دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

.................................................................................................

______________________________________________________

أو إشارة إلى احتمال أن يكون «ما» في قوله «في سعة ما لا يعلمون» ظرفية أي : أن الناس في سعة ما دام لم يعلموا ، فإذا علموا وجوب الاحتياط لم تكن سعة ؛ إذ ما لم يعلموا محذوف المتعلق حينئذ ، ويحتمل متعلقه الحكم الواقعي وأن يكون أعم من الواقع والاحتياط ، وعلى هذا : يكون دليل الاحتياط واردا ، ويكون حاله حال ما لو قال المولى لعبده : «إذا لم تعلم شيئا فأنت في سعة» ، ثم قال له بالنسبة إلى «دعاء الرؤية» : واجب عليك ، وقال بالنسبة إلى «الإناءين المشتبهين». احتط عنهما ، فإنه لا شك في ورود كلا الدليلين على الدليل المتضمن للسعة ؛ كما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٤ ، ص ٢٧٢».

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تقريب الاستدلال بحديث السعة على البراءة : أن الرواية تدل على البراءة ، سواء كان «ما» في «ما لا يعلمون» موصولة أو مصدرية ، فيكون مفادها على الأول : الناس في سعة التكليف الذي لا يعلمونه.

وعلى الثاني : أنهم في سعة ما داموا لا يعلمون ، ومن المعلوم : أن وجوب الاحتياط ينافي كونهم في السعة ، فينفى بالرواية ؛ إلا إن السعة في صورة كون «ما» موصولة مضافة إلى الما ، وفي صورة كونها مصدرية مقطوعا عن الإضافة فيكون منوّنا.

٢ ـ الإشكال على هذا الاستدلال : بأن الأخباري يدعي العلم بوجوب الاحتياط بما دل عليه من النقل ، فيكون ما دل على وجوب الاحتياط واردا على هذا الحديث الدال على البراءة في مورد عدم العلم بالحكم ؛ مدفوع : بأن الإشكال المذكور مبنيّ على أن يكون وجوب الاحتياط نفسيا ؛ بحيث يترتب الثواب على موافقة أمره ، والعقاب على مخالفته ، وليس كذلك بل وجوبه يكون طريقيا ، بمعنى : أن الاحتياط طريق إلى الحكم الواقعي المجهول قد شرع لأجل حفظ الواقع في ظرف الجهل ، فالعلم بوجوب الاحتياط لا يوجب العلم بالواقع حتى يرفع موضوع حديث السعة ـ وهو الجهل بالحكم الواقعي ـ بل الحكم الواقعي باق على مجهوليته.

فلا يكون إيجاب الاحتياط رافعا لموضوع حديث السعة ليقدم دليله عليه من باب الورود ؛ كما هو المفروض في الإشكال.

١٦١

ومنها (١) : قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي».

______________________________________________________

وعليه : فلا يبقى موضوع لدعوى كون دليل الاحتياط واردا على حديث السعة.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو تمامية الاستدلال بحديث السعة على البراءة من حيث الدلالة.

في الاستدلال بمرسلة الصدوق على البراءة

التي رواها الصدوق مرسلا في صلاة الفقيه

(١) أي : من الروايات التي استدل بها على البراءة : قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية : مبنيّ على أن يكون المراد من الورود في قوله : «يرد» هو : إيصال التكليف إلى المكلف الا صدوره من المولى ومن النهي الواقعي المتعلق بالشيء بعنوانه لأولي لا بعنوانه الثانوي ، أي : كونه مجهول الحكم ، فيكون مفادها ـ حينئذ ـ «كل شيء مطلق ومباح ما لم يصل فيه النهي من الشارع ، فيكون شرب التتن مباحا بعنوان كونه شرب التتن ، ما لم يصل فيه النهي من الشارع بعنوان كونه شرب التتن ؛ لا بعنوان كونه مجهول الحكم ، فتكون دلالة هذه الرواية على البراءة أوضح من الكل ، فحينئذ : لو تمت دلالة أدلة وجوب الاحتياط وقع التعارض بينها وبين هذه الرواية ، فلا بد من الرجوع إلى ما تقتضيه قاعدة التعارض من التخيير أو الترجيح أو غيرهما.

فهذه الرواية وإن كانت مختصة بالشبهة التحريمية إلا إنه لا بأس بالاستدلال بها على البراءة من هذه الجهة ، فإن عمدة الخلاف بين الأصوليين والأخباريين إنما هي في الشبهة التحريمية.

وأما الشبهة الوجوبية : فوافق الأخباريون الأصوليين في عدم وجوب الاحتياط فيها ؛ إلا القليل منهم كالمحدث الاسترابادي فإنه قال بوجوب الاحتياط فيها أيضا.

بل اختصاص هذه الرواية بالشبهة التحريمية موجب لرجحانها على سائر الروايات التي استدل بها على البراءة ، باعتبار أنها أخص من أخبار الاحتياط ، فلا ينبغي الشك في تقدمها عليها ، ولذا قال الشيخ «قدس‌سره» : إنها أظهر روايات الباب.

ولكن المصنف «قدس‌سره» لم يرتض الاستدلال بها ، فذكر أنه يحتمل أن يكون المراد من الورود الذي جعل غاية للإطلاق هو : صدور الحكم من المولى وجعله ؛ لا وصوله إلى المكلف ، فيكون مفاد الرواية حينئذ : أن كل شيء لم يصدر فيه نهي ، ولم

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧ / ٩٣٧.

١٦٢

ودلالته (١) تتوقف على عدم صدق الورود ؛ إلا بعد العلم أو ما بحكمه ، بالنهي (٢) عنه وإن (٣) صدر عن الشارع ووصل إلى غير واحد ، مع أنه ...

______________________________________________________

تجعل فيه الحرمة فهو مطلق ومباح ، وهذا خارج عن محل الكلام ، فإن الكلام فيما إذا شك في صدور النهي من المولى وعدمه.

وكيف كان ؛ فمعنى الحديث حينئذ : أن ما لم يصدر فيه نهي واقعا ـ بمعنى سكوت الله تعالى عنه ـ فهو حلال ، في مقابل ما إذا صدر النهي عنه واقعا فليس حلالا وإن لم يعلم به المكلف ، فوزان هذا الحديث حينئذ وزان حديث السكوت أعني : قوله «عليه‌السلام» : «... وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها» (١) ، وعليه : فلا يصح الاستدلال به على البراءة.

والوجه فيه واضح ، فإن المقصود إثبات البراءة في كل ما لم يصل فيه نهي إلينا ؛ لا فيما لم يصدر فيه نهي واقعا.

والحاصل : أنه مع احتمال إرادة الصدور من الورود لا موجب للجزم في خصوص الوصول حتى يتجه الاستدلال به على البراءة.

وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا تعريض بما أفاده الشيخ في الاستدلال بالمرسلة حيث قال : بأن دلالته على المطلب أوضح من الكل (٢). وقد عرفت اعتراض المصنف ، فلا حاجة إلى التكرار. وقد عرفت اعتراض المصنف ، فلا حاجة إلى التكرار.

