دروس في الكفاية - ج ٧

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

١

٢

٣
٤

التاسع (١) : أنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر غير ...

______________________________________________________

في اللازم المطلق

(١) وهذا التنبيه كسابقه مما يتعلق بالأصل المثبت.

والغرض من عقده : هو تمييز اللازم العقلي أو العادي ـ الذي يترتب على استصحاب الحكم ، من دون أن يكون الاستصحاب مثبتا ـ عن اللازم غير الشرعي الذي يكون ترتبه على الاستصحاب مبنيا على الأصل المثبت.

وبهذا التمييز والفرق يندفع إشكال مثبتية الاستصحاب عند ترتب الأثر الشرعي على المستصحب بواسطة اللازم العقلي أو العادي.

فلا بد أوّلا : من بيان التمييز والفرق ، وثانيا : من بيان دفع الإشكال.

وأما توضيح التمييز والفرق ، فيتوقف على مقدمة وهي : أن اللازم العقلي أو العادي على قسمين :

أحدهما : هو اللازم المطلق للمستصحب فيما إذا كان المستصحب حكما شرعيا ؛ بمعنى : أن اللازم يترتب على مطلق وجوده الحكم ، سواء كان وجوده واقعيا أو ظاهريا.

وثانيهما : هو اللازم الخاص ، بمعنى : أنه لا يترتب إلّا على الوجود الواقعي للمستصحب.

ومثال الأول : كحسن الإطاعة وقبح المعصية. ووجوب المقدمة ؛ بناء على كونه عقليا ، فحسن الإطاعة وقبح المعصية ووجوب المقدمة من اللوازم العقلية المترتبة على مطلق وجود المستصحب ، سواء كان واقعيا أم ظاهريا.

ومثال الثاني : هو كالإجزاء ، فإن إجزاء الصلاة مع الطهارة الحدثية حكم عقلي مترتب على الطهارة الواقعية لا الأعم منها ، ومن الطهارة الظاهرية الثابتة بالاستصحاب.

فلا يجزي الإتيان بالصلاة مع الطهارة الظاهرية عن الصلاة مع الطهارة الواقعية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مورد الإشكال وتوهم أن اللازم العقلي أو العادي الذي لا يثبت نفسه ولا أثره الشرعي بالاستصحاب ؛ إلّا بناء على الأصل المثبت هو القسم الثاني أعني : اللازم العقلي أو العادي لوجود المستصحب الواقعي ، دون الأول أي :

٥

الشرعي (١) ولا الشرعي (٢) بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب (٣)

______________________________________________________

اللازم الأعم من وجوده الواقعي والظاهري ، فإن القسم الأول يثبت باستصحاب الحكم من دون إشكال مثبتية الاستصحاب.

والوجه في عدم المثبتية في القسم الأول هو : وضوح تبعية كل حكم لموضوعه ، وعدم تخلفه عنه لكونه بمنزلة العلة للحكم ، والمفروض في المقام : أن المستصحب بمطلق وجوده ـ ولو ظاهرا ـ موضوع لذلك اللازم ، فبمجرد الاستصحاب يثبت وجود المستصحب ظاهرا ، وهو الموضوع لذلك اللازم ، فيترتب عليه ، من دون حاجة إلى تعبد وتنزيل آخر يخصه ؛ لعدم قابليته للتعبد الشرعي ؛ بل بنفس التعبد بالملزوم ـ لكونه سببا لوجوده ولو ظاهرا ـ يترتب عليه لازمه قهرا من باب ترتب الحكم على موضوعه ، ولو كان للازم حكم شرعي ترتب عليه أيضا لتحقق موضوعه.

وهذا بخلاف القسم الثاني ، فإنه لا موجب لترتبه على المستصحب ؛ لا من جهة سراية التعبد من المستصحب إلى لازمه.

أما الأول : فلعدم تحققه ؛ إذ الثابت بالاستصحاب هو الوجود الظاهري ، والمفروض : إنه ليس بموضوع.

وأما الثاني : فلما مر سابقا من أن المستفاد من أخبار الاستصحاب تنزيل المستصحب وحده بلحاظ أثره الشرعي دون العقلي والعادي ، وعليه : فلا وجه لترتيب اللازم غير الشرعي ، ولا حكم هذا اللازم على المستصحب إلّا بناء على القول بالأصل المثبت.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) وهو العقلي أو العادي. ولا يخفى : أن حديث الأصل المثبت لا يجري في هذا الفرض ؛ لأن الأصل المثبت هو الأصل الجاري في الملزوم لإثبات الأثر الشرعي المترتب على لازمه. وهذا بخلاف إثبات نفس اللازم العقلي والعادي ، فإنه حيث لا يكون واسطة بين المستصحب ولازمه العقلي والعادي ، فلا ينطبق عليه ضابط الأصل المثبت. وإنما الوجه في عدم ترتب لازمه أن التعبد الاستصحابي يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتب على المستصحب ؛ لا مطلق أثره ولو كان عقليا أو عاديا.

(٢) يعني : ولا الأثر الشرعي الثابت بوساطة غير الأثر الشرعي وهو اللازم العقلي أو العادي.

(٣) متعلق ب «ترتب» أي : باستصحاب الملزوم ، سواء كان المستصحب موضوعا أم حكما.

٦

إنما (١) هو بالنسبة إلى ما للمستصحب واقعا (٢) ، فلا يكاد (٣) يثبت به (٤) من آثاره إلّا أثره الشرعي الذي كان له بلا واسطة أو بوساطة أثر شرعي آخر (٥) حسبما عرفت فيما مر (٦) ؛ لا بالنسبة (٧) إلى ما كان للأثر الشرعي ...

