دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

المفسدة ممنوع (١).

ولو قيل (٢) بوجوب دفع الضرر المحتمل : فإن (٣) المفسدة المحتملة في المشتبه ليس

______________________________________________________

وكبرى وهي : «أن كل ضرر يجب دفعه» ، فارتكاب محتمل الحرمة يجب دفعه ، ولا يتحقق دفعه إلا بتركه فيجب.

فالنتيجة : أن الإقدام على ارتكاب المشتبه حرام.

(١) خبر «وما قيل» ، وجواب عن التوهم المزبور.

وحاصل ما أفاده المصنف في الجواب عن هذا التوهم : هو وجهان : الأول منهما يرجع إلى منع الصغرى ، والثاني منها يرجع إلى منع الكبرى.

وحاصل الوجه الأول : أن الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد ؛ إلا إنهما ليستا راجعتين إلى المنافع والمضار حتى يكون احتمال المفسدة مساوقا لاحتمال الضرر ، واحتمال المصلحة مساوقا لاحتمال المنفعة ؛ بل قد تكون المصلحة منفعة وقد لا تكون ، بل قد يكون فيما فيه المصلحة ضرر على المكلف كالإحسان إلى الفقراء ، فإن مصلحته منوطة ببذل المال وهو ضرر ، وكذا المفسدة فقد تكون ضررا وقد لا تكون ؛ بل قد يكون فيما فيه المفسدة منفعة كسرقة الأموال.

وعليه : فاحتمال الضرر في مشتبه الحكم ضعيف لا يعتد به العقلاء ، ولا يحكم العقل بوجوب دفعه.

وحاصل الوجه الثاني : ـ وهو منع الكبرى ـ أنه بعد تسليم الصغرى ـ بأن يقال : إن المصلحة والمفسدة مساوقتان للمنفعة والمضرة ـ لا يجب الاجتناب عن كل ضرر ؛ بل قد يجب عقلا وشرعا تحمل بعض المضار مثل حكم العقل بوجوب بذل المال الكثير لإنقاذ مؤمن من الغرق. وحكم الشارع بوجوب ما يستلزم الضرر في المال أو النفس كالحج والجهاد مثلا ، هذا بالنسبة إلى الضرر المعلوم حيث وجب تحمله عقلا وشرعا ، فكيف بالمشكوك فإنه أولى بالتحمل؟

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٢) فلو لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فالمنع أولى.

(٣) تعليل لقوله : «ممنوع» ، وإشارة إلى منع الصغرى ؛ إذ لا ملازمة بين الضرر والمفسدة ، فإن في عدم إعطاء الزكاة مفسدة ، وليس فيه ضرر ، وفي بذل المال للفقراء مصلحة وليس فيه نفع.

٢٢١

بضرر غالبا ، ضرورة (١) : أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الأحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار ؛ بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر (٢) ، والمفسدة فيما فيه المنفعة (٣) ، واحتمال (٤) أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا.

مع أن (٥) الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا ؛ بل يجب ارتكابه (٦) أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره ، مع القطع به فضلا عن احتماله.

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها :

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم كون المفسدة ضررا غالبا.

(٢) كدفع الزكاة.

(٣) كسرقة أموال الغير.

(٤) مبتدأ خبره قوله : «ضعيف» ، وهو تتمة للمطلب المتقدم ، أعني : عدم كون المفسدة المحتملة في المشتبه ضررا غالبا ، فاحتمال ضرر في المشتبه ضعيف غالبا ؛ بحيث لا يعتنى به قطعا ؛ لأن إحراز الصغرى في ترتيب حكم الكبرى عليها مما لا بد منه.

(٥) إشارة إلى الوجه الثاني من الجواب ، وهو يرجع إلى منع الكبرى.

وقد تقدم توضيح المنع.

وكيف كان ؛ فوجوب دفع الضرر عقلا إنما يكون فيما إذا تعلق الغرض بدفعه ، وأما إذا تعلق بعدم دفعه كما في فرض مزاحمته لما هو أهم منه فلا يستقل العقل حينئذ بلزوم دفعه.

(٦) هذا الضمير وضميرا «به ، احتماله» راجعة على الضرر ، والمراد بالموصول في «فيما» المورد الضرري ، وضمير «عليه» راجع على الموصول في «فيما» ، وضمير «نظره» راجع على الشارع. والمراد بالموصول في «مما» المصلحة ، وضمير «ضرره» راجع على المورد الضرري ، والمعنى : أنه يجب ارتكاب الضرر أحيانا في المورد الضرري الذي يكون الأثر المترتب على ذلك المورد أهم في نظر الشارع من المصلحة الموجودة في الاحتراز عن ضرر ذلك المورد ؛ كبذل المال ، فإنه ضرر لكن يجب ارتكابه أحيانا في بعض الموارد كتحصيل الطهارة المائية ؛ لأن الأثر المترتب على بذل المال في هذا المورد الضرري أهم في نظر الشارع من مصلحة إمساك المال وترك بذله. وفي بعض الحواشي : جعل مرجع الضمير في «نظره» العقل لا الشارع.

وضميرا «به ، احتماله» راجعان على الضرر.

وكيف كان ؛ فما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٤ ص ٣١١» ـ لا يخلو عن فائدة

٢٢٢

.................................................................................................

______________________________________________________

بالنسبة المحصلين حيث قال : «فمثلا : كان في السفر ضرر خسارة أجرة الطريق لكن كان ترك هذا السفر موجبا لسرقة اللص أمواله ؛ بحيث كان الضرر المتوجه عليه من ارتكاب السفر الضار لا يعد شيئا بالنسبة إلى الضرر المتوجه إليه في تركه ، فإن العقل يوجب ارتكاب ذلك الضرر المتيقن فرارا عن ضرر أكثر ، فكيف إذا كان الضرر محتملا لا متيقنا؟ وما نحن فيه كذلك ، فإن ضرر العسر والحرج الناشئ من اجتناب المشتبهات أكثر من ضرر المشتبه حتى لو قطعنا بضرره ، فكيف بما لو احتملنا ضرره كما هو الغالب؟

وبهذا كله تحقق أن الأصل في المشتبه البراءة مطلقا من غير فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية والوجوبية والتحريمية إلا ما خرج بالدليل ، أو لم يشمله دليل البراءة كالشبهات البدوية الحكمية قبل الفحص ، والشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي ، والشبهة في الأمور المهمة كالدماء والأموال والفروج ؛ بل والشبهة البدوية الموضوعية قبل الفحص».

وتفصيل الكلام في هذه الموارد موكول إلى محله.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ قد قرر الدليل العقلي على وجوب الاحتياط بوجهين :

أما توضيح الوجه الأول منهما فيتوقف على مقدمة ، وهي مؤلفة من صغرى وجدانية ، وكبرى برهانية.

والصغرى : أن كل مكلف بمجرد التفاته يعلم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة في موارد الشك في الوجوب والحرمة.

والكبرى هي : استقلال العقل بتنجز التكاليف الشرعية بالعلم الإجمالي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد تقرر في محله : وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي من فعل كل ما احتمل وجوبه وترك كل ما احتمل حرمته ؛ لأن العلم بالاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية.