(٢) متعلق بقوله : «العلم». وضمير «عنه» راجع على شيء ، وضمير «بحكمه» إلى العلم ، والمراد بما يحكم العلم : هو الأمارة غير العلمية.

(٣) كلمة إن وصلية يعني : أن الاستدلال بهذا الحديث للبراءة يتوقف على أن يكون ورود النهي بمعنى وصوله إلى المكلف بالعلم به أو ما هو بحكمه كالأمارة المعتبرة ، ليكون معنى الحديث : أن ما لا يعلم المكلف حرمته فهو حلال ، سواء لم يصدر فيه نهي أصلا أم صدر ولم يصل إلى هذا المكلف ، وعلى أن لا يصدق الورود على مجرد صدوره وإن لم يعلم به المكلف كما هو مبنى استظهار الشيخ «قدس‌سره» ، وحيث إنه يصدق الورود على مجرد الصدور أيضا فلا يتم الاستدلال به على البراءة.

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ٣٤ / ١٠٥ ، الوسائل ١٥ : ٢٦٠ / ٢٠٤٥٢.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٤٣.

١٦٣

ممنوع (١) لوضوح : صدقه على صدوره عنه (٢) ، سيما (٣) بعد بلوغه إلى غير واحد ، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.

لا يقال : نعم (٤) ؛ ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم.

فإنه يقال (٥) : وإن تم الاستدلال به ...

______________________________________________________

(١) يعني : مع أن عدم صدق الورود على الصدور ممنوع ، وهذا هو الوجه في اعتراض المصنف بما استظهره الشيخ من الحديث واستدلاله به على البراءة ومحصل ما أريد من هذه العبارة : أن الورود يصدق على الصدور ، ومع صدق الورود عليه لا تجري البراءة لتحقق غاية الإطلاق وهو صدور النهي عنه ، فيكون هذا الحديث مساوقا لحديث السكوت كما تقدم.

(٢) أي : لوضوح صدق الورود على صدور النهي عن الشارع.

(٣) وجه الخصوصية : أنه مع وصول النهي إلى بعض الأمة يصدق الورود من الشارع قطعا ، وإن سلمنا عدم صدقه مع صدوره واقعا وعدم اطلاع أحد عليه ومع تحقق الغاية لا يصح الاستدلال.

(٤) استدراك على قوله : «ودلالته تتوقف» ، وتصحيح للاستدلال بالحديث حتى مع صدق الورود على الصدور.

بيانه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٨٤» ـ أن الورود وإن كان صادقا على الصدور أيضا كصدقه على الوصول ، وعدم ظهوره في خصوص بلوغ الحكم إلى المكلف ؛ إلا إنه يمكن تصحيح الاستدلال بالمرسلة حتى بناء على إرادة الصدور والتشريع من قوله : «حتى يرد فيه نهي» ، وذلك لإمكان إحراز عدم الصدور من الشارع بالاستصحاب ، حيث إن تشريع النهي من الحوادث المسبوقة بالعدم ، فيجري فيه استصحاب عدمه وينقح به عدم صدور النهي من الشارع فيشمله الحديث.

وعليه : فقوله : «نعم» تصديق لصحة إطلاق الورود على مجرد الصدور وإن لم يصل إلى المكلف ، والمشكل بقوله : «لا يقال» يريد إثبات تمامية الاستدلال بالرواية على البراءة ؛ لا كما سلكه الشيخ «قدس‌سره» من جعل الورود بمعنى العلم والوصول ؛ بل باستصحاب عدم الصدور ، ليكون صغرى لقوله «عليه‌السلام» «كل شيء مطلق» أي : مباح ظاهرا وهو المطلوب.

(٥) هذا جواب الإشكال وحاصله : أن الاستدلال على البراءة بهذا الحديث ـ بعد ضم استصحاب عدم الورود إليه ـ وإن كان تاما ، إلا إن الحكم بإباحة مجهول الحرمة

١٦٤

بضميمتها (١) ، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة وإطلاقه ؛ إلا إنه (٢) لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ؛ بل بعنوان أنه (٣) مما لم يرد عنه النهي واقعا (٤).

لا يقال (٥):

______________________________________________________

حينئذ يكون بعنوان ما لم يرد فيه نهي ؛ لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا كما هو مورد البحث ، والفرق بين العنوانين واضح فإن ما شك في حرمته يكون ـ بلحاظ أصالة عدم ورود النهي عنه ـ بمنزلة ما علم عدم ورود النهي عنه ، فالحكم بإباحة مجهول الحرمة حينئذ يكون لأجل العلم بعدم حرمته.

وهذا خلاف ما يقصده المستدل من الحكم بإباحته لأجل كونه مجهول الحكم ، بمعنى : دخل الجهل بالحكم الواقعي في موضوع الحكم بالإباحة ؛ لأن موضوع أصالة البراءة هو ذلك ، يعني : الشك في الحكم لا لأجل العلم بعدم حرمته ولو بالبناء على عدم ثبوت حكم في الواقع.

وبعبارة أخرى ـ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٨٥» ـ : المطلوب هو الحكم بإباحة مجهول الحرمة لعدم العلم بحرمته ، لا للعلم بعدم حرمته ولو تعبدا ؛ لأن مقتضى الاستصحاب هو الثاني.

وعليه : فاستصحاب عدم ورود النهي لا يثبت حكم المشكوك فيه الذي هو المقصود.

(١) أي : بضميمة أصالة العدم وضمير «إطلاقه» راجع على «مجهول» و «إطلاقه» عطف تفسير لقوله : «إباحة».

(٢) أي : إلا إن الحكم بالإباحة ليس بعنوان مجهول الحرمة كما هو المطلوب في البراءة ، وإنما هو بعنوان ما يعلم عدم ورود النهي عنه.

(٣) أي : أن مجهول الحرمة «مما لم يرد عنه النهي» ، وضمير «عنه» راجع على الموصول المراد به مجهول الحرمة.

(٤) يعني : ولو تعبّدا كما هو مقتضى إحراز عدم ورود النهي بالاستصحاب.

(٥) لا يقال : إنه مهم الفقيه هو الحكم بالإطلاق والإباحة ، من دون فرق بين أن يكون مستندة الحديث وحده ، أو بضميمة أصالة العدم. وهذا الإشكال ناظر إلى قوله : «لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا» ، بتقريب : أن عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب وإن كان مغايرا لعنوان «مجهول الحرمة ، لكن لا تفاوت بينهما في الغرض وهو إثبات إباحة مجهول الحرمة كشرب التتن ، فهذا الفعل مباح ظاهرا ، سواء كان

١٦٥

نعم (١) ؛ ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول الحرمة ، كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.

فإنه يقال (٢) : حيث إنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه أصلا ،

______________________________________________________

بعنوان عدم ورود النهي عنه واقعا ولو تعبدا كما هو مقتضى استصحاب عدم ورود النهي عنه ، أم بعنوان كونه مجهول الحكم.

