دروس في الكفاية - ج ٢

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

١

٢

٣
٤

فصل في مقدمة الواجب (١)

وقبل الخوص في المقصود ، ينبغي رسم أمور :

الأول :

الظاهر : أن المهم المبحوث عنه في هذه المسألة : البحث عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، فتكون مسألة أصولية.

______________________________________________________

(١) قبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل الكلام في المقام فنقول : إن المراد بالمقدمة هنا ليس مطلق ما لا بد منه في وجود الشيء ؛ حتى تشمل عدم الأضداد المقارن لوجود الشيء المطلوب ، بل المراد منها ما وقع في طريق وجود الشيء ، وما كان متقدما عليه ؛ سواء كان علة تامة أو ناقصة بتمام أقسامها من الشرط ، وعدم المانع وغيرهما ، فإذا تعلق الأمر الوجوبي بما يحتاج ويتوقف وجوده على غيره واحدا كان ذلك الغير أم متعددا يسمى ذلك الغير مقدمة.

فيقع الكلام في أنه هل هناك ملازمة بين وجوب الشيء ومطلوبيته ، وبين وجوب ذلك الغير ومطلوبيته بحسب الواقع ومقام الثبوت أم لا؟ والحاكم بذلك هو العقل ، فتجب المقدمة بعد حكم العقل بالملازمة ؛ إلّا إن المراد بوجوبها ليس هو الوجوب العقلي بمعنى : لا بدّية إتيان المقدمة ؛ لأن ثبوت وجوبها بهذا المعنى ضروري لا مجال للنزاع فيه ، بل المراد من وجوب المقدمة في المقام : هو الوجوب الغيري التبعي ؛ بمعنى : أن الآمر لو كان ملتفتا إلى نفس المقدمة ، لأوجبها كما أوجب ذي المقدمة ، فيكون المراد بالملازمة هي : الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته بهذا المعنى.

إذا عرفت ما هو محل الكلام فاعلم : أن الغرض من عقد هذا الأمر الأول هو : إثبات كون هذه المسألة من المسائل الأصولية ، لا الفقهية ، ولا الكلامية ولا المبادئ الأحكامية ، ولا التصديقية ، وفرض هذه المسألة بنحو تكون من المسائل الفقهية أو الكلامية أو غيرهما ـ وإن كان ممكنا ـ إلّا إن المصنف يقول : إنها من المسائل الأصولية ؛ لانطباق ضابط المسألة الأصولية عليها. وهو وقوعها في طريق استنباط الحكم الكلي الفرعي ؛ مثل : أن يفرض البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، فإنها بذلك تكون

٥

لا عن نفس وجوبها (١) ، كما هو المتوهّم من بعض العناوين ، كي تكون فرعية ؛ وذلك (٢) لوضوح : إن البحث كذلك لا يناسب الأصولي.

______________________________________________________

من المسائل الأصولية ؛ لأن نتيجتها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي وهو : وجوب المقدمة المعينة كالوضوء مثلا.

وأما كونها من المسائل الفقهية : فبأن يبحث فيها عن نفس وجوب المقدمة.

وأما كونها من المسائل الكلامية : فلأن البحث فيها عقلي ، كما أن البحث في علم الكلام كذلك ؛ فيكون من مسائل علم الكلام.

وأما كونها من المبادئ الأحكامية : فلأن المراد من تلك المبادئ هو حالات الأحكام الشرعية ، ومن المعلوم : أن استلزام وجوب ذي المقدمة لوجوب مقدمته من الحالات العارضة للأحكام.

وأما كونها من المبادئ التصديقية : فلأن موضوع علم الأصول على المشهور هي :

الأدلة الأربعة ، والبحث عن هذه المسألة يرجع إلى وجود الموضوع أعني : حكم العقل وعدمه. فتكون من المبادئ التصديقية.

وخلاصة ما أفاده المصنف «قدس‌سره» : أن المقصود من رسم الأمر الأول بيان أمرين : الأول : أن مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية كما عرفت.

الثاني : أنها عقلية لا لفظية ؛ فإن الكلام ليس إلّا في استقلال العقل في الحكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ، وليس الكلام في دلالة الأمر بالشيء على وجوب مقدمته كي تكون المسألة لفظية ؛ كما يظهر من صاحب المعالم «رحمه‌الله».

وكيف كان ؛ فمسألة مقدمة الواجب من المسائل العقلية الأصولية ؛ لانطباق ضابط المسألة الأصولية على مبحث مقدمة الواجب ، فلا وجه للالتزام بكونها مسألة فقهية ، أو جعل البحث فيها استطراديا.

(١) أي : لا يكون البحث في هذه المسألة عن نفس وجوب المقدمة بأن يكون البحث في أن المقدمة واجبة أم لا؟ كي تكون المسألة فرعية «كما هو المتوهم من بعض العناوين» ، حيث جعل مدار البحث وجوب المقدمة على ما في حاشية السيد القزويني على القوانين حيث قال : «اختلف القوم في وجوب ما لا يتم الواجب إلّا به وهو المعبر عنه بمقدمة الواجب على أربعة أقوال» فإن هذه العبارة ظاهرة في كون المسألة فقهية ؛ لأن موضوعها فعل المكلف ، فلو كان البحث عن الوجوب كانت المسألة مسألة فقهية ؛ بخلاف ما إذا كان البحث عن الملازمة ، فإن الملازمة ليست من عوارض فعل المكلف.

(٢) قوله : «وذلك ...» إلخ بيان لعدم كون المسألة فقهية.

٦

والاستطراد (١) لا وجه له بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون من المسائل الأصولية.