______________________________________________________

(١) خبر قوله : «أن عدم» ، يعني : أن عدم ترتب الأثر العقلي أو العادي ، وكذا الأثر الشرعي المترتب عليهما بالاستصحاب مختص بالحكم الذي يكون بوجوده الواقعي موضوعا للأثر.

وأما إن كان الموضوع وجود الحكم مطلقا ـ ولو في الظاهر ـ فلا مانع من ترتب لوازمه العقلية والعادية وآثارهما الشرعية عليه ، وضمير «هو» راجع إلى «عدم ترتب».

(٢) قيد للمستصحب ، والمراد ب «ما» الموصول حكم المستصحب.

(٣) هذه نتيجة حصر نفي ترتب الأثر غير الشرعي ـ أو الشرعي المترتب على اللازم العقلي أو العادي على الاستصحاب ـ بكون الحكم بوجوده الواقعي موضوعا ، فإن مقتضى هذا الحصر ترتب الأثر غير الشرعي أو الشرعي المترتب عليه على الحكم الثابت بالاستصحاب ؛ إذا كان الحكم بمطلق وجوده ولو ظاهرا موضوعا كما مر تفصيله ، أما إذا كان موضوع الأثر خصوص الوجود الواقعي للحكم ، فإنه لا يترتب على استصحاب الحكم ؛ لأن الثابت به وجود ظاهري له ، والمفروض : أنه ليس موضوعا للحكم ، وقد تقدمت أمثلة الكل.

(٤) أي : فلا يكاد يثبت بالاستصحاب من آثار المستصحب إلّا أثره الشرعي الذي كان للمستصحب بلا واسطة ؛ كوجوب إنفاق الزوجة الثابت باستصحاب حياة الزوج بلا واسطة.

وضمائر «آثاره ، أثره ، له» راجعة إلى «المستصحب».

(٥) كحرمة أخذ الخمس أو الزكاة على الزوجة المستصحبة حياة زوجها ، فإن هذه الحرمة مترتبة على وجوب الإنفاق عليها الثابت باستصحاب حياة زوجها.

(٦) أي : في التنبيه السابع ، حيث قال في صدره : «كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية والعقلية».

(٧) معطوف على «بالنسبة» ، يعني : أن عدم ثبوت الأثر غير الشرعي وكذا أثره وإن كان شرعيا بالاستصحاب إنما هو بالنسبة إلى الأثر الثابت لنفس الواقع المستصحب ؛ لا بالنسبة إلى الأثر غير الشرعي الثابت للحكم بوجوده مطلقا ، سواء كان واقعيا أم ظاهريا ، فإنه لا مانع من ترتبه على المستصحب ؛ لتحقق موضوعه ظاهرا بالاستصحاب. والمراد بالموصول في قوله : «ما كان» هو الأثر غير الشرعي.

٧

مطلقا (١) كان (٢) بخطاب الاستصحاب أو بغيره من أنحاء الخطاب ، فإن آثاره (٣) شرعية كانت أو غيرها تترتب عليه إذا ثبت ولو (٤) بأن يستصحب ، أو كان (٥) من آثار المستصحب. وذلك (٦) لتحقق موضوعها ...

______________________________________________________

(١) قيد للأثر الشرعي ، يعني : أن يكون الأثر الشرعي بوجوده الأعم من الواقعي والظاهري موضوعا للأثر غير الشرعي ؛ كوجوب الإطاعة المترتب على الحكم الشرعي مطلقا ؛ ولو كان ظاهريا ثابتا بالاستصحاب مثلا.

(٢) بيان للإطلاق ، يعني : سواء ثبت الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري بخطاب الاستصحاب كقوله «عليه‌السلام» : «لا تنقض اليقين بالشك» الذي هو من الأصول العملية ، أم بخطاب غير الاستصحاب كالأدلة الاجتهادية غير العملية كالبيّنة وخبر الواحد وغيرهما.

وضمير «بغيره» راجع إلى خطاب الاستصحاب.

(٣) يعني : فإن آثار الأثر الشرعي الذي يكون بوجوده المطلق موضوعا لها تترتب على ذلك الأثر الشرعي ؛ وإن كانت تلك الآثار غير شرعية.

(٤) هذا هو الفرد الخفي للثبوت ، يعني : أن الآثار الشرعية تترتب عليه إذا ثبت ذلك الحكم الشرعي ظاهرا ؛ ولو بأن يجري الاستصحاب في نفسه أو في الموضوع الذي يترتب عليه هذا الحكم.

وضمير «غيرها» راجع إلى «شرعية» ، وضميرا «عليه والمستتر» في «يستصحب» راجعان إلى «الأثر».

(٥) معطوف على «بأن يستصحب» يعني : ولو ثبت ذلك الأثر الشرعي بالاستصحاب الجاري في موضوع ذلك الأثر الشرعي ، فهذا إشارة إلى الاستصحاب الموضوعي ، وقوله : «يستصحب» إشارة إلى الاستصحاب الحكمي.

(٦) هذا تعليل لترتب الآثار الشرعية وغيرها على الأثر الشرعي الثابت بالاستصحاب الجاري في نفسه أو في موضوعه.

