دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

مثله (١) بما يتنجز فيه المشتبه لو كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا (٢) ، أو الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

البحث وهو الشبهة الحكمية بعد الفحص ، ومختص بالشبهات التي تنجز فيها الحكم كالشبهة البدوية قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي ؛ لعدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان فيهما.

(١) يعني : مثل التعليل الوارد في حديث مسعدة بن زياد : «وقفوا عند الشبهة».

(٢) أي : سواء كانت الشبهة وجوبية أم تحريمية.

وفي بعض الشروح كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

هذا تمام الكلام في الدليل الثاني من أدلة القائلين بالاحتياط في الشبهة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

ـ استدلال الأخباريون بطوائف من الآيات على وجوب الاحتياط :

الأولى : ما دل على النهي عن القول بغير علم ، مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

الثانية : ما دل على النهي عن الإلقاء في التهلكة ، كقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

الثالثة : ما أمر فيها بالتقوى كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

١ ـ تقريب الاستدلال بها على وجوب الاحتياط :

إن القول بالإباحة في محتمل الحرمة قول بغير علم فيكون محرما. وكذلك ارتكاب الشبهة التحريمية يكون من الإلقاء في التهلكة فيكون محرما.

وكذلك يكون الاجتناب عن محتمل الحرمة من التقوى ، فلا بد من الاحتياط بترك القول بغير علم ، وترك الشبهة التحريمية لئلا يلزم الإلقاء في التهلكة ، وترك محتمل الحرمة لئلا يلزم ما ينافي التقوى.

٢ ـ الجواب عن الاستدلال بهذه الطوائف من الآيات :

أما الجواب عن الطائفة الأولى : فبوجهين :

الأول : النقص إذ لو كان القول بالإباحة والبراءة قولا بغير علم لكان القول بالاحتياط كذلك.

الثاني : الحل : بمعنى : أن الحكم بالإباحة والبراءة استنادا إلى الأدلة ليس قولا بغير علم.

٢٠١

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما الجواب عن الطائفة الثانية : فلأن المراد من التهلكة إن كان العقاب الأخروي فهو منفي بدليل البراءة.

وإن كان المراد منها هو الضرر الدنيوي فليس كل ضرر من التهلكة ؛ لأنها مما يؤدي إلى الموت ، والمحرمات المحتملة ليس فيها الضرر الدنيوي بهذا المعنى.

وأما الجواب عن الطائفة الثالثة : فلأن ارتكاب محتمل الحرمة ليس منافيا للتقوى ؛ لأن التقوى هي : ترك ما نهى عنه الشارع ، وفعل ما أمر به. هذا مضافا إلى أن مفاد الآية استحباب التقوى ، ومحل الكلام هو وجوب الاتقاء احتياطا.

٣ ـ الاستدلال بالسنة على وجوب الاحتياط :

وهي بين ما يدل على وجوب التوقف ، وما يدل على وجوب الاحتياط.

وأما تقريب ما يدل على التوقف : فلأن المراد من كلمة «خير» ـ في قوله «عليه‌السلام» : «فإن الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» ـ ليس معناها التفضيلي في هذه الأخبار ؛ إذ لا خير في الاقتحام في الهلكة.

ثم المراد بالتوقف هو : التوقف العملي ، أعني : مطلق السكون وعدم المضي في ارتكاب الفعل ، ولازمه هو الاحتياط بترك ارتكاب الشبهة.

وأما ما يدل على الاحتياط فواضح ، كقوله «عليه‌السلام» : «فعليكم بالاحتياط» ، و «خذ بالحائطة لدينك».

٤ ـ الجواب عن أخبار التوقف :

إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية ، مع دلالة النقل فيها على الإباحة ، وحكم العقل بالبراءة.

وأما الجواب عن أخبار الاحتياط : فلأن ما دل على وجوب الاحتياط لو سلم وإن كان واردا على حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فإنه كفى بيانا ؛ لأنه ظاهر في الوجوب المولوي إلا إنه لا بد من رفع اليد عن هذا الظهور ، وحمل أخبار الاحتياط على الإرشاد أو الطلب المولوي الجامع بين الوجوب والندب ؛ لئلا يلزم التخصيص بإخراج الشبهات الوجوبية والموضوعية عنها ، ولا يجب الاحتياط فيها عند الأخباريين أيضا. هذا مع أن سياقها آب عن التخصيص.

وحملها على الاستحباب مستلزم لإخراج موارد وجوب الاحتياط ؛ كما إذا كانت الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، وكانت الشبهة محصورة.

٢٠٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وعليه : فتتعين إرادة مطلق الرجحان الجامع بين الوجوب الندب ، ولازم ذلك : وجوب الاحتياط في بعض الموارد واستحبابه في بعضها الآخر.

٥ ـ ما ذكره الشيخ الأنصاري :

من استكشاف وجوب الاحتياط شرعا من هذه الأخبار ، ثم أجاب عنه بما حاصله : من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن العقاب على الحكم الواقعي : فهو مستلزم لترتب العقاب على التكليف المجهول وهو قبيح ، وإن كان حكما ظاهريا نفسيا بالهلكة الأخروية مترتبة على مخالفته ؛ لا على مخالفة الواقع ، وهذا مخالف لصريح الأخبار ؛ إذ صريحها إرادة الهلكة الموجودة في الواقع على تقدير مخالفة الحرمة الواقعية ، ومقصود الأخباريين أيضا هو الاحتراز عن الهلكة المحتملة ، المترتبة على الاقتحام في الشبهات ؛ لا لأجل الاحتراز عن مخالفة الاحتياط.

فمع بطلان الاحتمالين لا محيص عن حمل الأخبار على الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الضرر المحتمل.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام الشيخ «قدس‌سره».

٦ ـ الجواب عن كلام الشيخ «قدس‌سره» : بما حاصله : من أن الأمر المولوي بالاحتياط ـ على فرض تسليم وجوبه شرعا ـ لا ينحصر في القسمين الباطلين أعني : النفسي والمقدمي ليبطل وجوب الاحتياط ببطلانهما ، وتجري أدلة البراءة بلا معارض ؛ بل هناك قسم آخر ـ وهو الوجوب الطريقي ـ بمعنى : أن إيجاب الاحتياط بداعي تنجيز الحكم الواقعي المجهول ؛ بأن يكون الغرض من إنشاء وجوب الاحتياط إقامة الحجة على التكليف الواقعي المجهول ؛ بحيث توجب تنجزه وحفظه حال الجهل ، فالعقاب حينئذ على تقدير المخالفة على الواقع المجهول : عقاب مع البيان ، فتكون أدلة الاحتياط واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ إذ مع إيجاب الاحتياط لا يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، فالصحيح في الجواب أن يقال : إن أخبار الاحتياط وإن كانت واردة على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ إلا إنها تعارض بما هو أخص منها وأظهر فيتعين تقديم أدلة البراءة على أخبار الاحتياط لوجهين :

أحدهما : كون أخبار البراءة أخص من أدلة الاحتياط ، وتقديم الخاص على العام يكون أمرا بديهيا.

