دروس في الكفاية - ج ٦

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٦

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٠

١

٢

٣
٤

خاتمة : في شرائط الأصول (١)

أما الاحتياط فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ؛ بل يحسن على كل حال ؛ ...

______________________________________________________

شرائط الأصول العملية

(١) وهي : الاحتياط والبراءة بقسميها وأصالة التخيير.

وقبل الخوض في البحث ينبغي بيان أمرين :

أحدهما : أن المصنف لم يتعرض في الخاتمة إلا ما يعتبر في الاحتياط والبراءة ، مع إن الأصول العملية هي أربعة ، وقد أهمل المصنف ما يعتبر في التخيير والاستصحاب. ولعل الوجه في ذلك هو : أن التخيير متحد مع البراءة حكما ، فيعرف ما يعتبر فيه مما يعتبر فيها.

وأما الاستصحاب : فلأن البحث عنه وعما يعتبر فيه يأتي في باب الاستصحاب.

وثانيهما : إن شرائط الأصول على قسمين :

قسم منها شرط لأصل الجريان ، وقسم آخر شرط للعمل بها.

والأول كالفحص عن الأدلة الاجتهادية بالنسبة إلى جريان البراءة العقلية ، فلا تجري قبل الفحص ؛ إذ موضوعها هو عدم البيان لا يتحقق بدون الفحص عنها.

والثاني كالفحص عن الدليل الاجتهادي بالنسبة إلى البراءة الشرعية ؛ لأن موضوعها هو الشك ثابت قبل الفحص ، فليس شرطا لجريانها ؛ لأنها تجري قبله ولكن العمل بها يتوقف على الفحص ، فالفحص شرط للعمل بالبراءة الشرعية لا لأصل جريانها.

أصل الاحتياط وشروط جريانه

لا شك في حسن الاحتياط لكونه مجاهدة في طريق درك الحق والعمل به ، والعقل حاكم بحسنه ، ولا يشترط شيء سوى أمرين :

الأول : عدم كونه مستلزما لاختلال النظام فإن حفظه واجب.

الثاني : عدم مخالفته لاحتياط آخر.

ولذا قال المصنف : «فلا يعتبر في حسنه شيء أصلا ؛ بل يحسن على كل حال».

٥

إلا (١) إذا كان موجبا لاختلال النظام.

ولا تفاوت فيه (٢) بين المعاملات والعبادات مطلقا ، ولو (٣) كان موجبا للتكرار فيها.

______________________________________________________

أي : سواء أقامت حجة غير علمية على خلافه أم لا ، وسواء كان احتمال الحكم الواقعي قويا أم ضعيفا ، وسواء كان قبل الفحص أم بعده ؛ وسواء كان الاحتياط حقيقيا أم إضافيا كالأخذ بأحد القولين أو الأقوال في المسائل الفرعية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا استثناء عن حسن الاحتياط.

وغرضه : أنه لا يعتبر في حسن الاحتياط شيء إلا عدم كونه موجبا لاختلال النظام ، فالاحتياط الذي ينجر إلى ذلك لا حسن فيه.

وظاهر كلام الشيخ هنا عدم اعتبار شيء في حسنه حتى عدم اختلال النظام.

وكيف كان ؛ فقوله : «إلا إذا» ظاهر في كون الاختلال رافعا لحسن الاحتياط لا لنفس الاحتياط المحرز للواقع ، لظهور السلب في القضايا السالبة في رجوعه إلى المحمول لا الموضوع ، فالاحتياط المخل بالنظام محرز للواقع ، لكنه ليس بحسن لإخلاله بالنظام.

وإن كان المحتمل رجوع الاستثناء إلى الموضوع بأن يقال : إن حقيقة الاحتياط هي إحراز الواقع عملا مع عدم مزاحمة جهة مقبحة له عقلا ، ومع وجود المزاحم ينتفي موضوع الاحتياط ، فتكون السالبة بانتفاء الموضوع.

لكن هذا الاحتمال ضعيف جدا ؛ لأن حقيقة الاحتياط هي الإحاطة بالواقع وحسنه أو قبحه أحيانا لعارض خارج عن هويته ، وظهور قوله : «إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام» في هذا الاحتمال ورجوع السلب إلى المحمول مما لا مجال لإنكاره ؛ لأن معناه : إلا إذا كان الاحتياط موجبا لاختلال النظام ، فالاختلال الرافع لحسنه مترتب على وجود الاحتياط ، لا رافع لحقيقته ، فإن الحسن والقبح من المحمولات المترتبة على وجود شيء.

(٢) أي : حسن الاحتياط ، وهذا إشارة إلى الخلاف في حسنه في العبادات كما نسب إلى جمع من الفقهاء تبعا للمتكلمين ، بزعم : أن الاحتياط فيها مخل بقصد الوجه المعتبر في العبادة ، وعلى هذا بنوا بطلان عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد مع التمكن منهما.

(٣) كلمة «لو» وصلية ، وبيان لوجه الإطلاق ، وإشارة إلى خلاف آخر وهو : أن الاحتياط بحسن إن لم يكن مستلزما لتكرار العبادة ، وإلا فلا حسن فيها ؛ لما سيشير إليه ، وتقدم أيضا في مباحث القطع.

٦

وتوهم (١) : كون التكرار عبثا ولعبا بأمر المولى وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة فاسد (١) ؛ لوضوح : أن التكرار ربما يكون بداع صحيح عقلائي (٣) ، مع أنه لو

______________________________________________________

وقد نسب إنكار حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة إلى صاحب الحدائق ، وضمير «فيها» راجع على العبادات.

(١) هذا أحد الوجوه التي نوقش بها في حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ، ومحصله : أن التكرار عبث لا يترتب عليه غرض عقلائي ، ولعب بأمر المولى ، وهو ينافي قصد القربة أي : امتثال أمره المعتبر في العبادة.

