دروس في الكفاية - ج ١

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٦

١

٢

٣
٤

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على نعمائه والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه محمّد وآله والخيرة من أصحابه.

أمّا بعد : فلمّا لقي كتابنا (دروس في الرسائل) رواجا وشهرة في الحوزات العلميّة عند أهل العلم والفضل عرض علينا القيام بتأليف شرح للكفاية بأسلوب كتابنا (دروس في الرسائل).

وإجابة لذلك العرض قمنا بتأليف شرح للكفاية تحت عنوان (دروس في الكفاية) متجنّبا فيه عن التطويل الممل والاختصار المخلّ.

نسأل الله أن يجعله نافعا للمحصلين ، وذخرا لنا في يوم لا ينفع مال ولا بنون ، وأستعين به ، كي يوفقني لخدمة الدين فإنه خير مسئول وخير معين.

محمديّ البامياني

دمشق. السّيدة زينب. الحوزة العلمية الزينبيّة

في ١٢ ذي القعدة. سنة ١٤١٩ هجرية.

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين.

وبعد فقد رتبته على مقدمة ، ومقاصد وخاتمة أما المقدمة ففي أمور (١):

الأول (٢)

______________________________________________________

(١) أي : هي ١٣ : ١ ـ موضوع العلم. ٢ ـ الوضع. ٣ ـ استعمال اللفظ. ٤ ـ إطلاق اللفظ وإرادة نوعه. ٥ ـ الدلالة تتبع الإرادة أم لا؟ ٦ ـ للمركبات وضع مستقل أم لا؟ ٧ ـ علامات الحقيقة والمجاز ٨ ـ تعارض الأحوال. ٩ ـ ثبوت الحقيقة الشرعية وعدمه. ١٠ ـ الصحيح والأعم. ١١ ـ الاشتراك. ١٢ ـ استعمال اللفظ في أكثر من معنى. ١٣ ـ المشتق.

ثم إن الأمور المذكورة خارجة عن مسائل علم الأصول ؛ لعدم انطباق ضابط المسألة الأصولية عليها.

(٢) الغرض الأساسي في هذا الأمر هو بيان مطلبين :

المطلب الأول : بيان ما هو منزلة موضوع العلم من موضوعات مسائله حيث قال «قدس‌سره» : «إن موضوع كل علم هو نفس موضوعات المسائل».

المطلب الثاني : هو بيان المسائل حيث قال : «والمسائل عبارة عن جملة من قضايا متشتتة ..» إلخ.

نعم ؛ تظهر من كلام المصنف في الأمر الأول عدّة أمور غير ما ذكرناه من المطلبين وهي :

١ ـ ما هو موضوع العلم على نحو العام؟

٢ ـ ما هو الميزان والمناط في العرض الذاتي؟

٣ ـ ما هو الميزان في تمايز العلوم؟

٤ ـ ما هو موضوع علم الأصول بشكل خاص؟

٧

إنّ موضوع كلّ علم (١) ، وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه (٢) الذاتيّة.

ـ أي (٣) : بلا واسطة في العروض ـ

______________________________________________________

(١) قد بحث المصنف «رحمه‌الله» عن موضوع العلم بشكل عام ، وعلى نحو الكبرى الكلية ؛ تمهيدا لما اختاره في موضوع علم الأصول بالخصوص.

(٢) عوارض جمع عارض ، كما أنّ أعراض جمع عرض ، والفرق بينهما : أنّ العرض يقال على مبدأ الاشتقاق ؛ أي : البياض مثلا ، والعارض كالعرضي يقال على المشق أي : الأبيض مثلا. والسّبب في تعبيرهم بالعوارض دون الأعراض : أنّ المراد بها هنا هو المحمولات المنتسبة إلى الموضوعات فكانت عوارض ، لأنّ المحمول دائما أو غالبا ـ يكون من المشتقات.

ثم المراد بالعوارض : ما هو المصطلح عند المنطقي ؛ لا ما هو المصطلح عند الفلسفي ، لأنّ العرض عند الفلسفي عبارة عن ماهية شأن وجودها في الخارج أن يكون في الموضوع ويقابله الجوهر.

والعرض عند المنطقي ما يكون خارجا عن ذات الشيء ومتحدا معه في الخارج ، ويقابله الذاتي ، وبين الاصطلاحين بعد المشرقين.

ثم أنّ المصنف قد أتى ببيان عوارض العلم على نحو الجملة الاعتراضية ثم فسّر العرض الذاتي بقوله : «أي : بلا واسطة في العروض» ليكون إشارة إلى الخطأ الواقع في تفسير العرض الذاتي على احتمال.

(٣) في هذا التفسير احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أنّ تفسير الذاتي بقوله : «بلا واسطة في العروض» إنّما هو من باب التنوّع بالعبارة ، فيكون العرض الذاتي عند المصنف ما هو العرض الذاتي عند المشهور بمعنى : أنّه جرت عادة المصنفين على ذكر أمور منها : موضوع العلم ، والمصنف قد ذكر موضوع العلم تبعا لهم من دون ردّ على من تقدم عنه. إلّا إنّ هذا الاحتمال غير مراد للمصنف قطعا ، لأنّ العدول عن تفسير القوم لا بدّ أن يكون لغرض ، والغرض في المقام هو : عدم صحّة تفسيرهم ، وخطأهم في تفسير العرض الذاتي.

