دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

عليه الثواب بعنوانه (١) ، وأما لو دل (٢) على استحبابه لا بهذا العنوان (٣) ؛ بل بعنوان أنه محتمل الثواب لكانت دالة على استحباب الإتيان به بعنوان الاحتياط كأوامر (٤) الاحتياط لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الإرشادي

______________________________________________________

استحبابه بعنوانه الأولي كعنوان زيارة المعصوم «عليه‌السلام».

الثاني : أن يكون المستفاد منها استحباب عمل لا بعنوانه الأولي ؛ بل بعنوان كون العمل محتمل الثواب كما هو ظاهر بعض تلك الأخبار مثل : «فعمله طلبا لقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ...» ، أو «التماس ذلك الثواب».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الإشكال على الاستدلال بأخبار «من بلغ» على الاحتياط في العبادة الذي هو مورد للبحث في المقام إنما يتم على الاحتمال الأول ، فيصح أن يقال في تقريب الإشكال : إن أخبار «من بلغ» لا تجدي في جريان الاحتياط في العبادة ؛ لأن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» إنما هو كسائر المستحبات النفسية ، فالإتيان به بقصد استحبابه إطاعة حقيقية. ومن المعلوم : أنه لا ربط له حينئذ بالاحتياط المحرز للواقع.

وأما إذا كان المستفاد من تلك الأخبار أمرا بما هو محتمل الواقع ـ كنفس أوامر الاحتياط بناء على مولويتها ـ كما هو مقتضى الاحتمال الثاني ، كان كافيا في إمكان التقرب بالعبادة المشكوكة لصيرورته مستحبا شرعيا ؛ لأنه ـ على هذا التقدير ـ يصير نفس المحتمل بما هو محتمل مستحبا نفسيا يصح نية التقرب بأمره ، فيصير الاحتياط مستحبا شرعا ، ويرشد إلى هذا المعنى قوله «عليه‌السلام» في بعض تلك الأخبار : «التماس ذلك الثواب» ، أو «طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» حيث إن ترتب الثواب على ذلك الفعل منوط بالإتيان به بداعي احتمال مطلوبيته للشارع ، فليس العمل بنفسه مستحبا ـ كما هو مقتضى الاحتمال الأول ـ حتى يقال : إن الإتيان به إطاعة حقيقية ؛ بل هو مع الإتيان به برجاء محبوبيته فتعلق الأمر النفسي بالعمل برجاء الأمر به ، فيقصد ذلك الأمر ويتحقق مشروعيته الاحتياط في العبادة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ، وهو كونه محتمل الثواب.

(٢) هذا تقدم توضيحه بقولنا : «وأما إذا كان المستفاد ...» إلخ.

(٣) أي : لا بعنوانه الأولي بل بعنوانه الثانوي ، وهو كونه محتمل الثواب.

(٤) في استحباب الفعل بعنوان الاحتياط لا بعنوانه الأولي ؛ بناء على مولوية الأمر

٢٦١

فإنه يقال (١) : إن الأمر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا ، مع أنه لو كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا إليه (٢) آنفا.

ثم (٣) إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب ، فإن

______________________________________________________

المتعلق بالاحتياط لا إرشاديته.

(١) جواب عن قوله : «لا يقال». وقد أجاب المصنف عنه بوجهين :

الوجه الأول : ما أفاده بقوله : «إن الأمر بعنوان الاحتياط». وتوضيحه : أن أوامر الاحتياط ـ على تقدير مولويتها ـ توصلية ؛ إذ لا دليل على تعبديتها ، فتسقط بمجرد موافقتها ، ولا يتوقف سقوطها على قصد التقرب بها كما هو شأن الأوامر العبادية. وعليه : فالأمر التوصلي كالأمر الإرشادي لا يصحح قصد القربة مع وضوح اعتباره في العبادة. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «مع أنه لو كان عباديا ...» الخ.

وحاصله : أنه لا يصح قصد التقرب بأوامر الاحتياط حتى مع تسليم كونها عبادية ، للزوم الدور ، ضرورة : أن الاحتياط حينئذ يتوقف على الأمر به حتى يجوز الاحتياط بقصد الأمر به ، والأمر بالاحتياط يتوقف على وجود الاحتياط قبل الأمر به ؛ لكون الأمر عارضا عليه ، والعارض يستدعي تقدم المعروض عليه ، فالأمر يستدعي تقدم الاحتياط عليه ، فالنتيجة : أن الاحتياط يتوقف على نفسه ، وهو الدور.

(٢) يعني إلى عدم كونه مصححا للاحتياط ؛ لاستلزامه الدور ، ومراده بقوله : «آنفا» ما أفاده في أوائل هذا التنبيه حيث قال : بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه.

مفاد أخبار من بلغ

(٣) بعد أن ناقش المصنف «قدس‌سره» في الاستدلال بأخبار «من بلغ» على تعلق الأمر المولوي بالاحتياط ، تطرق إلى ما يمكن أن يستفاد من تلك الأخبار في أنفسها من الوجوه والمحتملات.

فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في محتملات هذه الأخبار.

المقام الثاني : في الأقوال فيها.

وأما محتملات هذه الأخبار فهي ثلاثة :

٢٦٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : أن يكون مفادها حكما أصوليا ، وهو حجية الأخبار الضعيفة الدالة على استحباب بعض الأفعال من باب «التسامح في أدلة السنن» ، فإذا دل خبر ضعيف السند على استحباب بعض الأعمال كأعمال يوم النيروز ، وترتب الثواب عليها كان ذلك الخبر الضعيف ـ ببركة هذه الأخبار ـ حجة ، وصح الحكم بمضمونه نظرا إلى حجية سنده.

الثاني : أن يكون مفادها حكما فقهيا ، وهو استحباب العمل الذي بلغ الثواب عليه ، بمعنى : أنه إذا بلغ في رواية ثواب على عمل صح الحكم باستحباب ذلك العمل ، مع قطع النظر عن سندها.

ثم هذا الاحتمال الثاني فيه احتمالان :

أحدهما : أن يكون موضوع هذا الحكم الفقهي ـ أعني : الاستحباب ـ هو العمل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ـ وهو كونه مما بلغ عليه الثواب ؛ بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم وجهة تقييدية لترتب الثواب عليه ؛ بل يكون بلوغ الثواب جهة تعليلية له ، فإذا بلغ ثواب على عمل كان ذلك العمل بعنوانه الأولي مستحبا من المستحبات ، فالمستحب هو نفس العمل.

ثانيهما : أن يكون موضوعه العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب ؛ بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم ، وجهة تقييدية لترتبه عليه ، فالمستحب حينئذ : هو العمل المأتي به برجاء الثواب عليه لا نفس العمل بما هو.