وعليه : فمع التكرار لا يحصل ما هو قوام العبادة من قصد القربة ، وهذا الوجه يوجب امتناع الاحتياط في العبادات ، وضمير «هو» راجع على التكرار.

(٢) خبر «وتوهم» ودفع له بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «لوضوح» ، «وحاصله : أن التكرار ليس لازما مساويا للعبثية المنافية لقصد الامتثال ؛ لإمكان نشوئه عن غرض عقلائي ، كما إذا كان التكرار موجبا لتعوده على العبادة أو دافعا لضرر عدو عن نفسه إذا استحيا العدوّ من الإضرار به ما دام مصليا ، أو كان الفحص والسؤال للذل والمهانة ، أو غير ذلك من الأغراض العقلائية الموجبة لتكرار العبادة المخرجة له عن العبثية المنافية لقصد الامتثال المعتبر في العبادة» (١).

وبالجملة : فالعبثية لا تصلح لأن تكون مانعة عن حسن الاحتياط المستلزم لتكرار العبادة ؛ لكونها أخص من المدعى كما لا يخفى.

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «مع أنه لو لم يكن». ومحصله : أن مناط القربة المعتبرة في العبادة هو إتيان الفعل بداعي أمر المولى ؛ بحيث لا يكون له داع سواه ، فلو أتى بهذا الداعي فقد أدى وظيفته وإن لم يكن التكرار ناشئا من غرض عقلائي وكان لعبا في كيفية الامتثال ؛ لكنه لا ينافي قصد الإطاعة ، حيث إن حقيقتها كما عرفت هي الانبعاث إلى الفعل عن بعث المولى ، وتحركه عن تحريكه ، والمفروض تحققها.

(٣) يمكن أن يريد منكر حسن الاحتياط المستلزم للتكرار عبثية هذا الاحتياط بنظر العقل مع التمكن من الامتثال العلمي التفصيلي ، وأن الاحتياط ليس امتثالا عقلا ، والغرض العقلائي من التكرار لا يسوغه ولا يدرجه تحت عنوان الإطاعة أصلا. وعليه : فلا يندفع الإشكال بوجود الغرض العقلائي من التكرار كما يقول به من يلتزم بترتب مراتب الإطاعة وطوليتها كما لا يخفى.

__________________

(١) منتهى الدراية ٦ : ٣٧٩.

٧

لم يكن بهذا الداعي (١) ، وكان (٢) أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال وإن كان لاعبا في كيفية امتثاله فافهم.

______________________________________________________

(١) أي : داع صحيح عقلائي ، وضمير «أنه» راجع على التكرار أو للشأن.

لا يخفى : أن الترتيب الطبيعي يقتضي تقديم هذا الجواب على الأول ؛ بأن يقال : «فاسد أولا : بعدم منافاة التكرار لقصد الامتثال ، وثانيا : بإمكان نشوء التكرار من غرض عقلائي على تقدير منافاته له».

(٢) أي : ولكن «كان أصل إتيانه بداعي أمر مولاه بلا داع سواه» ؛ بأن كان داعيه إلى الصلاة أمر الشارع ولكن داعيه إلى التكرار مجرد العبث ، كما لو كان داعي المأمور في إتيانه بالكتاب أمر المولى ـ فيما لو أمر بإحضار كتاب الشرائع مثلا ـ لكنه أتى بعشرة كتب فيما بينها كتاب الشرائع ، فإنه يكون ممتثلا وإن كان لاعبا في طريق الامتثال ، فإنه لو كان قصده من أصل العمل أمر المولى «لما ينافي» التكرار «قصد الامتثال وإن كان لاعبا في كيفية امتثاله» ، فإن أصل الامتثال شيء وطريق الامتثال شيء آخر ، فالزمان المعين كأول الظهر ، والمكان المعي ؛ ككون الإتيان في المسجد ، والكيفية المعينة ككونها بجماعة أو في لباس خاص أو نحو ذلك كلها من طرائق الامتثال ، وليست من أصل الامتثال ، وكذلك المرة والتكرار فما طريقان للامتثال وليسا نفس الامتثال ، وضميرا «مولاه ، له» راجعان على المكلف المفهوم من الكلام ، وضمير «إتيانه» راجع على الفعل المستفاد من العبارة.

وقوله : «لما ينافى» جواب «لو» يعني : لو كان أصل الإتيان بداعي أمر المولى لم يكن التكرار غير الناشئ عن غرض عقلائي منافيا بقصد الامتثال وقادحا في حسن الاحتياط المستلزم للتكرار ؛ إذ اللعب إنما هو في كيفية الإطاعة لا في نفسها ؛ إذ المفروض : كون الإتيان بالمحتملات ناشئا من أمر المولى.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى صحة هذا الجواب ، فإنه لا يلزم اللعب في كيفية الامتثال أيضا ، حيث إن كل عمل ناشئ عن داعي الأمر المحتمل ، ومن المعلوم : أن انبعاث العمل عن الأمر المحتمل انقياد وهو حسن عقلا ، فكيف ينطبق عليه عنوان اللعب الذي هو داع شيطاني وهو مضاد لعنوان الانقياد الذي هو داع رحماني؟

ومنه يظهر : عدم اللعب في الجمع بين المحتملات أيضا ، بداهة : أن الجمع أيضا يكون ناشئا عن داع إلهي ، وهو إطاعة أمره.

ولعل قوله : «فافهم» : إشارة إلى الإشكال في أصل حسن الاحتياط ، فإن العرف لا

٨

بل يحسن (١) أيضا فيما قامت الحجة (٢) على البراءة عن التكليف ؛ لئلا (٣) يقع فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته من المفسدة وفوت المصلحة.

