دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

الجهات ، ولا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار ، لو لم يلزم منه محذور ؛ وإلّا (١) لزم التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال ، فتأمل فإن المقام من مزال الأقدام.

وهم (٢) ودفع :

لعلك تقول : أن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان مجال لدليل الانسداد ، ضرورة : أنه من مقدماته : انسداد باب العلمي أيضا.

______________________________________________________

الطريق ولو لم يصل أصلا ـ تعريض بشيخنا الأعظم وغيره ؛ إذ الظاهر من كلامه «قدس‌سره» : أن لازم القول بالكشف هو الإهمال ، فيحتاج تعميم النتيجة حينئذ إلى الوجوه التي ذكروها للتعميم.

قال الشيخ : «أما على تقدير كون العقل كاشفا عن حكم الشارع بحجية الظن في الجملة ، فقد عرفت : أن الإهمال بحسب الأسباب وبحسب المرتبة ، ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه» ، وظاهره : أن الإهمال لازم للكشف وهو ملزوم له ، ولم يكن للتفصيل بين الاحتمالات الثلاثة عين ولا أثر في كلماتهم ، فأورد المصنف على ذكر ذلك : بأن تعميم النتيجة بما ذكروه على الاحتمال الأول : يتوجه التعيين بالوجهين الأولين ، كما أنه يتم التعميم بالوجه الثالث بناء على الاحتمال الثالث فقط ، ولا يخفى : أن المصنف قد أوضح ذلك بعبارة وافية في حاشيته على الرسائل.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

«الجهات» الثلاث وهي : الأسباب والموارد والمرتبة «ولا محيص حينئذ» أي : حين كون الإهمال من جميع الجهات. «لو لم يكن بينها» أي : بين أطراف الاحتمال ، والمراد بالأطراف : الطرق.

«متيقن الاعتبار» ؛ إذ لو كان ، كان هو الحجة دون غيره.

(١) أي : وإن لزم المحذور من الاحتياط فلا بد من التنزل من الكشف إلى حكومة العقل مطلقا.

وهم ودفع

(٢) وهذا الوهم إشكال على ما تقدم على الكشف من التفصيل بين وجود القدر المتيقن الوافي بمعظم الفقه المتعين في الحجية وبين عدمه ، فالنتيجة على الأول : جزئية ، وعلى الثاني : كلية ، فلا بد أولا : من تقريب هذا الإشكال ، وثانيا : من الجواب عنه.

٢١

لكنك غفلت (١) عن أن المراد (٢) : ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله (٣) لأجل

______________________________________________________

وأما تقريب الوهم ـ وهو الإشكال على التفصيل المزبور ـ فيقال : إنه لا مجال لدليل الانسداد مع وجود القدر المتيقن ؛ إذ لو كان في الظنون ظن متيقن الاعتبار بمقدار واف لمنع ذلك عن دليل الانسداد من أصله ، كيف؟ ومن مقدماته انسداد باب العلمي بمعظم الأحكام ، وهو الظن المعلوم اعتباره المعبر عنه بالظن الخاص.

وعليه : فينهدم أساس الانسداد بناء على وجود المتيقن الوافي ؛ لما عرفت من : أن العمدة هو انسداد باب العلمي ، وعلى تقدير وجود الطريق المتيقن الاعتبار ـ كخبر العدل أو الثقة ـ يفتح باب العلمي ، فلا بد من رفع اليد إما عن هذا التفصيل يبقى الكلام على الانسداد سليما عن الإشكال ، وإما من الخروج عن فرض الانسداد إلى الانفتاح وهو خلف. هذا تمام الكلام في تقريب الوهم.

وأما الدفع : فحاصله : أن وجود القدر المتيقن إنما ينافي الانسداد إذا لم يكن للانسداد دخل فيه ، وأما إذا كان القدر المتيقن مستندا إلى الانسداد ومعلولا له : فلا ينافيه ؛ لامتناع أن يكون المعلول منافيا لعلته.

توضيح استناد القدر المتيقن إلى الانسداد : أن نتيجة الانسداد هي اليقين بنصب الطريق. وهناك يقين آخر وهو القطع بالملازمة بين نصب الطريق ، وبين كون الطريق المنصوب هو القدر المتيقن ، وهذا اليقين وإن لم يكن مستندا إلى دليل الانسداد ؛ لكن اليقين الأول مستند إليه وهو كاف في دخالته في حصول القدر المتيقن ؛ لأن اليقين بأحد المتلازمين دليل على الملازم الآخر ، فاليقين بنصب الطريق شرعا ـ الذي هو نتيجة دليل الانسداد وأحد المتلازمين ـ دليل على حجية خبر العادل مثلا وهو الملازم الآخر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «أيضا» أي : كانسداد باب العلم ، وضمير «مقدماته» راجع على دليل الانسداد.

(١) هذا دفع الإشكال ، وقد تقدم توضيح ذلك.

(٢) أي : المراد بقوله : فيما تقدم : «لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار ...».

(٣) أي : من قبل دليل الانسداد ، يعني : أن اليقين بالاعتبار ينشأ من ناحية دليل الانسداد لا غيره حتى ينافيه ، ومن المعلوم : أن اليقين بالاعتبار الذي هو معلول الانسداد لا ينافي عليته أصلا.

٢٢

اليقين (١) بأنه لو كان شيء حجة شرعا كان هذا الشيء حجة قطعا ، بداهة : أن (٢) الدليل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر ؛ لا الدليل على الملازمة.

______________________________________________________

(١) تعليل لحصول اليقين بالاعتبار من دليل الانسداد ، يعني : أن الوجه في حصول اليقين باعتبار طريق مخصوص كخبر العادل من دليل الانسداد هو أن دلالة دليل الانسداد ـ الكاشف عن نصب طريق فرض كونه أحد المتلازمين ـ على الملازم الآخر وهو اعتبار المتيقن كخبر العادل أو الثقة إنما هي بواسطة اليقين بالملازمة المزبورة ، الذي هو واسطة ثبوتية للدلالة المذكورة ، فقوله : «لأجل اليقين» معناه : لأجل اليقين بالملازمة.

الضمير في قوله «بأنه» للشأن يعني : لو كان طريق حجة شرعا كان خبر الثقة حجة قطعا ، وهذه القضية هي تقريب الملازمة المذكورة ، ومنشأ القطع باعتباره غلبة مطابقته للواقع ، فالمراد من «شيء» الفرد المنتشر من الطريق ، ومن «الشيء» خصوص فرد معين كخبر العدل مثلا ، والتقييد بقوله : «شرعا» لأجل ابتناء أصل التوهم على حجية الظن على نحو الكشف لا الحكومة.