والفرق بين هذين الوجهين : أنه على الأول : يكون الأمر المستفاد من تلك الأخبار متعلقا بنفس العمل ، ولذا يكون العمل بنفسه مستحبا.

وعلى الثاني : يكون متعلقا بالاحتياط ، وهو الإتيان بالعمل برجاء الثواب عليه ، فيكون الاحتياط هو المأمور به بالأمر المولوي دون نفس العمل ، فموضوع الاستحباب على الأول : هو نفس العمل.

وعلى الثاني : هو الاحتياط.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني ـ وهو الأقوال في مفاد أخبار «من بلغ» ـ فثلاثة :

الأول : أن يكون مفادها حجية الخبر الضعيف ، وهو ظاهر المشهور ، حيث يظهر من فتاواهم باستحباب بعض الأعمال بمجرد ورود خبر ضعيف دال على ترتب الثواب عليه.

الثاني : أن يكون مفادها استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب ، كما هو

٢٦٣

صحيحة (١) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» قال : «من بلغه عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له ؛ وإن كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يقله» (*) ظاهرة (٢) في أن الأجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أنه

______________________________________________________

مختار المصنف «قدس‌سره» ، حيث استظهر من صحيحة هشام المذكورة في المتن الاحتمال الثاني ، نظرا إلى ظهورها في ترتب الثواب على نفس العمل ؛ لا العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب. وأن المستفاد منها هو استحباب نفس العمل بعنوانه الأولي ؛ لا بعنوان كونه مما بلغ عليه الثواب.

الثالث : أن يكون مفادها هو استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب ؛ كما استظهره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» من صحيحة هشام ونحوها ، فالمستفاد منها عند الشيخ «قدس‌سره» : هو استحباب الاحتياط.

وعليه : فالمصنف والشيخ «قدس‌سره» متفقان على أن المستفاد من أخبار «من بلغ» حكم فرعي وهو الاستحباب ؛ لا الأصولي وهو حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، ومختلفان في متعلقه ، أعني : المستحب ، فاستظهر الشيخ «قدس‌سره» : أنه هو العمل بعنوان الرجاء والانقياد ؛ بحيث يكون لهما دخل في المتعلق ، والمصنف : أنه ذات العمل ، وأن الرجاء والانقياد خارجان عن متعلق الطلب الاستحبابي ، وإنما هما داعيان لإيجاد العمل في الخارج ، ومن المعلوم : أن الداعي ليس داخلا في متعلق الطلب.

(١) بيان لقوله : «لا يبعد» ، واستظهار لترتب الثواب على العمل بعنوانه الأولي.

(٢) خبر لقوله : «فإن صحيحة هشام ...» الخ والضمير في «بلغه» راجع على الموصول في قوله : «من بلغه» المراد به العامل ، وضمير «عنه» راجع على النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». وضمير «أنه ذو ثواب» راجع على العمل ، وجملته فاعل «بلغه».

ووجه الظهور : أن هذه الصحيحة تدل على ترتب الثواب الموعود الوارد في خبر ضعيف على نفس العمل ؛ لا يستحقه العبد بحكم العقل إلا بكونه مطيعا ، ولا إطاعة إلا مع تعلق الأمر بالمأتي به.

وعليه : فالإخبار بالثواب على نفس العمل إخبار عن تعلق الأمر المولوي بذلك العمل ، وهو معنى الاستحباب.

__________________

(*) المحاسن ١ : ٢٥ / ٢ ، ثواب الأعمال : ١٣٢ ، عن هاشم بن صفوان ، الوسائل ١ : ٨٠ ـ ١٨٢ ب ١٨.

٢٦٤

ذو ثواب ، وكون (١) العمل متفرعا على البلوغ ، وكونه الداعي إلى العمل غير موجب لأن يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه فيما إذا أتى برجاء أنه مأمور به ، وبعنوان الاحتياط ، بداهة : أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى ما استفاده الشيخ «قدس‌سره» من أخبار «من بلغ» ، فإنه «قدس‌سره» بعد أن استظهر استحباب العمل ـ الذي دل خبر ضعيف على استحبابه ـ من هذه الأخبار أورد على نفسه بوجوه ثلاثة أجاب عن اثنين منها ، وقوى أولها ـ وهو ثبوت الأجر لا يثبت الاستحباب ـ ثم قال : «وأما الإيراد الأول : فالإنصاف أنه لا يخلو عن وجه ؛ لأن الظاهر من هذه الأخبار كون العمل متفرعا على البلوغ ، وكونه الداعي على العمل ، ويؤيده تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» والتماس الثواب الموعود ، ومن المعلوم : أن العقل مستقل باستحقاق هذا العامل المدح والثواب». «دروس في الرسائل ، ج ٣ ، ص ٥٨».

وحاصل الكلام : أنه قد اختلف المصنف والشيخ «قدس‌سرهما» في مفاد أخبار «من بلغ».

قال المصنف : إن مفادها هو استحباب نفس العمل بعنوانه الأولي ، وقال الشيخ «قدس‌سره» : إن مفادها هو استحباب الاحتياط أي : استحباب العمل بعنوانه الثانوي ، وهو رجاء بلوغ الثواب والانقياد.

وقد استدل المصنف «قدس‌سره» بإطلاق صحيحة هشام بن سالم ، وهو قوله : «عليه‌السلام» : «فعمله ، كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يقله» ، فإطلاق قوله : «فعمله ، كان أجر ذلك له» يقتضي استحباب نفس العمل ، وترتب الثواب على ذات العمل بعنوانه الأولي ؛ إذ لو كان الثواب مترتبا على العمل بعنوان الاحتياط والرجاء لكان اللازم تقييده بعنوان الاحتياط وبلوغ الثواب أي : فيقول : «فعمله احتياطا وبرجاء بلوغ الثواب والانقياد كان أجر ذلك له». فظاهر الإطلاق هو : استحباب نفس العمل بعنوانه الأولي.

وأما دليل الشيخ على أن المستفاد من أخبار «من بلغ» هو استحباب الاحتياط فهو وجهان :

أحدهما : أن الظاهر من هذه الأخبار : هو كون العمل متفرعا على البلوغ ، وكونه الداعي على العمل ، بمعنى : أن المستحب هو العمل المأتي به بداعي البلوغ ، فالثواب

٢٦٥

وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كما قيد به (١)

______________________________________________________

يكون على العمل المأتي به بعنوان الاحتياط لا على نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب بما هو هو.

ثم قال : ويؤيده تقييد العمل في غير واحد من تلك الأخبار بطلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» والتماس الثواب الموعود.