الثاني : أظهرية أخبار البراءة عن أخبار الاحتياط.

٢٠٣

.................................................................................................

______________________________________________________

أما توضيح الوجه الأول : فلأن ما دل على البراءة لا يشمل الشبهات قبل الفحص ؛ إذ لا خلاف في وجوب الاحتياط فيها بين الأصولي والأخباري ، وإنما الخلاف في وجوب الاحتياط فيها بعد الفحص. ومفاد ما دل على وجوب الاحتياط مثل قوله «عليه‌السلام» : «فعليكم بالاحتياط» يشمل قبل الفحص وبعده ، فيكون أعم مما دل على البراءة ، فيخصص ما دل على وجوب الاحتياط بما دل على البراءة ، ولازم التخصيص هو : وجوب الاحتياط في الشبهات البدوية قبل الفحص لا بعده ، وهو المطلوب في المقام.

وأما توضيح الوجه الثاني : فلأنه مع الغض عن أخصية موضوع أخبار البراءة يتعين تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط بمناط الأظهرية ؛ لأنها إما نص في حلية مشتبه الحكم مثل : حديث الحل وإما أظهر في البراءة مثل : حديث الرفع والسعة ونحوهما ، فإنها لو لم تكن نصا في الترخيص فلا أقل من كونها أظهر فيه من دلالة أخبار الاحتياط على وجوب التحرز عن المشتبه.

ومن المقرر في محله : تقدم الأظهر على الظاهر ، وعدم ملاحظة قواعد التعارض بينهما.

٧ ـ هناك قرائن على إرشادية أوامر الاحتياط يعني : أن ما ذكرناه إلى هنا من تقديم أخبار البراءة على أخبار الاحتياط إنما هو مع تسليم دلالة أخبار الاحتياط على الطلب المولوي حتى تصل النوبة إلى الجمع الدلالي بينها وبين أخبار البراءة ، بتقديم الثاني على الأول بمناط الأخصية والأظهرية ، ولكن لا مجال لهذا الجمع بعد قصور أخبار الاحتياط عن إثبات الطلب المولوي ؛ لوجود قرائن داخلية وخارجية على الإرشادية ، كما أشار إليها بقوله : «مع أن هناك قرائن دالة على أنه للإرشاد» أي : على أن ما دل على وجوب الاحتياط إنما يكون للإرشاد.

القرينة الأولى : لو لا الإرشاد لزم محذور تخصيص الأكثر ؛ وذلك لاتفاق الفريقين على البراءة في غير الشبهة الحكمية التحريمية ؛ كالشبهات الموضوعية مطلقا ، والشبهات الحكمية الوجوبية ، فيلزم تخصيص الأكثر وهو مستهجن ، فلا يصار إليه ، فلا مناص عن حملها على الإرشاد المطلق ؛ لئلا يلزم محذور تخصيص الأكثر.

الثانية : إباء سياقها عن التخصيص ، فإن مقتضى تخصيصها بها أن في ارتكابها في موارد الشبهات الموضوعية والحكمية الوجوبية خيرا ، ومقتضى سياقها أنه لا خير في ارتكاب الشبهات أصلا ، بل فيه الهلكة ، فالخير كله في الوقوف عند الشبهة والاحتياط

٢٠٤

.................................................................................................

______________________________________________________

بعدم الاقتحام فيها. هذا من جانب.

ومن جانب آخر : أن الأخباريين لما اعترفوا بورود الترخيص في ارتكاب بعض الشبهات فلا مناص من حمل الأمر في تلك الأخبار على الإرشاد ؛ حتى يتبع المرشد إليه في الوجوب والاستحباب.

الثالثة : ظهور ـ قوله «عليه‌السلام» : «فمن ارتكب الشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم» ـ في ترتب الهلاكة على ارتكاب الشبهة لا على مخالفة الأمر بالتوقف ، وحيث لا عقاب على مخالفة الأمر بالتوقف ، فلا يكون مولويا ، فيكون للإرشاد لا محالة ؛ لأن الأمر الإرشادي ما لا يترتب على مخالفته عقاب.

هذه جملة من القرائن. وتركنا جميع القرائن رعاية للاختصار.

٨ ـ استكشاف الأمر المولوي الظاهري بالاحتياط بالبرهان الإني :

مدفوع ؛ بأن العقاب على مخالفة الاحتياط في الشبهة البدوية ما لم يصل إلى المكلف عقاب بلا بيان ؛ لأن المصحح للمؤاخذة هو البيان الواصل ، لا التكليف بوجوده الواقعي ، سواء كان الحكم الواقعي نفسيا أو طريقيا ؛ كإيجاب الاحتياط ، والمفروض :

عدم وصوله بغير أخبار التوقف ، واستكشاف وصوله بأخبار التوقف غير ممكن لكونه مستلزما للدور ؛ لأن بيانية أخبار التوقف للوجوب المولوي موقوفة على إمكان الأخذ بظاهر الهلكة في العقوبة الأخروية ، وحمل الهلكة على العقوبة الأخروية موقوف على كون قوله : «قفوا عند الشبهات» بيانا وإعلاما لحكم المشتبه ، وهو وجوب الاجتناب عن الواقع المجهول ؛ إذ لو لم يكن بيانا له لم يصح حمل الهلكة على العقوبة الأخروية هذا دور صريح ؛ إذ بيانية أخبار التوقف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها.

وبعبارة واضحة : الأخذ بظاهر «قفوا» في الوجوب المولوي متوقف على حمل الهلكة على العقوبة ، وحملها عليها متوقف على كون الأمر في «قفوا» للوجوب المولوي ، فبيانية أخبار التوقف للوجوب المولوي متوقفة على بيانيتها له وهو الدور ، فلا بد من حمل أخبار التوقف والاحتياط على موارد تنجز التكليف ؛ كالشبهات البدوية قبل الفحص ، أو المقرونة بالعلم الإجمالي.

٩ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

عدم تمامية استدلال الأخباريين على وجوب الاحتياط بالأدلة الثلاثة وهي : الكتاب والسنة والعقل.

٢٠٥

وأما العقل (١) : فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته ، حيث (٢) علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته ؛ مما (٣) لم يكن هناك حجة ، على حكمه تفريغا (٤) للذمة بعد اشتغالها ، ولا خلاف (٥) في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي إلا من بعض الأصحاب (٦).

______________________________________________________

وقد تقدم الكلام في الكتاب والسنة ، وبقي الكلام في الاستدلال بالعقل على وجوب الاحتياط.

في الاستدلال بالعقل للقول بالاحتياط

(١) بعد أن فرغ المصنف من بيان الدليل النقلي على وجوب الاحتياط تعرض للدليل العقلي وقد قرر هذا الدليل بوجهين :

أحدهما : هو هذا. وثانيهما : ما أشار إليه بقوله الآتي.

