دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

الحيوان ، وأن (١) أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لأجل الشك في تحقق ما اعتبر في التذكية شرعا ، كما أن (٢) أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه (٣) ، فيحكم بها (٤) فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه كما لا يخفى ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

(١) عطف على «الحال» وتفسير له وإشارة إلى الصورة الرابعة ، وهي الأولى من صورتي الشبهة الموضوعية.

(٢) إشارة إلى الصورة الخامسة ، وهي الثانية من صورتي الشبهة الموضوعية ، وقد تقدم ذكرها في قولنا : «وإن كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية ...» الخ.

والمتحصل من جميع ما ذكرنا : أنه في الصورة الأولى من الشبهة الحكمية والأولى من الشبهة الموضوعية يحكم بأصالة عدم التذكية ، فيحكم بنجاسة الحيوان وحرمة لحمه ، وفي الثانية والثالثة من الشبهة الحكمية والثانية من الموضوعية يحكم بالتذكية ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه.

(٣) أي : عن قبول التذكية.

(٤) أي : بالتذكية في صورة إحراز فري الأوداج ، مع سائر شرائط التذكية ، عدا ما يمنع عن قبول التذكية ، يعني : إذا كان الحيوان قابلا للتذكية كالغنم فأجرينا الفري مع باقي شرائط التذكية عليه ، وشككنا في عروض ما يمنع عن تحققها كالجلل ، فإن أصالة قبول التذكية محكمة ، فيحكم بها ، فتكون التذكية محرزة بما لها من الأجزاء والشرائط ، غاية الأمر : أن بعضها حينئذ محرز بالوجدان كفري الأوداج ، وبعضها وهو بقاء القابلية بالتعبد ، أعني : الاستصحاب ، وهذا كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض أجزائها بالوجدان وبعضها بالتعبد.

وضمير «عداه» راجع على «ما» في قوله : «ما يمنع عنه».

هذا تمام الكلام في الأمر الأول ، وبيان جريان أصالة عدم التذكية وعدمه في الموارد المشكوكة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ المراد من الأصل الموضوعي ليس الأصل الجاري في الموضوع فقط ؛ بل المراد هو مطلق الأصل الذي يكون رافعا لموضوع الأصل الآخر ، سواء كان جاريا في الموضوع أو في الحكم.

٢٤١

.................................................................................................

______________________________________________________

ومعه لا يبقى موضوع لأصل البراءة ؛ لأنه بيان فيرتفع به موضوع البراءة العقلية ، وهو عدم البيان ولأنه حجة وعلم تعبدا ، فيرتفع به موضوع البراءة الشرعية وهو الشك وعدم الحجة على الحكم الشرعي.

والضابط فيه : أن كل مورد جعل الشارع للحكم بالحلية سببا خاصا مثل موارد الأموال ، والفروج ، واللحوم ، حيث جعل سبب حلية الأموال الملكية ، والفروج النكاح ، واللحوم التذكية ، فإذا شك في تلك الأمور لأجل تحقق أسبابها لا تجري أصالة البراءة والحل ؛ لأجل وجود أصل موضوعي حاكم أو وارد عليها ، وهو أصالة عدم السبب في كل منها ؛ إلا أن المشهور مثلوا للأصل الموضوعي بأصالة عدم التذكية في اللحوم. فيتفرع على الضابط المذكور : جريان أصالة عدم التذكية ، فيحكم بالحرمة والنجاسة فيما إذا شك في حلية لحم حيوان من جهة الشك في قبوله التذكية ؛ إذ من شرائطها قابلية المحل لها ، فأصالة عدم التذكية حاكمة أو واردة على أصالة الطهارة والحل.

٢ ـ صور مسألة أصالة عدم التذكية : وإن كانت ثمانية ؛ إلا إن المصنف «قدس‌سره» أشار إلى خمسة منها ، وهي بين ثلاث صور للشبهة الحكمية ، وصورتان للشبهة الموضوعية.

وأما صور الشبهة الحكمية فالأولى : هي ما إذا كان الشك في أصل قابلية الحيوان للتذكية ، وقد عرفت أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي ، أعني : استصحاب عدم التذكية ، فيحكم بنجاسته وحرمة لحمه.