وقد أجاب المصنف «قدس‌سره» عن هذا الوجه بقوله : «وكون العمل متفرعا على البلوغ» ، وحاصله : أن تفرع العمل على البلوغ وكون البلوغ هو الداعي إليه مما لا يوجب أن يكون الثواب مترتبا عليه فيما إذا أتى به برجاء كونه مطلوبا ، وبعنوان الاحتياط ، فإن الداعي إلى الفعل مما لا يوجب وجها وعنوانا للفعل حتى يجب أن يكون الإتيان به بذلك الوجه والعنوان ؛ بل يكون الثواب مترتبا على نفس العمل بعنوانه الأولي.

وثانيهما : أن إتيان العمل في بعض الأخبار إنما هو مقيد بكونه بداعي طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو التماسا للثواب الموعود ، وظاهر التقييد هو الاحتياط ، فيقيد به إطلاق بعض الأخبار بمقتضى حمل المطلق على المقيد.

وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه بقوله : «وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم»».

وحاصل جواب المصنف عن هذا الوجه الثاني : أن تقييد العمل في بعض الأخبار ـ كخبر محمد بن مروان ـ بطلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» أو بالتماس الثواب الموعود غير مربوط بصحيحة هشام أصلا ؛ إذ الثواب فيها مترتب على نفس العمل ، فلا وجه لتقييدها به ؛ بل لو أتى بالعمل طلبا لقول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، أو التماسا للثواب الموعود لترتب الثواب على نفس العمل بمقتضى الصحيحة.

فالمتحصل : أن الثواب رتب في الصحيحة على نفس العمل بعنوانه الأولي لخلوها عن قيد طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فقوله «عليه‌السلام» فيها : «فعمله كان أجر ذلك له ...» الخ. نظير قوله : «من سرح لحيته» ، يعني : وزان هذا العمل المأتي به بداعي الثواب وزان قوله : «من سرح لحيته» في ترتب الثواب على نفس العمل ، وهو تسريح اللحية بما هو هو ؛ لا بعنوان بلوغ الثواب عليه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) أي : بداعي طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» «في بعض الأخبار».

والمراد ببعض الأخبار هو : خبر محمد بن مروان عن أبي عبد الله «عليه‌السلام» «قال :

٢٦٦

.................................................................................................

______________________________________________________

«من بلغه عن النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ كان له ذلك الثواب وإن كان النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يقله» (١). فالثواب ـ حسب ظاهر هذا الخبر ـ مترتب على العمل المأتي به بداعي الوصول إلى الثواب الموعود ، فموضوع الثواب ليس ذات العمل كيفما وقع ، بل العمل المأتي به رجاء الأجر ، فلم يثبت استحباب نفس العمل كما يدعيه المصنف ؛ بل الثابت استحباب الاحتياط كما يقول به الشيخ ، فهذا يكون دليلا للشيخ «قدس‌سره».

وقد أشار المصنف «قدس‌سره» إلى ردّه بقوله : «إلا إن الثواب في الصحيحة».

وحاصل الرد : أن الثواب الموعود وإن رتب في خبر محمد بن مروان على الانقياد كما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ؛ لكنه رتب في الصحيحة على نفس العمل بعنوانه الأولي ؛ لخلوها عن قيد طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، فلا يجب تقييد الصحيحة بخبر محمد بن مروان.

ولذا قال : «ولا موجب لتقييدها به» ، يعني : ولا موجب لتقييد الصحيحة ببعض الأخبار.

وغرضه من هذا الكلام : هو دفع توهم.

وحاصل التوهم : أن الصحيحة وإن كانت مطلقة ؛ لكنه لا بد من تقييد إطلاقها بمدلول خبر محمد بن مروان.

بيان ذلك : أن الصحيحة ظاهرة في ترتب الثواب على العمل الذي ورد الثواب عليه في الخبر الضعيف ، سواء أتى به بداعي ذلك الثواب أم لا. وخبر محمد بن مروان ظاهر في ترتب الثواب على خصوص العمل المأتي به بداعي طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ؛ لا مطلق العمل كيفما وقع.

ومن المعلوم : أنه لا بد من تقييد المطلق بالمقيد إذا كان الحكم الذي تضمنه المقيد نفس ما دل عليه الخطاب المطلق ، فلا بد من تقييد الصحيحة بخبر محمد بن مروان.

هذا وقد دفع المصنف هذا التوهم بقوله : «ولا موجب لتقييدها به» وتوضيحه : أن الصحيحة والخبر وإن اختلفا إطلاقا وتقييدا ؛ إلا إنه لا وجه للتقييد ؛ لعدم وجود ضابطه ، وهو التنافي بين المطلق والمقيد ؛ بحيث لا يمكن الجمع بينهما بأن يكونا مختلفين في النفي والإثبات ؛ كأن يقول : «إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وإن ظاهرت فلا تعتق رقبة

__________________

(١) المحاسن ١ : ٢٥ / ١ ، الوسائل ١ : ٨١.

٢٦٧

في بعض الأخبار ، وإن كان انقيادا ؛ إلا إن الثواب في الصحيحة إنما رتب على نفس العمل ، ولا موجب لتقييدها به لعدم المنافاة بينهما ؛ بل لو أتى به كذلك (١) أو التماسا (٢) للثواب الموعود ، كما قيد به في بعضها الآخر (٣) ، لأوتي الأجر والثواب على نفس العمل ؛ لا بما هو احتياط وانقياد (٤) ، ...

______________________________________________________

كافرة» ، أو كانا مثبتين مع إحراز أن المطلوب منهما صرف الوجود كقوله : «إن أفطرت فأعتق رقبة ، وإن أفطرت فأعتق رقبة مؤمنة» ، حيث إنهما يتعارضان في عتق الكافرة ، لاقتضاء دليل المطلق الأجزاء ، واقتضاء دليل التقييد العدم ، فيتعين حمل المطلق على المقيد ، الموجب لتعين عتق الرقبة المؤمنة ، وعدم أجزاء عتق غيرها ، ومن المعلوم : أنه لا تنافي هنا بين الصحيحة وبين ما يشتمل على الالتماس والطلب ، حيث إن «البلوغ» ليس قيدا للموضوع حتى يتحقق التنافي ، وإنما هو داع إلى إيجاد العمل في الخارج ، والداعي لا يكون قيدا لمتعلق الخطاب.

قوله : «لعدم المنافاة بينهما» تعليل لقوله : «ولا موجب» وضمير بينهما راجع على الصحيحة وبعض الأخبار.

قوله : «بل» إضراب على قوله : «ولا موجب لتقييدها به».

وحاصله : أن طلب قول النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ونحوه ـ مضافا إلى عدم صلاحيته لتقييد موضوع الثواب ـ لا يصلح قصده أيضا لترتب الثواب عليه ، ويكون لغوا. وضمير «به» راجع على العمل.