وحاصل جواب المصنف عن هذا الوجه : هو انحلال العلم الإجمالي حقيقة أو حكما ، والأول : عبارة عن زوال العلم الإجمالي. والثاني : أن لا يكون العلم الإجمالي منجزا للتكليف كما في موارد الطرق والأمارات.

٢ ـ الإشكال على الانحلال بوجود مانع : وهو سبق العلم الإجمالي بوجود

٢٢٣

.................................................................................................

______________________________________________________

تكاليف كثيرة على العلم بثبوت الطرق والأصول المثبتة للتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة بالعلم الإجمالي السابق ، فيؤثر العلم الإجمالي السابق في تنجز التكاليف المعلومة به ، ولازم ذلك : وجوب الاحتياط في غير موارد الطرق والأصول المثبتة من موارد الشك في التكليف وهو المطلوب مدفوع ؛ بأن العلم الإجمالي السابق يؤثر في وجوب الاحتياط إذا كان المعلوم بالعلم اللاحق أمرا حادثا غير المعلوم بالعلم الإجمالي كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين بوقوع قطرة من البول في أحدهما ، ثم وقعت قطرة من الدم في أحدهما المعين ، فلا ينحل العلم الإجمالي السابق بالعلم التفصيلي اللاحق.

وأما إذا كان المعلوم بالعلم التفصيلي اللاحق مما ينطبق عليه المعلوم بالعلم الإجمالي السابق ، كما إذا قامت البينة على نجاسة أحدهما بالخصوص ـ في المثال المذكور ـ ونحن نحتمل أن هذا هو عين ما علمناه إجمالا بنجاسته سابقا ، فينحل العلم الإجمالي السابق بالعلم التفصيلي اللاحق ، والمقام من هذا القبيل ، فإن التكاليف التي قامت عليها الطرق والأصول المثبتة إن لم تكن هي عين المعلوم بالإجمال السابق فنحن نحتمل لا محالة أن تكون هي عينه ، فينحل العلم الإجمالي من أصله.

٣ ـ الإشكال على الانحلال : بأن الانحلال مبني على الانطباق أي : انطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الأول على مؤديات الطرق. والانطباق المذكور مبني على القول بحجية الأمارات والطرق من باب السببية. وأما على القول بحجيتها من باب الطريقية كما هو الحق عند المصنف «قدس‌سره» فلا يتم الانحلال بانطباق المعلوم بالعلم الإجمالي الأول على مؤديات الأمارات ؛ وذلك لاحتمال خطئها ، ومع هذا الاحتمال لا يقطع في مواردها بأحكام حتى ينطبق المعلوم بالإجمال عليها ، فلا مجال حينئذ لدعوى الانطباق ؛ وذلك لكون التكليف الذي نهض عليه الطريق محتملا لا مقطوعا به.

وعليه : لا بد من الاحتياط في المشتبهات مدفوع ؛ بأن الانحلال الحقيقي وإن كان غير حاصل إلا إن الانحلال الحكمي بمعنى اقتضاء الأمارة غير العلمية انصراف التكليف المنجز بالعلم الإجمالي إلى خصوص الطرف الذي قامت عليه الأمارة قد يكون حاصلا ، فنجري البراءة في غير مورد الأمارة من أطراف الشبهة وهو المطلوب.

٤ ـ تقريب الوجه الثاني من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط : أن الأصل في الأشياء التي لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها قبل الشرع هو الحظر والمنع ، فيجب الاحتياط في الشبهات الحكمية التحريمية ، فكل فعل محتمل الحرمة محكوم بالحرمة

٢٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

عقلا ، فشرب التتن المشكوك حكمه غير جائز عقلا.

٥ ـ وقد أجاب ـ عن هذا الوجه ـ المصنف بوجوه :

الأول : أن مسألة الحظر في الأشياء قبل الشرع محل الخلاف والإشكال ، ولا يصح الاستدلال بما هو محل الخلاف ، ولو صح ذلك لصح الاستدلال بالقول بالإباحة في حكم الأشياء قبل الشرع على البراءة في المقام.

الثاني : أن الإباحة ثابتة شرعا لما عرفت من تقديم أدلة البراءة على أدلة الاحتياط والتوقف للأخصية والأظهرية. هذا مضافا إلى القرائن الصالحة لصرف ظواهر أوامر التوقف والاحتياط من المولوية إلى الإرشادية.

الثالث : أنه بعد تسليم عدم ثبوت الإباحة شرعا لا ملازمة بين القول بالحظر أو التوقف في مسألة حكم الأشياء قبل الشرع وبين القول بالاحتياط في هذه المسألة ؛ لاختلاف المسألتين موضوعا ؛ لأن الموضوع في تلك المسألة هو فعل المكلف من حيث هو ، مع قطع النظر عن تشريع حكم له مجهول عند المكلف ، بخلاف هذه المسألة فإن الموضوع فيها هو فعل المكلف بما هو مجهول الحكم.

٦ ـ وما قيل : من توهم عدم جريان البراءة العقلية في المقام لأجل كون التكليف ملازما لاحتمال المصلحة أو المفسدة ، فاحتمال الحرمة في الشبهة التحريمية ملازم لاحتمال الضرر وهو المفسدة ، ودفع الضرر المحتمل واجب عقلا ، فيجب ترك محتمل الحرمة ولا تجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لأن قاعدة دفع الضرر المحتمل واردة عليها ؛ مدفوع بوجهين :

الأول : أن الأحكام وإن كانت تابعة للمصالح والمفاسد إلا إنهما ليستا راجعتين إلى المنافع والمضار حتى يحتمل الضرر في محتمل الحرمة كي يجب دفعه بحكم العقل.

الثاني : أنه بعد تسليم كون المفسدة ملازمة للضرر يقال : بعدم وجوب دفع كل ضرر ؛ بل قد يجب شرعا وعقلا تحمل المضار مثل : حكم العقل ببذل المال الكثير لإنقاذ مؤمن من الغرق ، وحكم الشرع بالحج والجهاد مع ما فيهما من الضرر في المال والنفس ، فإذا جاز ارتكاب الضرر المقطوع كما في الأمثلة المذكورة لجاز ارتكاب الضرر المحتمل في محل الكلام بطريق أولى.

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

عدم تمامية الاستدلال بالدليل العقلي على وجوب الاحتياط.

٢٢٥

الأول (١) : إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل

______________________________________________________

في تنبيهات البراءة

(١) الغرض من عقد الأمر الأول : هو بيان شرط من شروط جريان أصالة البراءة وهو عدم وجود أصل موضوعي حاكم أو وارد عليها ، فأصل البراءة إنما يجري فيما إذا لم يكن أصل موضوعي في مورده ؛ لأن الأصل الجاري في الموضوع يتقدم على الأصل الجاري في الحكم بالحكومة كما يقول الشيخ به أو بالورود ، كما هو مختار المصنف.