فالمتحصل : من قوله : «لا يقال» هو : صحة الاستدلال بهذا الحديث على البراءة وإن كان الحكم بالإباحة بعنوان ما لم يرد ؛ لا بعنوان مجهول الحرمة.

(١) يعني : نسلم أن التفاوت بين العنوانين موجود ؛ إذ هناك فرق من حيث السبب للإباحة ؛ لكنه لا يوجب تفاوتا «فيما هو المهم من الحكم بالإباحة» والإطلاق «في مجهول الحرمة كان» الحكم بالإباحة «بهذا العنوان» أي : بعنوان أنه مجهول الحكم إذا قلنا بدلالة الحديث ، «أو بذلك العنوان» أي : عنوان أنه لم يرد عنه النهي واقعا المكشوف ذلك بأصالة العدم ؛ إذا قلنا باحتياج الحديث إلى ضميمة أصالة العدم.

(٢) أي : يقال في الجواب : إنه ليس الأمر على ما ذكرتم من عدم التفاوت ؛ بل هناك تفاوت بأن الدليل ـ بناء على كونه مركبا من الحديث وأصالة العدم ـ أخص من الدليل ـ بناء على كونه الحديث فقط ـ إذ لو كان المعيار هو مجهول الحكم شمل الحكم بالإباحة ما طرأ إباحة وحرمة ، ولم يعلم السابق منهما ، ولو كان المعيار إجراء أصالة العدم لم تجر في هذا الفرض ، فلا يحكم فيه بالإباحة.

وبعبارة واضحة : أنه إذا جعل الحكم بالإباحة لمشكوك الحكم بعنوان أنه «لم يرد فيه نهي» كان هذا الدليل أعني : الحديث المذكور أخص من المدعى ؛ وذلك لأن الحديث إذا دل على إباحة مشكوك الحكم بعنوان أنه مشكوك الحكم ـ بلا ضم استصحاب عدم الورود إليه ـ شمل جميع موارد الشك في الحكم حتى صورة فرض العلم الإجمالي بورود النهي عن ذلك الفعل المشكوك الحكم في زمان ، وإباحته في زمان آخر ؛ إذ المفروض : أن الفعل ـ فعلا ـ مجهول الحرمة ، والحديث دال على إباحته ظاهرا فيحكم بإباحته.

وهذا بخلاف ضم الاستصحاب المذكور إليه ، فإن الاستدلال به يختص حينئذ بما إذا شك في ورود النهي عنه وأحرز عدم وروده بالاستصحاب ، ولا يشمل ما إذا علم بورود نهي وإباحة معا في شيء واشتبه المتقدم منهما بالمتأخر.

وجه عدم الشمول : أن استصحاب عدم ورود النهي عنه ـ الذي هو جزء لموضوع

١٦٦

ولا يكاد يعم (١) ما إذا ورد النهي عنه في زمان وإباحة في آخر ، واشتبها من حيث التقدم والتأخر (٢).

لا يقال : هذا (٣) لو لا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

______________________________________________________

الحديث المذكور حسب الفرض ـ لا يجري حينئذ ؛ إذ المفروض : العلم بارتفاع إطلاق ذلك المشكوك الحكم بسبب العلم بورود النهي عنه ، فليس مطلقا حتى تجري فيه أصالة البراءة ، مع أنه لا إشكال في أنه من مجاريها.

وبالجملة : فلو قيد المشكوك الحكم بعنوان «ما لم يرد فيه نهي» لم يشمل هذا الحديث جميع موارد الشك في الحكم التي منها تعاقب الحالتين ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٨٧» مع تصرف منّا.

توضيح بعض العبارات :

ضمير «أنه» في قوله : «حيث إنه» راجع على الحكم بإباحة ما لم يرد فيه نهي ، والأولى تبديل «لاختص» ب «يختص» ؛ لأنه «قدس‌سره» جعله جوابا ل «حيث» المتضمن لمعنى الشرط ، ولم يعهد دخول اللام على جوابه.

(١) أي : لا يكاد يعم الحكم بالإباحة الذي جعل لعنوان «ما لم يرد فيه نهي» ؛ لما إذا ورد النهي عنه في زمان ... الخ.

(٢) كما في موارد تعاقب الحالتين.

(٣) يعني : أن التفاوت المذكور بين العنوانين ـ وهو صيرورة الدليل أخص من المدعى ـ فيما إذا قيد المشكوك الحكم بعنوان «ما لم يرد فيه نهي» مسلم لو لم يثبت عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.

كيف؟ وهو ثابت ، حيث إن الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية مطلقا ـ يعني : سواء كان الفرد المشتبه مما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي عنه أم لا تجري فيه ؛ كمورد تعاقب الحالتين ـ كالمحدثين ، وبين من يقول بالبراءة فيها كذلك وهم المجتهدون ، ولم يدع أحد التفصيل بين الأفراد المشتبهة بأن يقول بالبراءة فيما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي ويقول بالاحتياط فيما لا تجري فيه كمورد التعاقب ، وعليه : فالتفاوت المذكور مرتفع.

والحاصل : أن إشكال أخصية الحديث من المدعى يندفع بتعميم دلالته بعدم القول بالفصل في الحكم بالإباحة بين أفراد مشتبه الحكم ، فما لا تجري فيه أصالة العدم يلحق بالموارد التي تجري فيها.

١٦٧

فإنه يقال (١) : وإن لم يكن بينها (٢) الفصل ؛ إلا إنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل ؛ لا الأصل فافهم.

______________________________________________________

وبالجملة : فببركة عدم الفصل بين الموارد نلتزم بالبراءة في موارد تعاقب الحالتين أيضا ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٨٨».

(١) إشارة إلى الجواب عن السؤال المذكور.

(٢) أي : وإن لم يكن بين أفراد ما اشتبهت حرمته فصل ، إلا إنه ...

وحاصل الجواب : أن التلازم في الحكم بالإباحة بين أفراد ما اشتبهت حرمته وإن كان ثابتا ؛ إلا إن المثبت لأحد المتلازمين لا يجب أن يكون مثبتا للملازم الآخر مطلقا ، يعني : دليلا كان هذا المثبت أم أصلا ، بل إنما يثبته إذا كان هذا المثبت دليلا ، حيث إن الدليل يثبت اللوازم والملزومات والملازمات بخلاف الأصل ، فإنه قاصر عن إثبات الملازم الآخر ، مثلا : إذا قلنا بالملازمة بين الأمر بشيء والنهي عن ضده ، فإن ثبت الأمر بالدليل الاجتهادي ـ كالأمر بالصلاة الثابت بمثل قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ـ ثبت ملازمه وهو النهي عن ضد الصلاة كالاشتغال بالكتابة فيما إذا ضاق وقت الصلاة ، وإن ثبت الأمر بالأصل العملي ـ كاستصحاب وجوب الصلاة لمن كان عليه فريضة وشك في الإتيان بها والوقت باق ـ لم يثبت ملازمه المذكور ؛ لعدم ثبوت اللوازم بالأصول العملية كما حرر في محله.