الاحتمال الثاني : أن يكون التفسير لإعطاء القاعدة الكلية ؛ من دون أن يكون ناظرا إلى كلام القدماء ردّا أو إمضاء. بمعنى : أنّ الميزان في الذاتيّة عدم الوساطة في العروض سواء لم يكن له واسطة أصلا ، أو تكون الواسطة في الثبوت.

والعوارض الغربية : ما تكون لها واسطة في العروض مثل : الحركة للجالس في السفينة

٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإنّها غير الذاتية ، فلا تدخل في البحث.

وهذا الاحتمال لا يبعد أن يكون مرادا للمصنف ؛ حيث إنّ الغرض من عدوله عن كلام القوم : هو إعطاء القاعدة الكلية فلا يكون التفسير لا لغرض.

الاحتمال الثالث : أن يكون التفسير المذكور ردّا على القدماء ، وتنبيها على الخطأ الواقع منهم في تفسير العرض الذاتي ، وهذا الاحتمال أقرب من الاحتمال الثاني فيكون مرادا له. فلا بد أن نبين ما هو المناط والميزان في العرض الذاتي على مسلك القدماء ؛ كي يتضح الخطأ الواقع منهم في تفسير العرض الذاتي.

فنقول : إنّ المراد بالعرض والعارض هو مقابل الذاتي الذي يطلق في باب الكليات الخمس ؛ لا الذاتي الذي يطلق في باب البرهان. ثم الذاتي في باب الكليات الخمس هو ما لم يكن خارجا عن الشيء وهو على ثلاثة أقسام ـ ١ ـ الجنس. ٢ ـ النوع. ٣ ـ الفصل ؛ كما في علم الميزان. فالمراد من العارض والعرض ، هو : مقابل هذا المعنى من الذاتي ؛ لا خصوص المقولات التسع العرضية.

والعارض بهذا المعنى على أقسام : إمّا أن يكون عارضا لنفس الشيء بلا واسطة أصلا لا ثبوتا ولا عروضا ؛ كالتعجب اللاحق للإنسان ، إلّا إنّ هذا المثال لا يخلو عن إشكال ، لأنّ التعجب عارض للإنسان بواسطة إدراكه أمرا غريبا ، فلا يكون ما يعرض الإنسان بلا واسطة أصلا بل هناك واسطة في الثبوت.

وإمّا أن يكون عارضا له مع الواسطة ؛ وهي إمّا داخلية أو خارجية ، والداخلية على قسمين : إمّا مساوية للشيء المعروض كالتكلّم العارض للإنسان لكونه ناطقا ، وإمّا أعم منه كالحركة الإرادية له لكونه حيوانا.

والخارجية وهي على أربعة أقسام :

١ ـ خارجية مساوية للشيء المعروض ؛ كعروض الضحك للإنسان بواسطة التعجّب.

٢ ـ خارجيّة أعم من المعروض ؛ كعروض التحيّز للأبيض بواسطة الجسم الأعم منه.

٣ ـ خارجية أخصّ من المعروض ؛ كعروض الضحك للحيوان بواسطة الإنسان الأخصّ منه.

٤ ـ خارجية مباينة للمعروض ؛ كعروض الحرارة للماء بواسطة النار ، والحركة للجالس بواسطة السفينة ، فهذه أقسام سبعة.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم : أنّ القدماء اتفقوا على كون بعض هذه الأقسام ذاتيا وهي

٩

.................................................................................................

______________________________________________________

الثلاثة من السبعة ؛ أي : ما يكون عارضا بلا واسطة أصلا ، أو بواسطة جزء مساو ، أو بواسطة أمر خارج مساو ، واتفقوا أيضا على كون بعضها الآخر غريبا ، وهي الثلاثة الأخيرة من الأربعة.

واختلفوا فيما يكون عارضا بواسطة جزء أعم من المعروض ؛ كالحركة الإرادية للإنسان لكونه حيوانا هذا على مذهب القدماء وأمّا على مذهب المصنف فجميع هذه الأقسام من العوارض الذاتيّة ؛ إلّا مثال الحركة للجالس بواسطة السفينة حيث تكون الواسطة فيه واسطة في العروض.

ولتسهيل تطبيق رأي المصنف وغيره في الأمثلة المذكورة فعليك بالجدول.

الأمثلة

رأي المصنف في الذاتي وغيره

رأي غيره في الذاتي وغيره

الإنسان متعجّب

الإنسان متكلم

الإنسان متحرّك بالإرادة

الإنسان ضاحك

الإنسان أبيض

الحيوان ضاحك

الماء حار

جالس السفينة متحرّك

ذاتي

ذاتي

ذاتي

ذاتي

ذاتي

ذاتي

ذاتي

غير ذاتي

ذاتي

ذاتي

مختلف فيه

ذاتي

غير ذاتي

غير ذاتي

غير ذاتي

غير ذاتي

وممّا ذكرنا يتضح الخطأ الواقع من القدماء في تفسير العرض الذاتي ، لأنّ المحمولات المبحوث عنها في العلوم يجب أن تكون من العوارض الذاتية ، وهي من العوارض الغريبة حسب ما هو المناط في العوارض الذاتيّة عند القوم ؛ لأنّ أغلب المحمولات تعرض لموضوعاتها بواسطة المباين أو الأخصّ أو الأعمّ ، مثلا : إنّ المحمولات المبحوث عنها في علم الفقه عارضة لأفعال المكلفين بواسطة المصالح في المأمور بها ، أو المفاسد في المنهي عنها ، لا شك في كونها مباينة لأفعال المكلفين ، فيلزم خروج أغلب مسائل الفقه أو كلّها عن كونها مسائله ، وكذا علم الأصول ، وعلم النحو ؛ حيث يبحث في علم الأصول عن معنى مطلق الأمر مثلا ؛ هل هو حقيقة في الوجوب أو الندب؟ مع إنّ البحث عن مطلق