وتوضيح ما هو المراد من الأصل الموضوعي يتوقف على مقدمة وهي : أن الأصل الموضوعي وإن كان يطلق بحسب الاصطلاح على الأصل الجاري في الموضوع لإحراز حكمه ؛ كاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلا فإنه رافع لموضوع أصالة الحل فيه ؛ إلا أن المراد منه في المقام ليس ما هو المصطلح ؛ بل هو مطلق الأصل الذي يكون رافعا لموضوع الأصل الآخر ، سواء كان جاريا في الموضوع كالمثال المذكور ، أو في الحكم كاستصحاب حرمة الوطء عند الشك في جوازه بعد حصول النقاء ، وقبل اغتسال المرأة عن الحيض. فاستصحاب حرمة الوطء مقدم على أصالة الإباحة الحكمية من باب الحكومة أو الورود ؛ لأن الحكم بالحلية عند الشك فيها وفي الحرمة إنما يصدق إذا لم يرد من الشارع تعبد بأحد طرفي الشك ، ومعه لا شك في الحرمة الظاهرية.

وبعبارة واضحة : أن الشك في حلية الوطء وحرمته ناش عن الشك في بقاء الحرمة السابقة وعدمه ، فمع الأمر بالبقاء والنهي عن النقض لا شك في الحكم حتى يتمسك بأصالة الحلية.

وكيف كان ؛ فإن موضوع أصل البراءة عقلا هو عدم البيان ، والأصل الموضوعي بيان يرتفع به موضوع أصل البراءة عقلا وموضوع أصل البراءة شرعا هو الشك قد يرتفع تعبدا بالأصل ، فيكون الأصل السببي من مصاديق الأصل الموضوعي ؛ لأنه حاكم على الأصل المسببي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما أفاده المصنف من أن جريان أصالة البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي كالبراءة في شرب التتن مثلا حيث لا يكون في موردها أصل موضوعي ، وإلا فالأصل الموضوعي يكون بيانا عقلا وحجة شرعا ، فيكون رافعا للشك ولو تعبدا ، فيتقدم على أصالة البراءة بالحكومة أو الورود على خلاف ، من دون فرق بين أن تكون الشبهة حكمية كاستصحاب حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال ، فيما إذا شك في جواز الوطء ، أو تكون الشبهة موضوعية

٢٢٦

.................................................................................................

______________________________________________________

كاستصحاب خمرية مائع فيما إذا شك في انقلابه خلا ، فإن الاستصحاب في الأول يمنع عن التمسك بأصالة البراءة ، وفي الثاني رافع لموضوع البراءة فيتقدم على أصالة البراءة في كلا الموردين.

وكيف كان ؛ فالضابط هو : أن كل مورد جعل الشارع للحكم بالحلية سببا خاصا كالأموال والفروج واللحوم ، حيث جعل سبب حلية الأموال الملكية ، والفروج النكاح ، واللحوم التذكية ، فإذا شك في حلية هذه الأمور لأجل الشك في تحقق أسبابها لا تجري أصالة الحلية والبراءة ؛ لأجل وجود أصل موضوعي حاكم أو وارد عليها ، وهو أصالة عدم تحقق السبب في كل واحد منها.

ثم يتفرع على الضابط المذكور جريان أصالة عدم التذكية والحكم بالحرمة والنجاسة فيما إذا شك في حلية لحم حيوان من جهة الشك في قبوله التذكية ؛ لأن من شرائط التذكية قابلية المحل لها ، وهي مشكوكة بالفرض ، فتجري أصالة عدم التذكية ، وحينئذ : لا مجال لأصالة البراءة.

وحاصل الكلام في المقام : أن أصل المطلب بنحو الكلية معلوم لا كلام فيه ، وإنما الكلام في الفرع المذكور في المسألة وهو ما إذا شك في حلية حيوان لأجل الشك في التذكية ، فهل تجري أصالة عدم التذكية ؛ كي لا يكون مجال لأصالة البراءة أو لا تجري؟ وكيف كان ؛ فإن المشهور مثلوا في المقام بأصالة عدم التذكية عند الشك فيها ، فحكموا بتقدمها على أصالة الطهارة والحل.

وبما أن المسألة مفيدة جدا فلا بد من بسط الكلام في توضيحها فنقول : إن توضيحها يتوقف على مقدمة وهي مشتملة على أمور تالية :

١ ـ بيان صور المسألة وأقسامها.

٢ ـ بيان ما هو المقصود من التذكية شرعا.

٣ ـ بيان ما هو موضوع الحرمة والنجاسة.

وأما صور المسألة فهي : أن الشك في الحرمة لا يخلو عن أحد احتمالين :

أحدهما : أن تكون الشبهة فيه حكمية.

وثانيهما : أن تكون موضوعية.

وأما أقسام الشبهة الحكمية فهي أربعة.

١ ـ أن يكون الشك في الحلية من غير جهة التذكية وعدمها ، وإنما هو من جهة عدم

٢٢٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الدليل على الحلية كالشك في لحم الحمار فرضا ، والمرجع فيه أصالة الحلية لكون التذكية محرزة بالوجدان ، فيحكم بالحلية ما لم تثبت الحرمة.

٢ ـ أن يكون الشك في الحلية لأجل الشك في قابلية الحيوان للتذكية ؛ كالحيوان المتولد من الشاة والخنزير ، من دون أن يصدق عليه اسم أحدهما ، ولم يكن له مماثل مما يقبل التذكية أو لا يقبلها ، فالمرجع فيه أصالة عدم التذكية ؛ لأن القابلية إما جزء لها أو قيد ، وعلى كل تقدير : فلا يفيد قطع الأوداج مع سائر شرائط التذكية إلا إذا وقع على حيوان قابل للتذكية ، ومع الشك فيها يستصحب عدم التذكية إلا أن يكون هناك عموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية إلا ما خرج بالدليل كالخنزير مثلا ، فحينئذ يحكم بالحلية بعد وقوع التذكية عليه ؛ إذ مع وجود الدليل الاجتهادي ـ كالعموم ـ لا تجري أصالة عدم التذكية.

٣ ـ أن يكون الشك في الحلية ناشئا من جهة الشك في اعتبار شيء في التذكية ، كما إذا شك في اعتبار كون الذبح مشروطا بآلة من الحديد وعدمه مثلا ، والمرجع فيه أصالة عدم التذكية فيما إذا تم الذبح بغير الحديد ؛ للشك في تحقق التذكية فيحكم بالحرمة.

٤ ـ أن يكون الشك في الحلية بعد العلم بالتذكية من جهة مانع عن تأثيرها في الحلية ؛ كعروض الجلل للحيوان ، والمرجع فيه أصالة عدم المانعية ، فيحكم بالحلية. هذا تمام الكلام في أقسام الشبهة الحكمية.

وأما أقسام الشبهة الموضوعية فهي أيضا أربعة :

١ ـ ما كان الشك فيه ناشئا من جهة احتمال عدم وقوع التذكية لأجل الشك في أصل تحقق الذبح ، أو لاحتمال اختلال بعض الشرائط ؛ ككون الذابح مسلما أو كون الذبح بالحديد أو غيرهما ، مع العلم بكون الحيوان قابلا ، والمرجع فيه هو : أصالة عدم التذكية فيحكم بالحرمة.