الثانية : ما إذا كان الشك في مقدار قابليته لها بعد العلم بأصلها ، بمعنى : أنه لا يعلم أن المترتب عليها هل هو الطهارة فقط أم هي مع الحلية ، وقد عرفت : أن الجاري فيه هو الأصل الحكمي ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه استنادا إلى التذكية وأصالة الحل.

الثالثة : هي ما إذا كان الشك في بقاء القابلية لاحتمال ارتفاعها بالجلل ، وقد عرفت : أن الجاري فيه هو الأصل الموضوعي أيضا ، أعني : استصحاب قابليته لها ، فيحكم بطهارته وحلية لحمه.

وأما صورتا الشبهة الموضوعية : فالأولى منهما : ما إذا كان منشأ الشك في التذكية هو الشك في وجود ما يعتبر فيها من إسلام الذابح ، وتوجيه الحيوان إلى القبلة ونحوهما جرى فيها أصالة عدم التذكية ، ويحكم بعدم كونه مذكى ، ولازم ذلك هو الحكم بالنجاسة والحرمة.

٢٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

الثانية : ما إذا كان منشأ الشك فيها هو الشك في ارتفاع القابلية ؛ لاحتمال تحقق الجلل بأكل عذرة الإنسان مدة يشك في تحققه به فيها ، جرى استصحاب بقائها ، فيحكم بكونه مذكر.

هذا تمام الكلام في الصور الخمس من صور مسألة الشك في التذكية التي أشار إليها المصنف «قدس‌سره».

٣ ـ التذكية شرعا تدور بين أمور :

١ ـ أن تكون أمرا بسيطا مسببا من أمور.

٢ ـ أن تكون أمرا انتزاعيا ينتزع من هذه الأمور.

٣ ـ أن تكون مركبة من هذه الأمور.

٤ ـ أن تكون عبارة عن فري الأوداج مشروطة بالأمور المذكورة.

ولا إشكال في جريان أصالة عدم التذكية على المعنى الأول عند الشك في تحققها ؛ لأن الشك إنما هو في حصول ذلك الأمر البسيط.

ولا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الثالث.

ولا إشكال أيضا في عدم جريانها على المعنى الرابع ، وهو أقرب الاحتمالات.

٤ ـ موضوع الحرمة والنجاسة يمكن أن يكون أمرا وجوديا وهو الميتة.

ويمكن أن يكون أمرا عدميا وهو غير المذكى.

وقيل بالتفصيل بمعنى : أن موضوع الحرمة يكون أمرا عدميا وهو غير المذكى.

وموضوع النجاسة يكون أمرا وجوديا وهو الميتة.

ولكن عند المصنف «قدس‌سره» كل من الميتة وغير المذكى موضوع مستقل للحكم بالحرمة والنجاسة ، فهما موضوعان لكل من الحرمة والنجاسة ، فلا حاجة حينئذ إلى ما صنعه الشيخ الأنصاري من تعميم الميتة شرعا لغير المذكى ؛ بل يكفي عنوان غير المذكى في حكم الشارع بالنجاسة والحرمة كعنوان الميتة ، ولا حاجة إلى إدراج أحدهما في الآخر كما فعل الشيخ «قدس‌سره».

٥ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ تقديم الأصل الموضوعي على أصالة البراءة والحل إنما هو من باب الورود ؛ لا من باب الحكومة.

٢ ـ التذكية عبارة عن فعل الذابح والمذكي من فري الأوداج مع الشرائط المعتبرة شرعا.

٢٤٣

الثاني (١) : أنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية في العبادات وغيرها (٢) ، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما

______________________________________________________

٣ ـ موضوع الحرمة والنجاسة هو كل واحد من غير المذكى والميتة على نحو الاستقلال.

في تصحيح الاحتياط في العبادة مع الشك في الأمر

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه : هو التعرض لإشكال الاحتياط في العبادات في الأفعال التي يدور أمرها بين الوجوب وغير الاستحباب ؛ بحيث لم يحرز تعلق أمر الشارع بها.

والظاهر أن المقصود من عنوان هذا البحث هو : توجيه فتوى جملة من القدماء باستحباب أفعال لم يقم نص على استحبابها ، وأنه هل يمكن أن يكون وجه ذلك رجحان الاحتياط أم لا؟

وقبل بيان الإشكال والجواب عنه ينبغي التصدي لأمرين :

الأول أنه لا إشكال في حسن الاحتياط عقلا ورجحانه شرعا في كل شبهة وجوبية كانت أم تحريمية ، والذي أنكره الأصوليون هو وجوبه الشرعي خلافا للأخباريين ، حيث التزموا بوجوبه في الشبهة التحريمية الناشئة من فقدان النص.