ومحصله : أن ترتبها عليه يكون من ترتب الحكم على موضوعه ، فلا يحتاج ترتب تلك الآثار عليه إلى تنزيل آخر ؛ بل يكفي في ترتبها مجرد التعبد بثبوت موضوعها كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة مثلا إذا فرض ترتب وجوب التصدق على وجوبها ، ووجوب الدعاء على وجوب التصدق وهكذا ، فإن هذه الأحكام الشرعية الطولية تترتب على تحقق وجوب صلاة الجمعة ولو بالاستصحاب المحرز له ظاهرا ؛ إذ المفروض : كون

٨

حينئذ (١) حقيقة ، فما للوجوب عقلا (٢) يترتب على الوجوب (٣) الثابت شرعا باستصحابه أو استصحاب موضوعه (٤) من (٥) وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة ، إلى غير ذلك (٦) كما يترتب على الثابت بغير الاستصحاب (٧) بلا شبهة وارتياب ، فلا تغفل (٨).

______________________________________________________

موضوع تلك الآثار هو الحكم الشرعي بوجوده الأعم من الظاهري والواقعي.

ومن الواضح : امتناع انفكاك الحكم عن الموضوع ؛ لأن وزانهما وزان العلة والمعلول ، فجميع الآثار الشرعية والعقلية المترتبة على الحكم مطلقا سواء كان واقعيا أم ظاهريا تترتب على الحكم الشرعي الثابت بالاستصحاب أو غيره.

(١) أي : حين ثبوت الأثر الشرعي ظاهرا ولو بالاستصحاب.

(٢) كوجوب الإطاعة الثابت للوجوب الشرعي ، فإنه يترتب على الوجوب الشرعي الثابت باستصحاب نفسه كوجوب صلاة الجمعة كما مر ، أو باستصحاب موضوعه ؛ كاستصحاب حياة الغائب المترتب عليها وجوب الإنفاق شرعا على زوجته ، المترتب على هذا الوجوب الشرعي الحكم العقلي وهو وجوب الإطاعة.

(٣) بل كل أثر شرعي إلزامي كالحرمة والوجوب.

(٤) هذا في الاستصحاب الموضوعي ، وما قبله هو الاستصحاب الحكمي.

(٥) مفسر ل «ما» الموصول.

(٦) كوجوب المقدمة وحرمة الأضداد.

(٧) كالعلم والدليل المعتبر كالخبر الصحيح ، فإن الحكم العقلي يترتب على الأثر الشرعي الثابت بهما ثبوتا واقعيا في الأول ، وظاهريا في الثاني.

(٨) وتفطن حتى لا يخطر ببالك التنافي بين ما تقدم من عدم حجية الأصل المثبت ، وبين ما ذكر هنا من ترتب الآثار غير الشرعية على الأثر الشرعي الثابت بالاستصحاب ، فإن هذا اعتراف بحجية الأصل المثبت ورجوع عن إنكارها ، وليس هذا إلّا التهافت بينهما. هذا تمام الكلام في التنبيه التاسع.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا التنبيه التاسع : هو تمييز اللازم العقلي أو العادي ـ الذي يترتب على استصحاب الحكم ، من دون أن يكون الاستصحاب مثبتا ـ عن اللازم غير الشرعي الذي يكون ترتبه على الاستصحاب مبنيا على الأصل المثبت.

٩

العاشر (١) : أنه قد ظهر مما مر : لزوم أن يكون المستصحب حكما ...

______________________________________________________

وبه يندفع إشكال مثبتية الاستصحاب إذا ترتب أثر الشرعي على الحكم المستصحب بواسطة اللازم العقلي أو العادي.

٢ ـ توضيح الامتياز والفرق : أن اللازم العقلي أو العادي على قسمين :

أحدهما : هو اللازم المطلق من حيث يترتب على وجود المستصحب المطلق أي :  وجودا واقعيا أو ظاهريا ؛ كحسن الإطاعة وقبح المعصية.

ثانيهما : ما يترتب عليه من حيث وجوده الواقعي فقط كالإجزاء ، وبعد هذا الفرق يندفع توهم مثبتية الاستصحاب عن القسم الأول بعد أن كان القسم الثاني مبنيا على القول بالأصل المثبت ؛ إذ يثبت اللازم العقلي أو العادي وما بواسطتهما من الأثر الشرعي بالاستصحاب من باب تحقق موضوع الأثر ، ومن المعلوم : أن الحكم تابع لموضوعه نفيا وإثباتا. وأما القسم الثاني : فلا يثبت اللازم العقلي والعادي من جهة تحقق الموضوع بالاستصحاب ؛ لأن الموضوع هو الوجود الواقعي وما يثبت بالاستصحاب هو الوجود الظاهري.

٣ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ عدم كون الاستصحاب مثبتا فيما كان اللازم العقلي أو العادي المطلق وجود المستصحب واقعيا أو ظاهريا.

وكون الاستصحاب مثبتا فيما كان اللازم لازما لوجود المستصحب الواقعي.

التنبيه العاشر : في اعتبار موضوعية المستصحب للأثر بقاء لا حدوثا

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه : دفع توهم من زعم أن قولهم : «إن المستصحب إما حكم شرعي وإما ذو حكم كذلك» يدل على اعتبار أن يكون كذلك ثبوتا وبقاء ، فلو كان كذلك في مرحلة البقاء دون مرحلة الثبوت لم يجر فيه الاستصحاب. وقبل بيان دفع المصنف لهذا التوهم : نذكر ما هو محل الكلام في المقام.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للاستصحاب مرحلتين :

الأولى : هي مرحلة ثبوت الحكم أو موضوع ذي حكم.

الثانية : هي مرحلة بقاء ذلك الحكم أو الموضوع.

ثم هنا احتمالان : الأول : أن يكون لكل من الحكم أو الموضوع مرحلة الثبوت والبقاء معا ؛ كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة واستصحاب حياة زيد.