(١) يعني : بداعي طلب قوله النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

(٢) عطف على «كذلك».

(٣) أي : بعض الأخبار كما عرفت ، وهو خبر ابن مروان.

(٤) أي : لا بما هو احتياط وانقياد حتى يثبت ما ادعاه المستشكل بقوله : «وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان» ، وذلك لأن ما دل على أن الثواب على نفس العمل كاشف عن ذلك ، وقصد الانقياد لا يوجب انقلاب الثواب عما هو عليه إلى غيره ، فإن الانقياد إنما ترتب على الواقع لا على القصد المتعلق به ، فإن الإنسان سواء صلى بعنوان أنها واجبة ، أو صلى بعنوان الانقياد أتاه ثواب الصلاة لا ثواب الانقياد.

نعم ؛ فيما لم يكن هناك واقع مجعول عليه الثواب لا محالة يكون الثواب للانقياد.

وحال الثواب في ذلك حال العقاب في المعصية ، فإنه لو عصى تجريا عوقب للمعصية لا للتجري.

٢٦٨

فيكشف (١) عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة ، فيكون وزانه (٢) وزان «من سرح لحيته» ، أو «من صلى أو صام فله كذا» ، ولعله (٣) لذلك أفتى المشهور بالاستحباب فافهم وتأمل (٤).

______________________________________________________

نعم لو تجرّى بغير المعصية الحقيقية ظنا منه أنها معصية كان العقاب للتجري على القول به.

(١) يعني : أن ترتب الأجر على نفس العمل يكشف عن مطلوبية ذات العمل بعنوانه الأولي لا بعنوان الاحتياط ، فيكون العمل البالغ عليه الثواب مستحبا شرعيا بالعنوان الأولي كسائر المستحبات الشرعية ؛ كالصلاة والصوم المندوبين ، والإتيان به إطاعة حقيقية لأمر مولوي.

(٢) يعني : وزان هذا العمل المأتي به بداعي الثواب وزان قوله : «من سرح» في ترتب الثواب على نفس العمل وهو تسريح اللحية بما هو هو لا بعنوان بلوغ الثواب عليه.

(٣) الضمير للشأن ، يعني : لعله لما ذكرنا ـ من أن المستفاد من أخبار «من بلغ» استحباب نفس العمل وترتب الأجر والثواب عليه بعنوانه الأولي لا بعنوان أنه مما بلغ عليه الثواب ـ أفتى المشهور باستحباب كثير من الأفعال التي قامت الأخبار الضعاف على استحبابها.

(٤) لعله إشارة إلى احتمال أن يكون نظر المشهور في استحباب نفس العمل من حيث هو ـ إلى أن المستفاد من أخبار «من بلغ» حجية الخبر الضعيف في المستحبات ، فتخصص عموم أدلة حجية خبر الواحد ؛ إذ مفادها حينئذ هو : اعتبار الخبر الضعيف في المندوبات ، وعدم اعتبار شرائط الحجية فيها ، وهذا هو المراد بقاعدة التسامح في أدلة السنن. هذا ما يرجع إلى توضيح المتن. وتركنا تفصيل الكلام حول أخبار «من بلغ» رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه هو : بيان الإشكال في جريان الاحتياط في العبادات والجواب عنه.

ولكن قبل توضيح الإشكال والجواب عنه ينبغي بيان أمرين :

أحدهما : أنه لا إشكال في حسن الاحتياط عقلا ورجحانه شرعا في كل شبهة. أما

٢٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

حسنه عقلا : فلكونه محرزا عمليا للواقع ، وموجبا للتحرز عن المفسدة الواقعية المحتملة أو استيفاء المصلحة كذلك.

وأما رجحانه شرعا : فلإمكان استفادته من بعض الأخبار كقوله «عليه‌السلام» في مقام الترغيب عليه : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك» ، فالمستفاد من بعض الأخبار : أنه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل في محتمل الوجوب ، وبالترك في محتمل الحرمة.

ثانيهما : أنه لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب على الاحتياط في كل شبهة وجوبية كانت أم تحريمية ؛ وذلك لأنه انقياد للمولى. هذا تمام الكلام في الأمرين.

٢ ـ أما توضيح إشكال الاحتياط في العبادات : فيتوقف على مقدمة وهي بيان أمور ثلاثة :

الأول : أن العبادة تتوقف على قصد القربة ؛ بل قصد القربة يكون مقوما لعبادية العبادة ، وهو الفارق بين الواجب التوصلي والتعبدي ، حيث إن الأمر في الأول يسقط بإتيانه كيفما وقع ، بخلاف الثاني فلا يسقط الأمر إلا بإتيانه بقصد امتثال الأمر.

الثاني : أن قصد القربة عبارة عن قصد امتثال الأمر ، فلا يمكن بدون إحراز الأمر والعلم به.

الثالث : أن الأمر الذي يعتبر قصد التقرب به هو الأمر المعلوم ، فلا يجدي وجود الأمر واقعا في تحقق قصد القربة ، فلا بد من العلم بالأمر تفصيلا أو إجمالا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الاحتياط في العبادة عبارة عن الإتيان بالعمل العبادي بجميع ما له دخل فيه ومنه قصد الأمر ، فإذا شك في تعلق الأمر بعمل من جهة دوران ذلك العمل بين أن يكون واجبا غير مستحب لم يكن الإتيان به من الاحتياط في العبادات أصلا ؛ لعدم إحراز تعلق الأمر به.

وعليه : فعنوان الاحتياط في العبادة حينئذ غير ممكن التحقق ؛ إذ لا علم بأمر الشارع لا تفصيلا ولا إجمالا ، ومعه لا يتمشى منه قصد القربة. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال.

وأجيب عن هذا الإشكال بأجوبة :

٣ ـ الجواب الأول : ما أشار إليه بقوله : «وحسن الاحتياط عقلا».

وتقريب هذا الجواب يتوقف على مقدمة وهي : أن هناك ملازمة بين حكم العقل

٢٧٠

.................................................................................................

______________________________________________________

وحكم الشرع ، وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مقتضى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع هو : أن حكم العقل بحسن الاحتياط يلازم الأمر المولوي بالاحتياط شرعا ، فيأتي المكلف بمحتمل الوجوب احتياطا بقصد هذا الأمر الملازم لحكم العقل بحسن الاحتياط.

وقد أجاب المصنف عن هذا الجواب بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «لا يكاد يجدي في رفع الإشكال».

توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة : وهي أن حكم العقل تارة : يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام ؛ كحسن الانقياد والإطاعة. وأخرى : يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها ؛ نظير قبح الظلم وحسن رد الوديعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بالاحتياط شرعا من قاعدة الملازمة حتى يتقرب به ، ضرورة : أن حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الإطاعة واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا عللها. وأما الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ـ على تقدير تسليمها ـ فهي فيما إذا كان حكم العقل واقعا في سلسلة عللها ، فحسن الاحتياط عقلا في المقام ليس من موارد تلك القاعدة.

وعليه : فالمقام أجنبي عن قاعدة الملازمة ؛ إذ الاحتياط من أنحاء الإطاعة المترتبة على الأمر الشرعي وفي طوله.

ومن المعلوم : أن حسن الاحتياط لا يلازم الأمر المولوي بالإطاعة ؛ لأن الأمر بالاحتياط حينئذ يكون إرشاديا والأمر الإرشادي لا يصلح للتقرب به.

وأما الوجه الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «بداهة توقفه ...» الخ. وحاصله : لزوم الدور بتقريب : أن الحسن عارض على الاحتياط والاحتياط معروض له ، فيجب أن يكون الاحتياط مقدما على الحسن تقدم المعروض على العارض ، ثم الاحتياط متأخر عن الأمر ؛ إذ لو لا الأمر لما كان الاحتياط احتياطا ، فكيف يؤثر الحسن المتأخر عن الاحتياط في الأمر المتقدم عليه؟ وهذا دور واضح.

٤ ـ الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادات : ما أشار إليه بقوله : «وقد انقدح بذلك أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه».

وتوضيح هذا الجواب : أنه يمكن إحراز الأمر الشرعي بالاحتياط من ترتب الثواب

٢٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

عليه على ما هو المستفاد من بعض الأخبار ، فترتب الثواب على الاحتياط يكشف بنحو الإن على تعلق الأمر به وهو المطلوب ، فيؤتى بالعبادة حينئذ بقصد هذا الأمر.

وحاصل الجواب : أنه لا ينفع في رفع الإشكال المتقدم كشف الأمر بالاحتياط من ترتب الثواب عليه ، كما لا ينفع في رفعه الجواب المتقدم الذي أشار إليه بقوله : «وحسن الاحتياط عقلا» ؛ إذ تعلق الأمر بالاحتياط ، سواء كان بنحو اللم لقاعدة الملازمة كما في الجواب الأول ، أم بنحو الإن ؛ لترتب الثواب على الاحتياط كما في الجواب الثاني فرع إمكان الاحتياط. وقد عرفت عدم إمكانه في الجواب الأول لمحذور الدور.

وكيف كان ؛ فلا يصح استكشاف الأمر بالاحتياط لا بنحو اللم ولا بالبرهان الإني ، ولازم ذلك : عدم صحة الاحتياط في العبادات لأجل عدم الأمر.

٥ ـ الجواب الثالث عن إشكال الاحتياط في العبادات : ما أشار إليه بقوله : «وما قيل دفعه ...» الخ. وحاصل هذا الوجه هو : تصحيح الاحتياط في العبادات بتقريب : أن مدلول الأمر في قوله «عليه‌السلام» : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ليس هو الاحتياط بمعناه الحقيقي أعني : الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه مثلا بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد القربة ؛ حتى يتوجه عليه محذور الدور ؛ بل بمعناه المجازي أعني : الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه شطرا أو شرطا عدا نية القربة ، فإن الاحتياط بهذا المعنى المجازي لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

وأما وجه عدم لزوم الدور : فإنه إنما يلزم إذا أريد بالاحتياط معناه الحقيقي ، دون معناه المجازي. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح هذا الجواب الثالث.

٦ ـ وللمصنف «قدس‌سره» على هذا الجواب إيرادان :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «مضافا». والثاني : ما أشار إليه بقوله : «أنه التزام بالإشكال».

وأما توضيح الإيراد الأول : فلأنه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الاحتياط في معناه الحقيقي وحمله على معناه المجازي ؛ إذ لا دليل على حسن الاحتياط بهذا المعنى المجازي ؛ بل الاحتياط بهذا المعنى ليس باحتياط حقيقة.

وأما توضيح الجواب المشار إليه بقوله : «أنه التزام بالإشكال» : فلأنه يقال : إن صرف الاحتياط عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي تسليم لإشكال جريان الاحتياط في العبادات ؛ إذ تجريد الاحتياط عن قصد الأمر دليل على عدم إمكان الاحتياط بمعناه

٢٧٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الحقيقي في العبادة ، وهذا تسليم بالإشكال وهو عدم إمكان الاحتياط في العبادات.

٧ ـ الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادات : هو ما أشار إليه بقوله : «قلت : لا يخفى» ، وهذا الجواب هو تصحيح الاحتياط في العبادات على ما هو مبنى المصنف «قدس‌سره».

فيقال في توضيح هذا الجواب : إن الإشكال المذكور نشأ من تخيل كون وزان القربة المعتبرة في العبادة وزان غيرها مما يعتبر فيها شطرا أو شرطا في اعتبار تعلق الأمر بالقربة ، كتعلقه بغيرها مما هو دخيل في المأمور به ، فيشكل حينئذ جريان الاحتياط في العبادة ؛ لتعذر قصد الأمر مع الشك فيه ؛ لكن هذا التخيل فاسد لما ذكره المصنف «قدس‌سره» ، في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم قصد القربة دخيلا في المأمور به ، على نحو دخل مثل الاستقبال والستر في الصلاة ؛ بل هو من الأمور المحصلة للغرض والحاكم باعتباره ولزومه هو العقل ، فلا يلزم الدور لعدم دخل قصد الأمر المتأخر عن الأمر في متعلق الأمر على نحو سائر الأجزاء والشرائط ، وبه يصير الاحتياط في العبادة ممكنا ؛ إذ كما يأتي المكلف بالصلاة الواقعية المعلومة تفصيلا بقصد أمرها المعلوم ؛ كذلك يأتي بالصلاة الاحتياطية بقصد أمرها المحتمل ، وحينئذ : فلو كانت مأمورا بها واقعا لكانت مقربة.

فالمتحصل : أن اعتبار قصد القربة في جميع العبادات يكون عقليا لا شرعيا ، والإشكال مبني على اعتبار قصد القربة شرعا لا عقلا ، والعقل لا يعتبر أزيد من قصد الأمر جزميا كان أم احتماليا ، فحينئذ : يتحقق الاحتياط بلا حاجة إلى أمر الشارع المستلزم للدور.

فالتخيل الذي صار منشأ للإشكال في العبادة فاسد.

٨ ـ الجواب الخامس عن إشكال الاحتياط في العبادة : هو أخبار «من بلغ».