أما حسنه العقلي : فلكونه محرزا عمليا للواقع ، وموجبا للتحرز عن المفسدة الواقعية المحتملة ، واستيفاء المصلحة كذلك.

وبعبارة أخرى : أن الاحتياط انقياد للمولى ، فيكون حسنا عقلا.

وأما حسنه الشرعي : فلإمكان استفادته من بعض الأخبار كقوله «عليه‌السلام» في مقام الترغيب عليه : «فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك ...» الخ.

فالمستفاد من الأخبار : أنه لا إشكال في رجحان الاحتياط بالفعل في متحمل الوجوب.

(٢) أي : المعاملات كالإتيان بما يحتمل دخله في صحة المعاملة ، مع عدم ما يدل على اعتباره. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

وأما الأمر الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «كما لا ينبغي الارتياب ...» إلخ.

وتوضيح هذا الأمر الثاني : أنه لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب على الاحتياط في كل من الشبهة الوجوبية والتحريمية ، كما إذا أتى بالفعل باحتمال أمر المولى ، أو تركه باحتمال نهيه ؛ وذلك لأنه انقياد للمولى وتخضّع له ، بل استحقاقه عليه

٢٤٤

إذا احتاط وأتى أو ترك (١) بداعي احتمال الأمر أو النهي.

وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الأمر بين الوجوب

______________________________________________________

أولى من استحقاق العقاب على ترك الاحتياط اللازم ؛ لأن الأمر في جانب الثواب أوسع منه في جانب العقاب ، ولذا لا يعاقب إلا بالاستحقاق ، ولكن ربما يثاب بدونه تفضلا.

(١) يعني : أتى بداعي احتمال الأمر ، أو ترك بداعي احتمال النهي. ومن المعلوم : أن الإتيان يكون في الشبهة الوجوبية والترك في الشبهة التحريمية. هذا تمام الكلام في بيان هذين الأمرين قبل بيان الإشكال والجواب عنه ، والمقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه هو : بيان الإشكال والجواب عنه ، وقد أشار إلى الإشكال بقوله : «وربما يشكل في جريان الاحتياط ...» الخ.

وتوضيح الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : بيان أمور ثلاثة :

الأول : أن العبادة تتوقف على قصد القربة ؛ بحيث تكون من القيود المعتبرة في متعلق الأمر كسائر ما له دخل فيه من الأجزاء والشرائط ؛ بل يكون قصد القربة مقوما لعبادية العبادة ، وهو الفارق بين الواجب التوصلي والتعبدي ؛ لسقوط أمر الأول بإتيانه كيفما اتفق بخلاف الثاني.

الثاني : أن قصد القربة عبارة عن قصد الأمر دون غيره مما يوجب القرب إليه جل وعلا.

الثالث : أن الأمر الذي يعتبر قصد التقرب به هو الأمر المعلوم ، فلا يجدي وجود الأمر واقعا في تحقق القصد المزبور ؛ بل لا بد من العلم به إما تفصيلا كقصد الأمر المتعلق بالصلاة المعلوم تفصيلا جميع أجزائها وشرائطها ، وإما إجمالا كقصد الأمر المتعلق بإحدى الصلوات الأربع مثلا عند اشتباه القبلة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الاحتياط ـ كما قيل ـ هو الأخذ بالأوثق والإتيان بكل فعل أو ترك يحرز به الواقع ، ولما كانت عبادية العبادة متقومة بالإتيان بجميع الشرائط والأجزاء عن داع قربيّ كما عرفت ، فالاحتياط عبارة عن الإتيان بالعمل العبادي بجميع ما له دخل فيه ومنه قصد الأمر ، فإذا شك في تعلق الأمر بعمل من جهة دوران ذلك العمل بين أن يكون واجبا غير مستحب لم يكن الإتيان به من الاحتياط في العبادة أصلا ؛ لعدم إحراز تعلق الأمر بذلك العمل ، وعليه : فعنوان الاحتياط في العبادة حينئذ غير ممكن التحقق ؛ إذ لا علم بأمر الشارع لا تفصلا ولا إجمالا ومعه لا يتمشى منه قصد القربة. هذا تمام الكلام في توضيح الإشكال في الاحتياط في العبادة.