وكذا لو قلنا : بثبوت الملازمة بين حرمة العصير العنبي بعد الغليان وقبل ذهاب ثلثيه وبين نجاسته ، فإن ثبت حرمته بالدليل ثبتت نجاسته أيضا ، وإن ثبت بالأصل كاستصحاب عدم ذهاب ثلثيه لم تثبت نجاسته ؛ لما تقدم. وهكذا.

ففي المقام : إن كان المثبت للإباحة فيما لم يرد فيه نهي هو الدليل فلا إشكال في ثبوت الفرد الآخر الملازم لما لم يرد فيه نهي أعني : مجهول الحرمة ، وإن كان المثبت للإباحة هو الأصل ـ كما هو مفروض البحث ؛ إذ المثبت للإباحة فيما لم يرد فيه نهي هو الاستصحاب ـ لم يثبت به الملازم أعني : الإباحة في مجهول الحرمة ؛ لما قرر في محله من عدم حجية الأصل في اللوازم والملازمات ؛ إذ لم يقل أحد بحجية الأصل المثبت.

نعم ؛ إذا فرض التلازم بين الأفراد في الحكم مطلقا وإن كان ظاهريا ، فلا بأس به ، ولعل مقصود مدعي الإجماع المركب ثبوت الملازمة بين الأفراد المشتبهة حتى في الحكم الظاهري ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٨٩».

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى : أن المثبت للحكم بالإباحة هو الدليل لا الأصل ، نعم ؛

١٦٨

.................................................................................................

______________________________________________________

الأصل ينقح الموضوع ـ وهو عدم الورود ـ ثم يشمله قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء مطلق» ، وهو نظير إحراز عالمية زيد بالاستصحاب يندرج في قوله : «أكرم العلماء» ، فإن الدال على وجوب الإكرام هو الدليل لا الاستصحاب.

أو إشارة إلى : أن مدعي الإجماع يريد به الإجماع على الحكم الظاهري ، فكأنه يقول : كل من قال بالإباحة قال في الجميع ، وكل من قال بالاحتياط قال في الجميع ، فالقول بالإباحة في البعض والاحتياط في البعض إيجاد قول ثالث وهو مخالف للإجماع المركب ، فالإباحة الثابتة في اللازم إنما هو بنفس الإجماع لا بسبب كونه لازما حتى يقال : بأن الأصل لا يثبت لوازمه. هذا تمام الكلام في الاستدلال بالروايات على البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تقريب الاستدلال بهذه الرواية مبني على أن يكون المراد من الورود المستفاد من «يرد» : إيصال التكليف إلى المكلف لا صدوره من الشارع ، ومن النهي : النهي الواقعي عن الشيء بعنوانه الأولي ، فيكون مفادها حينئذ : كل شيء مطلق ومباح ما لم يصل فيه النهي عن الشارع ، فيكون دلالة الرواية على البراءة أوضح من الكل ، كما قال الشيخ «قدس‌سره».

وأورد المصنف على الاستدلال بهذه الرواية على البراءة بما حاصله : من أنه يحتمل أن يكون المراد من الورود الذي جعل غاية للإطلاق هو : صدور الحكم من الشارع ، وجعله لا وصوله إلى المكلف ، فيكون مفاد الرواية : أن كل شيء لم يصدر فيه نهي ولم تجعل فيه الحرمة فهو مطلق ، وهذا خارج عن محل الكلام أصلا.

٢ ـ قوله : «لا يقال : نعم» تصحيح للاستدلال بالحديث على البراءة ، حتى مع صدق الورود على الصدور ؛ وذلك لإمكان إحراز عدم الصدور من الشارع بالاستصحاب ، فإن النهي من الحوادث المسبوقة بالعدم ، فيجري فيه استصحاب عدمه ، فينقح به عدم صدور النهي من الشارع ، فيشمله الحديث.

٣ ـ وحاصل الجواب عن هذا التصحيح : أن الاستدلال على البراءة بهذا الحديث ـ بعد ضم الأصل المذكور ـ وإن كان تاما إلا إن الحكم بالإباحة حينئذ يكون بعنوان «ما

١٦٩

.................................................................................................

______________________________________________________

لم يرد فيه نهي» ، وهذا خارج عن محل البحث ؛ لأن محل الكلام هو الحكم بالإباحة بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا ؛ إذ الحكم بالإباحة بعنوان عدم ورود النهي بمنزلة العلم بعدم النهي والحرمة ، وهذا خلاف ما يقصده المستدل من الحكم بالإباحة لأجل كونه مجهول الحرمة.

وكيف كان ؛ فالمطلوب هو الحكم بإباحة مجهول الحرمة ؛ لعدم العلم بحرمته لا للعلم بعدم حرمته.

٤ ـ توهم عدم الفرق فيما هو المهم من الحكم بالإباحة ، سواء كان مستنده الحديث وحده ، أو بضميمة أصالة العدم ، بتقريب : أن عنوان «ما لم يرد فيه نهي» الثابت بالاستصحاب وإن كان مغايرا لعنوان «مجهول الحرمة» لكن لا تفاوت بينهما في الغرض ، وهو إثبات إباحة مجهول الحرمة ، فيصح الاستدلال بالحديث على البراءة ؛ وإن كان الحكم بالإباحة بعنوان عدم ورود النهي لا بعنوان مجهول الحرمة ؛ مدفوع : بالتفاوت بين العنوانين والأمرين.

وحاصل التفاوت : أن الدليل بناء على كونه مركبا من الحديث والأصل ـ أخص من المدعى بخلاف كون الدليل هو الحديث فقط ؛ إذ الأول لا يجري في مورد تعاقب الحالتين.

والثاني : يجري في جميع الموارد أي : موارد الشك.

٥ ـ توهم : أن كون الدليل أخص من المدعى في محله إذا لم يثبت عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته؟ كيف؟ وهو ثابت حيث إن الأمة بين من يقول بالاحتياط في الشبهات التحريمية مطلقا ، يعني : سواء كان الفرد المشتبه مما تجري فيه أصالة عدم ورود النهي عنه أم لا تجري فيه ؛ كمورد تعاقب الحالتين كالأخباريين. وبين من يقول بالبراءة فيها كذلك كالأصوليين.

وعليه : فالتفاوت المذكور مرتفع ؛ مدفوع : بأن التلازم في الحكم بالإباحة بين أفراد ما اشتبهت حرمته وإن كان ثابتا ؛ إلا إن المثبت لأحد المتلازمين لا يجب أن يكون مثبتا للملازم الآخر مطلقا يعني : دليلا كان أو أصلا ؛ بل إنما يثبته ما إذا كان هذا المثبت دليلا ، حيث أن الدليل يثبت اللوازم ، بخلاف الأصل فإنه قاصر عن إثبات الملازم الآخر.

ففي المقام على فرض ضميمة الأصل المثبت للإباحة في «ما لم يرد فيه نهي» المثبت

١٧٠

وأما الإجماع (١) : فقد نقل على البراءة ؛ إلا إنه موهون ، ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة ، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل ، ومن واضح النقل عليه دليل ، بعيد جدا.