وربما استدل بما قيل من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل الشرع.

وأما تقريب هذا الوجه : فيتوقف على مقدمة وهي : أن هناك صغرى وجدانية ، وكبرى برهانية.

وأما الصغرى فهي : أن كل مكلف بمجرد التفاته يعلم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب والحرمة.

وأما الكبرى فهي : استقلال العقل بتنجز التكاليف الشرعية بالعلم الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد تقرر في محله وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي ، فلا بد من فعل كل ما احتمل وجوبه ، وترك كل ما احتمل حرمته تفريغا للذمة المشغولة قطعا ؛ لاقتضاء الاشتغال اليقيني البراءة اليقينية.

(٢) ظرف وتعليل لقوله : «فلاستقلاله» ، وإشارة إلى الصغرى المذكورة وهي العلم الإجمالي بوجود تكاليف إلزامية في الشريعة.

(٣) بيان للموصول في «فيما» ، وهو يتعلق ب «وجود». وضمير «حكمه» راجع على الموصول في «مما».

(٤) تعليل لاستقلال العقل بالاحتياط ، يعني : أن علة هذا الحكم العقلي هو لزوم تفريغ الذمة عما اشتغلت به.

(٥) إشارة إلى الكبرى المتقدمة أعني : منجزية العلم الإجمالي للتكليف.

(٦) وهو المحقق القمي «قدس‌سره» ، حيث جعل العلم الإجمالي كالشك البدوي ؛

٢٠٦

والجواب (١) : أن العقل وإن استقل بذلك ، إلا إنه إذا لم ينحل العلم الإجمالي إلى

______________________________________________________

إلا إن الحق خلاف ذلك فإن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي في المنجزية ، فيكون علة تامة لكل من الموافقة والمخالفة القطعيتين.

(١) وحاصل جواب المصنف هو : دعوى انحلال العلم الإجمالي.

وتوضيح مراد المصنف من الانحلال يتوقف على مقدمة وهي : بيان صور الانحلال ؛ بحيث لا يكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف بعد الانحلال ، وهي ثلاثة :

الأولى : الانحلال الحكمي ، بمعنى : زوال أثر العلم الإجمالي من التنجيز وإن كان باقيا بنفسه ، وذلك كما في موارد قيام الأمارات على تعيين المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ، فإنه لا يكون منجزا في الطرف الآخر.

الثانية : الانحلال الحقيقي : وهو على قسمين : الأول : الانحلال الحقيقي التكويني بواسطة العلم التفصيلي بالمعلوم بالإجمال ؛ كما إذا علم إجمالا بوقوع قطرة بول في أحد هذين الإناءين ، ثم علم تفصيلا بأن قطرة البول وقعت في هذا الإناء المعين ، فإن العلم الإجمالي يزول قهرا ؛ إذ لا تردد بعد العلم التفصيلي.

الثاني : الانحلال الحقيقي ، ولكن لا بواسطة حدوث علم تفصيلي ؛ بل بواسطة انكشاف عدم تعلق العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي على كل تقدير ، فيزول أثره وهو التنجيز ، ويصح أن نعبر عن مثل هذا العلم الإجمالي بالعلم الإجمالي البدوي ؛ لأنه يزول بعد ذلك ، كما في موارد تعلق العلم الإجمالي بتكليف مردد بين ما هو محل الابتلاء ، وما هو ليس بمحل الابتلاء ، فإن العلم الإجمالي يحدث بدوا ؛ لكن بعد معرفة أن أحد طرفيه خارج عن مورد الابتلاء المنافي لتعلق التكليف الفعلي به ، يزول العلم الإجمالي وينكشف بأنه لا تكليف على كل تقدير من أول الأمر ، وأن العلم الإجمالي كان وهميا. فهذه الصورة ليست عبارة عن انحلال العلم الإجمالي ، بل عبارة عن زواله لانكشاف الخلاف نظير موارد الشك الساري.

والجامع بين هذه الأقسام هو : عدم تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد جمع المصنف في جوابه جميع أقسام الانحلال ، فقد أشار إلى الانحلال الحكمي في صدر جوابه ، وإلى الانحلال الحقيقي التكويني في ذيل كلامه بقوله : «هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية ...».

وأما بيان الانحلال الحكمي فحاصله : أن منجزية العلم الإجمالي وإن كانت مما يستقل بها العقل ؛ لكنها منوطة ببقاء العلم الإجمالي على حاله وعدم انحلاله إلى علم

٢٠٧

علم تفصيلي وشك بدوي ، وقد انحل هاهنا فإنه (١) كما علم بوجود تكاليف إجمالا ، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد (٢) ، وحينئذ (٣) لا علم بتكاليف أخرى غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من (٤) الطرق والأصول العملية.

إن قلت (٥) : نعم ؛ لكنه إذا لم يكن العلم ...

______________________________________________________

تفصيلي وشكّ بدوي ، فلو انحل في مورد سقط حكم العقل بلزوم الاحتياط في سائر الأطراف ؛ وذلك لسلامة الأصل النافي للتكليف الجاري فيها عن المعارض ، والمفروض في المقام : انحلال العلم الإجمالي ـ بوجود الواجبات والمحرمات في الوقائع المشتبهة ـ بعلم إجمالي آخر متعلق بالطرق والأصول المثبتة لمقدار من تكليف مساو للمعلوم بالإجمال أو أزيد منه ، فينحل العلم الإجمالي الكبير ـ المتعلق بجميع الأحكام الإلزامية الواقعية ـ بهذا العلم الإجمالي الصغير المتعلق بالأمارات والأصول المثبتة للمقدار المذكور من التكاليف ، وبعد الظفر بهذا المقدار الذي أدت إليه الأمارات والأصول لا يبقى علم بتكاليف واقعية أخرى غيرها حتى يجب رعاية الاحتياط فيها ، فما عداها مشكوك بالشك البدوي الذي يكون دعوى الاحتياط فيه عين المتنازع فيه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

والمشار إليه في «بذلك» لزوم الاحتياط ، وضمير «إلا إنه» راجع على لزوم الاحتياط.

وجملة «وقد انحل هاهنا» حالية ، أي : والحال أنه قد انحل العلم الإجمالي هاهنا إلى علم تفصيلي بما تضمنته الطرق والأصول ، والشك بدوي فيما عداها.

(١) هذا تقريب الانحلال ، وقد عرفت توضيحه. والأولى تبديل قوله إجمالا بعد «كذلك» ب «تفصيلا» بقرينة تصريحه بذلك في قوله : إلى علم تفصيلي وشك بدوي.

(٢) عطف على «بمقدار» يعني : أن مؤديات الطرق وموارد الأصول المثبتة ربما تكون أزيد من أطراف العلم الإجمالي بوجود الواجبات والمحرمات في المشتبهات. والمراد بالتكاليف المعلومة هي : المعلومة بالعلم الإجمالي الكبير الحاصل بمجرد الالتفات إلى الشريعة المقدسة.