______________________________________________________

يرون حسن من يأتي بأوامر المولى على نحو الاحتياط ـ مطلقا ـ

ألا ترى أن المولى لو أمر بدق مسمار في الحائط فدق العبد في كل مكان من الحائط مسمارا ؛ كان له حق العقاب؟ لا من جهة كونه تصرفا غير جائز ، لغرض : كون الحائط والمسمار مباحين ؛ بل من جهة أنه لعب وعبث ، وكذلك لو أمر بالذهاب إلى دار زيد فذهب إلى عشر دور احتياطا مع التمكن من تحصيل الواقع بلا تكلف وحرج وهكذا.

ولعل السرّ : أن الامتثال عبارة عن إطاعة المولى في أوامره بقدره ، فكما أن النقصان خلاف الأمر كذلك الزيادة ، فلو أمر ولده بالإتيان بإناء فلم يعرف الولد الإناء المراد ولم يسأل مع إمكانه ، ثم أتى بكل إناء في البيت ، كان للأب عقابه عرفا لعمله.

أو إشارة إلى منع التكرار في العبادة ، وأنه لعب في ذات العبادة لا في كيفية الامتثال ؛ إذ فرق بين الزمان والمكان مما هو خارج عن حقيقة العبادة ، وبين التعدد مما هو نفس العبادة.

(١) عطف على «بل يحسن على كل حال» ، يعني : كما أن الاحتياط يحسن في موارد عدم قيام الحجة على نفي التكليف كالشبهات البدوية الوجوبية أو التحريمية الناشئة عن فقد الدليل على التكليف ، كذلك يحسن في موارد قيام الحجة على عدم التكليف ، كنهوض أمارة معتبرة على جواز شرب التتن ، أو عدم وجوب السورة في الصلاة مع العلم بعدم مانعيتها.

(٢) أي : الحجة غير العلمية ، بقرينة قوله «قدس‌سره» : «فيما كان في مخالفته على تقدير ثبوته» ، فإن فرض الثبوت واحتماله إنما يكون في الحجة غير العلمية. مضافا إلى : أنه لا معنى للاحتياط مع العلم بالواقع.

وبالجملة : المقصود حسن الاحتياط في موارد قيام الأمارة غير العلمية على عدم التكليف.

(٣) تعليل لحسن الاحتياط في موارد قيام الحجة على عدم التكليف ، وحاصله : أن موضوع الاحتياط ـ وهو احتمال ثبوت الحكم واقعا مع قيام الحجة غير العلمية على عدم التكليف ـ موجود لاحتمال خطئها كاحتمال وجود الحكم مع خلوّ الواقعة عن الدليل على حكمها نفيا وإثباتا ؛ إذ ملاك حسنه عقلا وهو الانقياد في كلتا الصورتين حاصل ، بداهة : احتمال ثبوت الحكم مع قيام الحجة على عدمه ، فلا مانع من الاحتياط بقراءة

٩

وأما البراءة العقلية (١) : فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن الظفر

______________________________________________________

السورة مثلا في الصلاة مع قيام الدليل غير العلمي على عدم جزئيتها لها ، وترك شرب التتن مع نهوض أمارة معتبرة على عدم حرمته.

والحاصل : أنه يحسن الاحتياط لئلا يقع في مفسدة مخالفة الحكم الواقعي على فرض ثبوته.

وقوله : «وفوت المصلحة» عطف على المفسدة ، و «من» بيان ل «ما» ، وضميرا «مخالفته ، ثبوته» راجعان على «التكليف» ، يعني : لئلا يقع المكلف في المفسدة التي تكون في مخالفة التكليف على تقدير ثبوته هذا.

ولكن الشيخ «قدس‌سره» علل حسن الاحتياط مع قيام الحجة على عدم التكليف بقوله : «لعموم أدلة رجحان الاحتياط ، غاية الأمر : عدم وجوب الاحتياط» ، ولعل هذا أولى من تعليل المصنف له بقوله : «لئلا يقع» ؛ لأن الاحتياط من طرق إطاعة أحكام الشارع ، وأدلة حسنه ناظرة إلى كونه حافظا للأحكام وإن كان حافظا لملاكاتها أيضا ؛ لكن المطلوب أولا من الاحتياط هو الأول ، حيث إن اللازم علينا مراعاة الأحكام دون ملاكاتها ، مع أن كفاية قصد جلب المصلحة أو دفع المفسدة في تحقق الانقياد إلى المولى لا تخلو من بحث.

في اشتراط البراءة العقلية بالفحص

(١) يعني : وأما ما يعتبر في الرجوع إلى البراءة العقلية ـ وهي قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ فهو الفحص واليأس عن الظفر بالحجة على التكليف ، لأن موضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان إنما هو عدم البيان الذي يمكن الوصول إليه ولو بالفحص عنه ، فإن مجرد فقد البيان الواصل بنفسه مع احتمال وجود البيان الذي لو تفحصنا عنه لظفرنا عليه مما لا يكفي في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ؛ بل إذا تفحصنا عنه ولم يكن هناك بيان على التكليف فعند ذلك يستقل العقل بقبح العقاب ، وإن احتمل وجود بيان لا يمكن الوصول إليه أصلا ، وهذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «وأما البراءة العقلية فلا يجوز إجراؤها لا بعد الفحص» ، فجواز إجرائها في الشبهات الحكمية دون الموضوعية ـ التي سيأتي البحث فيها ـ منوط بتحقق موضوعها أعني : عدم البيان على الحكم وإحراز عدم البيان ـ أعني الحجة ـ منوط بالفحص ، وبدونه لا يحكم العقل بقبح المؤاخذة ؛ إذ لا بد في حكمه به من إحراز موضوعه ، ولا يحرز ذلك إلا بالفحص الموجب لوصول الحجة المنصوبة من الشارع على الحكم أو اليأس عن الوصول إليها.