الثاني : أن يكون لهما مرحلة البقاء دون الثبوت ؛ كاستصحاب عدم التكليف ، فإنه

١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

في الأزل لم يكن حكما مجعولا ، ولكنه عند الشك في التكليف هو حكم مجعول شرعا ، نظرا إلى كون أمر بقائه ورفعه بيد الشارع فعلا كما هو الحال في وجود التكليف عينا ، وكما إذا فرضنا أن اليد كانت نجسة قبل الظهر مثلا ، ولم يكن لها أثر شرعي لعدم وجود الصلاة مثلا في ذلك الوقت ولا شيء آخر مما يعتبر فيه الطهارة ، ثم شككنا بعد الظهر في طهارتها ، وللنجاسة أثر شرعي بقاء وهو عدم جواز الدخول في الصلاة. ثم محل الكلام هو الاحتمال الثاني ؛ إذ ربما يتوهم عدم جريان الاستصحاب فيه ، ولعل الوجه فيه هو أن الاستصحاب عبارة عن الإبقاء الشرعي بضميمة أن مرجعه إلى جعل الحكم المماثل ، وهذا لا يصح إلّا إذا كان المتيقن حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي ثبوتا ؛ وإلّا لم يكن الحكم المجعول في مقام الشك إبقاء شرعيا للمتيقن.

لكن هذا التوهم فاسد عند المصنف «قدس‌سره».

وجه فساده : أنه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان ـ أعني : عنوان الإبقاء ـ بل المأخوذ فيه هو عدم النقض عملا.

ومعاملة المتيقن السابق معاملة الباقي لا حقا. وهذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن بقاء حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي. ويكون المجعول حكما مماثلا للمشكوك على تقدير وجوده واقعا ، ولا يعتبر أن يكون كذلك حدوثا ؛ لعدم تكفل الدليل للإبقاء بل للأمر بالعمل في مقام الشك عمل الباقي واقعا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح دفع المصنف للتوهم المذكور.

فالمتحصل : أنه لا يجب في المستصحب أن يكون حكما فعليا أو ذا أثر شرعي حال اليقين ؛ بل كونه ذا أثر حال الشك كان كافيا في إجراء الاستصحاب ، فمثلا : لو شك في بلوغ زيد ، فإن استصحاب عدم التكليف بالنسبة إليه جار وإن كان قبل البلوغ لا أثر شرعي بالنسبة إلى زيد ؛ إذ ليس داخلا في موضوع التكليف حتى يكون لليقين السابق أثر شرعي.

وكذلك إذا وقع مال لزيد في البحر ، ثم أخرج جري استصحاب ملكيته له ، وإن كان في حال كونه في البحر مأيوسا منه لا أثر شرعي لملكيته إيّاه ؛ لكنه حيث يكون في حال الشك ذا أثر من جواز تصرفه وحرمة تصرف غيره جرى الاستصحاب.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

١١

شرعيا (١) أو ذا حكم كذلك (٢) ؛ لكنه (٣) لا يخفى : أنه لا بد أن يكون كذلك (٤) بقاء ولو لم يكن كذلك ثبوتا. فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما ولا له أثر شرعا ، وكان في زمان استصحابه كذلك ، أي : حكما أو ذا حكم يصح (٥)

______________________________________________________

(١) كاستصحاب الوجوب.

(٢) كاستصحاب الملك. فهذا إشارة إلى الاستصحاب الموضوعي ، وما قبله إشارة على الاستصحاب الحكمي.

(٣) غرضه : بيان مورد لزوم كون المستصحب حكما أو ذا حكم حتى يندفع به التوهم المزبور ، ومحصله : أن مورد ذلك هو البقاء لأنه ظرف الشك الذي هو مورد الاستصحاب ، وليس ذلك إلّا مرحلة البقاء دون الثبوت ، فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما ولا موضوعا ذا حكم ، وكان كذلك بقاء جرى فيه الاستصحاب.

ومثّل في المتن ـ لما لم يكن حكما حال اليقين به ، وصار كذلك حال الشك ـ باستصحاب عدم التكليف ، حيث إنه في الأزل ليس حكما مجعولا ؛ لعدم محكوم عليه فيه حتى يكون حكما له ؛ لكنه فيما لا يزال ـ أي : في المستقبل الذي هو ظرف تشريع الأحكام ـ يكون حكما ؛ لما مر من أن نفيه كثبوته فيما لا يزال مجعولا شرعا ، بمعنى : أن للشارع إبقاء العدم على حاله ونقضه بالوجود ـ وإن لم يطلق عليه الحكم ـ لأن الملاك في شرعية الحكم هو كون المورد قابلا لأن تناله يد التشريع ، وهذا الملاك موجود في العدم الأزلي ، فإبقاؤه كنقضه حكم ، فإذا شك في بقائه فلا مانع من استصحابه بعد كون هذا العدم عند الشك في بقائه حكما أي : قابلا لاستيلاء يد التشريع عليه.

ويمكن التمثيل لعدم كون العدم في حال اليقين حكما ولا موضوعا له بعدم رضا المالك بالتصرف في ماله ، فإنه قبل تصرف أحد في ماله ليس عدم رضاه حكما ولا موضوعا لحكم فعلي أصلا ولا تكليفي كالحرمة ولا وضعي كالضمان ؛ لكنه بعد وضع شخص يده عليه إذا شك في بقاء عدم رضاه جرى استصحابه بلا مانع.

ومقتضاه حرمة تصرف الغير فيه وضمانه له ، فعدم رضا المالك حال اليقين به لم يكن حكما ولا ذا حكم ؛ ولكنه حال الشك يكون دخيلا في الحكم ولو جزءا لموضوعه ، وهذا المقدار كاف في صحة الاستصحاب.