______________________________________________________

هو هذا الأصل ، فلم يثبت الملازم الآخر أعني الإباحة في مجهول الحرمة ؛ لعدم حجية الأصل المثبت.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن المثبت للحكم بالإباحة هو الدليل لا الأصل ، نعم ؛ الأصل ينقح به الموضوع ـ وهو عدم ورود النهي ـ ثم يشمله قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء مطلق».

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو عدم تمامية دلالة هذه الرواية على البراءة.

الاستدلال بالإجماع على البراءة

(١) هذا إشارة إلى ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في الاستدلال على البراءة بالإجماع ، فينبغي نقل كلام الشيخ في تقرير الإجماع حتى يتضح ما أورده المصنف عليه.

فقد ذكر الشيخ «قدس‌سره» لتقريره وجهين :

«الأول : دعوى إجماع العلماء كلهم من المجتهدين والأخباريين على أن الحكم ـ فيما لم يرد فيه دليل عقلي أو نقلي على تحريمه من حيث هو ، ولا على تحريمه من حيث إنه مجهول ـ هو البراءة وعدم العقاب على الفعل». «دروس في الرسائل ، ج ٢ ، ص ٢٨٧».

وملخص تقرير هذا القسم الأول من الإجماع هو : أن حكم المشتبه وما لم يعلم حكمه الواقعي هو البراءة باتفاق المجتهدين والأخباريين ، ويكون هذا الاتفاق منهم على فرض عدم دليل من العقل أو النقل على التحريم ، فيكون الإجماع المزبور فرضيا وتعليقيا ، ولا ينفع إلا بعد إثبات عدم تمامية ما سيأتي من الدليل العقلي والنقلي على وجوب الاحتياط من جانب الأخباريين ، ولو تم دليل الاحتياط كان حاكما على دليل البراءة ، كما يكون حاكما على حكم العقل الآتي على البراءة ، حيث يحكم بقبح العقاب بلا بيان ؛ ولكن ما يدل على وجوب الاحتياط يكون بيانا للحكم الظاهري ، فيكون حاكما أو واردا على حكم العقل ، فيكون هذا الإجماع الفرضي نظير حكم العقل الآتي.

«الثاني : دعوى الإجماع على أن الحكم ـ فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ـ هو عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب». وهذا القسم الثاني من الإجماع يكون إجماعا تنجيزيا ، في مقابل القسم الأول الذي كان فرضيا وتعليقيا ، والمراد منه هو

١٧١

.................................................................................................

______________________________________________________

الإجماع المحصل. ثم شرع في بيان تحصيل هذا الإجماع قولا وعملا ، حيث قال : «وتحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه».

قوله : «فإن تحصيله» تعليل لقوله : «موهون».

ومجمل تلك الوجوه أمور تالية :

١ ـ «ملاحظة فتاوى العلماء من المحدثين والمجتهدين ...» الخ.

٢ ـ «الإجماعات المنقولة على البراءة ...» الخ.

٣ ـ «الإجماع العملي الكاشف عن رضا المعصوم «عليه‌السلام» بجواز ارتكاب المشتبه من حيث هو».

٤ ـ «سيرة أهل الشرائع كافة على البراءة في مشتبه الحكم ...» الخ.

٥ ـ «سيرة كافة العقلاء على قبح مؤاخذة الجاهل ...» الخ.

هذا تمام الكلام في نقل مورد الحاجة من كلام الشيخ «قدس‌سره».

ثم إن مقصود المصنف من الإجماع هو القسم الثاني ؛ إذ القسم الأول لم يتحقق بعد وجود الدليل على لزوم الاحتياط والتوقف عند الشبهات حسب دعوى الأخباريين لذلك.

وأما القسم الثاني ـ وهو الإجماع المنجز ـ فهو وإن كان محصلا في نظر الشيخ «قدس‌سره» ؛ إلا إنه عند المصنف منقول ؛ إذ العمدة من وجوه تحصيله هو الوجه الثاني من الوجوه الخمسة أعني : الإجماعات المنقولة المحققة ، وهي مهما بلغت كثرة لا يحصل منها إجماع محصل كي يستند به في المقام في عرض الاستدلال بالكتاب والسنة.

وأما ما أورده المصنف على هذا الوجه من الإجماع فهو وجهان :

الأول ما أشار إليه بقوله : «إنه موهون» ؛ إذ مع مخالفة الأخباريين لا يتحقق الإجماع من الكل ؛ إذ هم من العلماء الأجلاء.

الثاني : ما أشار إليه بقوله : «ولو قيل باعتبار الإجماع المنقول في الجملة».

وحاصل هذا الوجه : أنه لو سلم تحقق الإجماع المنقول في المقام فهو غير معتبر ؛ لأنه على القول باعتباره إنما يعتبر في الجملة يعني : فيما إذا لم يحتمل كونه مدركيا ، وفي المقام حيث يحتمل كونه كذلك ؛ لاحتمال استناد المجمعين إلى ما ذكر فيه من الأدلة العقلية والنقلية ، فلا يكون هذا الإجماع حجة ؛ لعدم كونه حينئذ كاشفا عن قول المعصوم «عليه‌السلام».

١٧٢

وأما العقل (١) : فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف

______________________________________________________

وخلاصة البحث : أن الإجماع التقديري والمعلق غير مفيد ، والإجماع المنجز والمحصل غير ثابت ؛ إذ الفرض في الأول : عدم تحقق الإجماع. وفي الثاني : عدم حجيته.

والمتحصل : أنه لو قال المستدل : أجمع العلماء على أن الأصل في الأحكام التي لم تصل إلينا لا بنفسها ولا بطريقها ـ كالأمر بالاحتياط ـ هو البراءة ، فالكبرى مسلمة ؛ ولكن الصغرى غير محققة عند الجميع ، أعني : الأخباريين ، فهم يدعون أن الأحكام المجهولة واصلة إلينا بطريقها ، أعني : الروايات الدالة على الاحتياط والتوقف.

ولو قال المستدل : أجمع العلماء على أن الأصل في الأحكام الواقعية المجهولة بنفسها هو البراءة أو الإباحة والترخيص ، فالصغرى محققة لأن هناك أحكاما واقعية غير واصلة ؛ ولكن الكبرى غير مسلمة ؛ لمخالفة الأخباريين في ذلك بأن الأصل في ذاك المقام هو الاحتياط.

رأي المصنف «قدس‌سره» : هو عدم صحة الاستدلال بالإجماع على البراءة.

الاستدلال بالعقل على البراءة

(١) بعد أن فرغ المصنف من الاستدلال على البراءة بالنقل كتابا وسنة وإجماعا ، شرع في الاستدلال عليها بالعقل.

وتحقيق الحال في الاستدلال بالعقل على البراءة يقتضي التكلم في جهتين :

الجهة الأولى : في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان في نفسها أولا. وتقريب الاستدلال بها على البراءة بعد فرض تماميتها ثانيا.

الجهة الثانية : في ملاحظتها مع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل.