١٠

بالحجة على التكليف ؛ لما مرت الإشارة إليه (١) من عدم استقلال العقل بها إلا بعدهما.

وأما البراءة النقلية (٢) : فقضية إطلاق أدلتها (٣) وإن كان (٤) هو عدم اعتبار الفحص في جريانها كما هو (٥) حالها في الشبهات الموضوعية ؛ ...

______________________________________________________

وعليه : فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة قبل الفحص ؛ إذ لا يتحقق موضوع حكم العقل إلا بالفحص.

وكيف كان ؛ فالعقل يقول : إن للمولى وظيفة وللعبد وظيفة أخرى ، فوظيفة المولى هو بيان تكليف بنحو متعارف ، ووظيفة العبد هو الفحص عن بيان المولى في مظانه ، فإذا لم يجد البيان يحكم العقل بعدم العقاب على التكليف الواقعي بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

(١) أي : مرّ ذلك في الدليل الرابع من أدلة البراءة «من عدم استقلال العقل بها» أي : بالبراءة «إلا بعدهما» ، أي : بعد الفحص واليأس.

هذا تمام الكلام فيما يعتبر في الرجوع إلى البراءة العقلية ، فإنها لا تجري في الشبهات الحكمية إلا بعد الفحص ؛ لأن موضوعها وهو عدم الدليل على الحكم لا يحرز إلا بالفحص عنه الموجب للاطمئنان بعدمه.

(٢) وهي المستندة إلى الأدلة الشرعية.

(٣) كأحاديث الرفع والحجب والسعة وغيرها المتقدمة في أصل البراءة ، حيث إن تلك الأدلة لم تقيد بالفحص ، فمقتضى إطلاقها جواز إجراء البراءة ولو قبل الفحص وعدم اعتباره في جريانها في الشبهات الحكمية ، كما هو حال البراءة النقلية في الشبهات الموضوعية.

وكيف كان ؛ فمقتضى إطلاق أدلة البراءة الشرعية هو جواز إجرائها ولو قبل الفحص ، فلا بد في رفع اليد عن هذا الإطلاق وتقيده بما بعد الفحص من دليل مقيد ، ولذلك ذكر الأصحاب وجوها وهي : الإجماع والعقل والآيات والروايات ، وستأتي الإشارة إلى هذه الوجوه في كلام المصنف فانتظر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٤) الأولى أن يقال : «وإن كانت هي».

(٥) أي : عدم الاعتبار ، وضمائر «حالها ، جريانها ، أدلتها» راجعة على البراءة النقلية ، وظاهر كلامه : عدم اشتراط جريان البراءة الشرعية في الشبهات الموضوعية بالفحص ، وذلك لإطلاق حديث الرفع ، حيث إن ما دل على اعتبار الفحص فيها إنما هو بالنسبة

١١

إلا إنه (١) استدل على اعتباره بالإجماع وبالعقل ، فإنه لا مجال لها بدونه ، حيث يعلم إجمالا بثبوت التكليف بين موارد الشبهات بحيث (٢) لو تفحص عنه لظفر به.

______________________________________________________

إلى الشبهات الحكمية ، ولا مانع من بقاء إطلاقها بالنسبة إلى الموضوعية. وأما البراءة العقلية فظاهر المتن إناطتها بالفحص مطلقا ، سواء في الشبهات الحكمية والموضوعية ؛ وذلك لعدم استقلال العقل بالبراءة فيهما قبل الفحص.

(١) استدراك على قوله : «وإن كان هو عدم اعتبار الفحص» ، والضمير للشأن.

وغرضه : أن إطلاق أدلة البراءة النقلية وإن كان مقتضيا لعدم وجوب الفحص في جريانها في الشبهات الحكمية ؛ إلا إنه استدل على وجوب الفحص فيها وعدم جواز الأخذ بإطلاق أدلتها بوجوه :

الوجه الأول : هو الإجماع لاتفاق جميع العلماء من الشيعة والسنة على عدم جواز إجراء البراءة قبل الفحص عن مظان البيان ؛ بل عليه ضرورة الفقه.

فإنك لا تجد فقيها إذا سئل عن مسألة شرعية يفتي بالبراءة ، من دون رجوع إلى الكتاب والسنة.

قال الشيخ «قدس‌سره» : «الإجماع القطعي على عدم جواز العمل بأصل البراءة قبل استفراغ الوسع في الأدلة». «دروس في الرسائل ، ج ٤ ، ص ١٢٠».

الوجه الثاني : هو العقل بتقريب : أنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف إلزامية بين موارد الشبهات ؛ بحيث لو تفحص عنها في الأدلة لظفر بها ، فالعقل بمقتضى العلم الإجمالي يمنع عن إجراء البراءة قبل الفحص ، وقد أشار إلى الوجه الأول بقوله : «بالإجماع» ، وإلى الوجه الثاني بقوله : وبالعقل ، وقد مرّ تقريب الاستدلال بهما على وجوب الفحص ، وضمير «لها» راجع على البراءة ، وضمير «بدونه» إلى الفحص.

(٢) متعلق ب «ثبوت».

غرضه : أن اعتبار الفحص في جواز إجراء البراءة إنما يكون في مورد ترتب ثمرة على الفحص ، وهي الظفر بالحكم على فرض ثبوته واقعا ، ففي هذه الصورة لا يجوز الرجوع إلى البراءة قبل الفحص ، ويجوز بعده ؛ لخروج الواقعة حينئذ عن أطراف المعلوم بالإجمال. وأما إذا لم يترتب أثر على الفحص وكان وجوده كعدمه في عدم الكشف عن الواقع ، فلا يجوز الرجوع إلى البراءة لا قبل الفحص ولا بعده ؛ بل يجب الاحتياط في الواقعة ؛ لعدم خروجها عن أطراف العلم الإجمالي ، فقوله : «بحيث لو تفحص عنه» تنبيه على أن الفحص المسوغ للرجوع إلى البراءة إنما هو فيما إذا ترتبت الثمرة المزبورة

١٢

ولا يخفى (١) : أن الإجماع هاهنا (٢) غير حاصل (٣) ، ونقله لوهنه (٤) بلا طائل ، فإن تحصيله (٥) في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب (٦) لو لم يكن (٧) عادة

______________________________________________________

عليه ، وإلا فلا فائدة في الفحص ؛ لبقاء الشك الموجب للاحتياط وعدم ارتفاعه بالفحص.