(٢) تعليل لكون المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبل دليل الانسداد ، فهو في الحقيقة إشارة إلى دفع ما يمكن أن يتوهم في المقام من أن الإشكال المزبور ـ وهو كون القدر المتيقن الوافي منافيا لدليل الانسداد ، لفرض : انفتاح باب العلمي حينئذ ـ لم يندفع بما تقدم من أن اليقين بالاعتبار مستند إلى دليل الانسداد ، وهو كاف في انسداد باب العلمي أي : الظن الخاص.

وجه عدم الاندفاع : أن القطع بحجية ظن وإن كان مستندا إلى دليل الانسداد ؛ لكن اليقين بالملازمة بينه وبين حجية خبر العادل مثلا مستند إلى الخارج لا إلى دليل الانسداد ، فيعود المحذور وهو عدم انسداد باب العلمي والظن الخاص.

توضيح دفع التوهم ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣٨» ـ أن الدليل على التلازم بين شيئين ليس دليلا على وجود المتلازمين أو أحدهما حتى يعود المحذور ، أعني : انفتاح باب العلمي ؛ وذلك لأن دليل التلازم لا يثبت إلا الملازمة بين شيئين ، وأما وجود نفس الشيئين المتلازمين ، أو وجود أحدهما : فيحتاج إلى دليل آخر.

وفي المقام نقول : إن الدليل على التلازم بين حجية طريق وحجية خصوص خبر العادل مثلا ـ كقوله : لو نصب الشارع طريقا لكان خبر العادل حجة ـ لا يستفاد منه إلا وجود العلقة بينهما واقعا ، وأنه إذا ثبت أحدهما ـ وهو حجية الطريق ـ ثبت الآخر ، أعني : حجية خبر العادل أيضا ، وأما أن الطريق حجة فعلا ؛ حتى يكون العادل حجة

٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

فعلا لكونها لازمة لحجية الطريق : فلا يتكفله الدليل على التلازم المذكور ؛ بل إنما يتكفله دليل الانسداد ، وقد تقرر في محله : أن الدليل على وجود أحد المتلازمين دليل على وجود الآخر ، وأما الدليل على أصل الملازمة بينهما : فلا يكون دليلا على وجودهما أو وجود أحدهما.

والسر فيه واضح ، فإن صدق القضية الشرطية لا يتوقف على وجود الطرفين أو أحدهما ، ألا ترى أن قوله «عليه‌السلام» : في حديث «وإذا قصرت أفطرت وإذا أفطرت قصرت» (١) إنما يدل على أصل الملازمة بين التقصير والإفطار ، ولا يكون دليلا على ثبوت الإفطار فعلا؟ بل ثبوته كذلك يحتاج إلى دليل آخر ، وهو الدليل على وجوب القصر ، فإن دل على وجوبه دليل : ثبت فعلا وثبت وجوب الإفطار كذلك أيضا بمقتضى الملازمة بينهما ؛ وإلا لم يثبت لعدم ثبوت القصر ، ولا تنافي بين عدم ثبوته فعلا ـ لعدم ثبوت القصر كذلك ـ وبين ثبوت الملازمة بينهما واقعا ؛ لما عرفت من : عدم توقف صدق الشرطية على ثبوت طرفيها.

وبهذا البيان ظهر : أن مقصود المصنف «قدس‌سره» بقوله : «إنما هو الدليل ...» الخ. هو : أن الدليل على ثبوت الملازمة بين شيئين لا يكون دليلا على وجودهما أو وجود أحدهما ، بل الدليل على وجود أحدهما يكون هو الدليل على وجود الآخر ، وكان هذا ـ أعني : تخيل أن ثبوت الملازمة دليل على ثبوت أحد المتلازمين ـ هو منشأ التوهم المزبور ، فزعم أن المقصود حصول القدر المتيقن الوافي بمجرد ثبوت الملازمة ، مع قطع النظر عن دليل الانسداد.

وليس كما توهم ؛ بل المقصود حجية المتيقن الاعتبار الثابت بدليل الانسداد المثبت لحجية طريق ما ، فلا بد أولا من ملاحظة دليل الانسداد ليثبت شرعا حجية طريق ما حتى تثبت ـ بمقتضى الملازمة ـ حجية المتيقن الاعتبار ، وعليه : فالدليل على الملازمة ليس دليلا على حجية خبر العادل المفروض كونه متيقن الاعتبار ؛ بل الدليل على حجيته هو دليل الانسداد ؛ لأنه دليل على ملازمة وهو اعتبار طريق ما.

وبالجملة : فتيقن الاعتبار إنما نشأ من دليل الانسداد بضميمة دليل الملازمة.

وإن شئت قلت : حجية القدر المتيقن ـ كخبر العادل في المثال ـ مستندة إلى الملازمة ،

__________________

(١) الفقيه ١ : ٤٣٧ / ذيل ح ١٢٦٩ ، تهذيب الأحكام ٣ : ٢٢ / ذيل ح ٥٥١ ، الوسائل ٨ : ٥٠٣ / ذيل ح ١١٢٩١.

٢٤

ثم لا يخفى (١) : أن الظن باعتبار ظن بالخصوص يوجب اليقين باعتباره من باب

______________________________________________________

ودليل الملازمة مستند إلى الانسداد ، فحجية القدر المتيقن مستندة إلى الانسداد.

طرق تعميم النتيجة على الكشف

(١) هذا شروع من المصنف «قدس‌سره» في مناقشة المعمم الأول ، وغرض المصنف فعلا : هو التعرض لما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره». ومن تقدم عليه ؛ من جعل النتيجة بناء على الكشف مهملة بحسب الأسباب والموارد والمرتبة ، وتعميمها بحسب الموارد بالإجماع ، بلا تفصيل بين ما للشارع فيه مزيد اهتمام وغيره. وأما بحسب الأسباب والمرتبة : فقد نقلت عنهم طرق ثلاثة لتعميم النتيجة.

فلا بد أولا : من الإشارة إلى تلك الطرق ، وثانيا : من بيان مناقشة المصنف وإشكاله عليها. وقد أشار المصنف إلى المعمم الأول والثالث دون المعمم الثاني ، ونذكر جميع المعممات الثلاثة قبل إشكال المصنف على الأول والثالث منها.

فنقول : طرق تعميم النتيجة على الكشف هي ثلاثة :

الأول : أن الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» لما اختار أن النتيجة على الكشف كلية بحسب الموارد ، يعني بها : المسائل الفقهية ، بدعوى : الإجماع القطعي على أن العمل بالظن لا يفرق فيه بين أبواب الفقه ، وأنها مهملة بحسب الأسباب والمرتبة ـ إلى أن قال ـ «ويذكر للتعميم من جهتهما وجوه :

الأول : عدم المرجح لبعضها على بعض ، فيثبت التعميم لبطلان الترجيح بلا مرجح ، والإجماع على بطلان التخيير ، والتعميم بهذا الوجه يحتاج إلى ذكر ما يصلح أن يكون مرجحا وإبطاله ـ إلى أن قال ـ فنقول : ما يصلح أن يكون معينا أو مرجحا أحد أمور ثلاثة.