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

الأمر بمنزلة البحث عن عوارض الجنس ، فإنّ البحث فيه يكون عن معنى الأمر الواقع في الكتاب والسّنة وهو نوع لمطلق الأمر ، ويبحث في علم النحو عن الرفع والنصب مع إنّهما يعرضان الكلمة إمّا بواسطة نوعها أي : الفاعل والمفعول ، فتكون الواسطة أخصّ من المعروض ، أو بواسطة أمر مباين لها وهو وضع الواضع. فيلزم ما ذكرناه من الإشكال أعني : يكون البحث في العلوم عن العوارض الغريبة لا عن العوارض الذاتية ، ولهذا عدل صاحب الكفاية عما قالوه دفعا للإشكال الوارد على تفسيرهم ، ولا يرد الإشكال على ما ذكره المصنف إذ المناط في الذاتيّة عنده عدم الوساطة في العروض ، وليست الواسطة واسطة في العروض فيما إذا كانت مباينة للمعروض أو أعم منه أو أخصّ منه كما سبق تفصيله ، ويظهر من الأستاذ الاعتمادي : أنّ الواسطة في جميع الأمثلة المذكورة واسطة في الثبوت ، فتكون من العوارض الذاتية ، على رأي المصنف ؛ إلّا مثال حركة جالس السفينة فالواسطة فيه واسطة في العروض. حيث قال :

«ثم العرض إمّا لا واسطة له وهو :

١ ـ إمّا مساو للمعروض ؛ كتعجّب الإنسان.

٢ ـ أو أعمّ منه ؛ كحيوانيّة الناطق.

٣ ـ أو أخصّ منه ؛ كناطقيّة الحيوان ، وإمّا له واسطة في الثبوت وهي علّة العروض وهي :

٤ ـ إمّا جزء مساو ؛ كتكلّم الإنسان بناطقيّته.

٥ ـ أو جزء أعم ؛ كحركة الإنسان بحيوانيته.

٦ ـ أو أمر خارج مساو ؛ كضحك الإنسان بتعجّبه.

٧ ـ أو أعم ؛ كتحيّز الإنسان بجسميّته.

٨ ـ أو أخصّ ؛ كضحك الحيوان بإنسانيّته.

٩ ـ مباين ؛ كحرارة الماء بمقابلة النار.

١٠ ـ وإمّا له واسطة في العروض ؛ أي : يعرضها العرض أوّلا ، وينسب إلى مجاوره ثانيا ؛ كحركة الجالس بحركة السفينة». «الهداية إلى أسرار الكفاية ، ج ١ ، ص ٥».

إلى أن قال : «والحق : أنّ ملاكه انتفاء الواسطة في العروض فما عدا الأخير من الأقسام العشرة عرض ذاتي ، ولذا يبحث في الفقه عن الأحكام العارضة لفعل المكلف بواسطة مباينة أعني : المصالح والمفاسد» وكيف كان ؛ فأضربنا عمّا أورده البعض على

١١

هو (١) نفس موضوعات مسائله عينا (٢).

وما يتحد (٣) معها خارجا ، وإن كان يغايرها مفهوما ، تغاير الكلّي

______________________________________________________

صاحب الكفاية خوفا من التطويل الممل.

فالعوارض الذاتيّة على رأي المصنف : ما ليس له الواسطة في العروض.

(١) أي : موضوع كل علم نفس موضوعات مسائل ذلك العلم ، وهذا من المصنف اعتراض على ما في خاتمة علم الميزان من أنّه قد يكون موضوع العلم مغايرا مع موضوع المسألة.

قال المحقق التفتازاني : في خاتمة كتابه في علم الميزان. «والمسائل وهي قضايا تطلب في العلم وموضوعاتها إمّا موضوع العلم ، أو نوع منه ، أو عرض ذاتي له ، أو مركّب». هذا صريح في مغايرة موضوع العلم مع موضوع المسألة.

وحاصل اعتراض المصنف عليه : أنّه لا شكّ في كون محمول المسألة من العوارض الذاتيّة لموضوعها ، فلو كان موضوعها مغايرا مع موضوع العلم لم يكن ذلك عن عوارضه الذاتيّة وهذا خلاف مقتضى تفسيرهم لموضوع العلم «بأنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية» ولا يستقيم هذا التفسير ، إلّا إن يكون موضوع العلم نفس موضوعات مسائله.

(٢) أي : ذاتا وخارجا. فالكلمة عين الفاعل في قول النحاة : الفاعل مرفوع ، وعين المفعول في قولهم : المفعول منصوب ، وعين المضاف إليه في قولهم : المضاف إليه مجرور ، وعين الفعل في قولهم : الفعل المدخول لأدوات الشرط مجزوم ، وهكذا في موضوع الفقه حيث تكون أمثال الصوم والصلاة عين أفعال المكلف خارجا.