وحاصل هذا الوجه : أن مشكوك العبادية وإن لم يكن الإتيان به بقصد القربة من جهة عدم إحراز تعلق الأمر به ؛ لكن يمكن الإتيان به بقصد القربة بملاحظة الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» ، فقد ورد في مستفيض الأحاديث : «أن من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه» ، فلو قام خبر ضعيف على استحباب عمل كاستحباب الأذان لصلاة مستحبة مثلا ، صح الاحتياط بإتيان الأذان لها بقصد القربة ؛ لوجود الأمر العام المستفاد من أخبار «من بلغ».

٢٧٣

ولكن هذا الوجه مخدوش بوجهين :

أحدهما : أن هذا الوجه لا ينفع في دفع الإشكال عن جميع موارد الشبهة في العبادة ، وإنما يختص بما ورد فيه أمر ولو خبر ضعيف.

وثانيهما : أن موافقة هذا الأمر الاستحبابي يجعل المأتي به طاعته جزمية ، ويخرج عن محل النزاع الذي هو الاحتياط في محتمل الوجوب.

فالمتحصل : أن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» يوجب استحباب العمل البالغ عليه الثواب بخبر ضعيف كسائر المستحبات ، وهو أجنبي عن الاحتياط الذي هو مورد البحث ؛ إذ لا يستفاد من تلك الأخبار الاحتياط في محتمل الوجوب.

٩ ـ لا يقال : إن الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» يكون مجديا في إمكان الاحتياط في العبادة ؛ إذ المستفاد منها هو : استحباب العمل بعنوانه الثانوي ـ وهو كون العمل محتمل الثواب ـ إذ على هذا التقدير يصير نفس المحتمل بما هو محتمل مستحبا نفسيا يصح نية التقرب بأمره ، فيصير الاحتياط مستحبا شرعيا ، فقد تعلق الأمر النفسي بالعمل برجاء محبوبيته ويتحقق الاحتياط في العبادة بقصد ذلك الأمر.

فإنه يقال في الجواب : أولا : أن أوامر الاحتياط على تقدير مولويتها توصلية ، فلا يتوقف سقوطها على قصد التقرب بها ، فلا يصحح بها الاحتياط في العبادة.

وثانيا : أنه لا يصح قصد التقرب بأوامر الاحتياط حتى مع تسليم كونها عبادية ؛ وذلك للزوم الدور ، وقد مر بيان لزوم الدور في أوائل هذا التنبيه. فراجع.

١٠ ـ مفاد أخبار من بلغ :

ويقع الكلام في محتملات هذه الأخبار وهي ثلاثة :

الأول : أن يكون مفادها حكما أصوليا وهو حجية الأخبار الضعيفة من باب التسامح في أدلة السنن ، فصح الحكم باستحباب عمل دل على استحبابه خبر ضعيف.

الثاني : أن يكون مفادها حكما فقهيا ، وهو استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ، وهذا الاحتمال الثاني على قسمين :

أحدهما : أن يكون موضوع هذا الحكم الفقهي. أعني : الاستحباب هو العمل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ، فالمستحب هو نفس العمل.

ثانيهما : أن يكون موضوعه العمل بوصف كونه مما بلغ عليه الثواب ؛ بحيث يكون بلوغ الثواب عليه دخيلا في موضوع الحكم وجهة تقييدية.

٢٧٤

الثالث (١) : أنه لا يخفى أن النهي عن شيء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو

______________________________________________________

والفرق بين هذين الوجهين : أنه على الأول : يكون الأمر المستفاد منها متعلقا بنفس العمل ، وعلى الثاني يكون متعلقا بالاحتياط وهو الإتيان بالعمل برجاء الثواب عليه.

وأما الأقوال في مفاد أخبار «من بلغ» فهي ثلاثة :

الأول : أن يكون مفادها حجية الخبر الضعيف ، وهو ظاهر المشهور.

الثاني : أن يكون مفادها استحباب الاحتياط ؛ كما استظهره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

الثالث : أن يكون مفادها استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب ، وهو مختار المصنف «قدس‌سره».

١١ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ إمكان الاحتياط في العبادات ؛ لأن العبادة وإن كانت تتوقف على قصد القربة إلا إن اعتبار قصد القربة فيها يكون عقليا لا شرعيا ، والإشكال مبني على اعتبار قصد القربة فيها شرعا.

٢ ـ الصحيح من الأجوبة عند المصنف «قدس‌سره» هو : الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادات.

٣ ـ مفاد أخبار «من بلغ» عند المصنف «قدس‌سره» هو : استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه الثواب.

في دفع توهم لزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية الموضوعية

(١) الغرض من عقد هذا الأمر الثالث : هو دفع ما يتوهم في المقام من لزوم الاحتياط.

وأما توضيح التوهم فيتوقف على مقدمة وهي : أن التكاليف الشرعية قد تعلقت بالموضوعات الواقعية بما هي هي ، من دون تقييدها بالعلم أو الجهل ، كما أن الألفاظ ـ أيضا ـ وضعت للمعاني الواقعية كذلك ، فحينئذ : يكون مفاد قول الشارع : «اجتنب عن الخمر» هو وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي ، سواء علم المكلف به تفصيلا أو إجمالا أو لم يعلم به اصلا ، فيكون المحرم هو الخمر الواقعي.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الواجب ـ حينئذ ـ هو الاجتناب عن كل ما يحتمل كونه خمرا من باب المقدمة العلمية حتى يحصل العلم بالاجتناب عن الخمر الواقعي ، فلا يجري حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لفرض وجود بيان من الشارع في الشبهات

٢٧٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الموضوعية وهذا التوهم ما أشار إليه الشيخ الأنصاري بقوله : «وتوهم عدم جريان قبح التكليف من غير بيان هنا ...» الخ. «دروس في الرسائل ، ج ٢ ، ص ٤٢٥».

وكلام المصنف في هذا الأمر يكون ناظرا إلى ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في ذكر هذا التوهم ودفعه.

وتوضيح التوهم بعبارة أخرى : أن أدلة البراءة الشرعية والعقلية لا تجري في الشبهة الموضوعية ؛ كالمائع المردد بين الخل والخمر ، ضرورة : أن وظيفة الشارع بما هو شارع ليس إلا بيان الكبريات مثل : الماء حلال ، والخمر حرام ، وقد بينها ووصلت إلى المكلف حسب الفرض ، وإنما الشك في الصغرى ، وهي : كون هذا المائع الخارجي مما ينطبق عليه متعلق الحرمة وهو الخمر مثلا أم لا؟ ومن المعلوم : أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع ، وحينئذ : فلا يحكم العقل بقبح المؤاخذة على تقدير مصادفة الحرام ؛ بأن كان ما شربه من المائع المردد خمرا ؛ إذ لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، ضرورة : انتقاض عدم البيان بصدور الحكم الكلي وعلم المكلف به ، وتردد متعلق التكليف بين شيئين لأمور خارجية غير مرتبط بالشارع حتى يرفعه ؛ بل على المكلف نفسه إزالة هذا التردد والاشتباه عن طريق الاحتياط ، وترك كل ما فيه احتمال الخمر.