الأول : كون بعض الظنون متيقنا بالنسبة إلى الباقي ، بمعنى : كونه واجب العمل على كل تقدير ، فيؤخذ به ويطرح الباقي للشك في حجيته.

الثاني : كون بعض الظنون أقوى من بعض فتعين العمل عليه.

الثالث : كون بعض الظنون مظنون الحجية ، فإنه في مقام دوران الأمر بينه وبين غيره يكون أولى من غيره ؛ إما لكونه أقرب إلى الحجية من غيره ، وإما لكونه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع» (١). انتهى مورد الحاجة من بعض عبارات الشيخ «قدس‌سره» ، وتركنا

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٧٢ ـ ٤٧٣.

٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

مناقشته على المرجحات الثلاثة رعاية للاختصار. هذا ما أشار إليه بقوله : «إن الظن باعتبار ظن بالخصوص».

أما الثاني من طرق التعميم فحاصله : أنهم اعترفوا بعد تقسيم الظنون إلى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه بأن مقتضى القاعدة بعد إهمال النتيجة وإن كان هو الاقتصار على مظنون الاعتبار ، ثم على المشكوك ، ثم يتعدى إلى الموهوم ؛ إلا إن الظنون التي هي مظنونة الاعتبار غير كافية إما بأنفسها بناء على انحصارها في الأخبار الصحيحة ، وإما لأجل العلم الإجمالي بمخالفة كثير من ظواهرها للمعاني المرادة منها ، ووجود مخصصاتها ومقيداتها والقرائن لمجازاتها في ظنون مشكوكة الاعتبار ، فلا بد بمقتضى قاعدة الانسداد ، ولزوم المحذور من الرجوع إلى الأصول : من التعدي إلى ظنون مشكوكة الاعتبار ، التي دلت على إرادة خلاف الظاهر من ظواهر ظنون مظنونة الاعتبار ، فيعمل بما هو مشكوك الاعتبار مما هو مخصص لعمومات مظنون الاعتبار ومقيد لاطلاقاته ، وقرائن لمجازاته ، فإذا وجب العمل بهذه الطائفة من مشكوك الاعتبار ثبت وجوب العمل لغيرها مما ليس فيها معارضة لظواهر الأمارات التي هي مظنونة الاعتبار بالإجماع المركب ؛ بل بالأولوية القطعية ؛ لأنه إذا وجب العمل بمشكوك الاعتبار الذي له معارضة لظاهر مظنون الاعتبار : فالعمل بما ليس له معارض أولى ، ثم يقال بعين ذلك كله في التعدي إلى موهوم الاعتبار أيضا طابق النعل بالنعل.

وأما المعمم الثالث : فقد أشار إليه بقوله : «وأما تعميم النتيجة وحاصله : أنه بناء على الكشف يكون مقتضى العلم الإجمالي بنصب الطريق هو الاحتياط في جميع الأطراف ، فالمعمم هو العلم الإجمالي الذي يقتضي الاحتياط.

وبالجملة : إن مقتضى قاعدة الاشتغال بناء على أن الثابت من دليل الانسداد وإن كان هو وجوب العمل بالظن في الجملة إلّا إنه إن لم يكن هناك قدر متيقن واف في الفقه وجب العمل بكل ظن ، سواء كان مظنون الاعتبار أو مشكوكه أو موهومه.

هذا تمام الكلام في طرق ثلاثة لتعميم النتيجة على الكشف.

وأما مناقشة المصنف على المعمم الأول والثالث : فحاصل ردّه على المعمم الأول : أنه يكون مبتنيا على صحة المرجحات الثلاثة كلا أو بعضا ؛ لما عرفت من : أن التعميم بالوجه الأول مما يتبنى على إبطال المرجحات الثلاثة ، فردّه يكون متبنيا على صحتها كلا أو بعضا.

٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

والمصنف لم يتعرض إلى المرجح الأول في المقام ، نعم ؛ أشار إليه في ضمن كلماته السابقة بقوله : «لو لم يكن بينها ما هو المتيقن ...» الخ ، أو بقوله : «فلا بد من الاقتصار على متقين الاعتبار منها ...» الخ.

وأما المرجح الثاني ـ وهو كون بعض الظنون أقوى من بعض ـ فهو مما يوجب اليقين بالاعتبار على الطريق الواصل بنفسه ، فلا يكون باطلا ، وإليه أشار بقوله : «ومن هنا ظهر حال القوة ...» الخ.

وأما المرجح الثالث ـ وهو الظن باعتبار بعض الظنون كما أشار إليه بقوله : «أن الظن باعتبار ظن بالخصوص ...» الخ.

فحاصل الكلام فيه : أنه مما يوجب اليقين بالاعتبار على الطريق أو الواصل بنفسه ؛ وإلا يلزم عدم الوصول ، وهو خلف.

وقد تقدم منه : أنه على الطريق الواصل بنفسه لا إهمال في النتيجة بحسب الأسباب ، فالكل حجة لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار ، فإذا ادعي في المقام أن الظن بالاعتبار مما يوجب اليقين بالاعتبار فقهرا تكون النتيجة على الطريق الواصل بنفسه جزئية بحسب الأسباب لا كلية ، بمعنى : أنه تختص الحجية بمتيقن الاعتبار دون غيره ولو من ناحية الانسداد ، وكذلك في المرجح الثاني ، فتكون النتيجة على الطريق الواصل بنفسه جزئية أيضا بحسب المرتبة لا كلية ، بمعنى : أنه تختص الحجية بالمرتبة القوية من الظن دون غيرها.

هذا تمام الكلام في رد المعمم الأول.

وأما الرد على المعمم الثالث فحاصله : أن التعميم بقاعدة الاحتياط إنما يتم على القول بكون النتيجة هي نصب الطريق ولو لم يصل أصلا إذ لو كانت هي الطريق الواصل بنفسه كان الجميع حجة ، ولو كان هي الطريق الواصل ولو بطريقه أمكن تعيينه بما تقدم من الترجيح بالظن بالاعتبار أو بالقوة ، فلا وجه للأخذ بالجميع من باب الاحتياط. هذا هو الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني من الرد على المعمم الثالث : فقد أشار إليه بقوله : «مع أن التعميم بذلك» أي بالعلم الإجمالي توضيح ذلك إن هذا التعميم لا يوجب العمل إلا بالطرق المثبتة للتكليف لموافقتها للاحتياط ، ولا يقتضي العمل بالنافيات ؛ لأنها مع الشك في حجيتها لا تصلح للمؤمنية ، فلا يمكن الاعتماد عليها في رفع اليد عن الواقعيات ؛ إلا إذا

٢٧

دليل الانسداد على تقرير الكشف ، بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل بنفسه ، فإنه حينئذ : يقطع بكونه حجة ، كان غيره حجة أو لا.

