دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

عليه حكم العقل أو عموم النقل ، والمهم منها أربعة (١). فإن مثل (٢) قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية (٣) ؛ وإن كان مما ينتهي (٤) إليها فيما لا حجة على طهارته ولا على نجاسته ، إلا إن البحث (٥) عنها ليس بمهم ، حيث إنها ثابتة بلا كلام ، من دون حاجة إلى نقض وإبرام ، بخلاف الأربعة وهي البراءة والاحتياط والتخيير والاستصحاب ، فإنها محل الخلاف بين الأصحاب ، ويحتاج تنقيح مجاريها وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان ومئونة حجة

______________________________________________________

(١) وهي الاستصحاب والتخيير والبراءة والاشتغال ، وقد يعبر عنه : بالاحتياط تسمية للملزوم باسم لازمه ، والمقصود واحد. أما غيرها من «أصالة العدم» و «أصالة عدم الدليل دليل العدم» ، و «أصالة الحلية» و «أصالة الحظر» فقد قيل : باندراج الأولى في الاستصحاب ، والثالثة في البراءة ، والآخرين في الأمارات ؛ لكنه لا يخلو عن إشكال ، والتفصيل لا يسعه المقام.

(٢) غرضه : الاعتذار عن عدم تعرضهم لقاعدة الطهارة ، مع أنها في الشبهات الحكمية من الأصول العملية.

وحاصل ما أفاده في الاعتذار يرجع إلى وجهين :

الأول : أن حجيتها لا تحتاج إلى النقض والإبرام ؛ بل هي ثابتة عند الكل من دون خلاف فيها ولا كلام ، فلا حاجة إلى البحث عنها ؛ بخلاف الأربعة المزبورة ، فإنها محل البحث وتحتاج إلى النقض والإبرام.

الثاني أن قاعدة الطهارة مختصة ببعض أبواب الفقه ـ أعني : باب الطهارة والنجاسة ـ بخلاف غيرها من الأصول الأربعة ، فإنها عامة لجميع أبواب الفقه.

(٣) أما أصالة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية : فهي مما لا ينتهي إليها المجتهد ؛ للعلم بالحكم الكلي ، فيجوز للمقلد إجراؤها أيضا ؛ كالشك في طهارة الماء الموجود في هذا الإناء ، مع عدم العلم بحالته السابقة ، فإنه يحكم المقلد بطهارته أيضا ، ويرتب آثارها عليه.

(٤) يعني : المجتهد ، وضمير «إليها» راجع على الموصول في «مما» المراد به الأصول والقواعد.

(٥) هذا إشارة إلى الوجه الأول المتقدم بقولنا : «الأول : أن حجيتها ...» الخ. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

١٢١

وبرهان ، هذا مع جريانها (١) في كل الأبواب ، واختصاص تلك القاعدة ببعضها فافهم (٢).

______________________________________________________

(١) أي : الأصول الأربعة. هذا إشارة إلى الوجه الثاني الذي تقدم توضيحه.

(٢) لعله إشارة إلى عدم صلاحية الوجه الثاني للاعتذار ؛ لأن الاختصاص ببعض الأبواب لا يسوّغ الإهمال ؛ وإلا لزم خروج جملة من المسائل الأصولية عن علم الأصول ؛ لعدم اطرادها في جميع أبواب الفقه ؛ كالبحث عن دلالة النهي عن العبادة على الفساد ، حيث إنه يختص بالعبادات ، ولا يجري في سائر أبواب الفقه ، هذا ؛ بل الوجه الأول أيضا لا يصلح للاعتذار ؛ لأن مجرد كون المسألة اتفاقية بل ضرورية لا يسوّغ إهمالها ، وعدم ذكرها في مسائل ذلك العلم ؛ بل لا بد من بيان جميع مسائله الخلافية والوفاقية.

وخلاصة الكلام فيما هو المهم في المقام : أن المصنف خالف الشيخ حيث جعل البحث عاما شاملا لمطلق الشك في التكليف ، وقد أخرج فرض تعارض النصين عن هذا البحث ، بدعوى : قيام الحجة على التعيين أو التخيير ، ومع قيام الدليل لا تصل النوبة إلى البراءة والسبب لتفصيل الشيخ «قدس‌سره» هو : اختلاف الموارد في بعض الخصوصيات ، ولذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة الوجوبية ، وإلى الاحتياط في الشبهة التحريمية ، بدعوى : وجود الفرق بينهما ، فلا بد من البحث عن كل مسألة مستقلا ؛ لتعدد المسائل واختلاف جهة البحث فيها.

١٢٢

فصل

لو شك (١) في وجوب شيء أو حرمته ، ولم تنهض عليه (٢) حجة جاز شرعا وعقلا ترك الأول (٣) وفعل الثاني ، وكان (٤) مأمونا من عقوبة مخالفته (٥) ، كان (٦) عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص (٧) أو إجماله ، واحتماله الكراهة (٨) أو

______________________________________________________

أصالة البراءة

(١) المراد بالشك المأخوذ موضوعا في الأصول العملية ليس بمعنى تساوي طرفيه ؛ بل المراد به : خلاف اليقين والحجة ، بمعنى : عدم الحجة على وجوب شيء في الشبهة الوجوبية ، وعدم الحجة على حرمته في الشبهة التحريمية ، فالمراد بالشك في الوجوب : هو الشك فيه مع العلم بعدم حرمته ؛ كالدعاء عند رؤية الهلال ، كما أن المراد بالشك في الحرمة هو الشك فيها مع العلم بعدم وجوبه ؛ كشرب التتن مثلا ، فيدور الأمر بين الوجوب وغير الحرمة في الأول ، وبين الحرمة وغير الوجوب في الثاني.

وأما مع العلم إجمالا بالوجوب أو الحرمة : فيكون من دوران الأمر بين المحذورين. وسيأتي البحث عنه.

ثم إن المصنف لم يتعرض لجريان البراءة وعدمه في غير الوجوب والحرمة من الاستحباب والإباحة والكراهة ، ولعله لأجل اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط بالتكليف الإلزامي هذا أولا. وثانيا : لو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب والحرام ، فلا حاجة إلى تعميم العنوان.

(٢) على شيء من الوجوب أو الحرمة.

(٣) أي : ترك ما شك في وجوبه ، وكذلك جاز فعل ما شك في حرمته.

(٤) عطف على قوله : «جاز» وهو بمنزلة التفريع على الجواز العقلي والشرعي.

(٥) أي : مخالفة الشيء المشكوك وجوبه أو حرمته.

(٦) أي : سواء «كان عدم نهوض الحجة ...» الخ.

(٧) المراد به : مطلق الدليل لا خصوص الرواية.