(١) غرضه : ردّ الوجهين المزبورين ـ وهما الإجماع والعقل ـ أما الإجماع : فبأن المحصل منه على وجه يكشف عن رأي المعصوم غير حاصل ؛ إذ ليس المقام من المسائل الشرعية المحضة التي لا يتطرق إليها العقل ، فلا يجوز الاتكال على الإجماع الذي يحتمل استناد المجمعين كلهم أو جلهم فيه إلى حكم العقل. والمنقول منه لا حجية فيه ولو مع فرض حجية المحصل منه الذي لا سبيل إلى تحصيله في المسائل التي للعقل إليها سبيل.

(٢) أي : في مسألة وجوب الفحص في إجراء البراءة النقلية في الشبهات الحكمية.

(٣) فإن كثيرا من الفقهاء لم يذكروا هذه المسألة حتى يحصل الإجماع من أقوالهم.

(٤) أي : نقل الإجماع لوهن هذا النقل «بلا طائل» ، يعني بلا فائدة ، فلا يمكن الاعتماد على الإجماع المنقول في هذه المسألة.

(٥) تعليل لقوله : «غير حاصل» ، فإن تحصيل الإجماع في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب ، وذلك لاحتمال استناد المجمعين إلى دليل العقل لا إلى الدليل الشرعي حتى يكشف إجماعهم عن قول المعصوم ، أو دليل معتبر ، فكشف الإجماع عن دليل معتبر صعب.

(٦) خبر «فإن تحصيله» ، ووجه صعوبة تحصيل الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم ما عرفته من عدم كون المسألة من المسائل الشرعية المحضة.

(٧) يعني : لو لم يكن تحصيل الإجماع الكاشف عادة بمستحيل ؛ إذ لا طريق إلى استكشافه بعد قوة احتمال كون مستند المجمعين جلهم بل كلهم هو حكم العقل بتنجيز العلم الإجمالي المزبور.

هذا تمام الكلام في الإشكال على الإجماع.

وأما الإشكال على العقل : فبأن الكلام هنا في الشبهة البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي ، ففرض العلم الإجمالي هنا أجنبي عما نحن فيه ؛ وذلك إما لانحلاله بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال بالعلم التفصيلي اللاحق ، وإما لعدم تنجيزه لعدم الابتلاء ببعض الأطراف ولو لغفلة المجتهد حين الاستنباط لحكم المسألة عن موارد الشبهات التي يكون

١٣

بمستحيل ؛ لقوة (١) احتمال أن يكون المستند للجل لو لا الكل هو ما ذكر من حكم العقل (٢). وأن (٣) الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز (٤) ؛ إما (٥) لانحلال العلم الإجمالي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، أو لعدم (٦) الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف من موارد من (٧) موارد الشبهات ولو (٨) لعدم الالتفات إليها.

______________________________________________________

بينها علم إجمالي بالتكليف ؛ إذ وجوب الفحص مختص بصورة وجود العلم الإجمالي المنجز ولا يجري في الشبهات البدوية ، فهذا الدليل أخص من المدعى.

(١) تعليل لصعوبة تحصيل الإجماع أو استحالته ، وقد عرفت توضيحه بقولنا : «إذ ليس المقام من المسائل ...» الخ.

(٢) الناشئ عن العلم الإجمالي المذكور.

(٣) عطف على «أن الإجماع» ، وإشارة إلى الجواب عن الوجه الثاني وهو الدليل العقلي ، وقد عرفت توضيح الجواب بقولنا : «وأما العقل : فبأن الكلام» ، كما عرفت جواب الوجه الأول وهو الإجماع بقولنا : «وأما الإجماع فبأن المحصل منه ...» الخ.

(٤) إذ لو كان هناك علم إجمالي منجز كان أجنبيا عن الشبهات البدوية التي هي محل البحث ، واندرج في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

(٥) غرضه : أن عدم العلم الإجمالي الموجب لتنجز الحكم يستند إلى أحد وجهين ، وهما انحلاله بالعلم التفصيلي بالظفر بالمقدار المعلوم بالإجمال ، وعدم الابتلاء إلا بالشبهات التي لا يعلم بالتكليف بينها ؛ ولو كان عدم الابتلاء لأجل الغفلة وعدم الالتفات إلى تلك الشبهات ، كما إذا استنبط المجتهد حكم شرب التتن مثلا ، فإنه حين استنباط حكم هذه المسألة كان غافلا عن سائر الشبهات ، فهي لأجل الغفلة خارجة عن مورد ابتلائه من حيث الاستنباط ، ولذا لا يكون العلم الإجمالي بالتكاليف بينها منجزا.

(٦) عطف على «الانحلال» ، وهو إشارة إلى ثاني وجهي عدم تنجيز العلم الإجمالي ، كما أن قوله : «إما لانحلال العلم» إشارة على أول وجهي عدم تنجيزه.

(٧) بيان ل «ما» الموصول وضمير «بينها» راجع على «ما» الموصول باعتبار معناه وهو موارد الشبهات ، يعني : أو لعدم الابتلاء إلا بموارد الشبهات التي لا يكون بينها علم بالتكليف.