وأما الجهة الأولى : فلا شك في تمامية قاعدة قبح العقاب بلا بيان على القول بالتحسين والتقبيح العقليين كما عليه العدلية.

وأما على قول الأشاعرة الذين لا يقولون بهما : فلا تتم هذه القاعدة ؛ إذ لا قبح حتى يحكم به العقل. فهي تامة في نفسها على ما هو الحق من مذهب العدلية.

وأما تقريب الاستدلال بهذه القاعدة على البراءة فيتوقف على مقدمة ، وهي : أن المراد من البيان الذي يكون عدمه موضوعا لحكم العقل بقبح العقاب ليس هو البيان الواصل بنفسه ؛ بل هو البيان الذي يمكن الوصول إليه ولو بالفحص عنه ، فإن مجرد عدم البيان الواصل بنفسه مع احتمال وجود البيان الذي لو تفحص عنه لظفر عليه مما لا يكفي في

١٧٣

المجهول ، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه ، فإنهما (١) بدونها عقاب بلا بيان ، ومؤاخذة بلا برهان ، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.

______________________________________________________

حكم العقل بقبح العقاب ؛ بل إذا تفحص عنه ولم يكن هناك بيان فعند ذلك يستقل العقل بقبح العقاب وإن احتمل وجود بيان في الواقع لا يمكن الوصول إليه ولو بالفحص.

والوجه في ذلك : التكليف بوجوده الواقعي لا يكون محركا للعبد لا بعثا ولا زجرا. بل الانبعاث نحو الفعل والانزجار عنه إنما هما من آثار التكليف الواصل المنجز وهو مدار الإطاعة والمعصية.

إذا عرفت هذه المقدمة فيتضح لك حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل إلى المكلف بعد فحصه موارد وجود التكليف فحصا كاملا ، وعدم وجدانه دليلا عليه ، فيكون ـ حينئذ ـ معذورا عند العقل في عدم امتثال التكليف المجهول ؛ لأن فوت التكليف ـ حينئذ ـ مستند إلى عدم البيان الواصل إليه من المولى ؛ لا إلى تقصير من العبد.

ولا فرق في استقلال العقل بقبح العقاب هنا بين عدم البيان أصلا وبين عدم وصوله إلى العبد واختفائه عليه بعد الفحص عنه في مظانه بقدر وسعه.

وبالجملة : فقاعدة قبح العقاب بلا بيان تامة بلا شبهة وإشكال.

(١) أي : فإن العقوبة والمؤاخذة بدون الحجة عقاب بلا بيان. وضمير «عليه» راجع على التكليف المجهول. هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

وأما الجهة الثانية : فالمشهور بينهم ـ كما ذكره «قدس‌سره» ـ : أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان ترفع موضوع حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ؛ إذ مع حكم العقل بقبح العقاب مع عدم وصول التكليف إلى العبد لا يبقى احتمال الضرر كي يجب دفعه بحكم العقل. هذا ما أشار إليه بقوله : «أنه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة ...» الخ.

وأشكل عليه بإمكان العكس ؛ بأن تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها ، وهو عدم البيان. هذا ما أشار إلى دفعه المصنف بقوله : «ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك» ، أي : بقبح العقاب بلا بيان ؛ «لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته» أي : مخالفة التكليف المجهول ؛ بل المؤاخذة تكون معلومة العدم ، والضرر معلوم الانتفاء.

فمقصود المصنف «قدس‌سره» من هذا الكلام : هو دفع إشكال العكس.

١٧٤

ولا يخفى : أنه مع استقلاله بذلك لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته ، فلا

______________________________________________________

والتحقيق في الجواب عن الإشكال يقتضي التكلم في مقامين :

المقام الأول : هو تقريب الإشكال.

المقام الثاني : توضيح الجواب.

وأما المقام الأول : ـ أعني : تقريب الإشكال فيتوقف على مقدمة وهي : أن في المقام قاعدتين عقليتين :

الأولى : هي قبح العقاب بلا بيان.

الثانية : هي وجوب دفع الضرر المحتمل.

والقاعدة الأولى : وإن كانت من المستقلات العقلية كما تقدم ؛ إلا إن المقام ـ وهو الشبهة بعد الفحص ـ يكون صغرى للقاعدة الثانية ، وذلك لوجود احتمال الضرر الناشئ عن احتمال الحرمة.

فالقاعدة الثانية : ـ وهي وجوب دفع الضرر المحتمل ـ تصلح للبيانية ، لأن المراد بالبيان الرافع لموضوع القاعدة الأولى ليس خصوص الطريق الشرعي على الواقع كخبر الواحد ؛ بل المراد به كان كل ما يكون صالحا لتنجيز الخطاب ، ورافعا لقبح المؤاخذة على مخالفة التكليف أعم من الواقعي والظاهري والشرعي والعقلي ، وبهذا المعنى العام تكون القاعدة وجوب الدفع بيانا يرتفع به موضوع قاعدة القبح.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل تكفي أن تكون بيانا لوجوب الاحتياط في محتمل الحرمة ، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها ، فلا يمكن الاستدلال بها على البراءة. هذا تمام الكلام في المقام الأول ، أعني : تقريب الإشكال.

وأما المقام الثاني : ـ وهو توضيح الجواب ـ فيتوقف أيضا على مقدمة وهي : أن الضرر المحتمل الذي يجب دفعه بحكم العقل إما أن يراد به الضرر الأخروي أعني : العقاب ، أو الضرر الدنيوي.

إذا عرفت هذه المقدمة القصيرة فاعلم : أن قاعدة وجوب الدفع غير ثابتة في المقام ؛ إذ هي مركبة من صغرى وهي احتمال الضرر ـ وكبرى وهي وجوب دفع الضرر المحتمل ، فإذا كان المراد من الضرر المحتمل الضرر الأخروي : فلا صغرى لها ، وإذا كان المراد منه الضرر الدنيوي : فلا كبرى لها ؛ لأن الضرر الأخروي معلوم الانتفاء بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان. هذا معنى انتفاء الصغرى.

١٧٥

يكون مجال هاهنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ كي يتوهم أنها (١) بيانا ، كما أنه مع احتماله لا حاجة (٢) إلى القاعدة ؛ بل في صورة المصادفة استحق (٣) العقوبة على المخالفة ؛ ولو (٤) قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.

______________________________________________________

وأما إذا كان المراد بالضرر الضرر الدنيوي : فلا يجب دفعه عقلا حتى تثبت كبرى القاعدة المذكورة. هذا معنى انتفاء الكبرى.

هذا خلاصة الكلام في المقام. وهناك بحوث طويلة خارجة عما هو المقصود ، أضربنا عنها رعاية للاختصار المطلوب في هذا الشرح.