كما لا يجري فيه مثل حديث الرفع لإثبات الترخيص الظاهري ؛ إذ الحديث إنما يرفع ما كان وضعه بيد الشارع ، وما يكون وضعه بيده هو إنشاء الحكم الكلي لا غير.

ثم قال الشيخ في دفع التوهم : «بأن النهي عن الخمر ...» الخ.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الأحكام الشرعية وإن كانت متعلقة بالموضوعات من دون تقييدها بالعلم أو الجهل ، والألفاظ وإن كانت موضوعة للمعاني كذلك ؛ إلا إن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لم يكن مطلقا ؛ بل يتوقف على عدم البيان الواصل إلى المكلف الذي يوجب تنجز التكليف ، فإذا انتفى هذا القسم من البيان يحكم العقل بقبح العقاب ، سواء لم يبينه الشارع أصلا ، أو بيّنه ولم يصل إلى المكلف ، أو وصل ولم يعلم بتوجهه إليه لأجل عدم العلم بوجود موضوعه لا تفصيلا ولا إجمالا كما في المقام.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن العقل هنا يحكم بقبح العقاب لعدم تنجز التكليف ؛ إذ شرط تنجزه هو العلم بالموضوع والمحمول معا ، والمفروض : أنه لا يعلم بالموضوع.

٢٧٦

.................................................................................................

______________________________________________________

وبعبارة أخرى : أن موضوع حكم العقل بقبح المعصية واستحقاق العقوبة عليها هو مخالفة التكليف المنجز المتوقف على إحراز كل من الصغرى والكبرى ، ومع الجهل بالصغرى يكون موضوع قاعدة القبح محققا ؛ إذ ليس المناط في حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان خصوص بيان الشارع حتى يمنع عن جريان القاعدة في الشبهة الموضوعية من جهة صدور البيان وعلم المكلف به ؛ بل المناط فيه قبح مؤاخذة من لم يتنجز التكليف في حقه ، سواء كان عدم التنجز لعدم بيان الشارع له أصلا ؛ كما في الشبهة الحكمية الناشئة من فقد النص أم لإجمال بيانه ، أم لمعارضته ، أم للشك في تحقق متعلقه ، أم في كون الموجود من مصاديق متعلقه كما في المقام ، ففي جميع هذه الموارد تقبح المؤاخذة ، فتجري قاعدة القبح.

وعليه : فمجرد العلم بالكبريات مثل : «الخمر حرام» ، أو «لا تشرب الخمر» غير كاف في تنجز التكليف على المكلف حتى يقال بحكم العقل بلزوم الاجتناب عن الأفراد المشكوكة ؛ كحكمه بلزوم الاجتناب عن المصاديق المعلومة. وعلى هذا : فينحصر امتثال الخطاب في موردين : أحدهما : العلم بفردية المائع الخارجي بخصوصه للخمر المحرم ، والآخر العلم الإجمالي بخمرية أحد الإناءين مثلا. وأما الخمر المشتبه بالشبهة البدوية : فلا يقتضي نفس الحكم الكلي وجوب الاجتناب عنه ؛ بل مقتضى أدلة البراءة جواز ارتكابه ، فلو ارتكبه المكلف فهو معذور في مخالفته لو صادف كونه خمرا واقعا. هذا غاية ما يمكن في توضيح التوهم ودفعه.

وظاهر كلام الشيخ «قدس‌سره» هو : جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا ، والمصنف منع هذا الإطلاق ، وقال : إنه لا بد في جريان البراءة في الشبهات الموضوعية من التفصيل بين تعلق الحكم بالطبيعة نحو : «لا تشرب الخمر» ، حيث إن المطلوب ترك هذه الطبيعة ، وبين تعلق الحكم بالأفراد نحو : «لا تكرم الفساق» ، حيث إن المطلوب ترك إكرام كل فاسق ، فلا تجري البراءة في الأول فيما لو شك في فرد أنه خمر أم لا ؛ بل يجب الاجتناب عنه إلا إذا كان هناك أصل ، وتجري في الثاني فيما لو شك في فرد أنه فاسق أم لا فيجوز إكرامه.

وهناك احتمال عدم جريان البراءة في الشبهة الموضوعية مطلقا كما هو مفاد التوهم المذكور.

٢٧٧

مكان ؛ بحيث لو وجد في ذاك الزمان (١) أو المكان (٢) ولو دفعة (٣) لما امتثل أصلا ،

______________________________________________________

فهناك احتمالات ذهب المصنف إلى التفصيل ، وتوضيح هذا التفصيل يتوقف على مقدمة وهي : أن النهي عن العمل تارة : يرجع إلى النهي عنه وطلب تركه في زمان أو مكان ؛ بحيث لو وجد الفعل دفعة واحدة لم يتحقق امتثال النهي أصلا ، وأخرى : يرجع إلى طلب ترك كل فرد منه على حدة ؛ بحيث يكون ترك كل فرد إطاعة على حدة ، فلو جاء ببعض الأفراد وترك البعض الآخر لأطاع وعصى.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه على الأول لا بد على المكلف من إحراز ترك العمل بالمرة ، فإذا شك في فرد أنه من أفراد ذلك العمل أولا ، كان مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم تركه تحصيلا للفراغ اليقيني ؛ إلا إذا أمكن إحراز ترك العمل المنهي عنه ـ في هذا الحال ، ومع الإتيان بالمشكوك ـ بالأصل وهو استصحاب ترك العمل لو كان مسبوقا بالترك ، فيثبت به الامتثال.

وأما على الثاني : فلا يلزم المكلف إلا ترك ما علم أنه فرد للعمل ، وأما مع الشك في كونه من أفراده : فأصالة البراءة محكمة.

وقد تحصل مما ذكرناه : أن الفرد المشتبه بالشبهة الموضوعية على ثلاثة أقسام :

١ ـ المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بلحاظ أفرادها.

٢ ـ المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بما هي مع كونها مسبوقة بالترك.

٣ ـ المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق النهي بها بما هي مع عدم كونها مسبوقة بالترك ، وفي الأولين يجوز ارتكاب مشكوك الفردية ، وفي الأخير لا يجوز ، فما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من جواز ارتكاب الأفراد المشتبهة مطلقا استنادا إلى البراءة ممنوع.

(١) كالنهي عن الصيد في حال الإحرام وزمانه ، أو النهي عن الإفطار في يوم الصوم.

