينشأ من توقف حمل الهلكة على العقوبة ، على أن الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي ، وتوقف كونه للوجوب على حمل الهلكة على العقوبة بخلاف الوعيد هنا ، فإنه صريح في العقوبة ، ولا يتوقف حملها عليها على شيء ، فيستكشف منه الحرمة المولوية ، ولا وجه لحمل النهي عن ذلك الفعل المتوعد عليه ـ فيما إذا ورد نهي عنه ـ على الإرشاد وهذا بخلاف أخبار الوقوف ، فحيث كان محذور الدور مانعا عن إرادة الإيجاب المولوي تعين حمل الشبهة على ما تنجز فيه التكليف بمنجز آخر كالمقرونة بالعلم الإجمالي والشبهة البدوية قبل الفحص ، ويكون الأمر بالوقوف إرشادا إلى حكم العقل بلزوم رعاية العلم الإجمالي والاحتمال.

والضمير في «يخرجها ، أنها» راجعان على العقوبة.

(١) هذا نتيجة بطلان ما ذكره في «لا يقال :» ، وأن التعليل المذكور في أخبار التوقف لا يدل على وجوب الاحتياط مولويا ، فمثل هذا الحديث أجنبي عن مورد

٢٠٠