ثم الظاهر أيضا (٢) : أن المسألة عقلية ، والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه ؛ لا لفظية (٣) كما ربما يظهر (٤) من صاحب المعالم حيث (٥) استدل على النفي

______________________________________________________

وحاصله : أن البحث عن نفس وجوب المقدمة بحث فقهي ؛ لكون المبحوث عنه من عوارض فعل المكلف ، وهو مما لا يناسب الأصولي ؛ هذا بخلاف البحث عن الملازمة بين الوجوبين ؛ فإنه بحث أصولي يناسب التعرض له في الأصول.

(١) قوله : «والاستطراد» دفع لما يمكن أن يقال : إن جعل البحث في وجوب المقدمة ، وإن كان يستدعي أن يكون البحث فقهيا إلّا إن ذكره في الأصول لأجل الاستطراد.

وحاصل الدفع : إنه لا وجه للاستطراد بعد إمكان أن يكون البحث على وجه تكون هذه المسألة من المسائل الأصولية ؛ بأن يجعل البحث عن الملازمة ، فلا ينبغي حينئذ التشبث بالاستطراد.

(٢) أي : كما أن الظاهر : هو كون هذه المسألة أصولية ؛ كذلك الظاهر : كونها عقلية ؛ لأن الحاكم بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته هو العقل ، كما أشار إليه بقوله : «والكلام في استقلال العقل بالملازمة وعدمه».

(٣) أي : لا تكون المسألة لفظية بمعنى : أن اللفظ الدال على وجوب الشيء دال على وجوب مقدماته.

(٤) أي : يظهر كون المسألة لفظية من صاحب المعالم ؛ وإن لم يكن كلامه صريحا في ذلك.

(٥) قوله : «حيث استدل على النفي ...» إلخ ؛ بيان لمنشا استظهار كون المسألة لفظية من كلام صاحب المعالم «قدس‌سره» ، ص ١٧٠.

وخلاصة الكلام أن منشأ الاستظهار يرجع إلى أمرين :

الأول : استدلاله على النفي بانتفاء الدلالات الثلاث أي : المطابقة ، والتضمن ، والالتزام. وبديهي أن انتفاءها يقتضي عدم الدلالة اللفظية ؛ لا انتفاء الدلالة العقلية.

الثاني : ذكره هذا المبحث في مباحث الألفاظ.

والأول : ما أشار إليه المصنف «قدس‌سره» بقوله : «حيث استدل على النفي ...» إلخ ؛ فإنه ظاهر في كون البحث لفظيا ؛ وإلّا لم يتم هذا الاستدلال.

٧

بانتفاء الدلالات الثلاث ؛ مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ ؛ ضرورة (١) : أنه إذا كان نفس الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته ثبوتا محل الإشكال ؛ فلا مجال لتحرير النزاع في الإثبات ، والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى أنه ذكرها في مباحث الألفاظ» ؛ فإنه ظاهر في كون البحث لفظيا ؛ وإلّا لا وجه لذكره في بحث الألفاظ.

(١) قوله : «ضرورة ...» إلخ تعليل لقوله : «ثم الظاهر أيضا ...» إلخ.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن مقام الإثبات والدلالة كدلالة اللفظ على المعنى تابع وفرع لمقام الثبوت أعني : ثبوت المعنى في الخارج. إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن النزاع في دلالة اللفظ ـ في المقام ـ على الملازمة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام ؛ تابع وفرع لثبوت الملازمة واقعا ، فبدون ثبوتها واقعا لا يصح النزاع في دلالة اللفظ وعدمها عليها إثباتا.

ومن المعلوم : أن الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها محل الإشكال أي : لم تتحقق بعد ، فلا وجه لتحرير النزاع في مرحلة الإثبات ، والدلالة عليها بإحدى الدلالات الثلاث.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في جهتين :

الأولى : هل هذه المسألة أصولية أو غير أصولية؟

الثانية : هل هي لفظية أو عقلية؟

أما الكلام في الجهة الأولى : فقد ذكر المصنف ما حاصله : من أن هذه المسألة أصولية ، لأن البحث فيها إنما هو عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدماته ، وليس البحث فيها عن وجوب المقدمة كي تكون المسألة فرعية. وبما أن البحث عن الملازمة تقع نتيجته في طريق استنباط الحكم الشرعي ؛ فتكون هذه المسألة مسألة أصولية.

وأما الجهة الثانية : فالظاهر : أن المسألة عقلية ؛ لأن الحكم بالملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها من العقل ، فلا تكون المسألة لفظية ؛ كما ربما يظهر من صاحب المعالم «رحمه‌الله» حيث استدل على نفي وجوب المقدمة بعدم الدلالات الثلاث الظاهر في كونها لفظية.

٨

الأمر الثاني : (١)

أنه ربما تقسم المقدمة إلى تقسيمات :

منها : تقسيمها إلى داخلية وهي الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها. والخارجية وهي الأمور الخارجة عن ماهيته مما لا يكاد يوجد بدونه.

______________________________________________________

أما رأي المصنف «قدس‌سره» : فهو أنها من المسائل الأصولية لا الفرعية ، ومن المسائل العقلية لا اللفظية. هذا تمام الكلام في خلاصة البحث.

تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية

(١) الأمر الثاني في تقسيم المقدمة إلى تقسيمات عديدة باعتبارات شتى :

الأول : تقسيمها إلى الداخلية والخارجية.

الثاني : تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية.

الثالث : تقسيمها إلى مقدمة الوجود ، ومقدمة الصحة ، ومقدمة الوجوب ، ومقدمة العلم.

الرابع : تقسيمها إلى المتقدم ، والمقارن ، والمتأخر.

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان ما هو محل النزاع فنقول : إن المقدمة التي هي مصبّ ومقسم للتقسيمات المذكورة عبارة عن مطلق ما يتوقف عليه الشيء.

وأما توضيح ما هو المراد من المقدمة الداخلية والخارجية فيتوقف على مقدمة وهي : أن كل واحد منهما على قسمين : الداخلية بمعنى الأخص والأعم ، والخارجية كذلك.