(٨) بيان لإجمال النص ، وهذا يكون في صورة الشك في الحرمة ؛ كما إذا قال : «لا

١٢٣

الاستحباب (١) ، أو تعارضه فيما لم يثبت بينهما (٢) ترجيح ، بناء (٣) على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين.

وأما بناء على التخيير ـ كما هو المشهور ـ فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها (٤) ؛ لمكان (٥) وجود الحجة المعتبرة وهو أحد النصين فيها كما لا يخفى.

وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة :

أما الكتاب : فبآيات (٦) أظهرها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)(*).

______________________________________________________

تشرب التتن» مثلا ، واحتمل إرادة الكراهة من النهي.

(١) وهذا يكون في صورة الشك في الوجوب ؛ كما إذا قال : «اغتسل للجمعة» ، واحتمل إرادة الاستحباب من الأمر.

(٢) أي : بين النصين المتعارضين ؛ إذ لو ثبت بينهما ترجيح فالمتعين الأخذ بالراجح ؛ لأدلة الترجيح الظاهرة في وجوب الترجيح. ثم إن التوقف والرجوع إلى الأصل في صورة التكافؤ هو القول الشاذ ؛ وإلا فعلى المشهور من التخيير لا تصل النوبة إلى الأصل ؛ لوجود الدليل وهو أحد المتعارضين.

(٣) قيد لقوله : «جاز» يعني : أن الرجوع إلى الأصل في تعارض النصين مبني على التوقف في مسألة التعارض ، دون التخيير ؛ إذ بناء على التخيير لا بد من الأخذ بأحد المتعارضين ، دون الرجوع إلى الأصل.

(٤) يعني : من سائر الأصول كالاستصحاب والاحتياط.

(٥) تعليل لقوله : «لا مجال» ، ووجهه واضح ؛ إذ الحجة على الواقع موجودة وإن كانت مرددة بين شيئين. وضمير «فيها» راجع على مسألة تعارض النصين.

الاستدلال بالكتاب على البراءة

(٦) وقد ذكر الشيخ الأنصاري (١) «قدس‌سره» جملة من الآيات التي استدل بها لأصالة البراءة.

منها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها)(٢) ، والاستدلال بهذه الآية على البراءة يتوقف على كون المقصود من الموصول التكليف ، والمراد من الإيتاء المستفاد من (آتاها) : إعلامه وإيصاله إلى المكلف ، فيكون معنى الآية حينئذ : ألا يكلف الله

__________________

(*) الإسراء : ١٥.

(١) فرائد الأصول ٢ : ٢١ ـ ٢٢.

(٢) الطلاق : ٧.

١٢٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أحدا إلا بما أعلمه وأوصله إليه من التكليف ، فالتكليف الذي لم يصل إلى المكلف مرفوع عنه ، فتكون دلالة الآية على البراءة على هذا الاحتمال واضحة.

إلا إن هذا الاحتمال ينافي مورد الآية ، فيكون بعيدا عن أن يكون مرادا منها ، فالآية أجنبية عن مسألة البراءة ؛ لأن كون المراد من الموصول التكليف وإن كان محتملا ؛ إلا إن كون المراد من الإيتاء هو الإعلام وإيصال التكليف إلى المكلف ممنوع ؛ إذ الإيتاء إنما هو بمعنى الإعطاء أو الإقدار لا الإعلام.

وكيف كان ؛ فالظاهر أن المراد من الموصول أحد الأمور الثلاثة :

١ ـ المال.

٢ ـ القدرة.

٣ ـ التكليف.

وعلى تقدير إرادة الأول والثاني : يلزم تقدير كلمة «بقدر» أي : لا يكلف الله نفسا إلا بقدر المال الذي أعطاها ، أو بقدر القدرة التي أقدرها ، وعلى تقدير إرادة الثالث : يكون معنى الآية : «لا يكلف الله نفسا إلا تكليفا أقدرها» ، وعلى جميع الاحتمالات تكون الآية أجنبية عن مسألة البراءة كما هو واضح.

ومنها : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)(١) بتقريب : أن إطاعة الحكم المجهول خارجة عن وسع المكلف في نظر عامة الناس ، فيكون الحكم المجهول مرفوعا. هذا معنى البراءة.

والجواب عنها : أن ظاهر الآية هو نفي التكليف بغير المقدور ، ومن المعلوم : أن عدم صحة التكليف بغير المقدور من الأمور المسلمة بينهم ، فيكون مضمون الآية أجنبيا عن أصالة البراءة ؛ إذ ليس الاحتياط بترك ما يحتمل التحريم من التكليف بغير المقدور.

ومنها : قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)(٢) بتقريب : أنه ليهلك من ضل بعد قيام الحجة عليه ، فتكون حياة الكافر وبقاؤها هلاكا له ، ويحيا من اهتدى بعد قيام الحجة عليه ، فيكون بقاء من بقي على الإيمان حياة له. وقوله : (عَنْ بَيِّنَةٍ) أي : بعد بيان وإعلام ، ومن المعلوم : أن قضية تخصيص الضلال والاهتداء بما بعد البيان هو عدم الوجوب والحرمة قبله ، وهذا معنى البراءة.

__________________

(١) البقرة : ٢٨٦.

(٢) الأنفال : ٤٢.

١٢٥

وفيه (١) : أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منّة منه تعالى

______________________________________________________

والجواب عنها : أن دلالتها على البراءة مبنية على كون الهلاك بمعنى العذاب الأخروي ، والبينة بمعنى : الطريق الكاشف عن الواقع.

وليس الأمر كذلك ؛ بل المراد من الهلاك هو الموت والقتل ، ومن الحياة هو الإسلام ، والمراد من البينة هو خصوص المعجزة الدالة على صدق نبوة نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فيكون مضمون الآية أجنبيا عن أصالة البراءة أصلا. فهذه الآيات أجنبية عن مسألة البراءة أصلا. ولذا ترك المصنف الاستدلال بها وقال : أظهرها قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

وجه الأظهرية هو : أن همّ الأصولي تحصيل ما يؤمنه من العقاب على مخالفة التكليف ، ولا ريب في ظهور هذه الآية المباركة في نفي العذاب قبل تبليغ الأحكام. فيقال في تقريب دلالتها على البراءة : إن التعبير ببعث الرسول ليس لأجل خصوصية فيه ؛ بل بعثه الرسول كناية عن بيان الأحكام للأنام ، وإتمام الحجة عليهم ، فبعث الرسول كناية عن قيام الحجة ، نظير قول القائل : «لا أصلي حتى يؤذن المؤذن» ، يقصد به : الكناية عن دخول الوقت ، فتكون الآية ظاهرة في نفي العذاب قبل قيام الحجة ، فلا عقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف ، وهذا معنى البراءة.