واحتمال (١) عدم حجيته بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد ،

______________________________________________________

كان هناك ناف من جميع الأصناف ، كما إذا قام خبر العادل والإجماع المنقول وغيرهما على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، حيث إن الحجة قامت على نفي التكليف ، فتصلح للمؤمنية.

وبهذا أجاب الشيخ الأنصاري عن المعمم الثالث ، حيث قال (١) : «ولكن فيه أن قاعدة الاشتغال في مسألة العمل بالظن معارضة في بعض الموارد بقاعدة الاشتغال في المسألة الفرعية ، كما إذا اقتضى الاحتياط في الفرع وجوب السورة وكان ظن مشكوك الاعتبار على عدم وجوبها ، فإنه يجب مراعاة قاعدة الاحتياط في الفروع وقراءة السورة ؛ لاحتمال وجوبها ...» ؛ كما في «منتهى الدراية ج ٥ ، ص ٤٩».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

والضمير في «باعتباره» راجع على «ظن بالخصوص» ، والضمير في قوله : «فإنه» للشأن. «حينئذ» أي : حين كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه. والضمير في قوله : «بكونه ، وغيره» راجع إلى ظن بالخصوص كخبر العدل.

(١) إشارة إلى توهم ، وهو : أن الظن باعتبار بعض الظنون ـ كالظن الحاصل من خبر العدل ـ لا يصلح لأن يوجب القطع باعتباره دون سائر الظنون الحاصلة من أسباب أخر ؛ إذ المفروض : إن الظن الخبري مثلا لم يكن بنفسه حجة لو لا دليل الانسداد ؛ لعدم تمامية أدلة حجية الخبر ؛ وإلا لكان باب العلمي مفتوحا ، فدليل حجية الخبر ليس إلا دليل الانسداد ، ومن المعلوم : أن شأنه اعتبار الظن مطلقا من أي سبب حصل عدا ما نهي عنه كالقياس ؛ لا اعتبار خصوص الظن الخبري ، وعليه : فقيام الظن على اعتبار بعض الظنون يكون بلا أثر ، ولا يوجب اختصاص الحجية بالمظنون اعتباره.

قوله : «بالخصوص» يعني : من باب الظن الخاص لا بدليل الانسداد.

قوله : «لا ينافي» خبر لقوله : «واحتمال» ودفع للتوهم ، توضيحه : أنه لا منافاة بين احتمال عدم حجيته بالخصوص وبين القطع بحجيته بملاحظة دليل الانسداد ؛ إذ المفروض : أن هذا الفرد الخاص واجد لمزية لم تكن في سائر الأفراد ، وهذه المزية ـ وهي الظن بالاعتبار ـ توجب اليقين باعتباره.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٤٩٧.

٢٨

ضرورة (١) : أنه على الفرض (٢) لا يحتمل أن يكون غير حجة (٣) بلا نصب قرينة ؛ ولكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة دون غيره ، لما فيه (٤) من خصوصية الظن بالاعتبار.

وبالجملة : الأمر يدور (٥) بين حجية الكل وحجيته ، فيكون مقطوع الاعتبار.

ومن هنا (٦) ظهر حال القوة ، ولعل نظر من رجح بها (٧) إلى هذا ...

______________________________________________________

قوله : «بملاحظة الانسداد» متعلق ب «القطع» ، وضمير «بحجيته» راجع على «ظن بالخصوص».

(١) تعليل لقوله : «لا ينافي» ، وحاصله : أنه مع فرض كون نتيجة دليل الانسداد نصب الطريق الواصل بنفسه لا يحتمل أن يكون غير الظن المظنون اعتباره حجة بدون القرينة ؛ لكن يحتمل أن يكون مظنون الاعتبار حجة بدونها ؛ لخصوصية الظن باعتباره. وضمير «أنه» للشأن.

(٢) وهو كشف دليل الانسداد عن الطريق الواصل بنفسه.

(٣) أي : لا يحتمل حجية غير هذا الظن الخبري مثلا بلا نصب قرينة ، أي : دليل يخصص الحجية به ؛ لتساوي جميع الظنون في الحجية بدليل الانسداد ، وقبح الترجيح بلا مرجح.

(٤) تعليل لقوله : «ولكنه ...» ، وضمير «فيه» راجع على «ظن بالخصوص» ، و «من خصوصية» بيان للموصول.

(٥) يعني : يدور الأمر ـ بملاحظة دليل الانسداد ـ بين حجية جميع الظنون فيكون الظن المظنون اعتباره حجة ؛ لكونه من جملتها ، وبين حجية خصوص الظن المظنون اعتباره ـ دون سائر الظنون ـ لكونه ذا مزية ، وهي قيام الظن على اعتباره ، فبدليل الانسداد يكون الظن المظنون اعتباره مقطوع الاعتبار ؛ لكونه حجة على كلا التقديرين. فالضمير المستتر في «فيكون» راجع على الظن المظنون اعتباره.

(٦) أي : ومن صيرورة ظن مقطوع الاعتبار لقيام ظن على اعتباره : ظهر حال الترجيح بالقوة ، وصحة الاتكال عليها في تعيين الطريق وحاصله : أنه إذا كان بعض الظنون أقوى من بعض كالظن الحاصل من الخبر بالنسبة إلى الشهرة الفتوائية مثلا أمكن الترجيح به ؛ كالترجيح بالظن بالاعتبار ؛ لصحة الاعتماد عليه في تعيين الطريق ، فيكون الظن القوي لاشتماله على خصوصية القوة متيقن الاعتبار ، وغيره مشكوك الاعتبار.

(٧) أي : بالقوة وبناء على تثنية الضمير كما في بعض النسخ ، فالضمير راجع على القوة والظن بالاعتبار ، والصحيح هو تثنية الضمير ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٤٤».

٢٩

الفرض (١) ، وكان منع شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» عن الترجيح بهما (٢) بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل ولو بطريقه أو الطريق ولو لم يصل أصلا ، وبذلك (٣) يوفق بين كلمات الأعلام في المقام ، وعليك بالتأمل التام.