وأما الداخلية بالمعنى الأخص فهي : أجزاء المأمور به الداخلة في حقيقته قيدا وتقيدا ؛ مثل : القراءة في الصلاة مثلا ، فكما هي بنفسها دخيلة في المأمور به ومقوّمة له ؛ فكذلك تقيدها بكونها مسبوقة بتكبيرة الإحرام ، وملحوقة بالركوع والسجود دخيل في حقيقة المأمور به.

وأما الداخلية بالمعنى الأعم : فهي خارجة عن حقيقة المأمور به قيدا والداخلة فيه تقيّدا ؛ مثل : طهارة البدن واللباس عن الخبث ، والاستقبال والطهارة من الحدث ونحوها ؛ فإنها خارجة عن حقيقة الصلاة المأمور بها قيدا ، ولكنها داخلة فيها تقيّدا ؛ بمعنى : أن المأمور به حصة من الصلاة ؛ وهي الصلاة المقيدة بها لا مطلقا.

وأما المقدمة الخارجية بالمعنى الأخص : فهي غير دخيلة في المأمور به أصلا لا قيدا ولا تقيّدا ؛ بل إنما يتوقف وجود المأمور به الواجب في الخارج عليها ؛ مثل : الكون على

٩

وربما يشكل (١) في كون الأجزاء مقدمة له وسابقة عليه ؛ بأن المركب ليس إلّا نفس الأجزاء بأسرها.

والحل : (٢) أن المقدمة هي نفس الأجزاء بالأسر ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط

______________________________________________________

السطح ، وقطع المسافة ؛ فإن الواجب ـ وهو الكون على السطح ـ يتوقف على نصب السلم في الأول ، والحج يتوقف على قطع المسافة في الثاني.

وأما المقدمة الخارجية بالمعنى الأعم : فهي عين المقدمة الداخلية بالمعنى الأعم ؛ أي : الخارجة عن المأمور به قيدا ، والداخلة فيه تقيّدا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المراد بالمقدمة الداخلية هي : الداخلية بالمعنى الأخص ، وبالمقدمة الخارجية هي : الخارجية بالمعنى الأعم المقابلة للداخلية بالمعنى الأخص.

ومن هنا ظهر الفرق بينهما ، فلا حاجة إلى بيان ذلك.

(١) قد تعرض المصنف في البحث عن المقدمة الداخلية لجهتين :

الجهة الأولى : هي الإشكال في صحة إطلاق المقدمة عليها.

الجهة الثانية : هي الإشكال في دخولها في محل النزاع.

والذي قرّره المصنف هو : عدم دخولها في محل النزاع ؛ كما أشار إليه بقوله : «إنه ينبغي خروج الأجزاء عن محل النزاع». فانتظر وجه ذلك.

وأما حاصل الكلام في الجهة الأولى : فقد يستشكل في مقدمية الأجزاء ؛ ويقال :

كيف تكون الأجزاء مقدمة داخلية للمأمور به الواجب؟ والحال أن المقدمية تتوقف على أمرين :

الأول : أن تكون المقدمة غير المأمور به الواجب.

والثاني : أن تكون سابقة عليه.

وكلا الأمرين : منتف في المقدمة الداخلية ؛ لأن المقدمة الداخلية كما عرفت هي : نفس الأجزاء ، والأجزاء عين المركب ، فلا مغايرة بينهما أصلا ، ولا تكون الأجزاء سابقة عليه ؛ لأن نفس الشيء لا يكون سابقا عليه.

وبعبارة أخرى : مقدمة الشيء عبارة عما يقع في طريق وجوده ، والشيء لا يقع في طريق نفسه. وكيف كان ؛ فلا مغايرة بين الأجزاء والمركب منها ؛ ليكون للأجزاء وجود غير وجود الكل حتى تجب الأجزاء غيريا ، ويجب الكل نفسيا. فتنحصر المقدمة بالخارجية ، ولا تعقل المقدمة الداخلية أصلا.

(٢) أي : حل إشكال عينية المقدمة للمأمور به الواجب. وتوضيح ذلك يتوقف على

١٠

الاجتماع ، فيحصل المغايرة بينهما. وبذلك ظهر : أنه لا بدّ في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط ، كما لا بدّ في اعتبار الكلية من اعتبار اشتراط الاجتماع.

وكون (١) الأجزاء الخارجية كالهيولى والصورة ؛ هي الماهية المأخوذة بشرط لا

______________________________________________________

مقدمة : وهي : أن المقدمة الداخلية وإن كانت نفس الأجزاء ؛ إلّا إن تلك الأجزاء إذا لوحظت لا بشرط فهي مقدمة ، وإذا لوحظت بشرط شيء فهي ذو المقدمة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ذوات الأجزاء معروضة للاجتماع فتكون سابقة على الكل ؛ لسبق المعروض على العارض ، ومغايرة معه ولو بالمغايرة الاعتبارية ، فما هو ملاك المقدمية من السبق والمغايرة موجود في الأجزاء ، فلا إشكال في كونها مقدمة داخلية للواجب.

وفي «منتقى الأصول» قال في الجواب عن هذا الإشكال ما هذا لفظه : «إن الأجزاء بالأسر فيها جهتان واقعيتان : إحداهما مترتبة على الأخرى ، فإن في كل جزء جهة ذاته ، وجهة اجتماعه مع غيره من الأجزاء. ولا يخفى : أن جهة الذات متقدمة على جهة اجتماع الذات مع الذات الأخرى تقدم المعروض على العارض ، لأن جهة الاجتماع عارضة على الذوات ، وعليه فنقول : إذا لوحظت الأجزاء بجهة ذاتها كانت المقدمة ، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكل ، فالمقدمة سابقة على الكل ، وذي المقدمة سبق المعروض على العارض ، وهذا السبق يصحح إطلاق المقدمية عليها». انتهى مورد الحاجة.