٢٤٥

وغير الاستحباب (١) ؛ من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا ، وحسن الاحتياط عقلا (٢) لا يكاد يجدي في رفع

______________________________________________________

(١) التقييد بغير الاستحباب إشارة إلى إمكان الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين وجوب فعل واستحبابه ؛ للعلم بكونه مأمورا به على كل تقدير بناء على كفاية ذلك في الاحتياط ، وعدم توقفه على إحراز نوع الحكم من الوجوب أو الاستحباب ، فإشكال الاحتياط في العبادات مختص بما إذا لم يعلم وجود الأمر أصلا ؛ كما إذا دار أمر فعل بني الوجوب وغير الاستحباب من الإباحة أو الكراهة.

قوله : «من جهة» متعلق ب «يشكل» ، وبيان لوجه الإشكال.

(٢) وكيف كان ؛ فقد أجيب عن هذا الإشكال بأجوبة قد بدأ بها المصنف بقوله : «وحسن الاحتياط عقلا».

وتوضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة وهي هناك قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وهي كل ما حكم به العقل حكم به الشرع هو أن حكم العقل بحسن الاحتياط يلازم الأمر المولوي بالاحتياط شرعا ، فيأتي المكلف بمحتمل الوجوب بقصد هذا الأمر الملازم لحكم العقل بحسن الاحتياط ، فيتم الاحتياط في العبادة.

وقد أجاب المصنف عنه بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «لا يكاد يجدي في رفع الإشكال» ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن حكم العقل تارة : يكون واقعا في سلسلة معلولات الأحكام كحسن الانقياد والإطاعة. وأخرى : يكون واقعا في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها ، نظير قبح الظلم ، وحسن ردّ الوديعة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه لا مجال لاستكشاف الأمر المولوي بالاحتياط بقاعدة الملازمة حتى يتقرب به ، ضرورة : أن حكم العقل بحسن الاحتياط كحكمه بحسن الإطاعة واقع في سلسلة معلولات الأحكام لا عللها ، نظير قبح الظلم ، وحسن ردّ الوديعة ، حيث يكون الأول قبيحا عقلا وحراما شرعا. والثاني حسنا عقلا وواجبا شرعا بقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع. هذا بخلاف حسن الاحتياط عقلا في المقام حيث إنه ليس من موارد تلك القاعدة.

وعليه : فالمقام أجنبي عن قاعدة الملازمة ؛ إذ الاحتياط من أنحاء الإطاعة المترتبة على الأمر والنهي الشرعيين وفي طولهما.

ومن المعلوم : أن حسن الإطاعة حينئذ لا يلازم الأمر المولوي بها.

٢٤٦

الإشكال ؛ ولو قيل (١) بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا ، بداهة (٢) : توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه ، فكيف يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته (٣)؟

______________________________________________________

فالمتحصل : أن حسن الاحتياط عقلا لا يدل بقاعدة الملازمة على تعلق الأمر المولوي به أولا ؛ إذ الأمر المتعلق بالاحتياط كالأمر بالإطاعة الحقيقية إرشادي ، ومن الواضح : أن الأمر الإرشادي لا يصلح للتقرب به. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

وأما الوجه الثاني ـ وهو لزوم الدور ـ فلأن الحسن عارض على الاحتياط ، والاحتياط معروض له ، فيجب أن يكون الاحتياط مقدما على الحسن ؛ إذ كل معروض مقدم على العارض هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى : أن الاحتياط متأخر عن الأمر ، لأن الاحتياط يتوقف على الأمر ؛ إذ لو لا الأمر لم يكن الاحتياط احتياطا ، فكيف يمكن أن يؤثر الحسن المتأخر عن الاحتياط في الأمر المتقدم عليه.

وبتقريب آخر : أن الأمر يتوقف على حسن صلاة الجمعة مثلا ، وحسنها يتوقف على أن تكون الصلاة احتياطا ، وكونها احتياطا يتوقف على قصد القربة ؛ إذ بدون قصد القربة لا تكون صلاة. وقصد القربة يتوقف على الأمر فالأمر يتوقف على الأمر.