(١) وقد أورد على الاستدلال بهذه الآية الشريفة بوجوه :

الأول : أنها تختص بنفي العذاب الدنيوي ، فلا ظهور لها في ما نحن فيه من نفي العذاب الأخروي ؛ لأن نفي التكليف بأصالة البراءة مستلزم لنفي العذاب الأخروي ؛ لا العذاب الدنيوي.

الثاني : أنها تتكفل الحكاية عن عذاب الأمم السابقة ، بمعنى : أن المراد من الآية هو : الإخبار عن عدم وقوع العذاب على الأمم السابقة إلا بعد البيان ، بقرينة التعبير بلفظ الماضي في قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ) ، فيكون المراد هو الإخبار عن عدم وقوع العذاب الدنيوي فيما مضى من الأمم السابقة إلا بعد البيان فلا دلالة لها على نفي العذاب الأخروي عند عدم البيان حتى تدل الآية على البراءة ، لأن نفي العذاب الأخروي كاشف عن نفي التكليف.

الثالث : أن دلالة الآية على البراءة تتوقف على مقدمة وهي : ثبوت الملازمة بين نفي فعلية التعذيب وبين نفي استحقاقه ؛ إذ لو لم تثبت الملازمة بينهما بأن كان نفي الفعلية لازما أهم من نفي الاستحقاق ، ومن ثبوته مع انتفاء فعليته منّة وتفضلا منه

١٢٦

على عبادة ، مع استحقاقهم لذلك ، ولو سلم (١) اعتراف الخصم بالملازمة بين

______________________________________________________

تعالى على العباد لم تدل الآية على البراءة ؛ لعدم دلالتها حينئذ على عدم الاستحقاق الذي هو معنى البراءة ؛ لأن نفي الحكم ملازم لنفي الاستحقاق من باب انتفاء المعلول عند انتفاء العلة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المنفي في الآية فعلية العقاب ، لا استحقاقه ، ومن المعلوم : إن نفي الفعلية لا يدل على نفي الاستحقاق ؛ إذ نفي الفعلية ربما يكون من باب المنّة والتفضل ، مع أن محل الكلام بيننا وبين الأخباريين هو نفي الاستحقاق الكاشف عن نفي التكليف ، وظاهر المصنف : هذا الإيراد الثالث ، فهذه الآية المباركة لا تدل على البراءة. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

والمشار إليه «لذلك» هو العذاب يعني : مع استحقاق العباد للعذاب ، فلا يدل نفي الفعلية على نفي الاستحقاق ، حتى يصح الاستدلال بها على البراءة.

(١) لما أنكر المصنف «قدس‌سره» الملازمة بين نفي الفعلية والاستحقاق الذي هو مبنى الاستدلال بالآية على البراءة ، أشار إلى دفع ما ذكره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، من أن الآية الشريفة وإن كانت ظاهرة في نفي الفعلية لا نفي الاستحقاق ؛ لكنه لا يضر بصحة الاستدلال بها على البراءة المنوطة بدلالتها على نفي الاستحقاق ؛ إذ الخصم ـ وهو المحدث القائل بوجوب الاحتياط في الشبهات ـ يعترف بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية ، فينتفي الاستحقاق بانتفاء الفعلية ، فإذا دلت الآية على نفي الفعلية صح الاستدلال بها على البراءة ؛ لاعتراف الأخباري بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق.

أما اعترافه بالملازمة : فيظهر من دليله ، حيث أنه يستدل بأخبار التثليث الدالة على أن ارتكاب الشبهة موجب للوقوع في الهلكة ، وظاهرها هو : الهلكة الفعلية لا صرف الاستحقاق لما ورد فيها «ومن اقتحم الشبهات هلك من حيث لا يعلم» ، وعليه : فإذا انتفت الفعلية بالآية انتفى الاستحقاق بمقتضى الملازمة التي يعترف بها الخصم. هذا ملخص تصحيح دلالة هذه الآية على البراءة.

وأما الدفع : الذي ذكره المصنف فهو يرجع إلى وجهين :

الأول : أن الاستدلال على البراءة بالآية الشريفة يكون حينئذ جدليا لا حقيقيا ، حتى يجدي في إثبات المدعى.

١٢٧

الاستحقاق والفعلية لما صح الاستدلال بها إلا جدلا ، مع وضوح منعه (١) ، ضرورة : أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده (٢) بأعظم مما علم بحكمه ، وليس (٣) حال الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به (٤) فيه ، فافهم (٥).

______________________________________________________

نعم ؛ يثبت الدعوى باعتقاد الخصم ، وهو لا ينفع الأصولي الذي ينكر الملازمة بين نفي فعلية العذاب ونفي الاستحقاق كما لا يخفى.

الثاني : أنه لم يظهر وجه لاعتراف المحدثين بالملازمة ، حيث إن الشبهة لا تزيد على المعصية الحقيقية ، ومن المعلوم : أن أدلة وجوب الاحتياط في المشتبهات ليست بأقوى من أدلة المحرمات المعلومة ، والخصم لا يدعي الملازمة بين الاستحقاق والفعلية في المعصية القطعية ؛ لإمكان تعقبها بالتوبة أو الشفاعة ، فكيف يدعيها في الشبهة؟

قوله : «لما صح الاستدلال بها إلا جدلا» إشارة إلى الوجه الأول ، والقياس الجدلي : ما يتألف من المشهورات والمسلمات كما في علم المنطق.

(١) أي : منع اعتراف الخصم بالملازمة ، وهو إشارة إلى الوجه الثاني.

(٢) أي : عند الخصم وهو المحدث المنكر للبراءة.

(٣) الواو للحال ، يعني : والحال إن الوعيد بالعذاب فيما شك في وجوبه أو حرمته ليس إلا كالوعيد بالعذاب فيما علم وجوبه أو حرمته ، وإن ارتكاب الشبهة ليس بأسوإ حالا من المعصية الحقيقية في عدم فعلية العذاب.

(٤) أي : بالعذاب فيما علم حكمه.

(٥) لعله إشارة إلى أن منشأ دعوى الملازمة إن كان أخبار التثليث الظاهرة في الهلكة الفعلية : فلا بد من رفع اليد عن ظهورها ، وصرفه إلى الاستحقاق ؛ لما عرفت من : أن الشبهة ليست أسوأ حالا من المعصية الحقيقية.

أو إشارة إلى عدم كون الاستحقاق محل الكلام ؛ إذ محل الكلام هو : لزوم الاجتناب شرعا وعدمه ، فالأخباري أيضا لا بد وأن يلتزم بعدم وجوب الاجتناب ؛ لأنه لا محذور فيه ، ومجرد الاستحقاق المحتمل مع القطع بعدم الفعلية لا يكفي في ثبوت الاحتياط.