وموضوع علم الأصول بعينه هو : الأمر والنهي خارجا ، فإنّ موضوعه عند المصنف هو : الكلي الذي تقع نتيجة بحثه في طريق الاستنباط لا يقال : إنّه قد يشكل فيه بعلم الطبّ فإنّهم جعلوا موضوعه بدن الإنسان ، وهم يبحثون فيه عن العوارض الذاتية للأعضاء ، مع إنّ الأعضاء جزء للبدن ، والجزء غير الكل.

فإنّه يقال في دفع الإشكال : بأنّ تعبيرهم عن موضوع الطبّ بالبدن إنّما هو من باب التسامح ، فإنّ موضوعه في الحقيقة هو العضو وهو جامع بين موضوعات مسائله.

(٣) قوله : «وما يتحد معها خارجا» عطف على قوله : «نفس موضوعات مسائله» ، وهذا العطف إمّا عطف تفسيري أو لا يكون كذلك ، فعلى الثاني : كان في الأصل أو ما يتحد معها خارجا ، والاحتمال الأوّل غير صحيح ، لأنّ موضوع العلم هو : الجامع بين موضوعات مسائله فيكون أمرا واحدا ، وموضوعات المسائل متعددة بتعدد المسائل ، وحينئذ فلو كان موضوع العلم متحدا مع موضوعات المسائل لزم أن يكون موضوعه متعددا وهو خلاف الفرض.

١٢

ومصاديقه (١) والطبيعي (٢) وأفراده.

والمسائل (٣) عبارة عن جملة من قضايا متشتتة (٤) جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض (٥) ؛ الذي لأجله دوّن هذا العلم.

______________________________________________________

والاحتمال الثاني وإن كان صحيحا من حيث المعنى ؛ إلّا إنّه لا يصحّ من حيث اللفظ والعبارة ، إذ الصحيح حينئذ أن يقال : أو ما يتحد معها خارجا إلّا إن يقال بسقوط الألف من اللفظ ، أو كون الواو بمعنى : أو.

(١) أي : كمغايرة مفهوم الإنسان مع مفهوم أفراده ، كزيد وعمرو ، وإن كان عين أفراده خارجا.

(٢) أي : عطف الطبيعي على الكلي عطف تفسيريّ أو تفنّن في العبارة لا من العطف الخاصّ على العام ، كما قد يتوّهم ، ضرورة : أنّ اتحاد الكلّي مع المصاديق منحصر في الكلّي الطبيعي ، إذ لا وجود لغيره من الكلّي المنطقي والعقلي ، والفرق بين الكلّي الطبيعي وغيره أوضح من الشمس مثلا : قولنا : «الإنسان الكلي» الإنسان كلّي طبيعي ، والكلي كلّي منطقي والمجموع كلّي عقلي. هذا تمام الكلام في المطلب الأوّل.

فالحاصل : أنّ موضوع كل علم هو نفس موضوعات مسائله عينا بمعنى : أنّه متحد مع موضوعات المسائل في الخارج ، وإن كان الموضوع الكلي يغاير موضوعات المسائل مفهوما.

(٣) هذا هو المطلب الثاني : بعد ما بيّن المصنف في المطلب الأوّل ما هو منزلة موضوع العلم من موضوعات مسائله ـ بأنّه الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله ، والمتحد معها في الخارج ـ بدأ ببيان المطلب الثاني ؛ وهو : تعريف المسائل ، وما يتعلق بها فقال : «والمسائل عبارة عن جملة من قضايا ...» إلخ.

(٤) أي : متفرّقة ومختلفة موضوعا ومحمولا مندرجة تحت غرض واحد مثلا : قول النحاة في مسائل علم النحو : «الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمضاف إليه مجرور» واضح في تشتّت القضايا المذكورة واختلافها موضوعا ومحمولا.

والمستفاد من كلام المصنف في المطلب الثاني أمران :

الأوّل : أنّ حقيقة العلم هي المسائل فقط بعد ما كان موضوع العلم نفس موضوعاتها ، فأسامي العلوم أسام لما هو مسائلها في الواقع ، أو للقدر الجامع بينها ؛ وذلك لما تقدم من أنّ موضوع العلم هو الكلّي المنطبق على موضوعات المسائل.

الثاني : أنّ تمايز العلوم إنّما هو بالأغراض ؛ لا بالموضوعات كما هو المشهور ، وانتظر توضيح ذلك فيما يأتي من المصنف «قدس‌سره».

(٥) تقييد المصنف المسائل بقوله : «جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض ..» إلخ.

١٣

فلذا (١) قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل ؛ مما كان (٢) له دخل في مهمين (٣) ، لأجل كلّ منهما دوّن علم على حدة ، فيصير من مسائل العلمين.