(٤) أي : حكما أو ذا حكم. وهذا أيضا يعني قوله بعد ذلك : «كذلك» وضمير «أنه» للشأن ، وضمائر «ثبوته ، له ، استصحابه» راجعة إلى المستصحب.

(٥) هذا جواب لو في قوله : «فلو لم يكن المستصحب».

١٢

استصحابه ؛ كما في استصحاب عدم التكليف (١) ، فإنه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل (٢) ولا ذا حكم إلّا إنه حكم مجعول فيما لا يزال (٣) ؛ لما عرفت (٤) : من أن نفيه كثبوته في الحال (٥) مجعول شرعا ، وكذا استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتا (٦) ، أو كان ولم يكن حكمه ...

______________________________________________________

(١) هذا مثال لعدم كون المستصحب حال اليقين به حكما شرعيا ولا ذا حكم شرعي ؛ لأنه هي البراءة الأصلية العقلية في الأزل. وضمير «استصحابه» راجع على المستصحب.

(٢) لبرهان حدوث العالم بأسره في قبال قدمه ، فلم يكن مكلف حتى يجعل عليه حكم ، فعدم الحكم سالبة بانتفاء الموضوع. وضميرا «فإنه ، أنه» راجعان إلى «عدم».

(٣) وهو المستقبل الذي يكون زمان الشك في البقاء المأخوذ موضوعا للتعبد الاستصحابي ، ومن المعلوم : أنه لا معنى لجريان الاستصحاب في ظرف الشك في البقاء إلّا ترتيب الأثر الشرعي على المستصحب ؛ وإلّا يلزم اللغوية.

(٤) تعليل لكونه حكما فيما لا يزال ، وحاصله : ما أفاده سابقا في التنبيه الثامن بقوله : «وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر ووجوده أو نفيه وعدمه ، ضرورة : إن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته» من كفاية مجرد القابلية للجعل في الاستناد إلى الشارع ، لاستواء نسبة القدرة إلى الطرفين ، فالعدم الأزلي في زمان الشك في بقائه مجعول شرعي بهذا المعنى من الجعل.

لكن صحة إسناده إلى الشارع باعتبار قدرته على نقض عدمه بالوجود أمر ، وإطلاق الجعل والمجعول على عدم الحكم أمر آخر ، ضرورة : مساوقة الجعل للتكوين والإيجاد ولو في عالم الاعتبار ، وهذا لا يصدق على مجرد القدرة على نقض العدم بالوجود.

نعم ؛ لا ريب في انتساب بقاء هذا العدم إلى الشارع. وضميرا «نفيه ، كثبوته» راجعان إلى التكليف ، وبهذه العبارة بيّن مراده من الحكم ، فلا تنافي بين نفي الجعل وإثباته.

(٥) أي : حال البقاء الذي هو حال الشك ومورد جريان الاستصحاب.

(٦) أي : في حال اليقين بالمستصحب ؛ كما إذا كان الصبي مستطيعا من حيث المال ، وبعد بلوغه يشك في بقاء استطاعته المالية ، فإنه لا مانع من استصحابها والحكم بوجوب الحج عليه ، مع إن استطاعته في زمان اليقين بها لم تكن موضوعا لوجوبه.

وكاستصحاب حياة الولد إلى زمان موت والده ، فإن حياته في زمان اليقين بها لم

١٣

فعليا (١) ، وله حكم كذلك (٢) بقاء ، وذلك (٣) لصدق نقض اليقين بالشك ...

______________________________________________________

تكن موضوعا للإرث ؛ لأنها كانت في زمان حياة الوالد ، وموضوعيتها للإرث إنما تكون حال وفاته وهو زمان الشك في حياته ، فحياة الولد في زمان اليقين بها لم تكن ذات أثر شرعي ، وصارت في زمان الشك فيها ذات أثر.

وجميع الأعدام الأزلية من هذا القبيل ؛ كعدم التذكية حال حياة الحيوان ، وعدم القرشية ، وعدم الكرية ونحوها ، فإنه لا يترتب أثر شرعي على هذه الأعدام حال اليقين بها ، فإن عدم التذكية لا أثر له إلّا بعد زهوق روح الحيوان.

والشك في انتقاض هذا العدم ، وكذا عدم القرشية ، فإنه لا أثر له حين اليقين به ، وهو عدم وجود المرأة ، وإنما أثره بعد وجودها ؛ لأنه يشك في بقاء عدم القرشية بالنسبة على هذه المرأة ، فإذا جرى استصحاب عدم قرشيتها ترتب عليه حكمه ؛ لو لم يناقش في استصحابه من جهة المثبتية.

وكذا الحال في عدم الكرية ، فإنها في حال اليقين بعدمها لا أثر لها ، والأثر يترتب عليها فيما إذا شك في بقائها بسبب وجود ماء يشك في كريته ، فإنه يترتب على استصحاب عدمها انفعاله بملاقاة النجاسة.

(١) كطهارة الثوب والبدن قبل وقت الصلاة ، فإن فعلية شرطيتها إنما تكون بعد وقتها الذي هو ظرف الشك في بقائها ، ومن المعلوم : أنه لا إشكال في صحة استصحابها مع عدم فعليتها حال اليقين بها.

(٢) أي : فعلي ، وقوله : «له» متعلق بمحذوف ، يعني : ولم يكن حكمه فعليا وكان له حكم فعلي بقاء.