هذا تمام الكلام في الاستدلال بالآيات على البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الاستدلال بقوله تعالى : ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) ـ على البراءة ،

١٢٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بتقريب : أن المراد من الموصول هو التكليف ، والمراد من الإيتاء هو الإعلام ، وبيان التكليف وإيصاله إلى المكلف ، فيكون معنى الآية حينئذ : «لا يكلف الله نفسا إلا تكليفا أعلمها به وأوصله إليها فالتكليف الذي لم يصل إلى المكلف مرفوع عنه ، فدلالة الآية على البراءة على هذا الاحتمال واضحة.

والجواب عنها : أن كون التكليف مرادا من الموصول مجرد احتمال ؛ بل ينافي مورد الآية وهو المال ، فالمراد من الموصول هو : المال ، والمراد من الإيتاء هو : الإعطاء ، فمعنى الآية : لا يكلف الله نفسا إلا ما أعطاها من المال. فالآية أجنبية عن مسألة البراءة.

٢ ـ وأما قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) فناظر إلى اشتراط التكليف بالقدرة ، فمفادها عدم صحة التكليف بغير المقدور ، فلا ربط لها بمسألة البراءة أصلا.

وكذلك قوله تعالى : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) ليس مفادها نفي التكليف قبل البيان ؛ بل المراد من الهلكة : هو الموت ، والمراد من الحياة : هو الإسلام ، والمراد من البينة : هو خصوص المعجزة الدالة على صدق نبوة نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم».

فلا علاقة بمسألة البراءة أصلا.

٣ ـ أظهر الآيات : قوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).

وجه الأظهرية : أن هذه الآية ظاهرة في نفي العذاب قبل بيان الأحكام ؛ لأن بعث الرسول كناية عن بيان الأحكام للأنام ، فلا عقاب على مخالفة التكليف غير الواصل إلى المكلف ، وهذا معنى البراءة.

وعمدة الإيراد على الاستدلال بهذه الآية : أن دلالة الآية على البراءة تتوقف على ثبوت الملازمة بين نفي فعلية التعذيب وبين نفي استحقاقه ، فبالآية تنفي فعلية العذاب ، وبالملازمة ينفي استحقاقه ، ولازم عدم الاستحقاق : عدم التكليف. هذا معنى البراءة.

والجواب عنها : هو عدم ثبوت الملازمة بينهما ؛ لأن المنفي بالآية فعلية العذاب ، ونفي الفعلية لا يدل على نفي الاستحقاق ؛ إذ ربما لا يكون العذاب فعليا من باب التفضل والمنّة مع ثبوت الاستحقاق ، مع أن محل الكلام بين الأصولي والأخباري هو نفي الاستحقاق الكاشف عن عدم التكليف ، فهذه الآية لا تدل على البراءة.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو عدم تمامية دلالة الآيات على البراءة.

١٢٩

وأما السنة : فبروايات منها (١) : حديث الرفع ، حيث عدّ «ما لا يعلمون» من التسعة

______________________________________________________

الاستدلال بالسنة على البراءة

(١) من الروايات : حديث الرفع ، وهي الرواية المروية عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» قال : «رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة». ولا إشكال في سند الحديث ؛ لأنه في الخصال (١) والتوحيد (٢) بسند صحيح ، وإنما الكلام في دلالته على البراءة.

وتقريب الاستدلال به عليها : يتوقف على مقدمة ، وهي أمور تالية :

١ ـ أن الرفع في هذا الحديث متعلق بأمور مثل : الخطأ والنسيان وغيرهما ، وكلها موجودة في الخارج ، فالمراد برفع هذه الأمور سوى «ما لا يعلمون» لم يكن تكوينا ؛ لأنها موجودة في الخارج بالضرورة والوجدان.

وحينئذ : لا بد من تقدير شيء من باب دلالة الاقتضاء حتى يكون هو المرفوع حفظا لكلام النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» عن الكذب ، والمقدر المرفوع لا يخلو عن أحد أمور :

الأول : خصوص المؤاخذة في الجميع.

الثاني : جميع الآثار كذلك.

الثالث : الأثر الظاهر في كل واحد منها.

نعم ؛ يمكن أن يكون المرفوع في «ما لا يعلمون» تكوينا فيما إذا كان المراد بالموصول هو الحكم الشرعي.

٢ ـ أن يكون المراد من الآثار المرفوعة بحديث الرفع في غير «ما لا يعلمون» : هي الآثار التي تعرض على موضوعاتها ، من دون أن تكون مقيدة بوجود أحد هذه العناوين ولا بعدمها ؛ إذ لو كانت مقيّدة بوجودها لكانت الآثار ثابتة عند وجود هذه العناوين ؛ كوجوب سجدتي السهو عند زيادة شيء أو نقصانه في الصلاة نسيانا مثلا ، وذلك لأن ثبوت العنوان حينئذ يقتضي وضع الأثر لا رفعه. وأما لو كانت مقيدة بعدم أحد هذه العناوين كانت الآثار مرفوعة بارتفاع موضوعها ، بلا حاجة إلى حديث والرفع كالكفارة في إفطار صوم شهر رمضان عمدا ، حيث تكون مقيدة بعدم كون الإفطار نسيانا ، فترتفع

__________________

(١) الخصال : ٤١٧ / ٩.

(٢) التوحيد : ٣٥٣ / ٢٤.

١٣٠

.................................................................................................

______________________________________________________

إذا كان الإفطار نسيانا ، ويكون ارتفاعها بارتفاع الموضوع ؛ لأن موضوعها هو الإفطار عن عمد كما هو واضح.

٣ ـ أن حديث الرفع حيث ورد في مقام الامتنان على الأمة ، فيكون مختصا برفع ما كان في رفعه منّة على الأمة.

٤ ـ وفيما هو المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» خلاف بين المصنف وبين الشيخ «قدس‌سرهما» ، حيث يظهر من بعض كلمات الشيخ «قدس‌سره» : اختصاص الموصول بالشبهة الموضوعية بوحدة السياق ، بمعنى : أن المراد من الموصول هو الفعل الخارجي المجهول نفسه لا حكمه ؛ كالمائع الخارجي المردد بين الخمر والخل ، فكأن الحديث حينئذ مختصا بالشبهة الموضوعية ، وأجنبيا من الشبهة الحكمية.

وأما على قول المصنف «قدس‌سره» : فالمراد من الموصول هو مطلق الحكم الإلزامي من الوجوب والحرمة ، سواء كان في الشبهة الحكمية ؛ بأن يكون منشأ الاشتباه فقدان النص كحرمة شرب التتن أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو الموضوعية ؛ كحرمة المائع الخارجي المشكوك كونه خمرا فالجامع هو التكليف الإلزامي المشكوك أعم من كونه تكليفا كليا وكان منشأ الشك فيه فقدان النص أو إجماله أو تعارض النصين كما في الشبهات الحكمية ، وكونه تكليفا جزئيا كان منشأ الشك هو الاشتباه في الأمور الخارجية.