(١) هذا إشارة إلى الوجه الأول الذي عرفت توضيحه.

(٢) تعليل لقوله : «لا يكاد يجدي» ، وبيان للوجه الثاني وهو لزوم الدور. وقد عرفت توضيحه.

وضمير «توقفه» راجع على الأمر بالاحتياط ، وضمير «ثبوته» راجع على الاحتياط ، و «توقف العارض» مفعول مطلق نوعي ، يعني : أن الأمر بالاحتياط عارض على الاحتياط ، فيتوقف على ثبوت الاحتياط ؛ لكونه متأخرا عنه كما هو الحال في جميع العوارض بالنسبة إلى معروضاتها ، سواء كان ذلك في الوجود الخارجي كالبياض العارض على الجسم ، أم في عارض الوجود الذهني كالجنسية والنوعية في قولنا ؛ الحيوان جنس والإنسان نوع.

وبالجملة : فالأمر بالاحتياط لكونه عارضا عليه متوقف على الاحتياط ومتأخرا عنه ، فلا يعقل أن يكون الأمر من مبادئ وجود الاحتياط ومتقدما عليه.

(٣) أي : الاحتياط. واسم «يكون» ضمير مستتر راجع على الأمر ، يعني : كيف يعقل أن يكون الأمر من مبادئ ثبوت الاحتياط وعلل وجوده ، مع أنه متأخر عن الاحتياط كما عرفت وجهه؟.

٢٤٧

وانقدح بذلك (١) : أنه لا يكاد يجدي في رفعه أيضا (٢) : القول بتعلق الأمر به من جهة ترتب الثواب عليه ، ضرورة (٣) : أنه فرع إمكانه ، فكيف يكون من مبادئ

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادة ، يعني : ظهر ـ من ترتب محذور الدور على استكشاف الأمر بالاحتياط من قاعدة الملازمة ـ أنه لا سبيل أيضا لإحراز الأمر الشرعي بالاحتياط من ترتب الثواب عليه.

توضيح إحراز الأمر الشرعي به من ترتب الثواب عليه : أنه لا ريب في ترتب الثواب على الاحتياط ، كما دل عليه بعض الروايات مثل ما عن أبي جعفر «عليه‌السلام» في وصية له لأصحابه قال : «وإن اشتبه الأمر عليكم فقفوا عنده وردّوه إلينا حتى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا ، فإذا كنتم كما أوصيناكم لم تعدّوه إلى غيره فمات منكم ميت من قبل أن يخرج قائمنا كان شهيدا» (١). فالمستفاد من هذه الرواية هو ترتب الثواب على الاحتياط.

ومن المعلوم : أنه لا يترتب الثواب على شيء إلا لكونه طاعة ، وكونه طاعة يتوقف على تعلق الأمر به ، فترتب الثواب على الاحتياط يكشف بنحو الإن عن تعلق الأمر به وهو المطلوب ، فيؤتى بالعبادة حينئذ بنية القربة. كما استدل على استحباب كثير من الأعمال بترتب الثواب عليها ؛ كالحكم باستحباب زيارة فاطمة ابنة الإمام موسى بن جعفر «عليه‌السلام» بقم ؛ لقول أبي الحسن الرضا «عليه‌السلام» في جواب من سأله عن زيارتها : «من زارها فله الجنة» (٢) ، وعليه : فيصير الاحتياط مستحبا شرعا ، ويقصد هذا الأمر الاستحبابي المصحح لعبادية الفعل المشكوك وجوبه وإباحته.

(٢) أي لا ينفع في رفع الإشكال المتقدم كشف الأمر بالاحتياط من ترتب الثواب عليه ، كما لا ينفع في رفعه الجواب المتقدم الذي أشار إليه وحسن الاحتياط.

والضمائر في «به ، وعليه ، وإمكانه» راجعة على الاحتياط. وفي «رفعه» راجع على الإشكال. وفي «أنه» راجع على تعلق الأمر بالاحتياط.

(٣) تعليل لقوله : «لا يكاد يجدي» ، وبيان لعدم صحة الجواب الثاني عن إشكال الاحتياط في العبادة ، وإشارة إلى الإيراد على كلا الجوابين عن إشكال الاحتياط في العبادة.