٢ ـ ما كان الشك في الحلية ناشئا من جهة دوران اللحم بين كونه من حيوان مأكول اللحم ، وبين كونه من غيره ، بعد العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية ووقوعها عليه مع الشرائط ، كما إذا لم يعلم أنه من الشاة أو الأرنب ، فالمرجع فيه هو أصالة الحلية ، وذلك للعلم بالتذكية ، واحتمال الحرمة يرتفع بأصالة الحلية.

٢٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ ما كان الشك في الحلية ناشئا من جهة احتمال عدم قبول الحيوان للتذكية ذاتا بعد العلم بوقوع الذبح الجامع للشرائط عليه ، كما لو تردد المذبوح بين كونه شاة أو كلبا من جهة الظلمة مثلا ، فالمرجع فيه أصالة الحلية إذا قلنا بعموم يدل على قابلية كل حيوان للتذكية ، أو قلنا بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي ؛ كاستصحاب عدم الكلبية في المقام مثلا.

وأما إذا منعنا عن كلا الأمرين أو عن أحدهما : فإن قلنا : بأن التذكية أمر وجودي بسيط مسبب عن الذبح الجامع للشرائط ، فالمرجع هو استصحاب عدم التذكية ، فيحكم بالحرمة. وأما إذا قلنا : بأن التذكية عبارة عن نفس الفعل الخارجي : فالمرجع هو أصالة الحلية للقطع بتحقق التذكية.

٤ ـ ما كان الشك في الحلية ناشئا من جهة احتمال طرو عنوان مانع عن التذكية ؛ كالجلل في الشاة مثلا بعد العلم بكون الحيوان قابلا للتذكية ذاتا ، والعلم بوقوعها عليه ، ومرجعه إلى أصالة الحلية لأصالة عدم طرو مانع عن التذكية ، فتثبت التذكية بضم الوجدان وهو الذبح الجامع للشرائط إلى الأصل المذكور ؛ كما في «دروس في الرسائل ، ج ٢ ، ص ٤٠٥».

هذا تمام الكلام في صور المسألة وأحكام تلك الصور والأقسام.

وأما الأمر الثاني ـ وهو بيان ما هو المقصود من التذكية شرعا ـ فالتحقيق : أن التذكية بمفهومها العرفي وإن كانت عبارة عما يساوق النزاهة والنظافة والطهارة ؛ إلا إنها شرعا في محل الكلام تدور بين أمور :

١ ـ أن تكون أمرا بسيطا مسببا من الأمور التالية :

أ ـ فري الأوداج.

ب ـ وكونه بالحديد.

ج ـ وقابلية الحيوان للذبح.

د ـ مستقبلا إلى القبلة.

ه ـ كون الذبح بالتسمية.

و ـ كون الذابح مسلما.

٢ ـ أن تكون أمرا انتزاعيا ينتزع من هذه الأمور ، دون أن يكون له واقعية وراء منشأ انتزاعه.

٢٢٩

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ أن تكون مركبة من هذه الأمور في حال الاجتماع.

٤ ـ أن تكون عبارة عن فري الأوداج مشروطة بالأمور الخمسة الباقية.

إذا عرفت هذه الاحتمالات في التذكية فاعلم : أنه لا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية على المعنى الأول في صورة الشك في تحقق التذكية ؛ لأن الشك فيها يرجع إلى الشك في حصول ذلك الأمر البسيط وعدمه.

ولا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الثالث إلا من باب أصل العدم الأزلي ؛ لأن الجزء الأول والثاني والرابع والخامس والسادس حاصل بالوجدان ، والجزء الثالث ـ وهو القابلية ليس عدمه متيقنا في السابق إلا من باب العدم الأزلي ، فتجري حينئذ أصالة الطهارة بلا مانع ، بناء على القول بعدم حجية أصل العدم الأزلي.

ولا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الرابع ؛ إذ مقتضى الشك في بعض ما يعتبر في التذكية عدم تحققه.

وأقرب الاحتمالات هو الاحتمال الرابع.

والاحتمالان الأولان بعيدان عن الفهم العرفي ، ولعل من ذهب إلى أن التذكية أمر بسيط أو منتزع خلط التذكية «بالذال» بالتزكية «بالزاء» ، فكون الثاني أمرا بسيطا أو منتزعا أمر محتمل ، وأما الأول فالظاهر هو الذبح وفري الأوداج الوارد على حيوان قابل ، غير أن الشارع شرط هنا شرائط والتذكية بمعنى الذبح وفري الأوداج أمر عرفي كان قبل الإسلام وبعده ، غير أن الإسلام أضاف شروطا ، ولذلك يصح الرجوع إلى إطلاق أدلة التذكية لنفي اعتبار الأمر المشكوك ، خلافا لمن لم يجعلها أمرا عرفيا كالمحقق الخوئي «قدس‌سره» ؛ كما في «المحصول في علم الأصول ، ج ٣ ، ص ٤٣٥» مع تصرف ما.

هذا تمام الكلام في الأمر الثاني من المقدمة.

بقي الكلام في الأمر الثالث وهو : بيان ما هو موضوع الحرمة والنجاسة والأقوال فيه ثلاثة :

قول : بأن موضوع الحرمة والنجاسة أمر وجودي ، وهو الميتة لازمة لعدم التذكية.

وقول : بأنه أمر عدمي وهو غير المذكى.

وقول : بالتفصيل بين الحرمة والنجاسة ، فموضوع الحرمة أمر عدمي ، وموضوع النجاسة أمر وجودي.

فإذا كان موضوع الحرمة أمرا وجوديا لم تنفع أصالة عدم التذكية ـ على تقدير

٢٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

جريانها ـ في إثبات الحرمة ؛ إلا بناء على الأصل المثبت. وأما على القول الثاني : فتترتب الحرمة على أصل عدم التذكية ؛ إذ ترتب الحرمة على أصالة عدم التذكية حينئذ يكون من قبيل ترتب الحكم على موضوعه. هذا تمام الكلام في الأمر الثالث.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فنعود إلى كلام المصنف في هذه المسألة.

فنقول : إن المصنف لم يذكر جميع صور المسألة ، بل أشار إلى بعض صورها وهي خمسة من الثمانية ، وهي ثلاث صور من الشبهة الحكمية ، وصورتان من الشبهة الموضوعية.

وأما صور الشبهة الحكمية فهي الثلاثة من الأربعة أعني : الصورة الأولى والثانية والرابعة.

والصورة الأولى : ما إذا كان الشك في مقدار قابلية الحيوان للتذكية بعد العلم بأصلها بمعنى : أنه لا يعلم بأن المترتب عليها هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية ، وقد عرفت : أن المرجع فيها أصالة الحلية.

الصورة الثانية : ما إذا كان الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية ، وأنه خلق قابلا لها أم لا؟ وقد عرفت : أن المرجع فيها هو الأصل الموضوعي أعني : استصحاب عدم التذكية ، فيحكم بنجاسته وحرمة لحمه.

الصورة الرابعة : ما إذا كان الشك في بقاء القابلية ؛ لاحتمال ارتفاعها ببعض ما طرأ على الحيوان كالجلل ، وقد عرفت : أن المرجع فيها أصالة عدم المانعية ، أو استصحاب بقاء القابلية ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه. هذا كله في صور الشبهة الحكمية.