______________________________________________________

(١) أي : فرض كون النتيجة الطريق الواصل بنفسه ، وهذا إشارة إلى ما وقع من الخلاف ـ في جواز الترجيح بكل من الظن بالاعتبار وبالقوة ـ بين المحقق القمي والفاضل النراقي وغيرهما المجوزين للترجيح بهما على ما نسب إليهم ، وبين الشيخ المانع عن الترجيح بهما ، فإنه «قدس‌سره» بعد بيان المرجحات المتقدمة ناقش فيه ، فقال معترضا على الترجيح بالقوة : «إن ضبط مرتبة خاصة له متعسر أو متعذر ... إلى أن قال : مع أن كون القوة معينة للقضية المجملة محل منع ؛ إذ لا يستحيل أن يعتبر الشارع في حال الانسداد ظنّا يكون أضعف من غيره ؛ كما هو المشاهد في الظنون الخاصة ، فإنها ليست على الإطلاق أقوى من غيرها بالبديهة ... إلى أن قال : فلا يلزم من كون بعضها أقوى كونه هو المجعول ...».

وقال معترضا على الترجيح بالظن بالاعتبار ما لفظه : «إن الترجيح على هذا الوجه يشبه الترجيح بالقوة والضعف في أن مداره على الأقرب إلى الواقع ، وحينئذ : فإذا فرضنا كون الظن الذي لم يظن بحجيته أقوى ظنا بمراتب من الظن الذي ظن حجيته فليس بناء العقلاء على ترجيح الثاني ...».

والمصنف «قدس‌سره» يريد أن يجمع بين تجويز الترجيح والمنع عنه بجعل النزاع لفظيا ، بأن يقال : إن مراد الشيخ المانع من الترجيح هو : عدم الترجيح فيما إذا كانت النتيجة الطريق الواصل ؛ ولو بطريقه أو حجية الطريق ولو لم يصل أصلا ، ومقصود المجوزين هو : الترجيح به إذا كانت النتيجة الطريق الواصل بنفسه ؛ إذ لو لم يكن الظن بالاعتبار والقوة معينين لما نصبه الشارع مع تقدم المظنون اعتباره ، والظن القوي على غيره من الظنون لم يكن الطريق واصلا بنفسه ، وهو خلاف الفرض.

(٢) أي : بالظن بالاعتبار وبالقوة ، أو بالقوة بناء على النسخة الثانية.

(٣) أي : «وبالتوجيه الذي ذكرناه من احتمال اختلاف المباني ربما يوفق ...» الخ. وقد عرفت توضيح التوجيه بقولنا : «والمصنف يريد أن يجمع بين تجويز الترجيح والمنع عنه بجعل النزاع لفظيا ...» الخ.

وكيف كان ؛ فقد تحصّل من مجموع ما أفاده المصنف : أن الترجيح بالظن بالاعتبار وبالقوة إن تم فلازمه كون النتيجة معينة وهي جزئية ؛ إذ المفروض : عدم حجية الظن

٣٠

ثم لا يذهب عليك : أن الترجيح بها (١) إنما هو على تقدير كفاية الراجح (٢) ، وإلا فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار (٣) الكفاية ، فيختلف الحال باختلاف الأنظار (٤) ؛ بل الأحوال.

وأما تعميم النتيجة (٥) بأن قضية العلم الإجمالي بالطريق هو الاحتياط في أطرافه :

______________________________________________________

الفاقد للمزية ، وإن نوقش في الترجيح بهما ـ كما أفاده الشيخ الأعظم حيث ناقش في جميع المرجحات الثلاثة ـ كانت النتيجة كلية بمعنى حجية كل ظن ، وهذا هو المراد بالتعميم.

(١) أي : بالقوة ، وكان الأولى تثنية الضمير حتى يرجع إلى كل من الظن بالاعتبار والقوة ؛ بأن يقال : «إن الترجيح بهما» ؛ كما في بعض النسخ.

(٢) بحيث يجوز الرجوع في غير مورد الراجح إلى الأصول النافية للتكليف من دون محذور ، وأما على تقدير عدم كفاية الظن الراجح : فلا بد من التعدي عنه إلى غيره ، فيكون عدم كفاية الظن الراجح معمما للنتيجة ، وموجبا لحجية كل ظن ، وهذا معنى قوله : «وإلا فلا بد من التعدي ...» الخ.

وهذا أعني : عدم كفاية الظن الراجح هو : المعمم الثاني ذكره الشيخ الأعظم بقوله : «الثاني من طرق التعميم ما سلكه غير واحد من المعاصرين من عدم الكفاية ، حيث اعترفوا بعد تقسيم الظنون إلى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه : بأن مقتضى القاعدة ـ بعد إهمال النتيجة ـ الاقتصار على مظنون الاعتبار ، ثم على المشكوك ، ثم التعدي إلى الموهوم ؛ لكن الظنون المظنون اعتبارها غير كافية ...» الخ.

(٣) متعلق ب «التعدي» ، وضمير «غيره» راجع على الراجح.

(٤) فبنظر يكفي مظنون الاعتبار ، وبنظر آخر لا يكفي.

وبعبارة أخرى : ربما يكون الظن بالاعتبار الموجب للترجيح حاصلا بنظر شخص دون غيره ، أو الظن الراجح كافيا بنظر شخص دون نظر آخر ؛ بل يختلف ذلك باختلاف الأحوال أيضا ؛ بأن يكون شخص واحد يكفي عنده الظن الراجح بمعظم المسائل أو جميعها في حال ، ولا يكفي في حال آخر ، أو يكون الظن راجحا في حال وغير راجح في حال آخر.

(٥) هذا هو الطريق الثالث من طريق تعميم النتيجة ، وقد ذكره الشيخ بقوله : «الثالث من طرق التعميم : ما ذكره بعض مشايخنا «طاب ثراه» من قاعدة الاشتغال ، بناء على أن الثابت من دليل الانسداد وجوب العمل بالظن في الجملة ، فإذا لم يكن قدر

٣١

فهو (١) لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل أصلا. مع إن التعميم بذلك (٢) لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الأطراف دون النافيات (٣) ؛ إلا فيما كان هناك ناف من جميع الأصناف (٤) ، ضرورة (٥) : إن

______________________________________________________

متيقن كاف في الفقه وجب العمل بكل ظن ...». وحاصله : أنه بناء على الكشف يكون مقتضى العلم الإجمالي بنصب الطريق هو الاحتياط في جميع الأطراف ، فالمعمم هو العلم الإجمالي.