«وبذلك ظهر : أنه لا بد في اعتبار الجزئية أخذ الشيء بلا شرط ...» إلخ أي : بما ذكر من الفرق بين المقدمة الداخلية وذيها : بأن المقدمة الداخلية هي نفس الأجزاء لا بشرط ، وذيها هي الأجزاء بشرط الاجتماع «ظهر» : أن اعتبار الجزئية منوط بأخذ الشيء بلا شرط ، واعتبار الكلية منوط باشتراط الاجتماع.

وجه الظهور : أن المقدمة الداخلية هي الأجزاء ، وحيث تبين الفرق بين المقدمة الداخلية والكلية ظهر الفرق بين الجزء والكل ، وبظهور الفرق بينهما ظهر خاصية كل منهما إجمالا على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٢ ، ص ١٢».

(١) قوله : «وكون الأجزاء الخارجية ...» إلخ دفع للإشكال وحاصل الإشكال : أنّ ما ذكرتم من أن الأجزاء مأخوذة على نحو لا بشرط ينافي ما يقوله أهل المعقول : من أن الأجزاء الخارجية ـ كالهيولى والصورة ـ مأخوذة بشرط لا ، فما أفاده المصنف «قدس‌سره» من أخذ الأجزاء ملحوظة لا بشرط ينافي ما ذكره أهل المعقول من أنها ملحوظة بشرط لا ؛ لوضوح التنافي بين الماهية «لا بشرط» ، وبين الماهية «بشرط لا».

١١

ينافي ذلك ، فإنه إنما يكون في مقام الفرق بين نفس الأجزاء الخارجية والتحليلية ، من الجنس والفصل ، وأن الماهية إذ أخذت بشرط لا تكون هيولى أو صورة ، وإذا أخذت لا بشرط تكون جنسا أو فصلا لا بالإضافة إلى المركب فافهم (١).

ثم لا يخفى : أنه ينبغي خروج الأجزاء (٢) عن محل النزاع ، كما صرح به بعض.

______________________________________________________

وحاصل الدفع : أنه لا تنافي بينهما. وجه عدم المنافاة هو : عدم وحدة الإضافة فيهما.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن اللابشرط في اصطلاح الأصولي إنما هو بالإضافة إلى الكل ؛ بمعنى أنه إذا قوبل الجزء بالكل فيؤخذ الأول لا بشرط ، والثاني : بشرط شيء.

وأما اللابشرط الفلسفي ـ في المادة والصورة والجنس والفصل ـ فإنما هو بالإضافة إلى الجزء الآخر ؛ بمعنى : أنه إذا قوبلت الأجزاء الخارجية ـ كالمادة والصورة أي : كالبدن والنفس الناطقة ـ بالأجزاء التحليلية التي يحللها العقل إلى جنس وفصل ، فيؤخذ الأول : أي : الأجزاء الخارجية بشرط لا الاعتباري ، فلا يقبل الحمل. والثاني : لا بشرط الاعتباري فيقبل الحمل.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ الإضافة فيهما مختلفة ؛ لأن اللابشرط في اصطلاح الفلسفي وأهل المعقول إنما هو بالإضافة إلى الجزء الأخر كما عرفت. وأما اللابشرط الأصولي فهو بالإضافة إلى الكل فقط ، فلا تنافي بينهما ؛ إذ يشترط في التنافي وحدة الإضافة المنتفية في المقام ؛ لما عرفت : من أن الجزء الخارجي أخذ لا بشرط لا بالإضافة إلى الجزء الآخر ـ وهو الجزء التحليلي ـ لا بالإضافة إلى المركب والكل ، والجزء الداخلي في المقام أخذ لا بشرط بالإضافة إلى المركب والكل.

(١) لعله إشارة إلى عدم المنافاة بينهما حتى مع وحدة الإضافة أيضا ، وذلك لاختلاف الغرض والمقصود ؛ لأن غرض الأصوليين ومقصودهم من اعتبار الأجزاء لا بشرط بالإضافة إلى المركب ، أي : مقصودهم لا بشرط عن الاجتماع والاتصال. ومقصود أهل المعقول من اعتبار الأجزاء الخارجية بشرط لا بالإضافة إلى المركب هو : عدم صحة الحمل عليه ، أي : الأجزاء الخارجية بشرط لا غير قابلة للحمل على المركب ؛ في مقابل الأجزاء التحليلية المأخوذة لا بشرط ، فيصح حملها عليه ، ويقال : الإنسان ناطق.

(٢) هذا الكلام من المصنف هو تعرّضه للبحث عن المقدمة الداخلية من الجهة الثانية وهي : النزاع والكلام في دخولها في محل النزاع ، يقول المصنف «قدس‌سره» بخروجها

١٢

وذلك (١) لما عرفت من كون الأجزاء بالأسر عين المأمور به ذاتا ، وإنما كانت المغايرة بينهما اعتبارا ، فتكون واجبة بعين وجوبه ، ومبعوثا إليها بنفس الأمر الباعث إليه ، فلا تكاد تكون واجبة بوجوب آخر لامتناع اجتماع المثلين.

ولو قيل (٢) بكفاية تعدد الجهة ، وجواز اجتماع الأمر والنهي معه ، لعدم تعددها (٣)

______________________________________________________

عن محل النزاع ، كما صرح بخروجها عنه بعض الأعلام وهو سلطان العلماء على ما في «بدائع الأفكار» ، ومحل النزاع هو وجوب المقدمة بالوجوب الغيري.

(١) وجه خروج الأجزاء عن محل النزاع : أن وجوب المقدمة غيري ترشحي ؛ بمعنى : أنه يترشح إليها من وجوب ذي المقدمة. هذا إنما يصح فيما إذا لم تكن المقدمة عين الواجب ، وأما فيما إذا كانت عين الواجب ـ كما هو المفروض في المقام ؛ حيث تكون الأجزاء الداخلية عين الكل وهو الواجب ـ فتكون المقدمة حينئذ واجبة بالوجوب النفسي الضمني ؛ لأنها عين الكل الذي هو متعلق الوجوب النفسي المنبسط على الأجزاء ، ومع هذا الوجوب النفسي لا تتصف الأجزاء بالوجوب الغيري.