وأما صورتا الشبهة الموضوعية ، وهما الصورة الأولى والرابعة وقد عرفت : أن المرجع في الصورة الأولى هو أصالة عدم التذكية ، فيحكم بالحرمة ، وفي الصورة الرابعة هو أصالة الحلية لأصالة عدم طرو عنوان مانع عن التذكية. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

وأما الأمر الثاني ـ أعني ما هو المقصود من التذكية ـ فظاهر كلام المصنف «قدس‌سره» أن التذكية عبارة عن فري الأوداج مع الشرائط التي منها قابلية المحل ، حيث قال : «بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج مع سائر شرائطها».

وأما الأمر الثالث ـ أعني ما هو موضوع الحرمة والنجاسة ـ فظاهر كلامه : أن موضوعهما كل واحد من الميتة وغير المذكي ، بمعنى : أن الحرمة والنجاسة كما تترتبان

٢٣١

موضوعي مطلقا (١) ولو كان (٢) موافقا لها ، فإنه (٣) معه لا مجال لها أصلا ...

______________________________________________________

على الميتة تترتبان على غير المذكى ؛ إذ الخارج عن موضوعهما هو المذكى فقط.

وعلى هذا : لا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا في ترتيب أثري الحرمة والنجاسة كما صنعه الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، فالميتة عنده ليست وجودية ؛ بل هي عدمية أي : لم يذك وإنما قال المصنف بعدم الحاجة إلى ما صنعه الشيخ ؛ لضرورة : كفاية كون عنوان عدم التذكية مثل عنوان الميتة حكما ، فهما في حكم الشارع بالنجاسة والحرمة سواء ، ولا حاجة إلى إدراج أحد الموضوعين في الموضوع ـ كما فعله الشيخ «قدس‌سره».

هذا غاية ما يمكن في توضيح هذه المسألة على نحو الاختصار ، وهناك كلام طويل جدا تركناه رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أي : سواء كان الأصل الموضوعي موافقا للبراءة أو مخالفا لها.

(٢) بيان للإطلاق. والمقصود : أن عدم جريان أصالة البراءة فيما إذا كان المورد مجرى للأصل الموضوعي لا يختص بما إذا كان مفاد أصالة البراءة منافيا لما يقتضيه الأصل الموضوعي ، كما إذا اقتضى الاستصحاب خمرية مائع شك في انقلابه خلا المستلزمة لحرمته ، واقتضى أصالة البراءة جواز شربه ؛ بل لا تجري البراءة حتى إذا كان مفادها موافقا للأصل الموضوعي الجاري في موردها كجريان الاستصحاب في حلية مائع شك في انقلابه خمرا ، فإن لازم مفاده ـ وهو حلية الشرب ـ وإن كان موافقا لمفاد أصالة البراءة ؛ لكنها لا تجري أيضا بعد جريان الأصل الموضوعي المحرز للموضوع.

ففي كل مورد جرى فيه أصل موضوعي لم يجز إجراء البراءة.

والوجه فيه : أن الأصل الموضوعي ، يخرج الموضوع عن كونه مشكوكا ؛ إذ هو في حكم العلم ، فكما أنه لا تجري البراءة مع العلم لا تجري مع جريان أصل موضوعي ، ولو كان موافقا لها ؛ بأن كانت البراءة والأصل الموضوعي كلاهما يحكمان بالإباحة.

(٣) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لاشتراط جريان أصالة البراءة بعدم وجود الأصل الموضوعي.

وجه الاشتراط : هو كون الأصل الموضوعي واردا على أصالة البراءة.

فمع وجود الأصل الموضوعي لا مجال للبراءة أصلا.

٢٣٢

لوروده (١) عليها كما يأتي تحقيقه (٢) ، فلا تجري (٣) مثلا (٤) أصالة الإباحة في حيوان

______________________________________________________

(١) أي : الأصل الموضوعي «عليها» أي : على البراءة ، ومعنى الورود : هو رفع موضوع البراءة شرعا ؛ إذ موضوع البراءة هو الشك والأصل الموضوعي يرفع الشك.

(٢) أي : يأتي تحقيق الورود في خاتمة الاستصحاب إن شاء الله تعالى.

(٣) هذا شروع في بيان ما يتفرع على عدم جريان البراءة مع الأصل الموضوعي. ثم إن المصنف أراد أن يمثل لعدم جريان البراءة في مورد جريان الأصل الموضوعي بمسألة الشك في التذكية.

وقد عرفت صور المسألة وهي ثمانية ؛ إلا إن المصنف «قدس‌سره» أشار إلى خمسة منها.

وتوضيح ما ذكره المصنف «قدس‌سره» : أن الشك في ذكاة الحيوان تارة : يكون لأجل الشك في نفس الحكم ، فالشبهة حكمية وأخرى : لأجل الشك في متعلقه ، بعد العلم بنفس الحكم ، فالشبهة موضوعية.

والأول : قد يكون للشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية ، مع العلم بأن قابليته لها شرط لتأثير الأفعال المخصوصة في طهارته فقط كالأرنب والثعلب ، أو في طهارته وحلية لحمه كالغنم والبقر ، وقد يكون للشك في مقدار قابليته لها بعد إحراز أصل القابلية ؛ كما إذا علمنا أن التذكية تؤثر في الطهارة ؛ لكن شككنا في أنها هل تؤثر في حلية اللحم أيضا أم لا ، وقد يكون للشك في مانعية شيء ـ كالجلل ـ عن تأثير التذكية في الطهارة فقط ، أو الطهارة والحلية. هذا تمام الكلام في صور الشبهة الحكمية والجامع بينها هو الشك في نفس الحكم.

والثاني : وهو ما إذا كان الشك في متعلق الحكم بعد العلم بنفس الحكم ـ أعني : الشبهة الموضوعية ـ أيضا قد يكون للشك في أصل قابلية الحيوان المعين للتذكية لأجل الشك في كونه مما يقبل التذكية ، كما إذا شك في أن هذا الحيوان المذبوح غنم أو كلب بعد العلم بحكم كليهما ، وأن الأول يقبل التذكية والثاني لا يقبلها ، وقد يكون للشك في طروء مانع عن قابليته للتذكية كالجلل بعد العلم لمانعيّته شرعا ، كما إذا شك في أن هذا الغنم المذبوح هل كان جلالا حتى لا تؤثر التذكية فيه ، أم لا حتى تؤثر ويكون مذكى ، فهذه خمس صور من الصور الثمان تعرض لها المصنف «قدس‌سره».

(٤) التعبير ب «مثلا» لإفادة أن تقدم الأصل الموضوعي على غيره لا يختص بما إذا كان ذلك الغير أصالة الإباحة المثبتة للإباحة الظاهرية ؛ بل يقدم أيضا على أصالتي

٢٣٣

شك في حليته ، مع الشك في قبوله التذكية (١) ، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط

______________________________________________________

الطهارة والبراءة النافية لحرمة اللحم المشكوك قابليته للتذكية ، وذلك لورود الأصل الموضوعي ـ وهو فيما نحن فيه أصالة عدم التذكية ـ على جميع هذه الأصول.