ولو كانت العبارة هكذا : «أو كان ولم يكن فعليا إلا بقاء» كانت أخصر ، ومع إبقاء العبارة على حالها يكون الأولى إسقاط كلمة «حكمه» للاستغناء عنها ، لأنه بمنزلة أن يقال : «أو كان له حكم ولم يكن حكمه فعليا».

(٣) تعليل لما ذكره من اعتبار كون المستصحب أثرا شرعيا أو ذا أثر كذلك بقاء ولو لم يكن كذلك ثبوتا.

ومحصل التعليل : أن المعيار في صحة الاستصحاب ـ على ما يستفاد من أخباره ـ هو صدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن الحالة السابقة ، ومن المعلوم : عدم دخل لتلك الحالة في هذا المعيار أصلا ، فإن رفع اليد عن عدم حرمة شرب التتن مثلا بالشك في بقائه والبناء على حرمته مما يصدق عليه نقض اليقين بالشك قطعا ، مع عدم كون

١٤

على (١) رفع اليد عنه والعمل (٢) ؛ كما إذا قطع بارتفاعه ، ووضوح (٣) : عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا (٤) فيه وفي تنزيلها (٥) بقاء.

فتوهم (٦) : اعتبار الأثر سابقا (٧) ؛ كما ربما يتوهمه الغافل من (٨) اعتبار كون

______________________________________________________

عدم حرمته أزلا أثرا شرعيا ولا موضوعا له ؛ لكنه شرعي بقاء ، بمعنى : كون إبقاء العدم ونقضه بالوجود بيد الشارع ، كما أنه يصدق إبقاء الحالة السابقة على العمل بها والبناء عليها.

فالمتحصل : أن المعتبر في الاستصحاب أن يكون المستصحب في ظرف البقاء الذي هو مورد التعبد أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي ؛ لأنه حال الشك الذي لا بد فيه من جعل الوظيفة للشاك المتحير في الحكم.

(١) متعلق ب «لصدق» ، وضمير «عنه» راجع إلى «اليقين».

(٢) معطوف على «رفع» وبيان له. وقوله : «كما» متعلق ب «العمل» ، وضمير «بارتفاعه» راجع على اليقين ، يعني : لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عن اليقين ؛ بأن يعمل عمل القاطع بارتفاعه كما عرفت في مثال شرب التتن.

(٣) معطوف على «صدق» ، وهذا متمم التعليل المزبور ، يعني : ولوضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ـ الثابت لها حال الثبوت المقابل للبقاء ـ لا في صدق النقض ولا في تنزيل الحالة السابقة في مرحلة البقاء.

والحاصل : أن صحة التعبد الاستصحابي تتوقف على ترتب الأثر في زمان الشك ، ولا تتوقف على ترتبه في زمان الثبوت.

(٤) تمييز ل «أثر» ، وضمير «فيه» راجع على «صدق نقض» والثبوت مقابل البقاء.

(٥) أي : في تنزيل الحالة ، وهو معطوف على «فيه» ، والمعطوف والمعطوف عليه متعلقان ب «دخل».

وغرضه : أن التعبد ببقاء الحالة السابقة لا يتوقف على ثبوت أمر شرعي لحدوثها ؛ بل يتوقف على ثبوت أثر لبقائها ؛ لأنه زمان التعبد الاستصحابي.

(٦) هذا إشارة إلى التوهم المذكور في صدر التنبيه بقولنا : «ودفع توهم من زعم أن قولهم ...» الخ.

(٧) أي : حدوثا ، وهو من قيود «اعتبار» ، يعني : فتوهم اعتبار الأثر الشرعي في السابق ـ أي : في ظرف اليقين ـ فاسد.

(٨) متعلق ب «يتوهمه» ، وبيان لمنشا التوهم. يعني : أن توهم اعتبار الأثر الشرعي

١٥

المستصحب حكما أو ذا حكم فاسد (١) قطعا ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

للحالة السابقة في الاستصحاب والتعبد ببقائها إنما نشأ من هذا الكلام الذي قد عرفت عدم أساس له.

(١) خبر «فتوهم» ووجه القطع بفساده هو : ما أفاده بقوله : «وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه ...» الخ. وقد تقدم توضيح ذلك.

فتلخص مما أفاده في هذا التنبيه : أن المدار في صحة الاستصحاب على كون المستصحب في مرحلة البقاء أثرا شرعيا أو ذا أثر شرعي ، سواء كان كذلك أيضا في مرحلة الحدوث والثبوت أم لم يكن ، والوجه في ذلك : أن التعبد يكون في البقاء دون الثبوت. هذا تمام الكلام في التنبيه العاشر.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ محل الكلام : أن ما يعتبر في الاستصحاب أحد أمرين :

أحدهما : كون المستصحب حكما شرعيا.

والآخر : كونه موضوعا ذا حكم شرعي.

فوقع الكلام في أنهما كذلك ثبوتا وبقاء ، أو يكفي أن يكونا كذلك بقاء فقط.

٢ ـ ربما يتوهم : عدم جريان الاستصحاب فيما لم يكن المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم شرعي في مقام الثبوت والحدوث.

ولعل الوجه فيه : أن الاستصحاب عبارة عن الإبقاء الشرعي وهو فرع الثبوت.

٣ ـ هذا التوهم : فاسد عند المصنف.

ووجه فساده : أنه لم يؤخذ في دليل الاستصحاب هذا العنوان : أعني عنوان الإبقاء ـ بل المأخوذ فيه عدم نقض اليقين بالشك ، بمعنى : أن يعامل بالمتيقن السابق عند الشك في البقاء معاملة الباقي. وهذا لا يستلزم أكثر من كون المتيقن حكما شرعيا أو ذا حكم شرعي بقاء.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : كفاية كون المستصحب حكما شرعيا أو موضوعا ذا حكم شرعي بقاء فقط.