وبعبارة أخرى : أن مرجع عدم وجوب الأجزاء بالوجوب الغيري إلى وجود المانع من تعلق الوجوب الغيري فيها. وتوضيح ذلك : أن الأجزاء لمّا كانت عين الكل في الوجود ؛ كان الأمر النفسي المتعلق بالكل متعلقا بها حقيقة ، فهي متعلقة للوجوب النفسي ، وعليه :

فيلزم من تعلق الوجوب الغيري ـ بناء على ثبوت مقتضيه ـ اجتماع حكمين على موضوع واحد ، وهو محال لأجل اجتماع المثلين ، وهو في المنع كاجتماع الضدين ، فالأجزاء لا تكون متعلقة للوجوب الغيري وإن ثبت مقتضيه فيها ؛ لوجود المانع وهو استلزامه للمحال ، وهو اجتماع المثلين أعني : اجتماع الوجوب النفسي والغيري في الجزء.

(٢) كلمة لو في قوله : «ولو قيل بكفاية تعدد الجهة ...» إلخ وصلية أي : لامتناع اجتماع المثلين في المقام ؛ ولو على القول بكفاية تعدد الجهة في جواز اجتماع المثلين ، واجتماع الأمر والنهي ؛ وذلك لعدم تعدد الجهة هاهنا في الجزء ، لأن الواجب بالوجوب الغيري لو كان لكان محله ومصبه نفس الأجزاء لا عنوان مقدميتها ، فإن المقدمية علة للوجوب ؛ لا أن الوجوب منصب على المقدمة بعنوان كونها مقدمة ، بل الوجوب الغيري متعلق بنفس الجزء كالوجوب النفسي ، فلم يتعدد محل الوجوب كي يكون مصححا للاجتماع على القول بكفاية تعدد الجهة.

(٣) أي : لعدم تعدد الجهة هاهنا. هذا دفع لتوهم تعدد الجهة في المقام ، ومعه لا يلزم اجتماع المثلين.

١٣

هاهنا ، لأن الواجب بالوجوب الغيري لو كان إنما هو نفس الأجزاء لا عنوان مقدميتها ، والتوسل بها إلى المركب المأمور به ، ضرورة : أن الواجب بهذا الوجوب ما كان بالحمل الشائع مقدمة ؛ لأنه المتوقف عليه لا عنوانها.

نعم (١) ؛ يكون هذا العنوان علة لترشح الوجوب على المعنون.

______________________________________________________

وحاصل الدفع : أن تعدد الجهة المجدي في دفع محذور الاجتماع مفقود هنا ؛ لأن الجهة في المقام تعليلية لا تقييدية.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الجهة على قسمين : التعليلية والتقييدية. الفرق بينهما : أن الأولى : هي علة للحكم لا موضوعا له ، فلا يتعلق الحكم بها مثل مقدمية المقدمة ، فهي جهة تعليلية لا تقييدية.

هذا بخلاف الثانية : أي : الجهة التقييدية وهي : ما يقع موضوعا للحكم والخطاب مثل : الصلاة واجبة ، والغصب حرام ، أو كقول الشارع : صلّ ولا تغصب ، فالصلاة موضوع الوجوب ، والغصب موضوع الحرمة ، والصلاتية والغصبية جهتان تقييديتان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إن كانت الجهة تعليلية : فتعددها لا يجدي ، ولا ينفع في دفع محذور اجتماع الحكمين المثلين ؛ لعدم تعلق الحكم بالجهة حتى يكون تعددها موجبا لتعدد الموضوع ، فإن الجهات التعليلية أجنبية عن موضوع الحكم ، ولهذا تعددها لا يوجب تعدد الموضوع.

وأما إن كانت الجهة تقييدية : فتعددها يجدي في دفع محذور اجتماع المثلين في موضوع ، لأن المفروض : أنه يتعدد الموضوع بتعدد الجهة ، ولذا يندرج في باب التزاحم لا التعارض كما يأتي تفصيل ذلك في محله.

فالحاصل : أن الجهة في المقام لما كانت تعليلية فتعددها لا يجدي في دفع محذور اجتماع المثلين ، فتوهم : كفاية تعدد الجهة في دفع المحذور المذكور واضح البطلان والفساد. فالنتيجة هي : إن ذوات الأجزاء ليست واجبا نفسيا ضمنيا وواجبا غيريا ؛ لاستلزامه المحال ، بل هي واجبة نفسية ضمنية.

(١) هذا بيان منه لنفي كون عنوان المقدمية جهة تقييدية ، بل جهة تعليلية. أي : بعد أن نفي المصنف معروضية عنوان المقدمة للوجوب الغيري ـ لأن هذا العنوان ليس جهة تقييدية ـ استدرك على ذلك وقال : إن المقدمية جهة تعليلية لترشح الوجوب الغيري على المعنون ، وهو ذات المقدمة ، «فانقدح بذلك» أي : بكون المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية ، وأن الوجوب يعرض ذات المقدمة ، لا عنوانها : ظهر فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي ، والوجوب الغيري باعتبارين ؛ باعتبار كون الجزء في

١٤

فانقدح بذلك : فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري ، باعتبارين ، فباعتبار كونه في ضمن الكل واجب نفسي ، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل واجب غيري ، اللهم (١) إلّا إن يريد أن فيه (٢) ملاك الوجوبين ، وإن كان واجبا بوجوب واحد نفسي لسبقه فتأمل.

______________________________________________________

ضمن الكل واجب نفسي ، وباعتبار كونه مما يتوسل به إلى الكل ، ويتوقف عليه الكل واجب غيري.