(١) هذا شروع في بيان الصورة الأولى من الصور الثلاث للشبهة الحكمية وهي : قابلية حيوان للتذكية ، كما إذا تولد حيوان من طاهر ونجس ـ مثل الغنم والكلب ـ ولم يتبع أحدهما في الاسم ، ولم يكن له اسم خاص يندرج به تحت أحد العناوين الطاهرة أو النجسة فيشك في قابليته للتذكية ، فإن أصالة الحل لا تجري فيه إذا ذبح على الشرائط المخصوصة من إسلام الذابح والتسمية وغيرهما ، وذلك لوجود الأصل الموضوعي وهو استصحاب عدم التذكية أي : عدم وقوع التذكية المعتبرة شرعا على هذا الحيوان ، حيث إن من شرائطها قابلية المحل لها ، ومع الشك في القابلية يشك في وقوع التذكية المعتبرة عليه ، فيستصحب عدمها ، بتقريب : أن هذا الحيوان حال حياته لم يكن مذكى ، وبعد قطع أوداجه يشك في انتقاض عدم التذكية بالتذكية ، فيستصحب عدمها. هذا هو الأصل الموضوعي ، ومع جريان هذا الأصل الموضوعي الموجب لاندراج الحيوان في «ما لم يذك» لا مجال لأصالة الحل.

وذلك لأن موضوعها ـ كاللحم فيما نحن فيه ـ هو الشيء بوصف أنه مشكوك الحكم ، فإذا جرى الأصل الموضوعي واندرج في غير المذكى صار معلوم الحكم ؛ لقيام الإجماع على حرمته حينئذ كحرمة الميتة ، فينتفي موضوع أصالة الحل وهو الجهل بحكمه ، فلا يبقى مجال لجريانها كما إذا مات حتف أنفه.

لا يقال : الميتة أمر وجودي ؛ لأنها عبارة عما مات حتف أنفه ، والمذكى أيضا أمر وجودي ؛ لأنه عبارة عن الحيوان الذي زهق روحه بكيفية خاصة اعتبرها الشارع ، فهما ضدان وجوديان ، وحرمة أكل اللحم مترتبة في قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(١) على عنوان «الميتة» لا على عنوان «غير المذكى» ، وحينئذ : فاستصحاب كون الحيوان غير المذكى لا يصلح لإثبات كونه ميتة حتى يترتب عليه حرمة الأكل ؛ لأن إثباته به يكون من إثبات أحد الضدين ، وهو الميتة ، بنفي الضد الآخر أعني المذكى ، وهو متين على القول بحجية الأصل المثبت. وسيأتي في بحث الاستصحاب إن شاء الله تعالى عدم حجيته ، فيسقط استصحاب عدم التذكية ، وتصل النوبة إلى الأصل المحكومة أو المورود وهو أصالة الحل.

__________________

(١) المائدة : ٣.

٢٣٤

المعتبرة في التذكية ، فأصالة عدم التذكية تدرجه (١) فيما لم يذكّ وهو (٢) حرام إجماعا ؛ كما إذا مات حتف أنفه ، فلا حاجة (٣) إلى إثبات أن الميتة تعمّ غير المذكى

______________________________________________________

لأنا نقول : استصحاب عدم التذكية وإن لم يصلح لإثبات كون الحيوان ميتة ؛ لعدم حجية الأصل المثبت ، لكن حيث أن حرمة الأكل لم تثبت في الآية الشريفة للميتة على سبيل الحصر ، وقد ثبت بالإجماع اتحاد الميتة وغير المذكى حكما ، فالحرمة كما ثبتت في الأدلة للميتة كذلك ثبتت لغير المذكى أيضا فعنوان «غير المذكى» كعنوان «الميتة» بنفسه موضوع مستقل لحكم الشارع بالحرمة ، ومن الممكن إحراز هذا الموضوع بأصالة عدم التذكية فيترتب عليه الحرمة ، فليس المقصود إثبات حرمة الميتة له ليتوجه الإشكال ، بل نقول : هما موضوعان مختلفان حكم على كليهما بحكم واحد وهو الحرمة.

(١) هذا الضمير وضميرا «حليته ، فإنه» راجعة على الحيوان.

(٢) يعني : أن «ما لم يذك» بنفسه موضوع للحكم بالحرمة ، فيجري فيه الأصل وإن لم يصدق عليه «الميتة» ، حيث إنها ما مات حتف الأنف وقد عرفت توضيحه في «لا يقال ... لأنا نقول».

وكيف كان ؛ فمعنى العبارة : أن أصالة عدم التذكية تجري وتدرج الحيوان في عنوان غير المذكي ، وهو «غير المذكى» «حرام إجماعا» كحرمة الميتة.

(٣) هذا متفرع على تغاير «ما لم يذك» و «الميتة» مفهوما ، واتحادهما حكما بالإجماع ، وفيه تعريض بكلام الشيخ الأنصاري ، حيث حكم بحرمة «غير المذكى» ؛ لصدق عنوان «الميتة» عليه في لسان الشرع ، حيث قال : «إن الميتة عبارة عن غير المذكى إذ ليست الميتة خصوص ما مات حتف أنفه ؛ بل كل إزهاق روح انتفى فيه شرط من شروط التذكية فهي ميتة شرعا». «دروس في الرسائل ، ج ٣ ، ص ١١».

وحاصل ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» : أن الميتة وإن كانت بحسب اللغة بمعنى ما مات حتف أنفه ؛ إلا إنها شرعا بمعنى غير المذكى ، فالميتة تعم غير المذكى شرعا ، فيحكم بحرمة غير المذكى كحرمة الميتة.

وحاصل اعتراض المصنف «قدس‌سره» عليه : أن إدراج «غير المذكى» في الميتة غير وجيه ؛ لأن الميتة لغة مباين لغير المذكى ، لأن الميتة لغة : عبارة عن خصوص ما مات حتف أنفه ، وغير المذكى عبارة عما زهق روحه بسبب غير شرعي ولو كان بالذبح الفاقد لبعض الشروط المعتبرة فيه ؛ كالاستقبال والتسمية ، فهما متباينان.

ومع مباينة هذين الموضوعين معنى لا وجه لتعميم أحدهما وهو الميتة للآخر أعني :

٢٣٥

شرعا (١) ، ضرورة (٢) : كفاية كونه (٣) مثله حكما ؛ وذلك (٤) بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج الأربعة (٥) ، مع سائر شرائطها (٦) عن خصوصية في الحيوان التي (٧) بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية ، ومع الشك في تلك الخصوصية (٨):

______________________________________________________

غير المذكى كما صنعه الشيخ «قدس‌سره» ، فلذا قال المصنف اعتراضا عليه : «فلا حاجة إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى».

نعم ؛ هما متحدان حكما ؛ للإجماع على لحوق أحكام الميتة لما لم يذك من الحيوانات ، وبهذا يصير «غير المذكى» موضوعا لحكم الشارع بحرمة لحمه ، ولا مانع من إحرازه بأصالة عدم التذكية.