______________________________________________________

مقدمة لما يقول به : من أنّ تمايز العلوم بالأغراض الداعية إلى التدوين ؛ لا بالموضوعات. فيكون ردّا على القول بأنّ تمايز العلوم بتمايز الموضوعات ، كما أنّ قوله في المسائل بأنّها عبارة عن جملة من قضايا يكون ردّا على القول : بأنّها محمولات منتسبة إلى الموضوعات ، لأنّ القول المذكور مستلزم لأن تكون أجزاء العلم أربعة ، مع إنّها ثلاثة ، وذلك لأنّه لا بدّ أن تعدّ الموضوعات من المحمولات المنتسبة إليها جزءا على حدة ، فيلزم أن تكون أجزاء العلوم أربعة : ١ ـ الموضوعات. ٢ ـ المبادئ. ٣ ـ المسائل. ٤ ـ موضوعات المسائل. ولم يقل به أحد. فالحق ما ذكره المصنف من أنّ المسائل هي القضايا ، كي لا يلزم ما لم يقل به أحد.

نعم ؛ هناك قول : بأنّ المسائل هي النسب التامة ، إلّا إنّه يرجع إلى قول المصنف «قدس‌سره».

(١) تفريع على قوله : «جمعها اشتراكها ...» إلخ. أي : فلأجل ما ذكرنا من أنّ القضايا جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض «قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل».

(٢) أي : مما كان هذا البعض له دخل في غرضين مهمين دوّن لأجل كلّ منهما علم على حدة ، وإذا كان كذلك يصبح ذلك البعض من مسائل العلمين.

وجه التفريع : أنّه لو كان تمايز العلوم بالموضوعات لما صحّ اشتراك العلمين أو العلوم في بعض المسائل من حيث الموضوع والتالي باطل ، فالمقدم مثله ، والاستدلال بالقياس الاستثنائي يتوقف على ثبوت أمرين : ١ ـ الملازمة. ٢ ـ بطلان التالي.

وأمّا بطلان التالي : فلا يحتاج إلى البيان ، لأنّ الاشتراك متحقق بين بعض مسائل علم الأصول ، ومسائل علم آخر كمسألة التجري مثلا ؛ حيث يتداخل فيها علم الأصول والفقه والكلام كما بين في محلّه.

وأمّا الملازمة فهي ثابتة ، إذ على تقدير الاشتراك لا بد أن يعد علما واحدا لا علمين أو أكثر حيث لا اثنينية ، هذا بخلاف ما إذا كان تمايز العلوم بالأغراض ، فإنّ الاثنينية حينئذ محفوظة ، والامتياز ثابت ، فيصح التداخل لو كان التمايز بالأغراض ، ولا يصح لو كان بالموضوعات.

(٣) أي : في غرضين مهمين مثاله : «دلالة الأمر» على الوجوب أو الندب فهي من مسائل اللغة والأصول. أمّا من مسائل اللغة : فالغرض من الأمر هو : العلم بوضع لسان العرب ، وأمّا من مسائل الأصول فالغرض منه : الوقوع في طريق الاستنباط ، فيصير هذا

١٤

لا يقال : على هذا (١) يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما ، فيما إذا كان هناك مهمان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا لا يكاد انفكاكهما.

______________________________________________________

البعض من مسائل علمين أي : اللغة والأصول.

فتحصّل مما ذكرنا : أنّه يصح جعل مسألة من مسائل العلمين على أن يكون الجامع هو الغرض ، دون أن يكون هو الموضوع ، فهذا أقوى دليل على أنّ الحق ما ذهب اليه المصنف. وبالجملة : فالملاك في اتحاد العلم ووحدته مع تشتت العوارض واختلاف الموضوعات والمحمولات هو وحدة الغرض ، فلو كان الغرض والمهم واحدا يعدّ الجميع علما واحدا ويفرد بالتدوين. وأمّا لو كان الغرض متعددا يتكثّر العلم ؛ وإن كان موضوع المسائل واحدا.

(١) أي : على كون بعض المسائل ممّا له دخل في غرضين مهمين يمكن تداخل علمين في تمام مسائلهما. وهو باطل لأجل عدم حصول الميز بين العلمين.

وقبل توضيح هذا الإشكال ينبغي بيان ما يرجع إليه الإشكال المذكور ؛ فنقول : إنّه يرجع إلى قوله : «فلذا قد يتداخل بعض العلوم في بعض المسائل» أي : فلأجل كون الجامع بين مسائل كلّ علم هو الغرض ؛ يمكن تداخل بعض العلوم في بعض المسائل ، ويقصد به عدم جواز التداخل فيما إذا كان الجامع بين مسائل العلم هو الموضوع ، فيكون ردّا على القول بأنّ تمايز العلوم بالموضوعات ، وذلك لعدم حصول الامتياز بين علمين فيما إذا اشتركا في بعض المسائل من حيث الموضوع.

وأمّا توضيح ذلك فيقال : إنّ ما ذكرتم من الفرق بين القولين ؛ إنّما يتم على فرض اشتراك بعض مسائل علمين في الغرض ؛ بمعنى : ترتب غرض كلا العلمين على بعض مسائلهما ، ولازم ذلك هو تداخل علمين في بعض مسائلهما ، فيجوز على قول المصنف ، ولا يجوز على قول من يقول بتمايز العلوم بالموضوعات. ولكن على فرض ترتب غرضين على جميع مسائل علمين بأن كان هناك غرضان متلازمان في الترتّب على جملة من القضايا ، فلا يجوز التداخل حتى على مذهب المصنف ؛ وذلك لانتفاء التمايز بين العلمين حينئذ ، فهذا الإشكال مشترك الورود ، ولا يختص بقول المشهور. ويمكن تقريب ذلك بالقياس الاستثنائي بأن يقال :

لو جاز تداخل بعض العلوم في بعض المسائل ممّا كان له دخل في مهمين ؛ لجاز تداخل علمين في تمام مسائلهما فيما إذا كان هناك مهمان متلازمان في الترتب على جملة من القضايا. والتالي باطل ؛ فإنّ التداخل مستلزم لانتفاء التمايز ، فالمقدم مثله إذ رفع التالي وبطلانه ينتج رفع المقدم وبطلانه.