(١) أي : فتعميم النتيجة ، وهذا جواب قوله : «وأما تعميم النتيجة» ، وردّ للمعمم الثالث بوجهين : أحدهما : ما أفاده هنا وفي حاشية الرسائل من اختصاص هذا المعمم بما إذا كانت النتيجة بناء على الكشف الطريقي ولو لم يصل أصلا ؛ إذ لو كانت هي الطريق الواصل بنفسه كان الجميع حجة ، ولو كانت هي الطريق الواصل ولو بطريقه أمكن تعيينه بما تقدم من الترجيح بالظن بالاعتبار أو بالقوة ، فلا وجه للأخذ بالجميع من باب الاحتياط ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٤٨».

(٢) أي : بالعلم الإجمالي ، وهذا ثاني وجهي رد المعمم الثالث.

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٤٩» ـ أن هذا التعميم لا يوجب العمل إلا بالطرق المثبتة للتكليف ؛ لموافقتها للاحتياط ، ولا يقتضي العمل بالنافيات ؛ لأنها مع الشك في حجيتها لا تصلح للمؤمّنية ، فلا يمكن الاعتماد عليها في رفع اليد عن الواقعيات ؛ إلا إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف ؛ كما إذا قام خبر العادل والإجماع المنقول وغيرهما على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا ، حيث إن الحجة قامت على نفي التكليف فتصلح للمؤمّنية.

(٣) إذ هي لا تقتضي الترك ، ولا تؤمّن من العقوبة مع الشك في اعتبارهما.

(٤) للعلم حينئذ بقيام الحجة على نفي التكليف ، فيحصل الأمن من تبعة التكليف.

(٥) هذا تعليل للمستثنى ـ أعني : جواز العمل بالنافي إذا كان من جميع الأصناف ـ.

وتوضيحه : أنه إنما جاز العمل بالنافي إذا كان من جميع الأصناف : لأنه حينئذ : حجة صالحة للمؤمنية كما تقدم ، ولا ينافي مع ذلك حسن الاحتياط بالفعل حتى يتوهم أن الحجة المثبتة للتكليف مقدمة في هذا الفرض أعني : قيام الحجة على نفيه أيضا ، نظرا إلى موافقتهما للاحتياط.

وجه عدم المنافاة : أن النافي ليس مقتضيا للعمل به ؛ حتى يكون مزاحما للاحتياط في المسألة الفرعية من باب تزاحم المقتضيين حتى يقدم الاحتياط في المسألة الفرعية ، أعني :

٣٢

الاحتياط فيها لا يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا (١) لزم حيث (٢) لا ينافيه كيف (٣)؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية كما لا يخفى ، فما ظنك بما لا يجب الأخذ بموجبه (٤) إلا من باب الاحتياط؟ ...

______________________________________________________

المثبت للتكليف ، بأن يقال : إن الاحتياط في المسألة الفقهية يقتضي الفعل ، والاحتياط في المسألة الأصولية يقتضي الترك ، فيتزاحم المقتضيان ، ويقدم الأول أعني : الاحتياط في المسألة الفقهية.

وجه عدم المزاحمة : ما عرفت من : أن الحجة النافية لا ترفع حسن الاحتياط بالفعل ، كما إذا قامت أمارة معتبرة على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فإنها لا تزاحم حسن الاحتياط بفعلها ؛ إذ موضوع الاحتياط هو احتمال المطلوبية ، وهو باق في صورة قيام معلوم الحجة على نفي التكليف فضلا عن مشكوكها ، وحيث كانت مطلوبية الاحتياط بالفعل باقية حتى بعد قيام الحجة النافية للتكليف جاز العمل بالنافية ، مع بقاء حسن العمل بالمثبتة أيضا.

(١) ظرف للاحتياط في المسألة الفرعية ، والضمير المستتر في «لزم» راجع على الاحتياط ، وضمير «فيها» إلى النافيات ، يعني : أنه إذا كان التكليف الإلزامي محتملا في المسألة الفرعية لزم الاحتياط فيها ؛ وإن قام مشكوك الاعتبار على نفيه ، كما إذا قلنا بوجوب الاحتياط في الأقل والأكثر الارتباطيين على ما هو مذهب جمع.

ووجه عدم اقتضاء النافيات : رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية ما عرفته من : أن النافيات لا تقتضي الترك ولا الأمن من العقوبة.

(٢) تعليل لقوله : «لا يقتضي» ، والأولى إبداله ب «لأنه لا ينافيه» دفعا لاحتمال كونه ظرفا يعني : أن النافي للتكليف لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعية كما عرفت توضيحه.

(٣) أي : كيف ينافي مشكوك الاعتبار الاحتياط في المسألة الفرعية؟ والحال أن النافي المعلوم اعتباره لا ينافي الاحتياط في المسألة الفرعية ، فغرضه من قوله : «كيف؟» هو : أن مشكوك الحجية ليس بأقوى من معلوم الحجية ، فكما أن معلوم الاعتبار لا ينافي حسن الاحتياط بالفعل فكذلك مشكوك الاعتبار لا ينافيه بطريق أولى. وضمير «فيها» راجع على المسألة الفرعية.

(٤) بفتح الجيم أي : مقتضاه ، وضميره راجع على الموصول في «بما» المراد به النافي ، وحاصله ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٥١» ـ أنه إذا جاز الاحتياط مع قيام

٣٣

فافهم (١).

______________________________________________________

الحجة على نفي التكليف فكيف لا يجوز مع ما لا يجب الأخذ بمقتضاه إلا من باب الاحتياط لكونه مشكوك الاعتبار؟

(١) لعله إشارة إلى ضعف الجواب الثاني ؛ لأن دليل الانسداد يقتضي حجية الطرق المثبتة للأحكام على ما هو مقتضى العلم الإجمالي بثبوت الأحكام في الشريعة المقدسة ، وليس حجية الطرق النافية للتكليف نتيجة له حتى يتم ما ذكر في الجواب الثاني ، فالعمدة في الجواب عن المعمم الثالث هو الوجه الأول.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان معنى الكشف والحكومة قبل بيان ما هو المقصود بالأصالة ، ـ أعني : إهمال النتيجة وكليتها ـ فيقال : إنه لا ريب في أن مقتضى مقدمات دليل الانسداد هو حكم العقل بجواز العمل بالظن مطلقا.

وإنما الخلاف في أن حكمه هذا هل هو من باب الكشف ، بمعنى : أن العقل يكشف جعل الشارع الظن حجة حال الانسداد أم من باب الحكومة بمعنى : أن العقل بعد تمامية مقدمات الانسداد يحكم بحجية الظن حال الانسداد كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح.

إذا عرفت معنى الكشف والحكومة فنقول : أن غرض المصنف من هذا الفصل بيان أمرين : أحدهما : أن نتيجة مقدمات الانسداد هل هي حجية الظن من باب الكشف أم الحكومة؟

وثانيهما : بيان ما يترتب على الكشف والحكومة من إهمال النتيجة وتعيينهما.