(٣) أي : وحين العلم بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة للتكاليف «لا علم بتكاليف أخرى ...».

(٤) بيان «المثبتة».

(٥) هذا إشكال على الانحلال لوجود مانع منه. وهو سبق العلم الإجمالي بوجود

٢٠٨

.................................................................................................

______________________________________________________

تكاليف على العلم بثبوت الطرق والأصول المثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة.

توضيح هذا الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : أن العلم الإجمالي الصغير بالطرق والأصول المثبتة تارة : يكون سابقا عن العلم الإجمالي الكبير ، وهو العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية في الشريعة المقدسة ، وأخرى : يكون مقارنا له ، وثالثة : يكون لاحقا له.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن العلم الإجمالي الصغير وهو العلم الإجمالي بالطرق والأصول المثبتة وإن كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية في الشريعة إن كان سابقا أو مقارنا له ، فلا يلزم حينئذ رعاية الاحتياط في سائر الأطراف ؛ إلا إنه لا يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف الإلزامية إذا كان لاحقا ؛ لأن العلم الإجمالي الكبير بالأحكام قد أثر حينئذ في التنجيز بمجرد حدوثه ، فتجب رعاية جانب التكاليف المحتملة في المشتبهات التي ليست مؤديات للأمارات والأصول المثبتة بالاحتياط فيها ، ولا موجب لرفع اليد عنه فيها بمجرد قيام الأمارات على مقدار من الأحكام ؛ لتوقف الفراغ اليقيني من التكاليف المعلومة إجمالا على ترك المشتبهات في سائر الأطراف.

فلا بد في المقام من التفصيل بين كون العلم بمؤديات الأمارات وموارد الأصول سابقا على العلم الإجمالي الكبير بالأحكام أو مقارنا له ، وبين كونه لاحقا ، فإنه في صورة تقدمه أو مقارنته يمنع عن تأثير العلم الإجمالي الكبير في تنجيز التكاليف ، فلا يلزم رعاية الاحتياط في الشبهات ، وأما في صورة لحوقه له وتأخره عن العلم الإجمالي الكبير : فلا يؤثر في انحلاله له ؛ بل يلزم رعاية الاحتياط في سائر الأطراف أيضا.

فالمقام ـ من جهة التنجيز وعدم الانحلال ـ نظير ما ذكره الشيخ الأنصاري في خامس تنبيهات الشبهة المحصورة من أن الاضطرار إلى بعض الأطراف إن كان قبل العلم الإجمالي أو مقارنا له منع من تنجيزه بالنسبة إلى ما لا اضطرار إليه ، وإن كان بعده لم يمنع عنه ، فيتعين رعاية الاحتياط في سائر الأطراف.

والمتحصل : أن العلم الإجمالي بوجود التكاليف في الشريعة المقدسة لما كان سابقا على العلم بمؤديات الطرق وموارد الأصول لم ينحل به ؛ بل تجب رعاية الاحتياط فيها.

فحاصل الإشكال : إن العلم بالأحكام التي هي مؤديات الطرق وموارد الأصول وإن كان موجبا لانحلال العلم الإجمالي بالأحكام ، ولكن هذا الانحلال ليس مطلقا ؛ بل هو

٢٠٩

بها (١) مسبوقا بالعلم بالتكاليف.

قلت (٢) : إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا (٣) ، وأما إذا لم يكن كذلك (٤) ؛ بل مما ينطبق عليه ما علم أولا ، فلا محالة قد انحل العلم الإجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.

إن قلت (٥) : إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالإجمال ،

______________________________________________________

مشروط بما إذا لم يكن العلم بالتكاليف التي تضمنتها الطرق والأصول مسبوقا بالعلم الإجمالي بالتكاليف ، والمفروض : سبق العلم الإجمالي بها على العلم بما في الأمارات ، فلا ينحل به ؛ لأن انتفاء الشرط مستلزم لانتفاء المشروط.

(١) أي : بالتكاليف التي هي مؤديات أمارات وأصول معتبرة.

فالنتيجة هي : وجوب الاحتياط لتنجز التكاليف الواقعية بالعلم الإجمالي السابق.

(٢) هذا جواب الإشكال وحاصله : أن العلم الإجمالي السابق إنما لا ينحل بالعلم التفصيلي اللاحق إذا كان المعلوم بالعلم التفصيلي أمرا حادثا غير المعلوم بالإجمال ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بوقوع قطرة من البول في أحدهما ، ثم وقعت قطرة من الدم في أحدهما المعين ، فهاهنا لا ينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي اللاحق.

وأما إذا كان المعلوم بالتفصيلي اللاحق مما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال السابق ؛ كما إذا قامت البينة على نجاسة أحدهما بالخصوص ونحن نحتمل أن هذا هو عين ما علمناه إجمالا بنجاسته سابقا ، فحينئذ ينحل العلم الإجمالي بهذا العلم التفصيلي اللاحق ، والمقام من هذا القبيل ، فإن التكاليف التي قامت عليها الطرق والأصول المثبتة إن لم تكن هي عين المعلوم بالإجمال السابق فنحن نحتمل لا محالة أن تكون هي عينه ، فينحل العلم الإجمالي من أصله.

(٣) كما إذا علم إجمالا في الساعة الأولى بإصابة الدم لأحد الإناءين ، ثم علم في الساعة الثانية بوقوع قطرة من البول في أحدهما المعين كالإناء الأبيض مثلا ، ولا مجال للانحلال هنا ؛ لمغايرة سبب المعلوم بالإجمال لسبب المعلوم بالتفصيل ، واقتضاء كل من العلمين تكليفا يمتاز عن الآخر.

(٤) أي : لم يكن اللاحق حادثا آخر ـ يعني : تكليفا جديدا ـ بل كان متحدا مع السابق ، والسابق منطبقا عليه كالمثال الثاني ، فلا محالة قد ينحل العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.

(٥) هذا إشكال على ما ذكره من انطباق المعلوم الأول على مؤديات الطرق ،

٢١٠

ذلك (١) إذا كان قضية قيام الطرق على تكليف موجبا لثبوته (٢) فعلا.

______________________________________________________

وانحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي والشك البدوي.

وتوضيح هذا الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : أن في حجية الأمارات والطرق قولين : أحدهما : حجيتها من باب الطريقية.