(١) كما التزم بهذا التعميم الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، فحكم بأن الميتة شرعا أعم من الميتة لغة.

(٢) تعليل لقوله «فلا حاجة» ، وبيان لوجه التعريض بكلام الشيخ «قدس‌سره».

(٣) أي : كفاية كون «ما لم يذك» مثل : «ما مات حتف أنفه» ـ المستفاد من قوله : «وهو حرام إجماعا كما إذا مات حتف أنفه» ـ حكما وإن اختلفا مفهوما ، فيحكم عليه بالحرمة والنجاسة كما حكم بهما على ما مات حتف أنفه.

(٤) بيان لوجه جريان أصالة عدم التذكية المشار إليها في قوله : «فأصالة عدم التذكية تدرجه فيما لم يذك». ومحصله : أن التذكية لما كانت عبارة عن فري الأوداج الأربعة مع الشرائط الشرعية التي منها خصوصية في الحيوان تجعله قابلا لتأثير التذكية بهذا المعنى في ترتب الطهارة فقط ، أو هي مع حلية الأكل على الحيوان.

(٥) أي : مريء الطعام والتنفس وعرقا الدم الغليظان.

(٦) أي : الإسلام والحديد والقبلة والتسمية ؛ بأن تكون هذه الشرائط مع خصوصية «في الحيوان التي بها» ، أي : بتلك الخصوصية «يؤثر» هذا الفري «فيه» أي : في ذلك الحيوان «الطهارة وحدها» في الحيوانات التي ليست قابلة للأكل كالسباع ، «أو مع الحلية» في الحيوانات القابلة لها كالأنعام ونحوها. وصريح كلام المصنف في المقام ـ حيث قال : «بأن التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج ...» الخ ـ أن التذكية بنظره هو نفس الذبح بالشرائط لا المجموع المركب من الأمور المعهودة مع القابلية ، ولا الأمر البسيط المتحصل من الأفعال.

(٧) المراد بالموصول هو : الخصوصية التي قد عبر عنها الشيخ بالقابلية.

(٨) أي : مع الشك في أن الحيوان هل فيه هذه القابلية أم لا؟ يكون مقتضى

٢٣٦

فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها (١) كما لا يخفى.

نعم (٢) ؛ لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية : فأصالة الإباحة فيه محكمة ، فإنه

______________________________________________________

استصحاب عدم التذكية عند الشك في القابلية هو عدم الطهارة والحلية ، ولا مجرى لأصالة الإباحة في لحم الحيوان المشكوك قابليته لها.

(١) أي : شرائط التذكية من التسمية واستقبال القبلة وإسلام الذابح والذبح بالحديد ، ومنها الخصوصية بمعنى القابلية ، فمع الشك فيها كان الأصل عدمها ، فلا يحكم بحلية حيوان إن أجريت عليه التذكية الظاهرية إذا لم يعلم بوجود تلك الخصوصية فيه ؛ كالمتولد من الشاة والكلب ، وإنما تعلم تلك الخصوصية من حكم الشارع بقابلية الحيوان الفلاني للتذكية ، أو قيام الإجماع عليه ؛ وإلا كان الأصل عدمها.

(٢) استدراك على قوله : «فالأصل عدم تحقق التذكية» ، وإشارة إلى الصورة الثانية. وهي ما إذا كان الشك في حلية لحمه مع العلم بتأثير التذكية في طهارته.

وغرضه من هذا الاستدراك : أن أصالة الإباحة تجري في هذه الصورة الثانية.

توضيح ذلك : أنه إذا علم قابلية الحيوان للتذكية وعلم حصول طهارته بها لإحراز الذبح بشرائطه ؛ لكن شك في حلية لحمه أيضا بالتذكية ، فإن أصالة الحل تجري ويحكم بحلية لحمه ، ولا مجال للأصل الحاكم أو الوارد وهو استصحاب عدم التذكية ، للعلم بتحققها حسب الفرض ، والشك إنما هو في أن ما يترتب عليها أثران وهما الطهارة والحلية كما تترتبان على تذكية مأكول اللحم ، أو أثر واحد وهو الطهارة فقط ، كما تترتب على تذكية غير مأكول اللحم؟

يعني : نعلم أن هذا الحيوان قابل للتذكية ؛ لكن لا نعلم أنه من قبيل البقر والغنم ، أو من قبيل الأرنب والثعلب ، فيحكم بطهارته استنادا إلى التذكية وبحلية لحمه استنادا إلى أصالة الحل.

ووجه عدم المجال للأصل الحاكم ـ أعني : استصحاب عدم التذكية ـ أنه ليس هنا أصل يجري في نفس قابلية الحيوان لحلية لحمه بالتذكية حتى يستند إليه ويحكم بمقتضاه بحلية لحمه مثلا ؛ لأن الحيوان إما خلق قابلا لها أو خلق غير قابل لها ، فليس للقابلية المذكورة أو لعدمها حالة سابقة حتى تستصحب ، وحيث لا يجري الأصل الحاكم فتصل النوبة إلى الأصل المحكوم ، أعني : أصالة الحل ؛ لأن هذا الحيوان بعد ورود التذكية الموجبة لطهارته عليه يكون ظاهرا مشكوك الحل والحرمة ، فيحكم بحليته استنادا إلى

٢٣٧

حينئذ (١) إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام ، ولا أصل فيه إلا أصالة الإباحة ، كسائر ما شك (٢) في أنه من الحلال أو الحرام.

هذا (٣) إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية ؛ كما إذا

______________________________________________________

أصالة الحل ، فهو نظير شرب التتن المشكوك حكمه الكلي ، حيث تجري فيه أصالة الحل بلا مانع كما هو واضح.

(١) أي : حين العلم بقبوله للتذكية وصيرورته طاهرا بورودها عليه.

(٢) كالشك في حلية شرب التتن ونحوه من الشبهات الحكمية ، فإن المرجع فيه أصالة الحل.

(٣) إشارة إلى الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان الشك في الحكم لأجل الشك في مانعية شيء عن تأثير التذكية في الطهارة وحدها ، أو هي مع الحلية ، يعني : ما ذكرناه من عدم جريان الأصل الحكمي كأصالتي الحل والطهارة عند جريان الأصل الموضوعي كاستصحاب عدم التذكية لوروده عليه إنما هو فيما إذا لم يكن أصل موضوعي آخر يوافق الأصل الحكمي ، ونعني بالأصل الموضوعي الموافق له : ما يثبت قابليته للتذكية ، فلو كان هناك أصل موضوعي موافق حكم به ولم يجر الأصل الحكمي كما لم يجر في الصورة الأولى.

وغرضه «قدس‌سره» من هذا الكلام : أن ما ذكرناه في الصورة الأولى ـ من عدم جريان أصالة الإباحة مع وجود الأصل الموضوعي المخالف لها ، كاستصحاب عدم التذكية المقتضي لنجاسته الحيوان وحرمة لحمه كما عرفت توضيحه ـ بعينه جار في هذه الصورة الثالثة ، وهي ما إذا كان الأصل الموضوعي موافقا لأصالة الإباحة ؛ كاستصحاب قبوله التذكية الموافق لأصالة الطهارة والحلية ، فإنها لا تجري أيضا ، وإنما الجاري هو الأصل الموضوعي المقتضي لطهارة الحيوان وحلية لحمه.