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٣٢ / ٤١٠ ، الوسائل ٢٧ : ١٢٠ / ٣٣٣٧٠.

(٢) كامل الزيارات : ٥٣٦ / ٨٢٦ ، ثواب الأعمال : ٩٨ ، عيون أخبار الرضا ٢ : ٢٩٩ : ١ ، الوسائل ١٤ : ٥٧٦ / ١٩٨٥٠.

٢٤٨

جريانه؟ هذا مع أن (١) حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الأمر به بنحو اللمّ (٢) ، ولا ترتب الثواب عليه (٣) بكاشف عنه بنحو ...

______________________________________________________

وتوضيح هذا الإيراد المشترك بين الجواب الأول والثاني : إن تعلق الأمر بالاحتياط ـ سواء كان بنحو اللمّ لقاعدة الملازمة ؛ كما في الجواب الأول ، أم بنحو الإن لترتب الثواب على الاحتياط كما في الجواب الثاني ـ فرع إمكان الاحتياط. وقد عرفت في الجواب الأول : عدم إمكانه لمحذور الدور ، وهو توقف الأمر بالاحتياط على إمكانه ، وتوقف إمكانه على العلم بالأمر به حتى يقصد ذلك الأمر ، ويندرج الإتيان بالفعل بداعي أمره في الاحتياط في العبادة ، والعلم بالأمر به متوقف على الأمر به حتى يتعلق به العلم ، والأمر به متوقف على إمكانه وهو الدور ، وحيث يتعذر العلم بالأمر لمحذور الدور فيتعذر الاحتياط. هذا تمام الكلام في عدم صحة استكشاف الأمر بالاحتياط بنحو اللمّ بقاعدة الملازمة.

وكذا لا يمكن استكشاف الأمر بالاحتياط بالبرهان الإني أعني : ترتب الثواب عليه في بعض الأخبار ؛ لأنه لو ثبت هذا الأمر كان لا محالة متأخرا عن موضوعه وهو الاحتياط ، فكيف يكون من مبادئ ثبوت الاحتياط؟ إذ لا يعقل أن يكون الحكم مثبتا لموضوعه ، فلا يكون هذا الأمر المتأخر عن الاحتياط من مبادئ جريانه.

وعليه : فلا يكون ترتب الثواب على الاحتياط كاشفا عن تعلق الأمر به ؛ بل يكون ترتبه عليه بلا وساطة أمر به ، فلو تعلق به أمر كان إرشاديا في الأمر بالإطاعة الحقيقية.

(١) إشارة إلى توضيح الإيراد الأول ـ وهو لزوم الدور ـ على الجواب الأول ـ أعني به : استكشاف تعلق الأمر بالاحتياط من حسنه عقلا ـ عن إشكال الاحتياط في العبادة ، وقد تقدم بقوله : «ولو قيل بكونه موجبا لتعلق الأمر به شرعا» ، كما أن قوله : «وترتب الثواب ...» الخ. توضيح للإيراد الثاني ـ وهو لزوم الدور أيضا ـ على الجواب الثاني ، وهو استكشاف الأمر بالاحتياط من ترتب الثواب عليه بنحو الإن ، وقد تقدم أيضا بقوله : «وانقدح بذلك أيضا».

فقد تحصل مما ذكرنا : أن إشكال لزوم الدور مشترك الورود على كلا الجوابين.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٢) كما في الوجه الأول ، حيث إن استكشاف أمر الشارع بالاحتياط كان بنحو اللمّ أي : من ناحية العلة ، وهو حسنه العقلي.

(٣) أي : على الاحتياط بكاشف عن الأمر بالاحتياط بالبرهان الإني.

٢٤٩

الإن (١) ؛ بل يكون حاله (٢) في ذلك حال الإطاعة ، فإنه (٣) نحو من الانقياد والطاعة «والإطاعة».

وما قيل (٤) في دفعه : من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل

______________________________________________________

(١) كما في الوجه الثاني ، حيث إن استكشاف أمر الشارع بالاحتياط كان بنحو الإن ، أي : من ناحية المعلول وهو ترتب الثواب عليه.