وثانيهما : حجيتها من باب السببية والموضوعية ، والفرق بينهما : أن الأول عبارة عن جعل الحجية للأمارات ، بمعنى : ترتيب ما للطرق المعتبرة عليها من الآثار العقلية كالتنجيز في صورة الإصابة ، والتعذير في صورة الخطأ ؛ كما في القطع عينا ، غايته : أن الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية في القطع ذاتية ، وفي الأمارات مجعولة بجعل الشارع. هذا بخلاف الثاني أعني : حجية الأمارات من باب الموضوعية ؛ بأن تكون مؤدياتها أحكاما واقعية فعلية ، بمعنى : أن قيامها على وجوب شيء أو حرمة ذلك الشيء سبب لحدوث مصلحة نفسية في متعلق الحكم أو مفسدة كذلك ، وموجب لجعل حكم واقعي نفسي من وجوب أو حرمة على طبقها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الانطباق المذكور منوط باعتبار الأمارات من باب الموضوعية والسببية ؛ بأن تكون مؤدياتها أحكاما واقعية فعلية ـ كما هو مقتضى حجية الطرق بنحو السببية ـ فإنه يعلم حينئذ ثبوت التكاليف تفصيلا بقيام الطرق عليها ، فتكون دعوى انطباق الأحكام الواقعية المعلومة إجمالا على تلك المؤديات في محلها.

وأما بناء على اعتبارها بنحو الطريقية ـ كما هو مذهب المصنف في باب جعل الطرق ـ فلا يتم الانحلال أصلا ؛ وذلك لعدم العلم التفصيلي بالتكاليف في مؤدياتها حينئذ حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها ؛ لاحتمال خطئها ، ومع احتمال خطئها واقعا لا يقطع في مواردها بأحكام حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها ، فلا مجال لدعوى الانطباق مع كون التكليف الذي نهض عليه الطريق محتملا غير مقطوع به.

وعليه : فلا مجال للانحلال ، ولا بد من الاحتياط في المشتبهات.

وكيف كان ؛ فلا يكاد ينحل العلم الإجمالي السابق بقيام الطرق والأمارات ؛ إذ لا حكم مجعول في مواردها على طبق مؤدياتها ؛ كي توجب انحلال العلم الإجمالي السابق.

(١) أي : الانحلال ، وهو مفعول لقوله : «يوجب».

(٢) هذا الضمير وضمير «له» راجعان على التكليف.

٢١١

وأما (١) بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس (٢) إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ـ وهو (٣) تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه ـ فلا (٤) انحلال ؛ لما علم بالإجمال أولا كما لا يخفى.

قلت (٥) : قضية الاعتبار على اختلاف ألسنة أدلته وإن كانت ذلك على ما قوينا

______________________________________________________

(١) هذا عدل لقوله : «إذا كان ...» ، وضميرا «حجيته ، اعتباره» راجعان على الطريق.

(٢) خبر «أن قضية» ، يعني : بناء على أن مقتضى حجية الأمارة والطريق هو ترتيب الآثار العقلية المترتبة على القطع ـ من التنجيز والتعذير واستحقاق الثواب على الانقياد والعقاب على التجري ـ على الطريق غير العلمي لا يكون مفاد دليل الاعتبار جعل الحكم الظاهري على طبق المؤدى حتى يوجب الانحلال ؛ لعدم إمكان وجود حكمين فعليين لموضوع واحد ، أحدهما بمقتضى العلم الإجمالي ، والآخر بقيام الطريق.

(٣) الضمير راجع على الموصول في «ما للطريق». المراد به : الآثار العقلية الثابتة للقطع.

(٤) هذا جواب «وأما بناء». ووجه عدم الانحلال : ما عرفت من عدم حصول العلم ـ بناء على الطريقية ـ بأن مؤديات الطرق هي الأحكام الواقعية ؛ لاحتمال عدم إصابتها للواقع ، فالتكليف حينئذ محتمل لا معلوم. والتكليف المحتمل غير موجب للانحلال.

(٥) هذا جواب الإشكال. وتوضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة وهي : إن الانحلال على قسمين : أحدهما : هو الانحلال الحقيقي وثانيهما : هو الانحلال الحكمي. والفرق بينهما : أن الأول : هو زوال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي. والثاني : هو زوال أثر العلم الإجمالي وارتفاع حكمه من وجوب الاحتياط بقيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف ؛ وإن كان العلم الإجمالي باقيا على حاله.

وذلك لعدم اقتضاء الأمارة غير العلمية لارتفاع التردد والإجمال من البين. فالتكليف الفعلي هو مؤدى الأمارة فقط ، وبعد انحصار الأحكام المنجزة في دائرة الطرق والأمارات فلا مانع من جريان البراءة في سائر الأطراف.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مقتضى أدلة اعتبار الأمارات ؛ وإن كان هو الطريقية بمعنى : ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا ـ وهو العلم ـ من التنجيز والتعذير عليها ، دون الموضوعية أعني : ثبوت التكليف الفعلي ، ضرورة : أن مفاد «صدق العادل» هو البناء على أن ما أخبر به العادل هو الواقع وعدم الاعتناء باحتمال خلافه ، وليس مقتضاه حدوث مصلحة في المؤدى بسبب قيام الطريق عليه ؛ كي توجب جعل حكم على طبقها حتى

٢١٢

في البحث ؛ إلا إن نهوض الحجة على ما ينطبق المعلوم بالإجمال في بعض الأطراف ، يكون عقلا بحكم الانحلال ، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف

______________________________________________________

يتحقق الانحلال الحقيقي الذي هو زوال الصورة العلمية الإجمالية ، ضرورة : بقاء العلم الإجمالي بعد قيام الأمارة أيضا على حاله.

لكنا ندعي في المقام تحقق الانحلال الحكمي بمعنى : اقتضاء الأمارة غير العلمية انصراف التكليف المنجز بالعلم الإجمالي إلى خصوص الطرف الذي قامت عليه الأمارة ، فتجري البراءة في غيره من أطراف الشبهة.

وبعبارة أخرى : لما كان مقتضى تنزيل الأمارة غير العلمية منزلة العلم هو ترتيب أثر العلم ـ من التنجيز والتعذير ـ عليها ، فتكون الأمارة بمنزلة العلم في الآثار التي منها الانحلال ، فكما أن العلم التفصيلي بوجود التكليف في طرف معين يوجب انحلال العلم الإجمالي ، فكذلك قيام الأمارة على وجوده في أحد الأطراف بعينه يوجب انحلاله.

غاية الأمر : أن الانحلال في العلم حقيقي ؛ لتبدل العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي والشك البدوي ، وفي الأمارة حكمي بمعنى : ارتفاع حكم العلم الإجمالي ـ وهو وجوب الاحتياط ـ بقيام الأمارة على التكليف في طرف معين ؛ وإن كان العلم الإجمالي باق على حاله ؛ لعدم اقتضاء الأمارة غير العلمية لارتفاع التردد والإجمال من البين ، فلا مانع من جريان البراءة في سائر أطراف المشتبهة.

توضيح بعض العبارات :

ضمير «أدلته» راجع على الاعتبار والمراد من اختلاف ألسنة أدلة الاعتبار هو : وجوب العمل تعبدا كما عليه الشيخ «قدس‌سره» ، أو تتميم الكشف كما عليه بعض المحققين ، أو تنزيل المؤدى منزلة الواقع كما بنى عليه المصنف في بعض تنبيهات القطع.