١٦

الحادي عشر (١) : لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق

______________________________________________________

في أصالة تأخر الحادث

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه الحادي عشر : هو التعرض لجريان الأصل المعروف بأصالة تأخر الحادث في الحادثين المعلوم حدوثهما وعدم جريانه فيهما ، وبيان الصور التي يختلف باختلافها حكم الأصل الجاري فيها.

وقبل الخوض في هذا المقصود الأصلي تعرض المصنف لحكم الشك في أصل حدوث حادث من موضوع أو حكم ، وقال : لا إشكال في جريان استصحاب العدم فيه ؛ لتحقق أركانه فيه من اليقين والشك والأثر الشرعي ، وكذا لو شك في ارتفاع حكم أو موضوع ذي حكم بعد العلم بتحققه ، فيستصحب وجوده إلى زمان العلم بارتفاعه.

وقبل الخوض بالبحث عما هو المقصود بالبحث في هذا التنبيه الحادي عشر ؛ ينبغي تحرير محل الكلام فيه فنقول : إن محل الكلام فيه يتضح بعد ذكر مقدمة وهي : أن من أركان الاستصحاب هو اليقين بتحقق المستصحب في زمان والشك في بقائه وارتفاعه في زمان آخر. ثم الشك في الارتفاع في الزمان اللاحق على قسمين :

أحدهما : هو الشك في الارتفاع في الزمان اللاحق رأسا ، أعني : في جميع أجزاء الزمان اللاحق ؛ كالشك في ارتفاع الطهارة مثلا في الزمان اللاحق كذلك بعد العلم بتحققها في الزمان السابق.

ثانيهما : هو الشك في ارتفاع المستصحب في جزء من الزمان ، مع العلم بالارتفاع بعد ذلك الزمان ؛ كالشك في بقاء حياة زيد يوم الخميس مع العلم بموته يوم الجمعة.

وبعبارة أخرى : كان الشك في تقدم الارتفاع وتأخره بعدم العلم بأصل الارتفاع.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك أن محل الكلام ـ في هذا التنبيه الحادي عشر ـ هو القسم الثاني لا القسم الأول ؛ لأن القسم الأول مما لا كلام في اعتبار الاستصحاب فيه ، فالمقصود بالبحث في هذا التنبيه الحادي عشر هو : أن الاستصحاب هل يجري في الوجود والعدم المضافين إلى زمان خاص أو زماني خاص ، والأول : كترتب الأثر على إسلام زيد مثلا يوم الجمعة ، والثاني : كترتب الأثر على إسلامه قبل القسمة. كما يجري في الوجود والعدم المضافين إلى الماهية ، كوجود زيد وعدمه أم لا؟

وكيف كان ؛ فقد تعرض المصنف «قدس‌سره» في هذا التنبيه لأقسام : من الاستصحاب.

١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : ما إذا شك في أصل حدوث حادث حكما كان أو موضوعا ، الأول :  كالشك في طهارة شيء بعد العلم بنجاسته ؛ كما لو شك في طهارة ثوبه بعد غسله بدون العصر مثلا ، فإن استصحاب عدم طهارة الثوب جار بلا مانع.

الثاني : كالشك في موت غائب ، فيستصحب عدم تحقق الموت وتترتب آثار حياته من وجوب الإنفاق على زوجته ، وحرمة تقسيم أمواله وغيرهما من أحكام الحياة عليه.

هذا ما أشار إليه بقوله : «لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق حكم أو موضوع».

الثاني : ما إذا علم بوجود حادث ؛ ولكنه شك في أنه هل حدث في زمان متقدم أم زمان متأخر بعد القطع بأصل تحققه؟

وهذا على قسمين : أحدهما : يلاحظ تقدمه وتأخره بالنسبة إلى أجزاء الزمان ؛ كما إذا علم بموت زيد ولم يعلم أنه مات يوم الخميس أو مات يوم الجمعة.

ثانيهما : يلاحظ تقدمه وتأخره بالنسبة إلى حادث آخر قد علم بحدوثه أيضا ؛ كما إذا علم بموت متوارثين على التعاقب ، ولم يعرف المتقدم منهما عن المتأخر ، فهاهنا مقامان من الكلام.

المقام الأول هو : ما إذا لوحظ التقدم والتأخر بالنسبة إلى أجزاء الزمان.

المقام الثاني : ما إذا لوحظ التقدم والتأخر بالنسبة إلى حادث آخر.

وأما المقام الأول : فحاصل الكلام فيه : أنه لا إشكال في جريان استصحاب عدم تحقق الحادث في الزمان الأول ، وترتيب آثار عدمه في ذلك الزمان.

فإذا علم بكون زيد ميتا يوم الجمعة ، ولم يعلم أن حدوث موته كان فيه أو في يوم الخميس ، فلا مانع من استصحاب عدم موته يوم الخميس وترتيب آثاره ؛ كوجوب الإنفاق على زوجته وحرمة تقسيم أمواله بين ورّاثه ، وغير ذلك عليه ؛ دون الآثار المترتبة على تأخره عن يوم الخميس ؛ لكون تأخر حدوثه عن يوم الخميس لازما عقليا لعدم حدوثه يوم الخميس ، والاستصحاب لا يثبت به اللازم العقلي ولا الأثر الشرعي المترتب عليه. فلا تثبت بهذا الاستصحاب تأخر وجوده عن يوم الخميس إن كان لعنوان التأخر أثر إلّا على القول بالأصل المثبت.