وكيف كان ؛ فحاصل الكلام في المقام : إن مقتضى مقدمات الانسداد هل هو استكشاف كون الظن حال الانسداد طريقا منصوبا من قبل الشارع للوصول إلى التكاليف المعلومة بالإجمال ، أو أن مقتضاها استقلال العقل في الحكم بحجية الظن حال الانسداد ؛ كحكمه بحجية العلم حال الانفتاح ، ومختار المصنف هو : الحجية من باب الحكومة.

استدلال المصنف على الحكومة :

إن مقدمات الانسداد لا تنتج حجية الظن شرعا من باب الكشف ؛ بل تنتج حجية الظن عقلا من باب الحكومة ؛ إذ بعد تمامية مقدمات الانسداد ـ ومنها بطلان الاحتياط ـ

٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

تصل النوبة إلى المقدمة الخامسة ـ وهي : قبح ترجيح المرجوح على الراجح ، ـ المقتضية لتعين الإطاعة الظنية عقلا.

ومع هذا الحكم العقلي في مقام الإطاعة لا حاجة إلى حكم الشارع بحجية الظن.

فالمتحصل : أن النتيجة هي حجية الظن في مقام الإطاعة بمعنى : حكم العقل بعدم جواز مطالبة المولى من العبد بأزيد من الإطاعة الظنية ، وعدم جواز اقتصار العبد على ما دون الإطاعة الظنية من الإطاعة الشكية والوهمية.

٣ ـ توهم : إثبات حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، بمعنى : أن العقل قد حكم باعتبار الظن حال الانسداد ، فيستكشف من حكمه هذا بقاعدة الملازمة : أن الشارع قد حكم باعتباره في هذا الحال أيضا ؛ مدفوع : بأن قاعدة الملازمة أجنبية عن المقام ـ أعني : الإطاعة الظنية التي هي من مراتب الإطاعة ـ لأن الإطاعة غير قابلة للحكم المولوي ، فلا تجري القاعدة فيها.

وجه عدم القابلية : أن الحكم المولوي متقوم بشرطين مفقودين في المقام.

أحدهما : أن يكون متعلقه فعل العبد لا فعل المولى.

ثانيهما : أن يترتب على تعلقه بالفعل فائدة غير الفائدة التي تترتب على نفس الفعل عقلا أو تكوينا ، وحيث إن هذين الشرطين مفقودان فيما نحن فيه ـ أعني : الإطاعة الظنية ، ووجه عدم تحققهما فيه : أن الإطاعة الظنية تنحل إلى أمرين : أحدهما : عدم وجوب الإطاعة العلمية لعدم تمكن العبد منها فلا يجوز العقاب على تركها.

ثانيهما : عدم جواز الاقتصار بما دون الإطاعة الظنية. وشيء من هذين الأمرين لا يصلح أن يتعلق به الحكم المولوي ؛ لأن الأول ـ أعني مطالبة الإطاعة الظنية وعدم المؤاخذة على تركها ـ من أفعال الشارع ، وفعل الشارع لا يكون موردا لحكمه ، فالحكم بقبح المؤاخذة على الترك هو من العقل لا من الشارع.

وأما الثاني : فلأنه وإن كان قابلا لحكم الشرع في نفسه من جهة أن الإطاعة الظنية أو الشكية والوهمية من العبد ؛ لكن لا يترتب على تعلق الحكم به شرعا فائدة لم يكن أيضا قابلا للحكم المولوي ؛ لأن الفائدة ـ وهو إيجاد الداعي في نفس العبد إلى العمل ـ حاصل بحكم العقل ، فلا يكون إيجاد الداعي من الشارع بالأمر إلا طلب الحاصل المحال.

نعم ؛ لا بأس بأن يكون حكم الشارع إرشادا إلى ما حكم به العقل.

٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

أما توهم : عدم قابلية الإطاعة الظنية للحكم الظنية للحكم المولوي إنما هو فيما إذا لوحظ الظن طريقا لإحراز الواقع. وأما إذا لوحظ الظن موضوعيا ؛ بحيث يترتب الثواب على موافقته والعقاب على مخالفته ، مع قطع النظر عن الواقع كسائر الأحكام الظاهرية : فلا وجه لمنع تعلق الحكم المولوي بالعمل بالظن ، واستكشاف حكمه من حكم العقل بقاعدة الملازمة فمدفوع : بأن نصب الطريق لا بملاك إحراز الواقع وإن كان جائزا ؛ ولكن لا يمكن استكشافه بقاعدة الملازمة ؛ وذلك لاعتباره وحدة الموضوع في الحكم العقلي والشرعي في هذه القاعدة كالظلم مثلا.

وهذا بخلاف المقام ، فإن الظن الملحوظ طريقا صرفا لإحراز الواقع ـ وهو الموضوع للحجية العقلية ـ غير الظن الملحوظ طريقا شرعا ؛ إذ على التقدير الأول : يكون الفعلي هو الحكم الواقعي ، وعلى التقدير الثاني : يكون الفعلي هو الحكم الظاهري ، ومن المعلوم : امتناع فعلية حكمين ، أعني : الواقعي والظاهري معا لموضوع واحد.

فالمتحصل : أنه لا يمكن استكشاف حجية الظن شرعا بقاعدة الملازمة.

عدم الإهمال في النتيجة على الحكومة : هذا ثمرة الحكومة والكشف ، فيقال : في بيان ثمرتهما : إنه لا إهمال في النتيجة على الحكومة أصلا لا مسببا ولا موردا ولا مرتبة ؛ بل هي معنية ؛ لكنها من حيث الأسباب كلية ، ومن حيث الموارد والمرتبة جزئية.

أما عدم الإهمال من حيث الأسباب ـ بمعنى : كلية النتيجة وعدم اختصاص حجية الظن الانسدادي بحصوله من سبب دون سبب ـ فلأن المناط في حكم العقل بلزوم العمل بالظن هو : أقربيته إلى الواقع من الشك والوهم ، وهذا المناط لا يختلف باختلاف الأسباب ، فالنتيجة هي كلية معينة لا مهملة.

أما عدم الإهمال بحسب الموارد ـ أعني : المسائل الفقهية ـ فلأن المتيقن من حكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية هو : ما إذا لم يكن للشارع مزيد اهتمام به ؛ إذ لو كان كذلك ـ كما في النفوس والأعراض والأموال ـ لم يستقل العقل بكفاية الظن فيه ، وحيث كان لحكم العقل بكفاية الإطاعة الظنية حال الانسداد قدر متيقن بحسب الموارد كانت النتيجة جزئية معينة أيضا لا مهملة.