وجه الفساد : أنه يلزم اجتماع المثلين ، وتعدد الاعتبار لا يوجب تعدد الموضوع ؛ لما عرفت : من أن عنوان المقدمية جهة تعليلية لا يمكن أن يكون مصبّا ومتعلقا للوجوب الغيري ، فلا بد أن يكون نفس الذات موردا للوجوب الغيري ، فيلزم اجتماع المثلين الذي هو مستحيل.

(١) هذا الكلام من المصنف توجيه للتوهم المزبور وحاصله : أن مراد المتوهم من اتصاف كل جزء من الأجزاء بالوجوب المقدمي هو اتصافه بملاك الوجوب المقدمي ، لا بنفس الوجوب المقدمي حتى يلزم اجتماع المثلين.

(٢) أي : أن في كل جزء من الأجزاء ملاك الوجوبين ؛ لا وجوبين فعليين ، «وإن كان واجبا بوجوب واحد» أي : وإن كان كل جزء فعلا «واجبا بوجوب واحد نفسي» ، من دون الوجوب الغيري ، وإنما يكون كل جزء واجبا بوجوب واحد نفسي لا بوجوب واحد غيري ؛ «لسبقه» أي : لسبق الوجوب النفسي على الغيري ؛ لتوقف الوجوب الغيري على الوجوب النفسي دون العكس ، وبعد ما كان الجزء واجبا نفسيا امتنع فيه الوجوب الغيري ؛ لاستحالة اجتماع المثلين كما عرفت غير مرة.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى ما أفاده المصنف في الحاشية حيث قال عند قوله : «فافهم». وجهه : إنه لا يكون فيه أيضا ملاك الوجوب الغيري حيث لا وجود له غير وجوده في ضمن الكل الذي يتوقف على وجوده ، وبدونه لا وجه لكونه مقدمة كي يجب بوجوبه أصلا). انتهى مورد الحاجة.

فخلاصة وجه التأمل : هو عدم صحة التوجيه المزبور ؛ وذلك لمنع وجود ملاك الوجوب الغيري في الأجزاء أيضا ؛ ضرورة : توقف المقدمية على تعدد الوجود ؛ والمفروض : أن الأجزاء عين الكل وجودا ، وليست غيره حتى تتصف بالمقدمية ، فالمتحصل من جميع ما ذكرناه : أن الالتزام بالمقدمة الداخلية مما لا وجه له.

١٥

هذا (١) كله في المقدمة الداخلية.

______________________________________________________

المقدمة الخارجية

(١) هذا الكلام «كله في المقدمة الداخلية. وأما المقدمة الخارجية فهي ما كان خارجا عن المأمور به ، وكان له دخل في تحققه» ، أي : المقدمة الخارجية هي خارجة عن حقيقية المأمور به ، ولها دخل في تحقق المأمور به. وتذكير الضمير في قوله : «له» ـ مع إنه يرجع لى المقدمة ـ إنما هو باعتبار الموصول في قوله : «ما كان».

والكلام في المقدمة الخارجية في مقامين :

المقام الأول : في تعريف المقدمة الخارجية ، وما هو المراد من خروجها.

والمقام الثاني : في أقسامها.

وأما خلاصة الكلام في المقام الأول : فالمقدمة الخارجية : هي خارجة عن حقيقة المأمور به ، في مقابل المقدمة الداخلية الداخلة في ماهية المأمور به كأجزائه أعم من الأركان وغيرها ، وللمقدمة الخارجية دخل في تحقق المأمور به من دون أن تكون داخلة في ماهيته. هذا ملخص الكلام في المقام الأول. وقد سبق الفرق بينهما في أول تقسيم المقدمة إليهما فلا نعيد تجنبا عن التكرار ، وأما الكلام في المقام الثاني ؛ وهو : بيان أقسام المقدمة الخارجية :

١ ـ المقتضي ـ ويقال له السبب أيضا ـ وهو : المؤثر في المقتضى بالفتح ؛ كالنار في إحراق الجسم.

٢ ـ الشرط وهو : ما له دخل في تأثير المقتضي في المقتضى كمحاذاة الخشب للنار ، فإن النار ما لم تكن محاذية لشيء لم تحرقه.

٣ ـ عدم المانع أي : عدم ما يمنع عن تأثير المقتضي في المقتضى ؛ كعدم رطوبة الخشب ، فإن الرطوبة مانعة عن تأثير النار في الإحراق ، فعدمها يكون من مقدمات وجود الإحراق.

٤ ـ المعدّ وهو : ما يقرب المعلول إلى العلة كتهيئة الخشب ، ووسيلة الإضرام ، ونحو ذلك. والحاصل : أن كل شيء توقف عليه وجود شيء آخر في الخارج من دون أن يكون له تاثير فيه ، ولا في تأثير المقتضي فيه فهو معد.

٥ ـ العلة التامة وهي : مجموع المقتضي ، والشرط ، وعدم المانع ، والمعد. فإذا تحقق الجميع فقد تحقق المقتضي والمعلول قهرا بلا فصل زماني ؛ وإن كان يتأخر المعلول عن علته رتبة.

١٦

وأما المقدمة الخارجية ؛ فهي : ما كان خارجا عن المأمور به ، وكان له دخل في تحققه ، لا يكاد يتحقق بدونه. وقد ذكر لها أقسام وأطيل الكلام في تحديدها (١) بالنقض (٢) والإبرام (٣) ؛ إلّا إنه غير مهم (٤) في المقام.

______________________________________________________

٦ ـ السبب : وهو يطلق على العلة التامة ، وعلى العلة الناقصة كالمقتضي مع عدم الشرط أو وجود المانع ، وعلى الجزء الأخير من العلة المركبة كالشرط المتأخر ، وإجازة البيع الفضولي وغيره. وقد عرّف السبب بأنه : ما يلزم من وجوده الوجود ، ومن عدمه العدم لذاته.