فالمتحصل : أن المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» عند الشيخ هو الفعل الخارجي بوحدة السياق حيث المراد من الموصول في غير «ما لا يعلمون» هو الفعل الإكراهي والاضطراري ونحوهما ؛ إذ لا معنى لتعلق الإكراه والاضطرار بنفس الحكم ، فالمراد بالموصول في «ما لا يعلمون» أيضا هو الفعل المجهول لا الحكم ، فيختص الحديث بالشبهات الموضوعية الخارجة عن محل الكلام.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم : أنه يقال في تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة : بأن الحديث ظاهر في رفع مطلق الحكم الإلزامي المجهول ، سواء كان ذلك الحكم الإلزامي كليا كما في الشبهة الحكمية ، أم جزئيا كما في الشبهة الموضوعية ، ويكون إسناد الرفع إلى الحكم إسنادا حقيقيا لكونه إلى ما هو له ؛ لأن المرفوع ما فيه الثقل ، والثقل إنما هو في إلزام المكلف بالفعل في الشبهة الوجوبية. أو الترك كما في الشبهة التحريمية.

١٣١

المرفوعة فيه ، فالإلزام المجهول (١) مما لا يعلمون فهو مرفوع فعلا (٢) ؛ وإن كان ثابتا واقعا ، فلا مؤاخذة عليه (٣) قطعا.

لا يقال : ليست المؤاخذة (٤) من الآثار الشرعية ؛ كي ترتفع بارتفاع التكليف

______________________________________________________

فالمتحصل : أن الموجب للثقل والضيق هو حكم الشارع ، فيصح إسناد الرفع إليه. غاية الأمر : أن المرفوع هو الحكم الظاهري الفعلي لا الحكم الواقعي حتى يلزم التصويب ، فلا مؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي لعدم كونه فعليا.

توضيح : بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة ، وهذا التقريب مبني على إرادة الحكم من الموصول لا الموضوع كما عرفت.

(٢) يعني : ظاهرا «وإن كان ثابتا واقعا» ؛ لما تحقق في محله من أن الجهل لا يقيد الأحكام الواقعية ؛ بل هي ثابتة على المكلفين ، سواء علموا أم جهلوا ، فالأحكام الواقعية لا تختص بالعالم فقط ؛ بل مشتركة بين العالم والجاهل ، غاية الأمر : إذا كان الجاهل قاصرا لم يعاقب على مخالفة الحكم الواقعي لأنه خلاف العقل والنقل ، فإن العقل والنقل اتفقا على قبح مؤاخذة الجاهل القاصر. هذا ما أشار إليه بقوله : «فلا مؤاخذة عليه قطعا».

(٣) يعني : فلا مؤاخذة على الإلزام المجهول ؛ لترتب استحقاق المؤاخذة على مخالفة الحكم الفعلي المنجز ، والمفروض : انتفاء هذه المرتبة.

فحديث الرفع يدل على البراءة ، وأن الاستدلال به عليها متين جدا ؛ لما عرفت في المقدمة من : أن المراد بالموصول هو نفس الحكم ، سواء كان الشك فيه ناشئا من عدم الدليل ، أم من الأمور الخارجية ، فيراد من الموصول : كلتا الشبهتين الحكمية والموضوعية ، من دون لزوم محذور استعمال اللفظ في أكثر من معنى ، ومن دون لزوم تقدير شيء أصلا.

(٤) هذا الإشكال مع جوابه مأخوذان عن كلام للشيخ «قدس‌سره» في المقام ، وله مجال على قول الشيخ ، حيث قال : إن المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» : هو فعل المكلف نظير سائر الفقرات لا الحكم المجهول ، فلا بد من تقدير ما هو المرفوع بحديث الرفع ، والمقدر هو خصوص المؤاخذة على احتمال ، فيتوجه إليه هذا الإشكال ويقال إن المرفوع بأدلة البراءة لا بد وأن يكون من الآثار الشرعية ، والمؤاخذة ليست من الآثار الشرعية حتى ترتفع بحديث الرفع.

١٣٢

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما على قول المصنف حيث قال : إن المراد بالموصول في «ما لا يعلمون» : هو الحكم وهو قابل للرفع لحديث الرفع ، فلا مجال لهذا الإشكال أصلا.

نعم ؛ يمكن أن يقال في تصحيح هذا الإشكال على قول المصنف : إن الغرض في المقام من التمسك بأدلة البراءة هو نفي المؤاخذة والعقوبة على مخالفة التكليف حتى يكون المكلف الجاهل في مأمن منها فيقال في تقريب الإشكال : إن أصالة البراءة التي هي من الأصول العملية لا تنفي إلا الآثار الشرعية ، ولا ترفع الآثار العقلية ولا الأمور التكوينية ، والمؤاخذة ليست من الآثار الشرعية ؛ لأن نفس المؤاخذة أمر تكويني من فعل المولى ، فليس وضعها ولا رفعها بيد الشارع بما هو شارع حتى يرفعها.

وأما استحقاق العقوبة على المخالفة والمعصية : فهو أثر عقلي لا يرتفع بحديث الرفع.

وكيف كان ؛ فإن الإشكال في المؤاخذة من جهتين :

إحداهما : عدم كونها أثرا شرعيا حتى يصح جريان أصل البراءة التي هي من الأصول العملية فيها.

ثانيتهما : إن المؤاخذة ليست من آثار التكليف المجهول حتى ترتفع برفعه ؛ بل هي من آثار التكليف الفعلي المنجز ، فلا عقاب عقلا على ما لم يتنجز.

ويندفع الإشكال من الجهة الأولى : بأن رفع المؤاخذة ليس للتعبد برفع نفسها حتى لا يعقل التعبد به نفيا وإثباتا ؛ بل لنفي موضوعها وهو التكليف الفعلي الواقعي أو الظاهري ، فإن استحقاقها مترتب على مخالفته بعد وصوله إلى المكلف ، فعدم الاستحقاق إنما هو لعدم مخالفة التكليف الواصل ، سواء كان هناك تكليف واقعا ولم يصل إلى المكلف ولو بإيجاب الاحتياط ، أم لم يكن أصلا.

ويندفع الإشكال من الجهة الثانية : بأن المؤاخذة وإن لم تكن من آثار التكليف المجهول بما هو مجهول ؛ لكنها من آثار ما يقتضيه الواقع المجهول من إيجاب الاحتياط المصحح للمؤاخذة ، فهي أثر الأثر الشرعي ، فرفع التكليف المجهول تعبدا رفع لأثره أعني : إيجاب الاحتياط الذي هو موضوع الاستحقاق ، فلا مانع من رفع المؤاخذة بإجراء أصالة البراءة في التكليف المجهول.