وأما عدم الإهمال بحسب المرتبة : فلأن النتيجة هي حجية خصوص الظن الاطمئناني إن كان وافيا ؛ وإلا فيتعدى عنه إلى غيره بمقدار الكفاية.

٣٦

.................................................................................................

______________________________________________________

فالمتحصل : أن النتيجة بحسب المرتبة أيضا معينة جزئية ؛ لا أنها مهملة. هذا تمام الكلام على الحكومة.

٦ ـ أما على تقرير الكشف : فتختلف النتيجة من حيث الإهمال والتعيين باختلاف الوجوه المتصورة في نصب الطريق الظني ، وهي ثلاثة :

الوجه الأول : أن المنصوب هو الطريق الواصل بنفسه ، بمعنى : كون المقدمات الجارية في الأحكام موجبة للعلم بجعل الشارع طريقا معينا واصلا بنفسه ، فلا حاجة في تعيين ذلك الطريق إلى غير المقدمات الجارية في نفس الأحكام.

الوجه الثاني : أن المنصوب هو الطريق الواصل بطريقه ، بمعنى : كون المقدمات موجبة للعلم بنصب الشارع طريقا معينا إلى الأحكام ؛ ولو فرض تعينه لنا بغير هذه المقدمات مما يوجب العلم بتعينه كإجراء مقدمات الانسداد مرة ثانية في نفس الطريق للكشف عنه.

الوجه الثالث : أن يستكشف بالمقدمات نصب طريق إلى الأحكام واقعا ، بمعنى : كون المقدمات موجبة للعلم بنصب الشارع طريقا إلى الأحكام ، ولو لم يصل إلينا ، ولم يتعين لنا لا بنفسه ولا بطريق يؤدي إليه كانسداد آخر جار في نفس الطريق.

إذا عرفت هذه الوجوه الثلاثة فاعلم : أنه لا إهمال في النتيجة على الوجه الأول بحسب الأسباب ، وهي إما كلية وإما جزئية.

أما الأول : فهو ما إذا لم يكن بينها ما هو متيقن الاعتبار ، أو كان ولكن لم يف بمعظم الفقه ، فحينئذ : تكون النتيجة هي حجية الظن الحاصل من أي سبب ؛ عدا ما نهى الشارع عن اتباعه كالقياس.

وأما الثاني : فهو ما إذا كان بين الأسباب متيقن الاعتبار ، كخبر العادل مثلا ؛ وعلى كلا التقديرين : تكون النتيجة معينة غير مهملة. وكذلك تكون النتيجة كلية معينة بحسب الموارد.

وأما بحسب المرتبة : فالنتيجة مهملة ؛ لاحتمال كون الطريق المنصوب هو خصوص الظن الاطميناني ، ومع هذا الاحتمال يتردد الطريق المنصوب بين مطلق الظن والظن الاطميناني ، فتكون النتيجة مهملة.

وأما على الوجه الثاني : فلا إهمال في النتيجة بحسب الأسباب لو لم يكن بينها تفاوت ، أو لم يكن هناك إلا سبب واحد.

٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما على تقدير التفاوت بينها : فلا بد من الأخذ بما هو متيقن الاعتبار ، ولا إهمال فيها.

وأما بحسب الموارد : فهي عامة بالنسبة إلى الموارد ؛ كالطريق الواصل بنفسه.

وأما بحسب المرتبة : فهي مهملة ؛ لما تقدم في الطريق بنفسه من احتمال حجية خصوص الظن الاطميناني ، أو التعدي منه إلى غيره إذا لم يكن وافيا. وأما على الوجه الثالث : فالنتيجة مهملة من جميع الجهات ، أعني : الأسباب والموارد والمرتبة.

ـ توهم : الإشكال على التفصيل ـ بين وجود القدر المتيقن وغيره ، بمعنى : أن تكون النتيجة كلية على الأول وجزئية على الثاني ، بتقريب : أنه لا مجال لدليل الانسداد مع القدر المتيقن ؛ لكونه مستلزما لانفتاح باب العلمي. وعليه : فينهدم أساس الانسداد ؛ إذ العمدة هو انسداد باب العلمي ، فلا بد من رفع اليد عن هذا التفصيل المذكور ـ مدفوع بأن وجود القدر المتيقن مستند إلى الانسداد ومعلول له ، فلا ينافيه لامتناع أن يكون المعلول منافيا لعلته.

٨ ـ قد أشار المصنف إلى طريقين من طرق تعميم النتيجة على الكشف ثم أورد عليهما.

أما الطريق الأول : فحاصله : عدم المرجح بحسب الموارد ؛ إذ ليس هناك مرجح لبعضها على بعض ؛ لأن ما يصلح أن يكون مرجحا أحد أمور :

الأول : كون بعض الظنون متيقن الاعتبار ، بمعنى : كونه واجب العمل على كل تقدير فيؤخذ به ، ويطرح غيره للشك في حجيته.

الثاني : كون بعض الظنون أقوى من بعض ، فيتعين العمل به.

الثالث : كون بعض الظنون مظنون الحجية ، فهو أولى من غيره فيؤخذ به ؛ لكونه أقرب إلى إحراز مصلحة الواقع.

وحاصل إيراد المصنف : أن هذا المعمم مبني على بطلان المرجحات الثلاثة ، فيكون باطلا مع صحة المرجحات المذكورة كلا أو بعضا.

أما الطريق الثاني : فهو التعميم بقاعدة الاحتياط ، ومقتضاها هو : الأخذ بجميع أطراف العلم الإجمالي.

وحاصل إيراد المصنف عليه : أن التعميم بقاعدة الاحتياط إنما يتم على القول بكون النتيجة هي الطريق ولو لم يصل أصلا ؛ إذ لو كانت هي الطريق الواصل بنفسه كان

٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الجميع حجة. ولو كانت هي الطريق الواصل ولو بطريقه : أمكن تعيينه بما تقدم من الترجيح بالظن بالاعتبار أو بالقوة ، فلا وجه للأخذ بالجميع من باب الاحتياط. هذا مع أن هذا التعميم لا يوجب العمل إلا بالطرق المثبتة للتكليف لموافقتها للاحتياط ، دون الطرق النافية لأنها مع الشك في حجيتها لا تصلح للمؤمنيّة ، فلا يمكن الاعتماد عليها في رفع اليد عن الواقعيات إلا إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف.

٩ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ إن حجية الظن على فرض تمامية مقدمات الانسداد إنما هي من باب الحكومة لا من باب الكشف.

٢ ـ عدم الإهمال في النتيجة على الحكومة ؛ لا من حيث الأسباب ولا الموارد ولا المرتبة.

٣٩
٤٠