والشرط بأنه : ما يلزم من عدمه عدم المشروط ، ولا يلزم من وجوده وجوده.

والمانع بأنه : ما لا يلزم من عدمه عدم شيء ، بل يلزم من وجوده عدم شيء.

والمعد بأنه : ما يلزم من مجموع وجوده وعدمه الوجود ؛ كالذهاب بالنسبة إلى الكون في محل مخصوص ، فإن إيجاد الخطوة وإعدامها موجب للوصول.

(١) أي : في تحديد تلك الأقسام. أي : قد أطالوا الكلام بالنقض والإبرام في هذه التحديدات كما في التقريرات وغيره.

(٢) أي : كنقض حدّ السبب طردا بالجزء الأخير من العلة التامة ، ومن المركب ، وبلوازم السبب وغير ذلك ، لصدق حدّ السبب على الجميع ، إذ يلزم من وجودها وجود العلة التامة والمركب والسبب ، ومن عدمها عدمها ، وعكسا : بعدم شموله ـ كما في الفصول ـ كما إذا كان لشيء أسباب ، فإنه لا يلزم من عدم أحدها العدم مع قيام الآخر مقامه.

(٣) أي : كإرجاع الأسباب العديدة إلى القدر المشترك الذي هو سب واحد ، فلا يلزم انتقاض حد السبب عكسا ، بجعل كلمة ـ من ـ في التعريف للسببية ؛ حتى لا يلزم انتقاض حدّه طردا ، فراجع البدائع ، والتقريرات وغيرهما من الكتب المبسوطة.

(٤) أي : وجه عدم كونه مهما ـ كما في التقريرات ـ هو : أن المقصود من هذا التقسيم تشخيص ما هو مراد المفصل في وجوب المقدمة ؛ بين السبب والشرط وغيرهما ، فقال : بوجوب المقدمة في السبب والشرط دون غيرهما ، إلّا إن المصنف لما لم يرتض هذا التفصيل لدخول جميع أقسام المقدمة في محل النزاع من دون خصوصية لبعضها ، فليس التعرض لحدودها بمهم. كما في «منتهى الدراية ، ج ٢ ، ص ١٢٢». وكيف كان فجعل ؛ بعض الأقسام المذكورة من المقدمة الخارجية محل تأمل. هذا تمام الكلام في تقسيم مقدمة الواجب إلى الداخلية والخارجية.

١٧

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

وأما البحث في التقسيم الأول من تقسيمات مقدمة الواجب فيتلخص في أمور :

١ ـ الفرق بين المقدمة الداخلية ، والمقدمة الخارجية : أن الأولى عبارة عن الأجزاء المأخوذة في الماهية المأمور بها ؛ مثل : أجزاء الصلاة من تكبير وركوع وسجود وتسليم ، ولا تتكوّن الصلاة إلّا منها ، وهي بنفسها هي التي نسميها مقدمة داخلية.

وأما المقدمة الخارجية فهي : عبارة عن الأمور الخارجة عن ماهية المأمور به ، ولكنها مما لا يكاد يوجد المأمور به بدون تلك المقدمة ؛ وذلك كالشرط ، والمقتضي ، وعدم المانع ، والمعدّ.

٢ ـ ربما يشكل البعض في كون الأجزاء مقدمة داخلية للمأمور به ؛ بتقريب : أن المقدمة يجب أن تكون سابقة على المأمور به ذهنا وخارجا ، وأن تكون مغايرة له.

والمركب في محل الكلام ليس إلّا نفس الأجزاء ، فلا تكون الأجزاء سابقة عليه ، ولا مغايرة معه ؛ إذ لا يمكن أن يكون الشيء متقدما على نفسه.

وحل هذا الإشكال بأن يقال : إن المقدمة هي نفس الأجزاء على نحو لا بشرط ، وذو المقدمة هو الأجزاء بشرط الاجتماع أي : بشرط شيء ، وبهذا الاعتبار تحصل الاثنينيّة ، والمغايرة بين المقدمة وذيها ، فتكون نفس الأجزاء معروضة للاجتماع ، فتكون الأجزاء سابقة على الكل لسبق المعروض على العارض ، فحينئذ ما هو ملاك المقدمية من السبق والمغايرة موجود في الأجزاء ، فلا إشكال في كونها مقدمة داخلية للواجب.

٣ ـ دفع إشكال التنافي بين اعتبار الأجزاء في باب المقدمة الداخلية لا بشرط ، وبين اعتبار الأجزاء الخارجية في باب الفرق بين المادة والصورة ، وبين الجنس والفصل بشرط لا ؛ بتقريب : أن التنافي بين الماهية لا بشرط ، والماهية بشرط لا واضح وضوح الشمس في النهار. هذا ملخص إشكال التنافي.

وحاصل الدفع : إنه لا تنافي بينهما لتعدد الإضافة ، لأن الأجزاء في باب المقدمة لا بشرط بالإضافة إلى الكل ، والأجزاء الخارجية في باب الفرق بين الأجزاء الخارجية والأجزاء التحليلية بشرط لا ؛ إنما هو بالإضافة إلى الجزء الآخر.

٤ ـ خروج المقدمة الداخلية عن محل النزاع ، فلا تكون واجبة بالوجوب الغيري ؛ لأجل لزوم اجتماع المثلين في محل واحد ، وهو محال.

ولا يكفي تعدد الجهة لدفع محذور لزوم اجتماع المثلين ؛ ولو على القول بكفاية تعدد

١٨

ومنها (١) : تقسيمها إلى العقلية ، والشرعية ، والعادية.

______________________________________________________

الجهة في جواز الاجتماع ؛ لأن ذلك فيما إذا كانت الجهة تقييدية ، والجهة في المقام تعليلية ، تعددها لا يوجب تعدد الموضوع.