فالمتحصل : أن المؤاخذة وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا قابلا للرفع إلا إنها مما يترتب على التكليف المجهول بسبب ما هو أثره الشرعي القابل للرفع وهو إيجاب الاحتياط ، فإذا

١٣٣

المجهول ظاهرا (١) ، فلا دلالة له (٢) على ارتفاعها.

فإنه يقال : إنها (٣) وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا إلا إنها (٤) مما يترتب عليه بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه ، من (٥) إيجاب الاحتياط شرعا.

فالدليل على رفعه دليل على عدم إيجابه (٦) ، المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على

______________________________________________________

دل حديث الرفع على رفع التكليف المجهول فقد دل على عدم إيجاب الاحتياط المستتبع لعدم استحقاق المؤاخذة عليه.

وبالجملة : إن للتكليف المجهول أثرين أحدهما : شرعي وهو إيجاب الاحتياط ، والآخر : عقلي وهو استحقاق العقاب على مخالفته ، غايته أن الشرعي سبب لترتب العقلي ، وانتفاؤه سبب لانتفائه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) قيد ل «ارتفاع التكليف».

(٢) أي : فلا دلالة لحديث الرفع على ارتفاع المؤاخذة ، مع أن ارتفاعها وعدم استحقاقها بمخالفة التكليف المجهول هو المهم في المقام.

(٣) أي : المؤاخذة ، وتوضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة وهي : أن الآثار العقلية تثبت تارة : لمجرى الأصل واقعا ، وأخرى : لما هو أعم من الواقع والظاهر.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : إن الآثار العقلية إن كانت من قبيل الأول : فالأصل لا يثبتها ، وهذا ما اشتهر بينهم من أن الأصل لا يثبت الآثار غير الشرعية ، وإن كانت من قبيل الثاني : فالأصل يثبتها ، وقبح العقاب من هذا القبيل ؛ لترتبه على عدم الحكم مطلقا وإن كان ظاهرا ، ومثله حسن المؤاخذة فإنه يترتب على ثبوت التكليف ولو ظاهرا.

فالنتيجة : أن أصالة البراءة النافية للتكليف ظاهرا تنفي استحقاق المؤاخذة كما ينتفي استحقاقها بعدم الحكم واقعا.

(٤) أي المؤاخذة ، وضمير «عليه» راجع على التكليف المجهول.

(٥) بيان ل «ما» الموصول وضميرا «أثره ، باقتضائه» راجعان على التكليف المجهول ، يعني : أن المؤاخذة من آثار إيجاب الاحتياط ، الذي هو من آثار الحكم المجهول. وضمير «رفعه» راجع على التكليف المجهول.

(٦) أي : إيجاب الاحتياط ، يعني : أن الدليل على نفي التكليف المجهول دليل على نفي إيجاب الاحتياط ؛ لعدم ارتفاع الواقع بالجهل به ، فلا بد أن يكون المرفوع أثره ومقتضاه وهو إيجاب الاحتياط.

١٣٤

مخالفته (١).

لا يقال (٢) : لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف المجهول ؛ بل على مخالفة نفسه ، كما هو قضية إيجاب غيره (٣).

فإنه يقال (٤) : هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا ؛ وإلا ...

______________________________________________________

(١) أي : مخالفة التكليف ، و «المستتبع» صفة ل «عدم إيجابه» يعني : لما كان إيجاب الاحتياط علة للمؤاخذة ، فنفيه علة لعدمها.

(٢) توضيح الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : إن كل واجب بالوجوب المولوي في الشرع في مخالفته عقاب وفي امتثاله وموافقته ثواب ، فإذا ارتفع الوجوب يرتفع العقاب على مخالفته.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن رفع إيجاب الاحتياط لا يوجب رفع المؤاخذة على التكليف المجهول ؛ بل يوجب رفعها على نفسه ؛ وذلك لما عرفت في المقدمة من أن شأن الوجوب المولوي هو استحقاق المؤاخذة على مخالفته ، فوجوب الاحتياط لما كان علة لاستحقاق المؤاخذة على مخالفة نفسه كان رفع وجوبه علة لارتفاع المؤاخذة على نفس وجوب الاحتياط ؛ لا لارتفاع المؤاخذة على التكليف المجهول.

فحاصل الإشكال : أن إيجاب الاحتياط وإن كان أثرا شرعيا للتكليف المجهول وهو قابل للرفع ؛ ولكنه ليس سببا لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول ؛ بل على مخالفة نفسه كما هو مقتضى سائر الأوامر الصادرة من المولى.

(٣) أي : كما أن استحقاق المؤاخذة هو مقتضى مخالفة غير الاحتياط من الواجبات ؛ كالصلاة والصوم ونحوهما.

(٤) هذا جواب عن الإشكال المذكور ، وتوضيحه يتوقف على مقدمة وهي : أن الوجوب على قسمين : نفسيّ وطريقيّ ، واستحقاق العقاب مختص بالأول دون الثاني ؛ إذ الوجوب الطريقي تابع للواقع ، فلا مؤاخذة عليه في نفسه ، وإنما فائدته المؤاخذة على مخالفة الواقع عند الإصابة ، كما هو الحال في جميع الأوامر الطريقية عند الإصابة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن تشريع وجوب الاحتياط إنما كان لأجل التحفظ على الواقع عند الجهل به ، فهو نظير الإيجاب الطريقي ، فإن فائدته ليست إلا تنجز الواقع عند الإصابة والعذر عند الخطأ ، ولا يترتب على نفس الطريق غير ما يترتب على موافقة الواقع ومخالفته ، فللمولى مؤاخذة العبد إذا خالف الواقع بترك الاحتياط فيه كصحة مؤاخذته على مخالفة الطريق المصيب.

١٣٥

فهو (١) موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول كما هو الحال في غيره (٢) من الإيجاب والتحريم الطريقيين (٣) ، ضرورة (٤) : أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به ، ويقال : لم أقدمت مع إيجابه به؟ ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان ، كما يخرج بهما.

وقد انقدح بذلك (٥) : أن رفع التكليف المجهول كان منّة على الأمة ، حيث كان له

______________________________________________________

قوله : «هذا» أي : استتباع مخالفة وجوب الاحتياط للمؤاخذة على نفسه موقوف على القول بوجوبه نفسيا ؛ إذ عليه يلزم استحقاق المؤاخذة على مخالفته كلزومه على مخالفة سائر التكاليف النفسية.

وأما إذا كان إيجاب الاحتياط طريقيا : فلا يستحق المؤاخذة على مخالفة نفسه ؛ بل إنما يستحقها على مخالفة ذي الطريق وهو التكليف المجهول ، وعليه : فترتفع المؤاخذة من البين ببركة حديث الرفع الرافع لموضوع المؤاخذة أعني : إيجاب الاحتياط ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ١٩٩».