١٥

فإنّه يقال (١) : مضافا إلى بعد ذلك ، بل امتناعه عادة لا يكاد يصح لذلك (٢)

______________________________________________________

وأمّا الملازمة فهي ثابتة ، إذ على القول بتمايز العلوم بالأغراض يمكن تداخل علمين في بعض المسائل كما عرفت ، فيمكن تداخلهما في تمام مسائلهما ، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد.

(١) وهذا الجواب يتوقف توضيحه على مقدمة ؛ وهي : أنّ النسبة بين غرضين من أغراض العلوم على أربعة أقسام : ١ ـ التلازم. ٢ ـ التباين. ٣ ـ العموم من وجه. ٤ ـ العموم المطلق. ولا إشكال في صحّة تدوين علمين على الثاني والثالث حتى على الرابع إذ قد يتعلق الداعي بتحصيل الغرض الأخص بخصوصه ، فيصح لأجله تدوين المسائل المشتركة علما ، ولكن على الأول لا يصح تدوين علمين لأجل غرضين متلازمين ، بل يدوّن علم واحد.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنّ قياس تداخل علمين في بعض المسائل بتداخل علمين في تمام المسائل قياس مع الفارق ، وهو باطل ، فإنّ ما ذكره المصنف من جواز تداخل علمين في بعض المسائل من القسم الثالث أي : ما إذا كانت النسبة بين الغرضين عموما من وجه. وما ذكره الخصم من الإشكال من القسم الأوّل أي : التلازم. والفرق بينهما أوضح من الشمس ، ومن هنا ظهر : عدم ثبوت الملازمة بين المقدم والتالي في القياس الاستثنائي السابق ؛ لعدم المثليّة بين الأمرين حتى يقال بثبوت الملازمة بوحدة حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز فلا ينتج.

وكيف كان ؛ فلا يصح حينئذ تدوين علمين وتسميتهما باسمين ، كي يلزم تداخل علمين في تمام مسائلهما ، بل يدوّن علم واحد يبحث فيه تارة لكلا المهمين ، وأخرى لأحدهما مثاله : إنّنا لو فرضنا اشتراك جميع مسائل النحو والصرف في إيفاء غرضين متلازمين وهما معرفة أحوال الكلم صحّة واعتلالا في الصرف ، ومعرفة أحوال الكلم إعرابا وبناء في النحو ، فالجامع بين الغرضين معرفة أحوال اللغة العربية ؛ فنبحث تارة لكلا الغرضين : أي : معرفة أحوال اللغة العربية ، وأخرى لأحدهما أي : النحو فقط ، أو الصرف فقط ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنه بعيد جدا ، بل ممتنع عادة ، فحينئذ ينتفي موضوع الإشكال ، إذ هو على تقدير ثبوت غرضين متلازمين وهو بعيد ، بل مستحيل عادة ، لأنّ الممكن العادي ما يقع في الخارج ولو مرّة ، وفرض التلازم بين المهمين لم يقع أصلا.

(٢) أي : لا يكاد يصح تدوين علمين لأجل مهمين متلازمين.

١٦

تدوين علمين وتسميتهما باسمين ، بل تدوين (١) علم واحد. يبحث فيه تارة : لكلا المهمين (٢) وأخرى : لأحدهما (٣) ، وهذا (٤) بخلاف التداخل في بعض المسائل ، فإن حسن تدوين علمين ـ كانا مشتركين في مسألة ، أو أزيد ـ في جملة مسائلهما المختلفة ، لأجل مهمين ، مما (٥) لا يخفى.

وقد انقدح بما (٦) ذكرنا : أن تمايز العلوم إنّما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى

______________________________________________________

(١) أي : لأنّ تدوين علم واحد كاف في حصول الغرضين ؛ وذلك لمكان تلازمهما.

(٢) أي : كالبحث عن النحو والصرف ؛ نظرا إلى القدر الجامع بينهما وهو : معرفة أحوال اللغة العربية.

(٣) أي : النحو فقط ؛ بمعنى : يبحث فيه لمعرفة أحوال الكلم إعرابا وبناء لغرض حفظ اللسان عن الخطأ.

(٤) قوله : «هذا» إشارة إلى ما مضى من تدوين علم واحد فيما إذا كان هناك مهمان متلازمان.

(٥) قوله : «مما لا يخفى» خبر لقوله : «فإن حسن ...» ومن هنا أخذ المصنف «قدس‌سره» يجيب عما مضى بما يحكم به العقل والعقلاء ، فالملاك في صحة تدوين علم واحد أو علمين هو تحسين العقلاء وتقبيحهم ، فهم يحكمون بحسن تدوين علمين في مورد تداخل علمين في بعض المسائل وقبحه في مورد التداخل في تمام المسائل ، بل هنا يحكمون بتدوين علم واحد.