ومن هنا ظهر : فساد توهم اتصاف كل جزء من أجزاء الواجب بالوجوب النفسي والغيري باعتبارين ؛ باعتبار كون الجزء في ضمن الكل واجب نفسي ، وباعتبار كونه مما يتوقف عليه الكل واجب غيري ، وجه الفساد : أنه يلزم اجتماع المثلين ، وقد عرفت : أن تعدد الاعتبار لا يوجب تعدد الموضوع.

وأما توجيه التوهم المزبور ؛ بأن المراد باتصاف كل جزء بالوجوبين هو : اتصافه بملاك الوجوبين مردود بما أشار إليه بقوله : «فافهم» من عدم ملاك للوجوب الغيري أصلا ، إذ لا وجود للجزء غير وجوده في ضمن الكل ، والمقدمية تتوقف على تعدد الوجود.

٥ ـ المقدمة الخارجية هي : عبارة عما كان خارجا عن ماهية المأمور به ، ولها دخل في تحقق المأمور به ، ولها أقسام :

١ ـ المقتضي : كالنار بالنسبة إلى الإحراق.

٢ ـ الشرط : كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة.

٣ ـ عدم المانع : بأن لا يكون هناك مانع عن تحقق الشيء ؛ كعدم الرطوبة بالإضافة إلى الحطب ، فإن الرطوبة مانعة عن الإحراق.

٤ ـ المعدّ : وهو ما يقرّب المعلول إلى علته ؛ كتهيئة الخشب للإحراق.

٥ ـ وأما نظرية المصنف :

فهي : دخول المقدمة الخارجية في محل الكلام دون المقدمة الداخلية ؛ إذ لا يمكن أن تكون المقدمة الداخلية واجبة بالوجوب الغيري ؛ لاستلزامه اجتماع المثلين المستحيل عقلا. هذا تمام الكلام في تلخيص البحث.

(١) من تقسيمات المقدمة : «تقسيمها إلى العقلية والشرعية والعادية» ، وقد مرّ : أن المقدمة تنقسم إلى تقسيمات عديدة ، وبعض هذه التقسيمات ثنائية ، وبعضها ثلاثية ، وبعضها رباعية ، وقد تقدم الكلام تفصيلا في تقسيمها ثنائيا إلى المقدمة الداخلية ، والمقدمة الخارجية. وهذا التقسيم إنما هو تقسيمها ثلاثيا إلى العقلية ، والشرعية ، والعادية.

والفرق بين هذا التقسيم الثلاثي ، وبين التقسيم الثنائي المتقدم : أن التقسيم المتقدم كان باعتبار أنحاء الدخل ، وكيفية تأثير المقدمة من كونها علة أو جزءا لها ، أو شرطا لتأثيرها ، وهذا التقسيم يكون باعتبار الحاكم بالمقدمية هل هو العقل أو الشرع أو العادة؟

وأما تعريفها : فالعقلية : ما توقف وجود الشيء عليها عقلا ؛ كالعلة بالنسبة إلى

١٩

فالعقلية هي : ما استحيل واقعا وجود ذي المقدمة بدونه.

والشرعية على ما قيل : ما استحيل وجوده بدونه شرعا ، ولكنه لا يخفى : رجوع الشرعية إلى العقلية ، ضرورة : إنه لا يكاد يكون مستحيلا شرعا إلّا إذا أخذ فيه شرطا وقيدا ، واستحالة المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده يكون عقليا.

وأما العادية : فإن كانت بمعنى أن يكون التوقف عليها بحسب العادة ؛ بحيث

______________________________________________________

المعلول. والمراد بالنسبة إلى الإرادة حيث يستحيل وجود المعلول ، والمراد بدون وجود العلة والإرادة.

والشرعية : ما توقف وجود الشيء عليها شرعا ؛ كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ، والفرق بين هاتين المقدمتين : أن المقدمة العقلية يستحيل وجود ذيها بدونها تكوينا. والمقدمة الشرعية يستحيل وجود ذيها جعلا وهو ما جعله الشارع شرطا للواجب.

والعادية : ما توقف وجود الشيء عليها عادة كنصب السلم بالنسبة إلى الصعود على السطح ، بحيث يمكن تحقق ذي المقدمة بدونها كالسحب بالحبل مثلا ، إلّا إن العادة جرت على الصعود بواسطة السلم ، وحاصل ما أفاده المصنف بعد التقسيم والتعريف هو : رجوع الكل إلى العقلية.

وأما الشرعية : فلأن توقف وجود الشيء عليها شرعا لا يكون إلّا بأخذها شرطا في المأمور به الواجب ، ومن البديهي : أن استحالة المشروط بدون شرطه عقلية. هذا معنى رجوع المقدمة الشرعية إلى العقلية.

وبعبارة أخرى : توقف وجود الواجب ـ بما أنه واجب ـ على وجود الشرط مما يحكم به العقل بعد أخذه شرطا.

وأما العادية فرجوعها : إلى العقلية ؛ بمعنى دون معنى آخر.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة هي : أن المقدمة العادية تارة : تكون بمعنى : كون التوقف عليها بحسب الاعتياد مع إمكان وجود ذيها بدونها ؛ نظير لبس الحذاء أو الرداء عند الخروج إلى الحوزة العلمية لحضور الدرس.

وأخرى : تكون بمعنى : أن التوقف عليها فعلا واقعي ؛ لكنه باعتبار عدم إمكان غيره عادة لا عقلا ؛ كتوقف الصعود على السطح على نصب السلم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المقدمة العادية بالمعنى الأول خارجة عن المقسم ؛ بمعنى : إنها لا تكون مقدمة حقيقة ، وبالمعنى الثاني ؛ وإن كانت داخلة في المقسم إلّا إنها ترجع إلى العقلية ، والدليل عليه : هو ضرورة : استحالة الصعود على السطح بدون مثل نصب السلم عقلا لغير الطائر فعلا ، وإن كان الطيران على السطح ممكنا ذاتا.

٢٠