ومن المعلوم : أن كلا من جعل الحجية المعبّر عنه بتتميم الكشف ، وتنزيل الأمارة منزلة العلم ، وجعل الأحكام الظاهرية الطريقية المعبر عنه بتنزيل المؤدى منزلة الواقع مما لا ينفك عن الآخر ، فيقع الكلام في أن المستفاد من الأدلة في مقام الإثبات أولا هل هو جعل الحجية كي يستلزمه جعل أحكام ظاهرية طريقية أو بالعكس؟ أي : المستفاد منها أولا هو جعل أحكام ظاهرية طريقية ، ويستلزمه جعل الحجية. والمشار إليه لقوله : «ذلك» هو : كون حجية الأمارات من باب الطريقية ومجرد ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا وهو العلم من التنجيز والتعذير على الطرق غير العلمية وهو غير موجب لانحلال العلم الإجمالي كما تقدم توضيحه.

٢١٣

والعذر (١) عما إذا كان في سائر الأطراف ، مثلا (٢) : إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين ، وقامت البينة على أن هذا إناؤه ، فلا ينبغي الشك في أنه (٣) كما إذا

______________________________________________________

قوله : «على ما قويناه في البحث» إشارة إلى ما تقدم في أوائل بحث الظن ، حيث قال : «لأن التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته ، والحجية المجعولة غير مستتبعة لإنشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق ؛ بل إنما تكون موجبة لتنجز التكليف به إذا أصاب ، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ ... كما هو شأن الحجة غير المجعولة».

قوله : «إلا إن نهوض ...» استدراك على قوله : «وإن كان ذلك».

وقوله : «في بعض الأطراف» متعلق ب «نهوض».

وضمير «عليه» راجع على الموصول المراد به التكليف ، يعني : أن قيام الحجة في بعض الأطراف على التكليف ، الذي ينطبق عليه المعلوم بالإجمال يكون عقلا بحكم الانحلال.

قوله : «وصرف تنجزه ...» عطف على «حكم الانحلال» وتفسير له ، وضمير «تنجزه» راجع على «المعلوم بالإجمال». والمراد بحكم الانحلال هو : صرف تنجز المعلوم بالإجمال إلى ما قامت عليه الحجة ، يعني : أن قيام الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالإجمال يكون عقلا صارفا لتنجّز المعلوم بالإجمال إلى ما قامت عليه من الأطراف فيما إذا صادف الواقع ؛ بأن كان ما قامت عليه الحجة هو المكلف به واقعا ، وموجبا للعذر ـ فيما إذا أخطأ ـ بأن كان المعلوم بالإجمال في غير ما قامت عليه الحجة ، مثلا : إذا علم إجمالا بخمرية أحد الإناءين ، ثم شهدت البينة بخمرية الإناء الأبيض مثلا ، فإن مقتضى دليل اعتبار البينة هو وجوب الاجتناب عن خصوص الإناء الأبيض ، والبناء على حصر الخمر الواقعي فيما قامت البينة على خمريته ، وانتقال المعلوم بالإجمال إليه ، فإذا ارتكبه وصادف كونه خمرا استحق العقوبة على مخالفة التكليف المنجز ، وإذا ارتكب الإناء الآخر وتبين أنه الخمر المعلوم بالإجمال كان معذورا في ارتكابه ؛ لعدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الخمر بالنسبة إلى هذا الطرف ، واختصاصه بالطرف الذي قامت عليه البينة.

(١) عطف على «صرف» ، وهو أثر آخر من آثار الحجة.

(٢) الغرض من هذا المثال : تنظير المقام به من جهة صرف التنجز إلى ما قامت عليه الحجة.

(٣) هذا الضمير راجع على قيام البينة ، وقوله : «كما إذا علم ...» خبر «أن» وضمير

٢١٤

علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر ، ولو لا ذلك (١) لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الأمارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية ، ضرورة (٢) : أنها تكون كذلك بسبب حادث ، وهو كونها مؤديات الأمارات

______________________________________________________

«أنه» الثاني راجع على الإناء الذي قامت البينة على أنه إناء زيد ، وضمير «إناؤه» في الموضعين راجع على زيد وضمير «خصوصه» راجع على «إناء زيد». يعني : لا شك في أن قيام البينة على أن هذا الإناء المعين هو إناء زيد كالعلم بأنه إناء زيد في لزوم الاجتناب عنه بخصوصه.

(١) يعني : لو لا ما ذكرناه من أن قيام الأمارات والطرق بناء على اعتبارها بنحو الطريقية يكون بحكم الانحلال ؛ لم يكن قيامها ـ بناء على اعتبارها بنحو السببية ـ مجديا في تحقق الانحلال الحقيقي ، فكأنه قال : لو لم يثبت الانحلال الحكمي بناء على الطريقية لم يثبت الانحلال الحقيقي بناء على السببية أيضا.

وغرضه من هذا الكلام : أنه لا بد عند قيام الأمارات والطرق على بعض الأطراف ـ بناء على الطريقية في اعتبارها ـ من الالتزام بالانحلال الحكمي ، وبصرف التنجز إلى ما قام الطريق التعبدي عليه ؛ إذا لو لم نلتزم بذلك ـ بناء على اعتبارها بنحو الطريقية ـ لم يكن قيامها على بعض الأطراف بناء على اعتبارها بنحو السببية أيضا مجديا في تحقق الانحلال الحقيقي الذي اعترف المستشكل بتحققه على مبنى السببية.

فالنتيجة : أنه لو لا الانحلال الحكمي ـ عند قيام الأمارة بنحو الطريقية ـ لم يتحقق الانحلال عند قيامها أصلا ، سواء قلنا باعتبارها بنحو السببية أم بنحو الطريقية. أما على الطريقية : فواضح ؛ لاحتمال خطأ الأمارة ، فلا يتحقق الانحلال. وأما على السببية : فلأن مقتضاها حينئذ وإن كان جعل مؤدياتها أحكاما فعلية ؛ إلا إن صيرورتها كذلك إنما هي بسبب حادث وهو قيام الطريق الموجب لحدوث مصلحة أو مفسدة في المؤدى توجب تشريع حكم على طبقها ، وهذا السبب ـ لمكان تأخره زمانا عن العلم الإجمالي ـ لا يقتضي انحلاله لا حقيقة ولا حكما ؛ لأنه حادث آخر غير المعلوم بالإجمال ، فاللازم على هذا : رعاية الاحتياط في جميع الأطراف كما بنى عليه المحدثون وقد تقدم في «إن قلت» الأول ما يوضح وجه عدم الانحلال بأكثر من هذا.

(٢) تعليل لقوله : «لما كان يجدي» ، وضمير «أنها» راجع على «المؤديات».

وقوله : «كذلك» يعني : أحكاما شرعية فعلية ، وقد عرفت وجه عدم الإجداء في الانحلال بقولنا : «وأما على السببية فلأن مقتضاها حينئذ وإن كان ...» الخ.