(٢) كالنهي عن قطع شجر الحرم في مكة المكرمة.

(٣) يعني : ولو دفعة واحدة ؛ إذ من لوازم تعلق النهي بالطبيعة : أنه لو أوجد المكلف الشيء المنهي عنه ـ ولو مرة واحدة ـ لم يمتثل أصلا ؛ إذ المطلوب حينئذ هو : ترك الطبيعة ، وتوجد الطبيعة المنهي عنها بإيجاد فرد منها ، فيتحقق العصيان ؛ وإن ترك سائر الأفراد ؛ إذ لا أثر لتركها حينئذ في دفع العصيان.

٢٧٨

كان (١) اللازم على المكلف إحراز أنه (٢) تركه بالمرة ولو بالأصل ، فلا يجوز (٣) الإتيان بشيء يشك معه (٤) في تركه ؛ إلا (٥) إذا كان مسبوقا به ؛ ليستصحب (٦) مع الإتيان به.

نعم (٧) ؛ لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه (٨) على حدة لما وجب إلا ترك ما علم أنه فرد (٩) ، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه (١٠) مصداقه ، فأصالة (١١) البراءة في المصاديق المشتبهة محكمة.

______________________________________________________

(١) جواب قوله : «إذا كان» ، وإشارة إلى النحو الأول من تعلق النهي بالطبيعة.

(٢) أي : أن المكلف ترك الشيء ـ كشرب الخمر ـ بالمرة. وقوله : «بالأصل» قيد لقوله : «إحراز» ، فالمعنى : ولو كان الإحراز بالأصل.

(٣) هذا نتيجة لزوم إحراز أنه ترك الفعل المنهي عنه بالمرة فيما إذا تعلق النهي بالطبيعة.

(٤) يعني : يشك ـ مع الإتيان بذلك الشيء المشتبه ـ في أنه ترك المنهي عنه بالمرة أم لا ، حيث كان المطلوب منه تركه رأسا.

(٥) استثناء من قوله : «فلا يجوز» ، واسم «كان» ضمير مستتر فيه راجع على الشيء المأتي به الذي شك مع الإتيان به في ترك المنهي عنه بالمرة. وضمير «به» راجع على الترك ، يعني : إلا إذا كان ذلك الشيء المأتي به المشكوك كونه فردا للمنهي عنه ، فيحرز ولو تعبدا ترك المنهي عنه بالمرة ، فيثبت المطلوب.

(٦) أي : ليستصحب ترك الطبيعة مع الإتيان بالمشكوك كونه فردا لها ، فيكون الشك في ترك الطبيعة مع الإتيان بمشكوك الفردية من الشك في رافعية الموجود.

(٧) استدراك على قوله : «كان اللازم على المكلف إحراز ...» ، وإشارة إلى النحو الثاني من تعلق النهي بالطبيعة المعبر عنه بالحقيقة والانحلال ، لانحلال الحكم فيها إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الطبيعة ، وقد عرفت توضيحه.

(٨) أي : من الشيء الذي تعلق به النهي.

(٩) أي : ما علم أنه فرد قطعي للمنهي عنه.

(١٠) أي : أنه مصداق المنهي عنه كزيد وعمر وبكر في مثال : «لا تكرم الفساق» ، وضمير «أنه» راجع على الموصول في «ما علم» المراد به الشيء.

(١١) جواب «وحيث» يعني : فتجري البراءة في المائع المشكوك كونه خمرا ، ووجه جريانها فيه : ما تقدم من أن الشك حينئذ في أصل التكليف ومن المعلوم : أن الأصل الجاري فيه هو البراءة ، بخلاف النحو الأول ، فإن الشك في الفرد المشتبه فيه يرجع إلى

٢٧٩

فانقدح بذلك (١) : أن مجرد العلم بتحريم شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عن أفراده المشتبهة فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة (٢) ، أو كان الشيء مسبوقا بالترك (٣) ؛ وإلا (٤) لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا (٥) ، فكما يجب فيما علم وجوب شيء إحراز إتيانه إطاعة لأمره ، فكذلك يجب فيما علم حرمته إحراز تركه ، وعدم (٦) إتيانه امتثالا لنهيه ، غاية الأمر (٧) : كما يحرز

______________________________________________________

الشك في الفراغ والسقوط ؛ دون الشك في ثبوت التكليف ، فلذا لا تجري فيه البراءة.

(١) يعني : ظهر بما ذكرناه من أن تعلق النهي بالطبيعة يتصور على نحوين : أن مجرد العلم بحرمة شيء لا يوجب لزوم الاجتناب عما شك في فرديته له إلا في صورة واحدة ، وهي : ما إذا تعلق النهي بالطبيعة ، ولم تكن مسبوقة بالترك ، فيجب حينئذ ـ بقاعدة الاشتغال ـ الاجتناب عن الفرد المشتبه كوجوب الاجتناب عن الفرد المعلوم. وأما إذا تعلق النهي بالأفراد أو بالطبيعة مع سبق الترك فلا بأس بارتكاب المشتبه.

أما الأول : فلأصالة البراءة. وأما الثاني : فلإحراز ترك الطبيعة ، مع الإتيان بالمشتبه بالاستصحاب. ولا فرق في لزوم إحراز ترك الطبيعة بين إحرازه بالوجدان أو بالتعبد كما مرّ في أوائل التنبيه الثالث.

فقول المصنف : «فانقدح بذلك» إشارة إلى ضعف ما أفاده الشيخ من جريان البراءة في الشبهات الموضوعية التحريمية مطلقا ، بل لا بد من التفصيل الذي تقدم في كلام المصنف «قدس‌سره».

(٢) «نحو : لا تكرم الفساق».

(٣) فيما إذا كان النهي متعلقا بالطبيعة نحو : «لا تصد في الحرم» ، أو «لا تأكل يوم الصوم» فيما كان مسبوقا بعدم الأكل وعدم الصيد.

(٤) أي : وإن لم يكن المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة ، أو لم يكن مسبوقا بالترك لوجب الاجتناب عقلا عن الأفراد المشتبهة.

(٥) أي : لأن الاشتغال اليقيني يحتاج إلى الفراغ اليقيني ، وذلك لا يتحقق إلا بالاجتناب عن جميع الأفراد القطعية والمشكوكة.

(٦) بالجر عطف تفسير لقوله : «تركه».

(٧) غرضه : تعميم الترك لصورة إحرازه تعبدا ، يعني : أن الإحراز لا ينحصر في الإحراز الوجداني ؛ بل يعم التعبدي كإحراز الطهارة باستصحاب الوضوء ، وفي المقام كما يحرز وجود الواجب بالأصل ، كذلك يحرز ترك الحرام بالأصل.

٢٨٠