وكيف كان ؛ فإن الأصل الموضوعي كالاستصحاب إذا جرى في مورد كان واردا على أصالة الحل ، سواء وافقها في المؤدى كاستصحاب قابلية الحيوان للتذكية ، أم خالفها فيه كاستصحاب عدم التذكية ؛ وذلك لزوال الشك في ناحية الحكم بإجراء الأصل الموضوعي.

وعلى هذا : فإذا علم قابلية حيوان للتذكية وشك في ارتفاعها بجلل ونحوه : فإن استصحاب بقاء القابلية للتذكية ـ بعد صيرورته جلالا ـ يحرز قيد التذكية الموجبة لحلية اللحم حينئذ ، وهذا الأصل الموضوعي الموافق لأصالة الحل كما يمنع عن جريان أصالة

٢٣٨

شك (١) ـ مثلا ـ في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها أم لا (٢)؟ فأصالة قبوله (٣) لها معه محكمة ، ومعها (٤) لا مجال لأصالة عدم تحققها ، فهو (٥) قبل الجلل كان يطهر ويحل بالفري بسائر شرائطها ، فالأصل أنه (٦) كذلك بعده.

______________________________________________________

الحل لكونها مورودة ، كذلك يمنع عن جريان أصالة عدم التذكية لأن منشأ الشك في التذكية ليس أصل القابلية حتى تجري أصالة عدم التذكية من جهة عدم إحراز شرط التذكية وهو القابلية ؛ بل منشأ الشك بقاء القابلية بعد العلم بوجودها حسب الفرض ، وإنما الشك في رافعية الموجود ـ وهو الجلل ـ لها ، فتستصحب ويحرز بقاؤها تعبدا ، وقد ورد فعل المذكى عليه بالوجدان ، فتحرز التذكية بما لها من الأجزاء والشرائط ـ بناء على تركبها من فري الأوداج وغيره ـ كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان ، وبعضها بالأصل ، فلا يكون استصحاب القابلية مثبتا كي يقال بعدم حجية الأصل المثبت.

(١) نعم ؛ بناء على بساطة التذكية ـ وهي الأثر المترتب على الذبح ـ لا تثبت التذكية الفعلية بأصالة بقاء القابلية إلا على القول بحجية الأصل المثبت. فتدبر.

مثال للمنفي ، وهو وجود أصل موضوعي آخر في المسألة غير أصالة عدم التذكية ، وهو الأصل الموضوعي المثبت للتذكية ؛ كاستصحاب قبول الحيوان لها.

ثم إن هذا إشارة إلى الصورة الثالثة.

(٢) هذا مجرد فرض ، وإلا فلا شك بحسب الأدلة الاجتهادية في عدم حلية لحم الجلال بالذبح ؛ بل تتوقف على استبراء الحيوان على النحو المذكور في كتاب الفقه.

(٣) أي : فأصالة قبول الحيوان للتذكية ، يعني : استصحاب قابليته لها الثابتة له قبل الجلل محكمة ، وضمير «قبوله» راجع على «الحيوان» ، وضمير «لها» إلى التذكية ، وضمير «معه» إلى «الجلل».

(٤) يعني : ومع أصالة بقاء قابليته للتذكية الثابتة له قبل الجلل لا مجال لجريان أصالة عدم تحقق التذكية ؛ لتقدم استصحاب القابلية التي هي شرط للتذكية عليها.

(٥) هذا استصحاب حكمي تعليقي لإثبات الطهارة والحلية ، بأن يقال : كان هذا الحيوان قبل الجلل إذا ذبح على الوجه المشروع يطهر ويحل ، وهو باق على ما كان عليه.

(٦) هذا الضمير راجع على الحيوان ، وقوله : «كذلك» يعني : يطهر ويحل بالفري مع سائر شرائط التذكية ، وضمير «بعده» راجع على الجلل يعني : أن مقتضى الأصل وهو الاستصحاب صيرورة الحيوان طاهرا وحلالا بالفري مع سائر الشرائط بعد الجلل أيضا.

٢٣٩

ومما ذكرنا (١) : ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من

______________________________________________________

وفي «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٤٢٩» ما هذا لفظه : «وقد تحصل إلى هنا أن المصنف «قدس‌سره» بيّن من صور الشك في التذكية ثلاث صور للشبهة الحكمية :

«الأولى : الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية ، وأنه خلق قابلا لها أم لا ، وقد عرفت : أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي ، أعني : استصحاب عدم التذكية ، فيحكم بنجاسته وحرمة لحمه.

الثانية : الشك في مقدار قابليته لها بعد العلم بأصلها ، فلا يعلم أن المترتب عليها هل هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية ، وقد عرفت أيضا : أن الجاري فيه هو الأصل الحكمي ، فيحكم بطهارته استنادا إلى التذكية ، وبحلية لحمه استنادا إلى أصالة الحل.

الثالثة : الشك في بقاء القابلية لاحتمال ارتفاعها ببعض ما طرأ على الحيوان كالجلل ، وقد عرفت : أن الجاري هو الأصل الموضوعي أيضا ، أعني : استصحاب قابليته لها ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه. هذا كله في صور الشبهة الحكمية من الشك في التذكية ، وأما صورتا الشبهة الموضوعية فسيأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.

(١) هذا شروع في بيان صورتي الشبهة الموضوعية من الشك في التذكية ، يعني : ومما ذكرنا ـ من جريان أصالة عدم التذكية إذا شك في أصل القابلية ، كما في الصورة الأولى من صور الشبهة الحكمية ، وجريان أصالة بقاء القابلية إذا شك في زوالها بجلل ونحوه ، كما في الصورة الثالثة منها ـ ظهر حكم صورتي الشبهة الموضوعية بتقريب : أن منشأ الشك في التذكية إن كان هو الشك في وجود ما يعتبر فيها من إسلام الذابح ، وتوجيه الحيوان إلى القبلة ونحوهما جرى فيها أصالة التذكية ، فإذا شك في أن ذابح هذا الحيوان كان مسلما أم لا ، أو ذبحه إلى القبلة أم لا حكم بعدم كونه مذكى ، كما هو كذلك فيما إذا شك في أنه غنم أو كلب ، حيث عرفت في الصورة الأولى من الشبهة الحكمية أنه لا يحكم عليه بالتذكية.

وإن كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية ، لاحتمال تحقق الجلل بأكل عذرة الإنسان مدة يشك في تحققه به فيها ـ جرى استصحاب بقائها ، فيحكم بكونه مذكى لكون الشك حينئذ في وجود الرافع ، كما كان استصحاب بقائها جاريا عند الشك في رافعية الجلل الموجود ـ لو فرض الشك في رافعيته شرعا كما تقدم في الصورة الثالثة من الشبهة الحكمية ، حيث عرفت : أنه يحكم عليه بالتذكية ، وهاتان هما صورتا الشبهة الموضوعية ، فمجموع الصور خمس كما عرفت.

٢٤٠