٢١٥

الشرعية (١).

هذا (٢) إذا لم يعلم ثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار (٣) المعلوم بالإجمال ؛ وإلا (٤) فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه (٥) بموارد تلك الطرق بلا إشكال كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) يعني : فكيف يصير هذا الحادث المتأخر موجبا لانحلال العلم الإجمالي المتقدم عليه المغاير له؟

(٢) يعني : أن ما ذكرناه من الانحلال الحكمي إنما يكون في صورة عدم العلم بإصابة الطرق للواقع ، واحتمال كل من الإصابة والخطأ فيها ، وإلا فمع العلم بإصابة مقدار من الأمارات مساو للمعلوم بالإجمال يكون الانحلال حقيقيا بلا إشكال.

وعليه : فملاك هذا الجواب دعوى انحصار التكاليف المعلومة إجمالا في موارد الأصول المثبتة ومؤديات الأمارات المعتبرة ، وهذا يوجب زوال العلم الإجمالي بتلك التكاليف ، فإذا علمنا إجمالا بوجود ألف حكم إلزامي مثلا في الشريعة المقدسة ، وظفرنا على هذا المقدار في الأمارات والأصول المثبتة كفى في الانحلال ، والكاشف عنه أن إخراج ما يساوي مقدار المعلوم بالإجمال ـ الذي ظفرنا به في الطرق المعتبرة ـ عن المحتملات ، يوجب زوال العلم الإجمالي حقيقة ، وصيرورته مجرى للأصل النافي السليم عن المعارض.

وقد تحصل من كلمات المصنف في جواب المحدثين : أن العلم الإجمالي ـ الذي استدلوا به على وجوب الاحتياط في الشبهات ـ منحل إما حقيقة بناء على كون مؤديات الطرق بمقدار المعلوم بالإجمال أولا ، والعلم بمطابقتها للواقع ثانيا. وإما حكما بناء على عدم العلم بإصابتها للواقع وإن كانت بمقدار المعلوم بالإجمال ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٩٧ ـ ٢٩٨».

(٣) متعلق ب «ثبوت».

(٤) أي : وإذا علم ثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق بمقدار المعلوم بالإجمال ؛ فلا إشكال في حصول الانحلال الحقيقي.

(٥) الضمير راجع على العلم الإجمالي ، و «بلا إشكال» خبر «فالانحلال».

وقوله : «وانحصار» عطف على «فالانحلال» ومفسر له ؛ إذ انحصار أطراف العلم الإجمالي بموارد الطرق لازم الانحلال.

٢١٦

وربما استدل بما قيل : من استقلال (١) العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية قبل

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط.

والفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم إنما هو لوجهين :

أحدهما : أن حكم العقل بوجوب الاحتياط على الوجه الأول كان بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل ، مع ملاحظة العلم الإجمالي بالتكاليف ، بخلاف حكمه به على هذا الوجه ، فإنه يكون إما بملاك قبح التصرف في مال الغير بدون إذنه ـ بناء على الحظر ـ أو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل بناء على الوقف ، فلا يكون حكمه به بلحاظ العلم الإجمالي بالتكاليف.

وثانيهما : أن الوجه المتقدم جار في كل شبهة بمقتضى تعميم متعلق العلم الإجمالي للشبهة الوجوبية والتحريمية ، بخلاف هذا الوجه فإنه مختص بالشبهة التحريمية.

وقبل توضيح الاستدلال بحكم العقل على هذا الوجه الثاني لا بأس بالإشارة إلى نزاع الحظر والإباحة في الأشياء ؛ لأن صحة الاستدلال بهذا الوجه على وجوب الاحتياط يتوقف على القول بالحظر في مسألة حكم العقل في الأشياء قبل الشرع فنقول : إنهم اختلفوا في حكم العقل بالجواز وعدمه فيما لا يستقل العقل بحسنه وقبحه من الأفعال غير الضرورية على أقوال ثلاثة :

الأول : أن الأصل في الأشياء التي لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها ولا مضطر إليها هو الحظر أي : المنع ، وأن العقل يحكم بعدم جوازها ما لم يرد رخصة من الشارع فيها ، ويعبر عنه بأصالة الحظر ، وذهب إليه طائفة من الإمامية ، ووافقهم عليه جماعة من الفقهاء ، ونظرهم في ذلك إلى أن الأشياء كلها مملوكة لله تعالى ، فلا يجوز التصرف فيها بدون إذنه ؛ لعدم جواز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه.

الثاني : أن الأصل فيها الإباحة ، وأن العقل يحكم بجوازها ما لم يصل من الشارع منع عنها ، ويعبر عنه بأصالة الإباحة ، وذهب إليه كثير من متكلمي البصريين وكثير من الفقهاء ، واختاره السيد المرتضى «قدس‌سره» ، ونظرهم في ذلك إلى أن كل ما يصح الانتفاع به ولا ضرر فيه عاجلا أو آجلا على أحد فهو حسن ؛ إذ ليس الضرر إلا مفسدة دينية أو دنيوية ، فلو كان فيه ضرر لوجب على القديم تعالى إعلامنا به ، وحيث لم يعلمنا به ـ حسب الفرض ـ علمنا إنه ليس فيه ضرر فهو حسن ، وحيث كان حسنا كان مباحا وهو المطلوب.

الثالث : أن الأصل فيها الوقف بمعنى : أنه لا حكم للعقل فيها لا بالحظر ولا بالإباحة

٢١٧

الشرع ، ولا أقل من الوقف وعدم (١) استقلاله لا به ولا بالإباحة ، ولم يثبت (٢) شرعا إباحة ما اشتبه حرمته ، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.

______________________________________________________

لبطلان ما استند إليه أصحاب القولين الأولين ، وذهب إليه كثير من الناس ، واختاره الشيخ المفيد والشيخ الطوسي «قدهما».

وقال الشيخ الطوسي في عدة الأصول في وجه بطلان القول بالإباحة ما لفظه : «قد ثبت في العقول : أن الإقدام على ما لا يأمن المكلف كونه قبيحا مثل إقدامه على ما علم قبحه».

إذا عرفت هذه الأقوال فاعلم : أن استدلال الأخباريين بأصالة الحظر على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية منوط بالقول بالحظر في تلك المسألة ، فكل فعل محتمل الحرمة ـ بلا اضطرار إليه ـ محكوم بالحرمة عقلا ، ولو لم نقل به فلا أقل من الوقف ، فيكون الإقدام على المشتبه كالإقدام على معلوم الحرمة ، فلا يجوز ارتكابه ، فشرب التتن المشكوك حكمه غير جائز بحكم العقل ، ومعه لا يتوجه الالتزام بإباحة ما لم ينهض دليل على حرمته ، وهنا كلام طويل تركناه رعاية للاختصار. هذا تلخيص ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٤٠٠ ـ ٤٠٢».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «قبل الشرع» ظرف لقوله : «استقلال العقل» ، يعني : فيثبت الحظر فيما بعد الشرع باستصحاب عدم تشريع الإباحة بناء على جريانه في العدم الأزلي ، ويمكن أن يراد بقوله : «قبل الشرع» القبلية في الرتبة ، فالمعنى : أن العقل ـ مع الغض عن الشرع ـ يستقل بالحظر ، فهو الحاكم به متى ما شك في تشريع الإباحة.