فالمتحصل : أن هاتين القاعدتين لهما موردان ولا ترتبط إحداهما بالأخرى ، فإن جرت قاعدة قبح العقاب بلا بيان لم يبق مورد لقاعدة دفع الضرر المحتمل ؛ إذ لا احتمال للضرر حينئذ ، وإن لم تجر قاعدة القبح يلزم عقلا اجتناب الضرر المحتمل ـ وإن قلنا : بأنه لا دليل لوجوب دفع الضرر المحتمل ـ وذلك لأنه لو صادف العمل الواقع المعاقب عليه حسن العقاب ، ولا مانع عنه ؛ لأن المفروض : عدم قبح العقاب ، فالعقل يلزم باجتناب المحتمل لئلا يصادف الواقع فيعاقب. هذا ما أشار إليه بقوله : «بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ، ولو قيل بعدم وجوب الضرر المحتمل».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «هاهنا» أي : في الشبهة البدوية بعد الفحص ؛ إذ لا احتمال للعقوبة كما عرفت.

(١) أي : قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل. وضمير «احتماله» راجع على الضرر المراد به العقوبة.

(٢) وجه عدم الحاجة : أن استحقاق المؤاخذة عند احتمال الحكم ثابت لا محتمل حتى يحتاج في دفعه إلى التمسك بقاعدة الدفع ؛ إذ المفروض : استقلال العقل بصحة المؤاخذة على المجهول ، وعدم استقلاله بتوقفها على البيان ، فإذا احتمل أن التكليف الواقعي في شرب التتن مثلا هو الحرمة لزم الاجتناب عنه ؛ لتنجز الواقع بنفس الاحتمال مع عدم مؤمّن لارتكابه ، فإن تنجز الواقع يصحح العقوبة حتى إذا لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فتصح المؤاخذة في صورة الإصابة لوجود المنجز ؛ بل في صورة المخالفة أيضا بناء على ما هو الحق من استحقاق المتجري للعقوبة.

(٣) الأولى أن يقال : «يستحق العقوبة».

(٤) كلمة «لو» وصلية ، وقيد لقوله : «استحق» ، يعني : إذا احتمل الضرر الأخروي في شرب مائع خاص فشربه ، وكان حراما واقعا ، فإنه يستحق العقوبة على مخالفة هذا

١٧٦

وأما (١) ضرر غير العقوبة : فهو وإن كان محتملا ؛ إلا إن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع (٢) شرعا ولا عقلا ، ضرورة (٣) : عدم القبح في تحمل

______________________________________________________

التكليف الإلزامي أعني الحرمة ؛ حتى إذا لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل ، فإن وجوب دفعه ـ بحكم العقل ـ إرشاد إلى عدم الوقوع في مخالفة الحكم الواقعي ، وليس وجوبا مولويا ، ومن المعلوم : أن ذلك الضرر يترتب على الفعل لو فرض حرمته واقعا ؛ كترتب الضرر الدنيوي على شرب ذلك المائع ، سواء قلنا : بوجوب دفع الضرر المحتمل أم لم نقل به.

(١) عطف على قوله : «لا احتمال لضرر العقوبة» ، يعني : وأما إذا أريد بالضرر الضرر الدنيوي دون العقوبة الأخروية ، فهو وإن كان محتملا عند ارتكاب الشبهة التحريمية ، ولا يرتفع احتماله بقبح العقاب بلا بيان ؛ لكنه لا يجب دفعه.

وقد أجاب المصنف عن توهم وجوب دفعه بوجهين ، أشار إلى أولهما بقوله : «إلا إن المتيقن ...» الخ.

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣١٥» ـ أن ما لا يكون ترتبه على التكليف مشروطا بتنجز التكليف ووصوله إلى المكلف ، بل يترتب على وجود الحكم واقعا ولو لم يصل إليه ، لا ينفك احتمال التكليف التحريمي عن احتمال الضرر ، وهذا الضرر وإن لم يمكن التخلص عنه بقاعدة قبح العقاب بلا بيان لكونه أجنبيا عنها بعد فرض الضرر أمرا غير العقوبة الأخروية ، لكن لا مجال أيضا للتثبت بقاعدة وجوب الدفع لإثبات لزوم الاجتناب عنه ؛ وذلك لأن شمول الكبرى ـ وهي وجوب دفع الضرر ـ للضرر الدنيوي المحتمل ممنوع ؛ بل لا دليل على لزوم التحرز عن الضرر الدنيوي المعلوم فضلا عن محتمله ؛ إذ لا قبح عقلا في تحمل بعض المضار الدنيوية لبعض الدواعي العقلائية ، فإن العقلاء مع علمهم بالضرر يصرفون الأموال ويتحملون المشاق لأجل تحصيل العلم أو كسب المال بالتجارة ، وليست الغاية معلومة الحصول لهم ؛ بل ربما لا تكون مظنونة أيضا.

وأما احتمال الضرر : فلا ينفك عن كثير من أفعالهم ، وهم لا يعتنون به أصلا وأما تحمل الضرر المعلوم أو المحتمل شرعا : فلا منع فيه ، بل قد يستحب في بعض الموارد ، وقد يجب في موارد أخرى.

(٢) كما حكى اعتراف الخصم به ، وضميرا «منه ، محتمله» راجعان على الضرر غير العقوبة.

(٣) تعليل لعدم وجوب دفع الضرر الدنيوي عقلا. وضمير «جوازه» راجع على

١٧٧

بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا.

مع أن (١) احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة ؛ وإن كان ملازما

______________________________________________________

«تحمل بعض المضار» كبذل المال لتحصيل الاعتبار ونحوه. هذا بحسب حكم العقل.

وأما شرعا : فكجواز إتلاف النفس لإقامة الدين وشعائره ، وجواز بذل المال للطهارة والساتر في الصلاة.

(١) هذا هو الوجه الثاني من الجواب.

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٣١٦» ـ أن الأحكام الشرعية وإن كانت تابعة للملاكات النفس الأمرية من المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال المكلفين ، ومن المعلوم : عدم إناطة ترتبها عليها بالعلم بالأحكام ؛ للملازمة بين التكليف وملاكه مطلقا ، علم به أم لا.

فاحتمال التكليف الوجوبي أو التحريمي ملازم لاحتمال المصلحة أو المفسدة ؛ إلا إنه لا كبرى لوجوب دفع الضرر المحتمل في المقام ، أعني : الضرر غير العقوبة ؛ لتوقف الملازمة ـ بين احتمال الوجوب أو الحرمة ، وبين وجوب دفع الضرر المحتمل غير العقوبة ـ على تبعية الحكم الشرعي للمصلحة أو المفسدة ، بمعنى : النفع أو الضرر الدنيويين ، وهذه التبعية غير ثابتة ، إنما الثابت تبعيته للمصالح والمفاسد الواقعية التي هي العلل للأحكام الشرعية ، وهي التي توجب حسن الفعل أو قبحه ، ولا ربط لها بالمنافع والمضار العائدتين إلى المكلف ، يعني : أن المصالح والمفاسد الواقعية إنما توجبان حسن الفعل أو قبحه ، من دون لزوم ضرر على فاعله أو نفع عائد إليه.