(٨) كلمة «لو» وصلية متعلقة بعدم الابتلاء ، يعني : ولو كان عدم الابتلاء لأجل عدم الالتفات إلى سائر موارد الشبهات ، وضمير «إليها» راجع على موارد الشبهات.

١٤

فالأولى (١) الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات (٢) والأخبار على وجوب التفقه والتعلم (٣) والمؤاخذة (٤) على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن العمل بعدم العلم بقوله (٥) تعالى (٦) كما في ...

______________________________________________________

ولا يخفى : أن الشيخ «قدس‌سره» تعرض لهذا الدليل العقلي أيضا بقوله : «الخامس : حصول العلم الإجمالي لكل أحد قبل الأخذ في استعلام المسائل بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في الشريعة ، ومعه لا يصح التمسك بأصل البراءة ؛ لما تقدم من أن مجراه الشك في أصل التكليف لا في المكلف به مع العلم بالتكليف». «دروس في الرسائل ، ج ٤ ، ص ١٢٥».

وصريح كلامه : كون المقام من الشك في المكلف به لا في التكليف ، ولذا لا تجري فيه البراءة ، وقد عرفت أن بحثنا في الشبهات البدوية دون المقرونة بالعلم الإجمالي. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(١) هذا هو الوجه الثالث الذي استدل به على وجوب الفحص.

(٢) أي : مثل آية السؤال أو النفر الذي هو في معنى الفحص.

(٣) كالنبوي «طلب العلم فريضة على كل مسلم ألا إن الله يحب بغاة العلم» (١).

وقوله «عليه‌السلام» : «أيها الناس : اعلموا أن كمال الدين طلب العلم والعمل به ، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال ...» (٢). الحديث وغيرهما.

(٤) عطف على «وجوب التفقه».

تقريب الاستدلال بما دل على وجوب التعلم والمؤاخذة على تركه : أنه لو كان إجراء البراءة قبل الفحص جائزا ، وكانت المؤاخذة على خصوص الواجبات والمحرمات المعلومة لم يكن وجه لوجوب التعلم واستحقاق المؤاخذة على تركه ؛ إذ المفروض : وجود المعذّر وهو البراءة ، ومقتضى إطلاق أدلة البراءة لما قبل الفحص وبعده واختصاص ما دل على وجوب التعلم والمؤاخذة بما قبل الفحص تقييد إطلاق الأول بالثاني ؛ لكونه أخص من الأول كسائر المطلقات والمقيدات.

(٥) متعلق ب «المؤاخذة» التي هي نوع من التوبيخ ، و «على ترك» و «في مقام» متعلقان بالمؤاخذة أيضا ، و «عن عدم» و «بعدم العلم» متعلقان باعتذار.

(٦) (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ). الأنعام : ١٤٩.

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٢٥ / ١٤٦ ، الكافي ١ : ٣٠ / ١ ، الوسائل ٢٧٠ : ٢٥ / ٣٣١١٥

(٢) الكافي ١ : ٣٠ / ٤ ، الوسائل ٢٧ : ٢٤ / ٣٣١١١.

١٥

الخبر (١) : «هل تعلمت؟» ، فيقيد بها (٢) أخبار البراءة لقوة ظهورها في أن المؤاخذة

______________________________________________________

(١) وهو ما ورد في تفسير هذه الآية من «أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : عبدي ، أكنت عالما؟ هل علمت ، فإن قال : نعم قال له : فهلا عملت بما علمت؟ وإن لا ، قال : لا ، قيل له : هلا تعلمت حتى تعمل؟» (١).

(٢) أي : بالآيات والأخبار الدالة على وجوب التفقه والمؤاخذة على تركه إطلاق أخبار البراءة ؛ لما مر آنفا من شمولها لما قبل الفحص وبعده.

وغرضه «قدس‌سره» : التنبيه على أن النسبة بين تلك الآيات والأخبار وبين أدلة البراءة هي نسبة المقيد إلى المطلق ، فيقيد بها إطلاق أدلة البراءة ، لا أن النسبة بينهما هي التباين كما قد يتوهم ، بتقريب : أن مورد أخبار البراءة عدم العلم بالتكليف لا تفصيلا ولا إجمالا ، ومورد الآيات وأخبار وجوب التعلم والمؤاخذة على تركه ترك العلم فيما علم وجوبه مثلا ولو إجمالا ، فتكون واردة في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وأجنبية عن الشبهات البدوية التي هي مورد أصالة البراءة ، فلا موجب لتقييد إطلاق أدلة البراءة بها مع تباين نسبتهما ، فيكون هذا الوجه كالوجهين المتقدمين ـ وهما الإجماع والعقل ـ ضعيفا وغير صالح لتقييد إطلاق البراءة بلزوم الفحص ، وإناطة جواز العمل بالبراءة النقلية به.

قوله : «لقوة ظهورها» تعليل لقوله : «فالأولى الاستدلال» ودفع للتوهم المزبور ، وكان الأولى تقديم «لقوة ظهورها» على قوله : «فيقيد بها» ؛ لأن التقييد متفرع على إثبات ظهورها في كون الاحتجاج بترك التعلم حتى يتحد موردها مع مورد أدلة البراءة ويصح التقييد ، لورودهما معا في الشبهات البدوية وأخصيتها من أدلة البراءة.

وكيف كان ؛ فقد دفع التوهم المزبور بما محصله : أن تلك الآيات والروايات ظاهرة في كون المؤاخذة والذم على ترك التعلم فيما لم يعلم ، بل قوله «عليه‌السلام» : في تفسير قوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) : «هلا تعلمت حتى تعمل» كالصريح في كون التوبيخ على ترك التعلم ، لا على ترك العمل فيما علم وجوبه حتى يكون مورده الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، دون الشبهات البدوية التي هي مورد أدلة البراءة. وأخبار المؤاخذة جلّها بل كلها في غاية الظهور في كون المؤاخذة على ترك التعلم ، لا على ترك العمل بما علم حكمه ، ودعوى : تواترها المعنوي قريبة جدا فلا حاجة إلى البحث عن إسنادها. فراجع الوافي بابي فرض طلب العلم وسؤال العلماء وتذاكر العلم. «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٤٠١ ـ ٤٠٢».