(١) أي : وإن كان إيجاب الاحتياط طريقيا «فهو موجب ...» الخ.

(٢) أي : غير الاحتياط.

(٣) أي : كالإيجاب والتحريم المقدمي ؛ كوجوب الصلاة في الثوبين المشتبهين ، وحرمة الإلقاء من السطح ، فإنه لا عقاب فيهما ، وإنما العقاب على مخالفة التكليف المجهول ، مثلا : الإلقاء من السطح حرام ؛ لكنه حرام طريقي لحرمة قتل النفس ، فإذا ألقى نفسه ومات عوقب على القتل لا على الإلقاء.

(٤) تعليل لقوله : «فهو موجب».

توضيحه : أن إيجاب الاحتياط لتنجيز الواقع ؛ كالإيجاب والتحريم الطريقيين في صحة الاحتجاج والمؤاخذة ، وعدم كون العقاب معه عقابا بلا بيان ؛ بل مؤاخذة مع الحجة والبرهان ، فوزان إيجاب الاحتياط من حيث كونه حجة على الواقع وزان الإيجاب والتحريم الطريقيين ، فالتكليف بعد إيجاب الاحتياط وإن لم يخرج وجدانا عن الاستتار ؛ بل هو باق على المجهولية ؛ لكنه خرج عن التكليف المجهول الذي لم تقم عليه حجة ، وصار مما قام عليه البرهان. وضمير «أنه» للشأن ، وضمير «بهما» في الموضعين راجع على الإيجاب والتحريم ، والضمير في «أن يحتج به ، إيجابه ، يخرج به» راجع على إيجاب الاحتياط.

(٥) أي : قد ظهر بذلك الذي ذكرنا من كون التكليف المجهول مقتضيا لإيجاب

١٣٦

تعالى وضعه (١) بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط ، فرفعه (٢). فافهم (٣).

ثم لا يخفى (٤) : عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في «ما لا يعلمون» ، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو

______________________________________________________

الاحتياط تحفظا عليه ورفعه علة لعدمه ، وغرضه : أن الحديث بعد أن كان واردا في مقام الامتنان ، ففي جعل المرفوع في «ما لا يعلمون» إيجاب الاحتياط منّة على العباد ؛ لأن رفعه يوجب السعة عليهم ، بخلاف إيجابه ، فإنه يوجب الضيق والكلفة عليهم.

(١) يعني : كان له تعالى وضع التكليف المجهول على العباد بوضع ما يقتضيه وهو إيجاب الاحتياط ؛ وذلك لأن الحكم الواقعي يقتضي ـ في ظرف الجهل به ـ إيجاب الاحتياط تحفظا عليه ، فإيجاب الاحتياط مقتضى الجهل بالحكم الواقعي ، فضمير «قضيته» راجع على التكليف المجهول ، و «من إيجاب» بيان للموصول في «بما».

(٢) أي : فرفع التكليف الواقعي المجهول برفع مقتضاه وهو إيجاب الاحتياط.

(٣) لعله إشارة إلى الفرق بين الاحتياط وبين سائر الأوامر الطريقية ، فإن في ترك الاحتياط تجريا عقاب وإن أتى بالتكليف الواقعي ؛ كما لو صلى إلى طرف واحد ـ فيما اشتبهت القبلة ـ وترك سائر الجهات ، وصادفت تلك الجهة الواقع ، فإنه يعاقب للتجري ـ كما هو مذهب المصنف ـ وهذا ليس كسائر الأوامر الطريقية التي لا عقاب لها قطعا.

(٤) وقد عرفت فيما تقدم الخلاف بين المصنف والشيخ «قدس‌سرهما» فيما هو المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ، حيث قال المصنف : بأن المراد من الموصول : هو الحكم المجهول ، وهو بنفسه قابل للرفع ولو بمعنى رفع تنجزه وهو المرتبة الأخيرة منه ، بلا حاجة إلى تقدير شيء فيه أصلا.

ومن هنا يقول المصنف : إنه لا حاجة إلى تقدير شيء في «ما لا يعلمون» ؛ وإن كان في غيره من سائر الفقرات لا بد من تقدير المؤاخذة ، أو تمام الآثار ، أو الأثر الظاهر في كل منها ، أو إسناد الرفع إليه مجازا بلحاظ المؤاخذة ، أو جميع الآثار أو الأثر الظاهر ، من قبيل إسناد السؤال إلى القرية مجازا بلحاظ الأهل.

هذا بخلاف قول الشيخ «قدس‌سره» : حيث قال : بأن المراد من الموصول هو الفعل المجهول عنوانه بوحدة السياق ، فلا بد من تقدير شيء في «ما لا يعلمون» كسائر الفقرات.

وكيف كان ؛ فغرض المصنف : هو التعريض بما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من لزوم التقدير في الحديث.

١٣٧

وتوضيح تعريض المصنف بالشيخ : يتوقف على مقدمة وهي : إن المحتمل في الموصول في «ما لا يعلمون» وجوه ثلاثة :

الأول : أن يراد به : خصوص الفعل غير المعلوم عنوانه ؛ كالفعل الذي لا يعلم أنه شرب الخمر أو الخل كما يقول به الشيخ «قدس‌سره» ، والحديث حينئذ : مختص بالشبهات الموضوعية ، فلا يصح الاستدلال به على البراءة في الشبهات الحكمية.

الثاني : أن يراد به : الحكم المجهول مطلقا ، يعني : سواء كان منشأ الجهل بالحكم فقد النص أم إجماله ـ كما في الشبهات الحكمية ـ أم اشتباه الأمور الخارجية ؛ كما في الشبهات الموضوعية ، وعليه : فيشمل الحديث كلا من الشبهات الحكمية والموضوعية ؛ ما هو مختار المصنف «قدس‌سره».

الثالث : أن يراد به : ما يعم الاحتمال الأول والثاني ، يعني : يراد به الحكم والفعل ، وعلى هذين الاحتمالين يتم الاستدلال بالحديث على البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا حاجة إلى تقدير شيء في «ما لا يعلمون» استنادا إلى دلالة الاقتضاء حتى يقال : إن المقدر فيه إما خصوص المؤاخذة ، أو جميع الآثار ، أو الأثر الظاهر المناسب لكل واحد من التسعة كما يقول به الشيخ «قدس‌سره».

وتوضيح اعتراض المصنف عليه : أنه لا حاجة إلى التقدير في «ما لا يعلمون» بعد إمكان إرادة نفس الحكم الشرعي من الموصول ؛ لأن الحكم بنفسه قابل للوضع والرفع تشريعا ، سواء كان منشأ الجهل به فقد النص أم إجماله ، أم الاشتباه في الأمور الخارجية ، فيكون حديث الرفع بهذا التقريب دليلا على أصل البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية معا ؛ بلا تكلف أصلا.