وبالجملة : فاحتمال الحرمة وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة لكنه لا يلازم الضرر بالفاعل حتى يكون موردا لقاعدة وجوب الدفع ، ويجب ترك محتمل الحرمة تحرزا عن الضرر ؛ بل ربما كان ترك الحرام تحرزا عن المفسدة مستلزما للضرر على التارك ؛ كما في ترك البيع الربوي تحرزا عن مفسدته ، فإنه موجب لذهاب المنفعة المالية على المتحرز. كما أن احتمال الوجوب وإن كان ملازما لاحتمال المصلحة ؛ لكنه لا يلازم المنفعة حتى يجب فعل محتمل الوجوب استيفاء للمنفعة المالية ؛ بل ربما كان فعل الواجب استيفاء للمصلحة موجبا للضرر على الفاعل كما في أداء الزكاة استيفاء لمصلحتها ، فإن فيه ضررا ماليا على الدافع بناء على كونه مالكا لتمام المال الزكوي ، وخروج حصة الفقراء من ملكه ، لا مالكا لما عدا مقدار الزكاة ؛ وإلا لم يكن دفعه ضررا عليه كما هو واضح ، وعليه : فاحتمال الحرمة بالنسبة إلى الضرر الدنيوي غير واجب الدفع ، فلا تتم كبرى

١٧٨

لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة ، لوضوح : أن المصالح والمفاسد والتي تكون مناطات الأحكام (١) ، وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح ، وقبح ما كان ذات المفاسد ليست (٢) براجعة إلى المنافع والمضار ، وكثيرا ما يكون (٣) محتمل التكليف مأمون الضرر.

______________________________________________________

قاعدة وجوب الدفع حتى يجب الاجتناب عن كل محتمل الحرمة.

قوله : «لوضوح ...» الخ تعليل لقوله : «لا يلازم احتمال المضرة».

(١) يعني : بناء على مذهب العدلية القائلين بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد.

(٢) خبر «أن المصالح» يعني : أن المصالح والمفاسد الكامنة في أفعال المكلفين ليستا دائما من المنافع والمضار القائمة بالأفعال حتى يجب امتثال محتمل التكليف استيفاء للمنفعة أو دفعا للضرر ؛ بل قد تكون منها وقد لا تكون ، وذلك لأن المصلحة عبارة عن خصوصيات موجودة في الأشياء تحسنها وتوجب محبوبيتها تكوينا أو تشريعا ، والمفسدة عبارة عن خصوصيات موجودة في الأشياء تقبحها ، وتوجب كراهتها تكوينا أو تشريعا ، والنفع ما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه والوصول إلى المطلوب خير ، فالنفع هو الخير والضرر ضده ، والنسبة بين المصلحة والمنفعة عموم من وجه ؛ لاجتماعهما في الصوم النافع للبدن ، وافتراق المصلحة عن المنفعة في أداء الزكاة والخمس مثلا ؛ إذ فيه المصلحة دون المنفعة ، وافتراق المنفعة عن المصلحة في الربا مثلا إذ فيه المنفعة دون المصلحة.

وكذا بين المفسدة والضرر ؛ لاجتماعهما في شرب المسكر المضر بالبدن وافتراق المفسدة عن الضرر في غصب المال أو الحق ؛ إذ فيه المفسدة دون الضرر وافتراق الضرر عن المفسدة في دفع مثل الزكاة والخمس ؛ إذ فيه الضرر دون المفسدة كما هو واضح.

وبالجملة : فاحتمال التكليف التحريمي وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة ؛ لكنه لا يلازم احتمال الضرر حتى يكون موردا لقاعدة وجوب الدفع ويجب الاجتناب عنه ؛ بل كثيرا ما يكون محتمل الحرمة مأمون الضرر.

(٣) غرضه : تثبيت ما تقدم من أن احتمال التكليف التحريمي لا يلازم احتمال الضرر حتى يكون من موارد القاعدة ، يعني : أن هناك موارد كثيرة جدا يحتمل فيها التكليف التحريمي ، مع العلم بانتفاء الضرر الدنيوي ؛ بل قد يعلم بالحرمة ويعلم بعدم الضرر كما في كثير من المحرمات كالزنا والنظر إلى الأجنبية ـ بناء على عدم كون الحد والتعزير ضررا دنيويا ـ

وكيف كان ؛ فمع العلم بعدم الضرر حتى مع العلم بالحرمة في كثير من الموارد كيف

١٧٩

نعم (١) ؛ ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.

إن قلت (٢) : نعم ؛ ولكن العقل يستقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته ،

______________________________________________________

يمكن دعوى أن احتمال الحرمة يجب دفعه ؛ لأنه يلازم الضرر ، ودفع الضرر المحتمل واجب.

(١) استدراك على قوله : «ليست براجعة على المنافع والمضار» ، يعني : أنه قد يتفق كون مناط حكم العقل أو الشرع هو النفع أو الضرر الموجود في الفعل ؛ لكن ذلك قاصر عن إثبات الملازمة ؛ لما عرفت من عدم كونهما غالبا مناطين للحكم حتى يكون احتمال الحرمة مساوقا لاحتمال المفسدة ، فالملاك في خيار الغبن ووجوب التيمم مع خوف الضرر باستعمال الماء هو الضرر لئلا يتضرر المغبون والمتطهر ، ولكن لا سبيل إلى إحراز الملاك في كثير من الأحكام حتى يلازم احتمال الحرمة احتمال الضرر الدنيوي كي يجب دفعه.

وقد تحصل من جميع ما ذكر حول قاعدة وجوب الدفع : أن المراد بالضرر إن كان هو العقاب : فلا موضوع للقاعدة في الشبهة الحكمية البدوية بعد الفحص ؛ لانتفاء العقاب قطعا بقاعدة القبح ، وإن كان غير العقوبة الأخروية : فلا يجب دفعه بعد ثبوت جوازه لبعض الأغراض العقلائية ، سواء أريد به الضرر الدنيوي أم المفسدة ؛ كما عرفت تفصيله.

وبالجملة : لا مجال للقاعدة في الشبهات الحكمية ؛ إما لانتفاء الصغرى أو الكبرى.

(٢) غرض المستشكل : هو تقديم قاعدة أخرى ـ غير وجوب دفع الضرر المحتمل ـ على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهي حكم العقل بقبح الإقدام على ما لا تؤمن مفسدته كقبحه على ما علم مفسدته.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن احتمال التكليف التحريمي وإن لم يستلزم احتمال العقاب الأخروي ولا الضرر الدنيوي ؛ إلا إنه بناء على مذهب العدلية من كون الأحكام تابعة للملاكات ، لا ينفك احتمال الحرمة عن احتمال المفسدة ـ ولو النوعية منها ـ وذلك لفرض التلازم بين المحتملين ـ وهما الحرمة والمفسدة ـ

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة ؛ فالإقدام على محتمل الحرمة إقدام على المفسدة المحتملة ، فيقال : قبح الإقدام على المفسدة المحتملة كقبح الإقدام على المفسدة المعلومة ، فيؤلف القياس ويقال : احتمال الحرمة ملازم لاحتمال المفسدة ، واحتمال المفسدة كالعلم بها يجب دفعه ، فاحتمال الحرمة يجب

١٨٠