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٢٧ ، أمالي الطوسي ٩ / ١٠ ، بحار الأنوار ١ : ١٧٨ / ٥٨.

١٦

والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم ؛ لا (١) بترك العمل فيما علم وجوبه ولو (٢) إجمالا ، فلا مجال (٣) للتوفيق (٤) بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم إجمالا ، فافهم (٥).

ولا يخفى (٦) : اعتبار الفحص في التخيير العقلي ...

______________________________________________________

(١) هذا هو التوهم المزبور بقولنا : «بتقريب : أن مورد أخبار البراءة عدم العلم».

(٢) كلمة «لو» وصلية متعلقة بقوله : «علم وجوبه» يعني : ولو علم وجوبه إجمالا.

(٣) هذه نتيجة ظهور الآيات والروايات في كون الذم على ترك التعلم ، لا على ترك العمل بما علم حكمه ، والإشارة إلى التوهم المذكور.

(٤) بين إطلاق أدلة البراءة وبين الآيات والأخبار المشار إليها ، بحملها على ما إذا علم إجمالا بثبوت التكاليف بين المشتبهات ، وأخبار البراءة على الشبهات البدوية ، حتى تكون النسبة بينهما هي التباين ، لا الإطلاق والتقييد ، ولا يصح تقييد إطلاق أدلة البراءة بهما.

(٥) لعله إشارة إلى صحة الجمع بين الآيات والروايات ، وبين أدلة البراءة ؛ بتقييد إطلاق أدلة البراءة بهما ، لاعتبار الروايات سندا ودلالة.

أو إشارة إلى توهم آخر ودفعه.

أما التوهم فهو : أنه يمكن أن يكون التوبيخ على ترك التعلم بالنسبة إلى العناوين الخاصة من الواجبات والمحرمات المعلومة إجمالا. فلا يكون مورد التوبيخ الشبهة البدوية حتى يقيد به إطلاق أدلة البراءة ويثبت به وجوب الفحص ؛ بل مورده العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرمات.

وأما الدفع : فهو قوله : «لقوة ظهورها في أن المؤاخذة» ، وحاصله : قوة ظهور تلك الروايات ، بل صراحة بعضها في كون المؤاخذة على ترك التعلم لا ترك العمل فيما علم حكمه ولو إجمالا.

أو إشارة إلى غيرهما مما يتوهم في المقام.

فتحصل مما أفاده المصنف «قدس‌سره» : أن دليل اعتبار الفحص في جريان البراءة النقلية في الشبهات الحكمية هو تقييد إطلاق أدلتها بالآيات والأخبار الدالة على وجوب التعلم والمؤاخذة على تركه.

(٦) بعد أن فرغ عن بيان ما يعتبر في جريان الأصول الثلاثة وهي الاحتياط والبراءة العقلية والنقلية ، شرع في بيان ما يعتبر في جريان أصالة التخيير في دوران الأمر بين المحذورين.

١٧

أيضا (١) بعين ما ذكر في البراءة فلا تغفل (٢).

ولا بأس (٣) بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.

وأما التبعة ، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك التعلم

______________________________________________________

ومحصل ما أفاده فيه هو : أن الفحص هنا معتبر بعين الوجه الذي ذكر في لزوم الفحص في البراءة العقلية ، يعني : أن الفحص كما يكون محرزا لعدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية ، كذلك يكون محرزا لموضوع أصالة التخيير وهو تساوي الاحتمالين وعدم مرجح لأحدهما على الآخر ، بداهة : أن هذا التساوي لا يحرز إلا بالفحص الموجب إما لتعيّن أحد الاحتمالين ، فيتعين الأخذ به ؛ لحصول الموافقة القطعية حينئذ ، أو لتساويهما فيتخير في الأخذ بأحدهما ؛ لعدم التمكن مع عدم رجحان أحد الاحتمالين على الآخر ، كعدم استقلاله في الحكم بالبراءة العقلية إلا بعد إحراز موضوعه وهو عدم البيان ، بل وجوب الفحص هنا أولى من وجوبه في البراءة العقلية ؛ للعلم في المقام بجنس التكليف الموجب للفحص عن نوعه بخلاف البراءة ؛ إذ موضوعها وهو عدم الحجة موجودة قبل الفحص وبعده.

(١) يعني : كوجوبه في البراءة العقلية.

(٢) حتى تتوهم جواز الرجوع إلى التخيير العقلي قبل الفحص ، كما توهم ذلك في البراءة العقلية ببيان : أن المراد بالبيان هناك هو الحجة الواصلة فعلا ، وإن كان ذلك التوهم هناك فاسدا ولكنه مع ذلك يفترق التخيير عن البراءة بأن حسن التكليف فيه معلوم وهو موجب للفحص ، بخلاف البراءة.

حكم العمل بالبراءة قبل الفحص

(٣) لما فرغ المصنف «قدس‌سره» من بيان اشتراط العمل بالبراءة بالفحص ؛ أراد أن يبين ما للعمل بها قبل الفحص من استحقاق العقوبة ، والحكم التكليفي والوضعي فالكلام يقع في مقامين :

الأول : في استحقاق العقوبة وعدمه.

الثاني : في الحكم الوضعي.