فحاصل الكلام : أنّه لا يكاد يصح لأجل تلازم المهمين تدوين علمين ، بل يدوّن علم واحد ، ويسمى باسم واحد.

(٦) المراد بالموصول أي : ما في قوله : «بما ذكرنا» ما ذكره في تعريف المسائل حيث قال : «جمعها اشتراكها في الدخل في الغرض» ومفاده : أنّ الجامع بين المسائل اشتراكها في الدخل في الغرض ؛ الموجب لتحسين العقلاء تدوين علمين أو علوم متعددة لغرضين أو أغراض متعددة ، وإن كانت القضايا التي تترتب عليها الأغراض المختلفة متحدة موضوعا ومحمولا ، وتقبيحهم تدوين علمين مع وحدة الغرض ، أو التلازم بين غرضين وإن كان موضوع المسائل مختلفا ؛ إذ قد علمت : تحسينهم جعل المسائل المختلفة موضوعا ومحمولا علما واحدا لدخلها في الغرض الداعي للتدوين ، وإدراج المسألة الواحدة في علمين لدخلها في غرضين ؛ من دون تكلّف إرجاع الموضوعات أو المحمولات إلى جامع واحد ، ولازم ذلك : أنّ تمايز العلوم إنما هو بالأغراض لا بالموضوعات ، ولا بالمحمولات ؛ وإلّا لزم كون كل باب ، بل كل مسألة علما على حدة ، لأن الملاك في تعدد العلوم

١٧

التدوين ، لا الموضوعات ولا المحمولات ، وإلّا كان كل باب ، بل كل مسألة من كل علم علما على حدة ، كما هو واضح لمن كان له أدنى تأمل.

فلا (١) يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا للتعدد ، كما لا يكون وحدتهما سببا لأن يكون من الواحد.

______________________________________________________

ووحدتها هو الموضوع ؛ فلو كان متعددا لكان العلم متعددا. فلزم المحذور المذكور نظرا إلى تعدد موضوعات المسائل.

(١) قوله : «فلا يكون الاختلاف ..» إلخ تفريع على قوله : «لا الموضوعات ولا المحمولات» أي : فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجبا لتعدد العلم ، كما لا تكون وحدتهما في مسألة موجبة لأن تكون المسألة من علم واحد لإمكان دخلها في مهمين ، فتكون من علمين مستقلين.

وملخص البحث : أن فيما هو الملاك في تمايز العلوم أقوالا : قال الجمهور : أن تمايز العلوم إنّما هو بتمايز الموضوعات ؛ بمعنى : أنّها تتمايز بوحدة موضوعاتها. وقال بعض : إنّها تتمايز بوحدة محمولاتها. وقال المصنف : إنّها تتمايز بالأغراض ؛ لا بالموضوعات ولا المحمولات. وأمّا بطلان القول الثاني فواضح إذ لم يدّعه أحد يعرف.

وأمّا بطلان القول الأول : فلما تقدم من : تحسين العقلاء تدوين علمين أو علوم لأغراض وإن كانت مسائلها متحدة من حيث الموضوع ؛ كمسائل الصرف والنحو حيث يقال : الكلمة إمّا ثلاثي أو رباعي ، وإمّا معرب أو مبني ، فهذه المسألة وإن كانت واحدة من حيث الموضوع إلّا إن تعدّد الغرض يوجب تعددها ، وهي باعتبار الأول من الصرف ؛ لأن الغرض من الصرف معرفة ذات اللفظ من حيث كونه ثلاثيا أو رباعيا ، صحيحا أو معتلا ، ماضيا أو مضارعا ، مفتوح العين أو مضمومها أو مكسورها. وباعتبار الثاني : من النحو ، لأنّ الغرض من النحو هو : معرفة أحوال الكلمة من حيث الإعراب والبناء. هذا أولا.

وثانيا : ما تقدم من تقبيح العقلاء تدوين علمين مع وحدة الغرض وإن كان موضوع المسائل ومحمولها متعددين.

فالمتحصل : أنّ المصنف استدل على ما اختاره من تمايز العلوم بالأغراض بوجهين :

الأول : تحسين العقلاء تدوين علمين لغرضين وإن كانت مسائلهما متحدة من حيث الموضوع.

الثاني : تقبيحهم تدوين علمين مع وحدة الغرض وان كانت مسائلهما متعددة من حيث الموضوع ، وحينئذ لا دخل للموضوعات ، ولا المحمولات بالتمايز ؛ فلا يصح

١٨

ثم إنّه (١) ربما لا يكون لموضوع العلم ـ وهو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل ـ عنوان خاص ، واسم مخصوص ، فيصح أن يعبّر عنه بكل ما دلّ عليه ، بداهة : عدم دخل ذلك (٢) في موضوعيته (٣) أصلا.

وقد انقدح بذلك (٤) : أنّ موضوع علم الأصول هو : الكلي المنطبق على موضوعات

______________________________________________________

جعلهما مائزا لأنّ الموضوعات والمحمولات كثيرة في العلم الواحد.

(١) أي : الشأن «ربما لا يكون لموضوع العلم» أيّ موضوع لأيّ علم يفرض أي : لا يكون له عنوان خاص واسم مخصوص ، وهذا الكلام من المصنف نتيجة لما تقدم منه ، وتمهيد لما اختاره من أن موضوع علم الأصول هو : الكلي المنطبق على موضوعات مسائله.