(١) عطف تفسيري على «الوقف» ، وضمير «به» راجع على الحظر.

(٢) إشارة إلى أن هذا الدليل العقلي مؤلف من مقدمتين :

إحداهما : ما أشار إليه بقوله : «من استقلال العقل بالحظر» ، وقد تقدمت.

ثانيتهما : ما أشار إليه هنا بقوله : «ولم يثبت شرعا ...» الخ ، ويكون وجه عدم ثبوت الإباحة شرعا إما عدم نهوض دليل عليها ، وإما ابتلاؤه بالمعارض ، فلا يجوز الارتكاب حينئذ إذ لا مؤمّن له عقلا ولا شرعا.

قوله : «فإن ما دل ...» الخ تعليل لقوله : «ولم يثبت» ، وقد عرفته أيضا.

٢١٨

وفيه أولا (١) : أنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف (٢) والإشكال ؛ وإلا لصح (٣) الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال (٤) على الإباحة.

وثانيا (٥) : أنه تثبت الإباحة شرعا ؛ لما عرفت : من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط للمعارضة لما دل عليها.

______________________________________________________

(١) أي : قد أورد المصنف «قدس‌سره» على هذا الوجه العقلي بوجوه ثلاثة :

أولها : ما أشار إليه بقوله : «إنه لا وجه للاستدلال ...» ، وهو راجع على منع المقدمة الأولى ، وهي استقلال العقل بالحظر.

وتقريب المنع : أن ما ذكرتم من كون الأصل في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع هو الحظر حتى يبني عليه وجوب الاحتياط في مسالة البراءة والاحتياط غير مسلم ، لما عرفت من أنه أحد الأقوال الثلاثة فيها ، فمسألة أصالة الحظر بنفسها محل الخلاف ، ولا وجه لابتناء وجوب الاحتياط على ما هو بنفسه محل الكلام ومورد النقض والإبرام.

ولو صح ذلك لصح الاستدلال بالقول الثاني في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع ـ وهو أصالة الإباحة ـ على البراءة في المقام ، فإن القائل بالبراءة في مشتبه الحكم استند ـ كما تقدم في بيان أدلته ـ إلى استقلال العقل بها ؛ لقبح العقاب بلا بيان ، وادعى أنها الأصل في الأشياء قبل الشرع.

(٢) وهو أن الأصل في الأشياء قبل الشرع هو الحظر أو الإباحة.

(٣) يعني : وإن صح للخصم الاستدلال بما هو محل الخلاف لصح لنا أيضا «الاستدلال ...» الخ.

(٤) أي : الأفعال غير الضرورية مما لا يدرك العقل حسنها أو قبحها.

(٥) هذا هو الوجه الثاني من وجوه إيراد المصنف على الوجه الثاني من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط ، وهو راجع على منع المقدمة الثانية منه ، وهي عدم ثبوت إباحة ما اشتبه حرمته ، فيقال في توضيحه : إن الإباحة ثابتة شرعا ؛ لما عرفت من عدم نهوض أدلة التوقف والاحتياط للمعارضة مع ما دل على البراءة ، وتقديم ما دل على البراءة عليها ؛ لما عرفت : من أخصية وأظهرية أدلتها من أدلة التوقف والاحتياط.

هذا مضافا إلى وجود القرائن الصالحة لصرف ظواهر أوامر الوقوف والاحتياط من المولوية إلى الإرشادية كما تقدم بيانه تفصيلا. وعليه : فالإباحة ثابتة شرعا لمجهول الحكم ، ولا تصل النوبة إلى أصالة الحظر على فرض تسليمها. وضمير «عليها» راجع على الإباحة والبراءة.

٢١٩

وثالثا (١) : أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة للقول بالاحتياط في هذه المسألة ؛ لاحتمال (٢) أن يقال معه بالبراءة لقاعدة (٣) قبح العقاب بلا بيان.

وما قيل (٤) : من «أن الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته كالإقدام على ما تعلم فيه

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الثالث من وجوه إيراد المصنف إلى الدليل العقلي الثاني ، وهو راجع على منع الملازمة بين المسألتين ، فيقال في توضيحه : إنه بعد تسليم عدم ثبوت الإباحة شرعا ـ لا ملازمة بين القول بالوقف في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع من الحظر والإباحة ، وبين القول بالاحتياط في مسألة البراءة ؛ بحيث يكون اختيار الوقف في تلك المسألة كافيا في ثبوت الاحتياط هنا ؛ وذلك لاختلاف المسألتين موضوعا ـ كما نسب إلى المصنف في بحثه الشريف ـ ضرورة : أن الموضوع في تلك المسألة فعل المكلف من حيث هو ، يعني : مع قطع النظر عن تشريع حكم له مجهول عند المكلف ، فيبحث هناك عن أن هذا الفعل من حيث هو هل يكون ـ في نظر العقل ـ محكوما بالإباحة أم بالحظر؟ بخلاف مسألة البراءة ، فإن الموضوع فيها هو فعل المكلف بما هو مجهول الحكم هل يحكم عليه شرعا بالإباحة أم بالاحتياط؟

(٢) تعليل لقوله : «لا يستلزم» ، وضمير «معه» راجع على «القول بالوقف في تلك المسألة».

(٣) تعليل لقوله : «أن يقال» ، يعني : من الممكن أن يكون القول بالبراءة مستندا إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان في هذه المسألة ، مع اختيار الوقف في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع من الإباحة والحظر.

(٤) هذا إشارة إلى قول شيخ الطائفة «قدس‌سره» في عدة الأصول.

وغرض المصنف من ذكر كلامه هنا هو : دفع توهم عدم جريان البراءة العقلية نظرا إلى كلام شيخ الطائفة ؛ بأن يقال في تقريب توهم عدم جريانها : إن احتمال التكليف يلازم احتمال المصلحة أو المفسدة بناء على ما هو الحق من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد ، وعليه : فمخالفة محتمل الحرمة توجب احتمال الضرر الناشئ من الملاك وهو المفسدة ؛ لأنها ضرر على المكلف ، ودفع الضرر المحتمل واجب فيجب ترك محتمل الحرمة ، ولا تصل النوبة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل واردة عليها.

وعليه : فهذا التوهم مؤلف من صغرى وهي : «أن ارتكاب محتمل الحرمة لكونه محتمل المفسدة ضرر كارتكاب معلوم الحرمة».

٢٢٠