وقد أشار إلى المقام الأول : بقوله : «التبعة» ؛ إذ المراد من التبعة هو : العقاب ، وإلى المقام الثاني بقوله : «والأحكام» ؛ إذ المراد من الأحكام هي : الأحكام الوضعية. والجمع إما منطقي أو باعتبار الموارد. وكيف كان :

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فحاصل الكلام في المقام الأول : أنه لا إشكال في ترتب العقاب على العمل بالبراءة قبل الفحص فيما إذا انكشف أنه مخالف للواقع ، وإنما الكلام في أنه على ترك التعلم مطلقا ولو لم يؤدّ إلى المخالفة ، أو أنه على ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة ، أو أنه على مخالفة الواقع. فالأقوال فيه ثلاثة :

الأول : استحقاق العقاب مطلقا ، سواء صادف الواقع أم لا ، فلو شرب العصير العنبي من غير فحص عن حكمه ولم يكن حراما واقعا استحق العقوبة عليه ، وهذا القول منسوب إلى صاحب المدارك (١) وشيخه المحقق الأردبيلي (٢) «قدس‌سرهما» استنادا إلى قبح تكليف الغافل ، حيث إن الجاهل غالبا غافل عن الواقع حين فعل الحرام وترك الواجب ، فيكون العقاب على ترك التعلم ، وعليه : فوجوب التعلم نفسي يترتب على مخالفته العقوبة.

الثاني : استحقاقه على ترك التعلم المؤدي إلى المخالفة ، فلا يستحق العقوبة في المثال المذكور ، وذهب إليه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

الثالث : استحقاق العقاب على مخالفة الواقع ولكن عند ترك التعلم والحفص ، وذهب إليه المشهور ، والمصنف «قدس‌سره» تبع المشهور ، والتزم باستحقاق العقوبة على مخالفة الواقع التي أدى إليها ترك التعلم والفحص لا على نفس ترك التعلم ، فإذا شرب العصير العنبي بدون الفحص عن حكمه وكان حلالا واقعا لا يستحق العقاب والمؤاخذة لعدم مخالفة حكم إلزامي واقعي ، والوجه فيه : أن مخالفة الواقع وإن فرض وقوعها حال الغفلة عن الواقع ؛ لكنها لما كانت مستندة إلى تقصيره في ترك الفحص والتعلم تنتهي إلى الاختيار ، ولا يقبح العقاب على ما ينتهي إلى الاختيار. ولذا يعاقب أكثر الجهال العصاة على ارتكاب المحرمات مع غفلتهم عن احتمال حرمتها حين الارتكاب ، فإن التفاتهم إجمالا قبل الارتكاب إلى احتمال حرمتها كاف في صحة العقوبة مع تمكنهم من الفحص والتعلم وتركهم له اختيارا ، والأخبار المتقدمة في مؤاخذة تارك التعلم أيضا تقتضي استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع مع الشك فيه. هذا تمام الكلام في الأقوال. وأما منشأ اختلاف الأقوال فهو : أن وجوب التعلم هل هو نفسي ولو كان تهيئيا أو وجوب طريقي أو إرشادي محض.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٢ : ٣٤٤.

(٢) مجمع الفائدة والبرهان ٢ : ١١٠.

١٩

والفحص مؤديا إليها (١) ، فإنها (٢) وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار ، إلا أنها منتهية

______________________________________________________

«فعلى القول» بأنه وجوب نفسي استقلالي أو تهيئي : يكون العقاب على نفس ترك الفحص والتعلم ؛ لأن الأمر النفسي المولوي مخالفته وعصيانه يوجب استحقاق العقاب.

«وعلى القول» بأن وجوبه وجوب نفسي طريقي : تكون مخالفته موجبة لاستحقاق العقاب أيضا على نفس ترك التعلم والفحص ، ولكن عند مخالفة الواقع.

أمّا كون العقاب على نفس ترك التعلم والفحص : فلأنه واجب نفسي على الغرض ، فمخالفته توجب استحقاق العقوبة.

وأما تقييده ب «عند مخالفة الواقع : فلأجل أن وجوبه لأجل حفظ الواقع وطريقية التعلم والفحص إلى إدراك الواقع كوجوب الاحتياط شرعا في بعض الشبهات البدوية كما في باب الفروج والدماء ، بل الأموال ، فالمطلوب بالذات هو الواقع وإنما مطلوبيته لأجل الوصول إلى الواقع وحصوله.

وكيف كان ؛ فالنتيجة : أن العقاب على نفس ترك الفحص والتعلم ولكن لا مطلقا بل فيما إذا انجر إلى مخالفة الواقع ، كما هو الشأن في مخالفة كل أمر طريقي نفسي كوجوب الاحتياط في بعض الشبهات البدوية.

«وعلى القول» بأن وجوبه إرشادي محض ، فلا يكون استحقاق على نفس المخالفة للأمر الإرشادي ؛ لأنه لا مولوية فيه حتى يوجب ذلك ؛ بل الاستحقاق على مخالفة نفس الواقع عند ترك التعلم كما ذهب إليه المشهور.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في منتهى الدراية.

(١) أي : إلى المخالفة ، وأما إذا لم يؤد ترك التعلم إلى المخالفة ، كما إذا لم يكن ما ارتكبه حراما واقعا ، فلا عقاب ، كما إذا شرب التتن تاركا للتعلم والفحص وانكشف عدم حرمته ، وأما صاحب المدارك والمحقق الأردبيلي «قدس‌سرهما» : فقد ذهبا إلى حسن مؤاخذته ـ كما تقدم ـ استنادا إلى كون وجوب التعلم نفسيا ، وأن العقاب عليه لا على الواقع ، للغفلة عنه ، وقبح تكليف الغافل بديهي.

(٢) هذا تقريب وجه استحقاق العقوبة ، وقد مرّ آنفا بقولنا : «والوجه فيه : أن مخالفة الواقع وإن فرض وقوعها حال الغفلة عن الواقع ...» الخ.

وضمائر «فإنها ، حينها ، أنها» راجعة على «المخالفة».

٢٠