وأمّا كونه نتيجة لما تقدم منه من أنّ تمايز العلوم بالأغراض لا بالموضوعات ؛ فلأنّه إذا لم يكن التمايز بالموضوعات فلا إشكال أن يكون الموضوع أمرا مجهولا ، يشار إليه بأنّه هو الكلي المنطبق على موضوعات المسائل.

وأمّا على القول بأنّ تمايز العلوم هو بالموضوعات : فلا بد أن يكون لموضوع العلم عنوان خاص ـ كعنوان الأدلة الأربعة ـ واسم مخصوص كالكتاب والسنة والاجماع والعقل ، لأنّ الموضوع على هذا القول يكون معرفا للعلم ، والمعرف يجب أن يكون معلوما بعنوانه الخاص واسمه المخصوص. ومن هنا يعلم : عدم لزوم معرفة اسم أو عنوان موضوع العلم ، لأنّه حينئذ هو الكلي المتحد مع موضوعات المسائل ، ولا دخل للاسم والعنوان في موضوعية موضوع العلم.

وأمّا كون كلامه هذا تمهيدا لما ذهب إليه من ان موضوع علم الأصول هو الكلي لا الأدلة الأربعة فلما عرفت : من أنّه لا دخل للاسم والعنوان في موضوعيّة الموضوع ، فيصح أن يعبّر عن موضوع العلم بكل ما دلّ عليه فيقال : إنّ موضوع علم الأصول هو : ما يقع في طريق استنباط الأحكام الشرعية الفرعية ، أو يقال : هو الكلي المتحد مع موضوعات مسائله.

(٢) أي : الاسم المخصوص.

(٣) أي : موضوعية الموضوع. وخلاصة الكلام : أنّه لا يكون لموضوع العلم عنوان خاص واسم مخصوص ؛ ضرورة : عدم دخل الاسم المخصوص في موضوعيّة الموضوع أصلا ، لأنّ الغرض مترتب على ذات الموضوع لا على العنوان والاسم المشيرين إليه ، فعدم العلم باسمه لا يقدح في موضوعيّة الموضوع القائمة بذاته.

(٤) أي : انقدح بكل ما مر ابتداء من تعريف موضوع مطلق العلم ، وانتهاء إلى عدم دخالة الاسم المخصوص في موضوعية الموضوع ـ «أنّ موضوع علم الأصول هو الكلي

١٩

مسائله المتشتتة ، لا خصوص الأدلة الأربعة (١) بما هي أدلة (٢) ، بل ولا بما هي هي (٣) ضرورة : أنّ البحث في غير واحد من مسائله المهمة ليس من عوارضها ، وهو واضح لو

______________________________________________________

المنطبق على موضوعات مسائله المتشتتة ؛ لا خصوص الأدلة الأربعة».

وجه الانقداح هو : أنّ المتحصل من جميع ما ذكر ـ إلى الآن ـ أمران :

الأول : أنّ موضوع علم الأصول ، كموضوع مطلق العلم هو الكلي المنطبق على موضوعات مسائله.

الثاني : عدم دخالة الاسم المخصوص في موضوعيّة الموضوع. ولازم الأمرين هو ثبوت المطلوب المذكور المركب من «إيجاب» أعني : كلية الموضوع و «سلب» أعني : سلب الموضوعية عن خصوص الأدلة الأربعة.

(١) أي : الكتاب والسنة والإجماع والعقل.

(٢) أي : بوصف دليليتها.

(٣) أي : ذوات الأدلة دون أن تتصف بأنّها أدلة.

وخلاصة الكلام في المقام : أن موضوع علم الأصول هو : الكلي المنطبق على موضوعات مسائله لا خصوص الأدلة الأربعة بوصفها العنواني أي : مع وصف دليليتها على ما في «القوانين» (*) ، ونسب إلى المشهور. «ولا بما هي هي» أي : ذوات الأدلة مع قطع النظر عن دليليتها كما في «الفصول» (**) ، لأنّ تخصيص موضوع علم الأصول يوجب خروج كثير من المسائل عن علم الأصول. فيكون غير جامع ، وعندئذ كلا القولين مردود ، ولكن الفرق بينهما : أنّ قول المشهور الذي ذكره المحقق القمي «رحمه‌الله» في «القوانين» مردود لوجهين : أحدهما : مختص به والآخر مشترك بينهما. وقول صاحب الفصول مردود ؛ لوجه واحد.

وتوضيح ذلك : أنّ جعل الموضوع الأدلة بانضمام وصف دليليتها يستلزم خروج جملة من المسائل عن علم الأصول ، ودخولها في مبادئه التصورية أو التصديقية ، لأنّ البحث عن دليليّة الأدلة وحجيتها بحث عن قيد الموضوع ، فيندرج البحث عن الحجية في المبادئ ، فلا يكون البحث عن حجية ظواهر الكتاب ، والإجماع ، والعقل ، وخبر الواحد بحثا عن عوارض الأدلة الأربعة ، مع إنها من أهم المسائل الأصولية. وهذا الإشكال مختصّ بقول المشهور ومنهم صاحب «القوانين» ولهذا عدل صاحب

__________________

(*) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ٩ ، س ٢٣.

(**) الفصول الغروية ، ص ١١ ، س ٢٤.

٢٠