نعم ؛ دلالة الاقتضاء في غير «ما لا يعلمون» توجب إما تقدير جميع الآثار أو الأثر الظاهر أو المؤاخذة ، وإما الالتزام بالمجاز في الإسناد بلا تقدير شيء ، يعني : أسند الرفع إلى نفس المضطر إليه ؛ ولكن المقصود رفع أمر آخر من المؤاخذة ونحوها ؛ لاستلزام رفع تلك العناوين للكذب لتحققها خارجا قطعا ، فلا بد إما من التقدير أو المجاز في الإسناد حفظا لكلام الحكيم عن الكذب.

الكلام في توضيح العبارات :

قوله : «كان في الشبهة الحكمية ...» الخ بيان لقوله : «مطلقا».

١٣٨

الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا ؛ وإن كان في غيره (١) لا بد من تقدير الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه (٢) ، فإن ليس «ما اضطروا وما استكرهوا ...» إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة.

نعم (٣) ؛ لو كان المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» ما اشتبه حاله ولم يعلم عنوانه ، لكان أحد الأمرين (٤) مما لا بد منه أيضا (٥) ثم لا وجه (٦) لتقدير خصوص المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها.

______________________________________________________

قوله : «فإن ما لا يعلم» تعليل لقوله : «عدم الحاجة ...» الخ.

قوله : «بنفسه قابل للرفع» أي : لا بآثاره كما في غير «ما لا يعلمون» من سائر الفقرات ، حيث إنها بنفسها غير قابلة للرفع ، وإنما تقبل الرفع باعتبار آثارها ، و «قابل» خبر «فإن ما لا يعلم».

(١) أي : غير «ما لا يعلمون» من سائر الفقرات «لا بد من تقدير الآثار».

وجه اللابدية هو : دلالة الاقتضاء.

فالمراد من آثار ما استكرهوا عليه ـ مثلا ـ فانه إذا شرب الإنسان الخمر عوقب في الآخرة ، وجلد في الدنيا ، وكره تزويجه ؛ لكن دليل الرفع دل على عدم ترتب تلك الآثار على ما إذا كان الشرب عن إكراه.

(٢) أي : إلى غير «ما لا يعلمون» ، مثل : «ما استكرهوا» ، مع إن الإسناد في الحقيقة إلى الآثار أو إلى المؤاخذة ، فيكون من قبيل إسناد الجريان إلى الميزاب ، والحال أنه مسند إلى الماء حقيقة في قولنا : «جرى الميزاب» فإنه ليس ما اضطروا أو ما استكرهوا إلى آخر التسعة بمرفوع حقيقة.

ووجهه واضح ، فإن الاضطرار والإكراه والخطأ موجودة تكوينا ، فلا معنى لرفعها تشريعا ، فلا بد من تقدير أمر آخر يكون هو المرفوع حقيقة.

(٣) استدراك على قوله : «عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة» ، وغرضه : أنه إن أريد بالموصول ما استظهره الشيخ «قدس‌سره» من الموضوع الخارجي المشتبه عنوانه ؛ كالمائع المردد بين الخمر والخل ، فلا بد من تقدير أحد الأمور الثلاثة التي ذكرها الشيخ ، صونا لكلام الحكيم عن الكذب واللغو ؛ لعدم كون الأمور المجهولة عناوينها مرفوعة حقيقة.

(٤) وهما تقدير أحد الأمور الثلاثة ، وارتكاب المجاز في إسناد الرفع.

(٥) أي : كسائر الفقرات التي لا بد من التقدير فيها.

(٦) هذا تعريض آخر بالشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، فإنه جعل دلالة الاقتضاء

١٣٩

فلا محيص عن أن يكون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها (١) ، أو تمام آثارها (٢)

______________________________________________________

قرينة على تقدير أحد الأمور الثلاثة. ثم استظهر أن يكون المقدر هو المؤاخذة استنادا إلى وحدة السياق ، فأورد عليه المصنف «قدس‌سره» : بأن الحاجة إلى التقدير في غير «ما لا يعلمون» من العناوين التي أسند الرفع إليها كالخطأ والنسيان وغيرهما ؛ وإن كانت شديدة ؛ لما عرفت من : عدم صحة إسناد الرفع التشريعي إلى الفعل الخارجي التكويني ؛ إلا إنه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة فيها ؛ إذ المقدر في بعضها ـ وهو الإكراه وعدم الطاقة والخطأ بقرينة رواية المحاسن ، التي أشار إليها في المتن ـ هو الحكم الوضعي من طلاق الزوجة وانعتاق العبد وصيرورة الأموال ملكا للفقراء ، فلا وجه حينئذ لاختصاص المقدر بالمؤاخذة ، فالمقدر إما جميع الآثار أو الأثر الظاهر لكل من التسعة ، وإن كان ورود الحديث في مقام الامتنان مقتضيا لرفع جميع الآثار.

نعم ؛ في خصوص «ما لا يعلمون» يتجه تقدير المؤاخذة لكونها الأثر الظاهر لرفع الحكم الواقعي المجهول ؛ لكن لا يتعين ذلك ، سواء أريد من الموصول خصوص فعل المكلف كما استظهره الشيخ ، أم أريد به الحكم المجهول كما التزم به المصنف.

قوله : «في غير واحد» وهو «ما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، والخطأ ، والطيرة والوسوسة». وضمير «غيرها» راجع على المؤاخذة.

ووجه كون المقدر غير المؤاخذة هو : ظاهر رواية المحاسن ، فإن شهادتها بعدم اختصاص المرفوع بالمؤاخذة مما لا يقبل الإنكار.

(١) أي : من التسعة ، حتى يكون معنى الرفع رفع الأثر الظاهر لما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه. وهكذا.

(٢) أما كون المقدر هو الأثر الظاهر في كل منها : فلتيقن إرادته على كل حال ، سواء كان للرفع إطلاق أم لا.

وأما كونه تمام الآثار ، فلوجهين :

الوجه الأول : أن الرفع في الحديث وقع في مقام الامتنان المناسب لارتفاع جميع الآثار ما لم يلزم منه محذور ، وهو منافاته للامتنان بالنسبة إلى بعض الأمة ؛ كما إذا استلزم رفع جميع الآثار ضررا على مسلم ، فإن المرفوع حينئذ لا يكون تمام الآثار.

فإتلاف المال المحترم نسيانا أو خطأ لا يرتفع معه الضمان ، وكذلك الإضرار بمسلم لدفع الضرر عن نفسه لا يدخل في عموم ما اضطروا إليه ؛ إذ لا امتنان في رفع الأثر عن

١٤٠