وكذا لا يثبت الحدوث يوم الجمعة ، فإن الحدوث عبارة عن الوجود المسبوق بالعدم

١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

فإثبات الحدوث يوم الجمعة باستصحاب عدم الحدوث يوم الخميس متوقف على الأصل المثبت.

نعم ؛ لو كان الحدوث مركبا من أمرين : أي : الوجود يوم الجمعة مثلا وعدم الوجود يوم الخميس لتترتب آثار الحدوث بالاستصحاب المذكور ؛ لكون أحد الجزءين محرزا بالوجدان وهو الوجود يوم الجمعة ، والجزء الآخر بالأصل وهو عدم الوجود يوم الخميس ؛ لكنه خلاف الواقع ، فإن الحدوث أمر بسيط وهو الوجود المسبوق بالعدم.

هذا تمام الكلام في المقام الأول الذي أشار إليه بقوله : «فإن لوحظ بالإضافة إلى أجزاء الزمان».

وأما المقام الثاني : وهو لحاظ تقدم الحادث وتأخره بالنسبة إلى حادث آخر ، ففيه موضعان من الكلام.

الموضع الأول : ما إذا كان كل من الحادثين مجهولي التاريخ ، وقد أشار إليه بقوله الآتي : «فإن كانا مجهولي التاريخ».

الموضع الثاني : ما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ ، والآخر مجهول التاريخ ، وقد أشار إليه بقوله الآتي : «وأما لو علم بتاريخ أحدهما».

وأما الموضع الأوّل فله أربعة أقسام :

١ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي لتقدم أحدهما أو لتأخره أو لتقارنه بنحو مفاد كان التامة ، بمعنى : أن الأثر مترتب على نفس عنواني التقدم والتأخر ، وقد أشار إليه بقوله : «فتارة : كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو التقارن».

٢ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي للحادث المتصف بالتقدم أو التأخر أو التقارن بنحو مفاد كان الناقصة ؛ بأن يكون الأثر مترتبا على الشيء المتصف بالتقدم أو التأخر ، وقد أشار إليه بقوله : «وأما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا بالتقدم أو بأحد ضديه».

٣ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي للعدم النعتي أي : للحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس الناقصة ؛ كما إذا قيل : لم يكن الابن متصفا بالإسلام في زمان موت الأب.

وقد أشار إليه بقوله : «فالتحقيق أنه أيضا ليس بمورد للاستصحاب».

٤ ـ ما إذا كان الأثر الشرعي للعدم المحمولي أي : لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد ليس التامة ، بمعنى : أن الأثر مترتب على نفس عدم التقدم والتأخر ، وقد

١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

أشار إليه بقوله : «وكذا فيما كان مترتبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا».

فها هنا صور أربع مستفادة كلها من كلام المصنف.

وأما أحكام هذه الصور : فقال في الصورة الأولى ما حاصله : إن الأثر إذا كان لتقدم أحدهما أو لتأخره أو لتقارنه دون الحادث الآخر ولا لهذا الحادث بجميع أنحائه ؛ فاستصحاب عدمه بنحو مفاد ليس التامة جار بلا معارض ؛ لليقين السابق به والشك اللاحق فيه ، بخلاف ما إذا كان الأثر لتقدم كل منهما أو لتأخر كل منهما أو لتقارن كل منهما ، أو كان لأحدهما بجميع أنحائه من التقدم والتأخر والتقارن ، فإن الاستصحاب حينئذ يعارض.

وفي الصورة الثانية : قال بعدم جريان الاستصحاب أصلا ولو كان الأثر مفروضا في طرف واحد دون الآخر ؛ وذلك لعدم اليقين السابق فيه.

وأما الصورة الثالثة ـ وهي ما إذا كان الأثر للعدم النعتي أي : للحادث المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر بنحو مفاد الناقصة ، فقال فيها : بعدم جريان الاستصحاب أيضا أي : ولو كان الأثر مفروضا في طرف واحد دون الآخر.

وذلك لعدم اليقين السابق فيه كما في الصورة الثانية عينا. وقيل بجريان الاستصحاب في هذه الصورة ؛ لأن الحادث كان متصفا بالعدم من الأزل ، فيستصحب كونه كذلك بنحو مفاد كان الناقصة إلى زمان حدوث الآخر بلا مانع عنه أصلا سوى المعارضة إذا كان الأثر مفروضا في كلا الطرفين.

في الصورة الرابعة : التي هي عمدة الصور الأربع ، وهي ما إذا كان الأثر للعدم المحمولي أي : لعدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فقال فيها : بعدم جريان الاستصحاب لكن لا للمعارضة بالمثل والتساقط ؛ كما أفاد الشيخ «قدس‌سره» كي تختص المعارضة بما إذا كان الأثر مفروضا في كلا الطرفين ؛ بل لاختلال أركان الاستصحاب من أصلها ولو كان الأثر مفروضا في طرف واحد دون الآخر.

وذلك لعدم إحراز اتصال زمان شكه بزمان يقينه ، فإذا علم مثلا إجمالا بموت كل من زيد وعمرو على التعاقب ، وأنه مات أحدهما في يوم الخميس والآخر في يوم الجمعة ، ولم يعلم أن أيّهما مات في يوم الخميس وأيهما مات في يوم الجمعة ، فلا يستصحب عدم موت زيد من زمان اليقين به وهو يوم الأربعاء إلى زمان موت عمرو ؛ لأن زمان الشك وهو زمان موت عمرو لم يعلم أنه هل هو يوم الخميس كي يكون

٢٠