(٢) أي : يكون حال الاحتياط في حسنه وترتب الثواب عليه حال الإطاعة ، يعني : كما أن الإطاعة الحقيقية حسنة عقلا ، ويترتب الثواب عليها ؛ لا لتعلق الأمر بها ، بل لكونها في نفسها انقيادا ، فكذلك الاحتياط فإنه ـ لكونه نحوا من الإطاعة ـ حسن عقلا ، ويترتب عليه الثواب ، ولا يكشف ذلك عن تعلق الأمر به ، وليس ترتب الثواب عليه كترتبه على الصدقة وصلة الأرحام وتسريح اللحية وكثير من المستحبات ، حيث إنه كاشف عن استحباب تلك الأفعال وتعلق الأمر المولوي بها.

والسر في ذلك واضح ؛ فإن حسن تلك الأفعال واقع في سلسلة علل الأحكام وملاكاتها ، فلذا كان حسنها وترتب الثواب عليها كاشفا عن استحبابها ، وتعلق الأمر المولوي بها ، بخلاف الاحتياط فإنه ـ لكونه نحوا من الإطاعة كما تقدم ـ يكون حسنه كحسن الإطاعة الحقيقية واقعا في سلسلة معلولات الأحكام فلا يكشف حسنه ، وكذا ترتب الثواب عليه عن تعلق الأمر المولوي به ، كما لا يكشف حسن الإطاعة الحقيقية وترتب الثواب عليها في قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) عن تعلق الأمر المولوي بها ؛ بل هي غير قابلة لذلك كما ثبت في محله ، ومن هنا يحمل الأمر بها في قوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ) على الإرشاد إلى حكم العقل بحسنها.

وبالجملة : فحال الاحتياط حال الإطاعة الحقيقية في حسنها ، وترتب الثواب عليها ، وعدم كشفها عن تعلق الأمر المولوي بها وأنه لو تعلق بها كان للإرشاد.

(٣) يعني : فإن الاحتياط من أنحاء الإطاعة ومراتبها.

(٤) هذا هو الجواب الثالث عن إشكال الاحتياط في العبادات ، والقائل هو الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» حيث قال : «إن المراد من الاحتياط والاتقاء في هذه الأوامر هو : مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة ، فمعنى الاحتياط في الصلاة : الإتيان بجميع ما يعتبر فيها عدا قصد القربة ، فأوامر الاحتياط تتعلق بهذا الفعل ، وحينئذ : فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر». «دروس في الرسائل ، ج ٣ ، ص ٥١».

٢٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ولتوضيح كلامه وإيراد المصنف عليه ينبغي بيان النزاع في كيفية دخل قصد القربة في العبادة ، وحلّ إشكال الدور فنقول : قد نسب إلى الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» أن قصد القربة كسائر الشرائط المعتبرة في المأمور به ، غاية الأمر : أن الشارع يتوسل لبيان اعتباره بأمر آخر غير الأمر المتعلق بذات العبادة ؛ كالصلاة التي أولها التكبير وآخرها التسليم ، فمدلول هيئة «صل» هو وجوب هذه الماهية بما لها من الأجزاء والشرائط عدا نيّة التقرب ؛ إذ من المعلوم أن هذا الأمر قاصر عن الدعوة إلى نفسه ؛ بل يدعو إلى متعلقه ، فيتوسل الشارع ـ إلى لزوم الإتيان بالصلاة على وجه قربي ـ بالأمر الثاني الدال على اشتراط الإتيان بتلك الماهية بداعي الأمر الأول ، وبهذا البيان يترفع محذور الدور ؛ إذ لم نقل بدخل قصد القربة ـ أي : قصد الأمر ـ في موضوع الأمر الأول حتى يتوجه المحذور من جهة تأخره عنه كي يتعذر أخذه في المتعلق.

والحاصل : أن الشيخ «قدس‌سره» قد صحح قصد القربة بتعدد الأمر ؛ كما مر في بحث التعبدي والتوصلي في كيفية دخل دخل قصد القربة في العبادة.

ولكنه قد صحح الاحتياط في العبادة هنا بوجه آخر ، وهو الإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة ، فإنه بهذا المعنى المجازي لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

وتقريب هذا الوجه : أن مدلول الأمر في قوله «عليه‌السلام» : «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت» ليس هو الاحتياط بمعنى الإتيان بالفعل المحتمل الوجوب والإباحة مثلا بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد القربة ؛ حتى يتوجه عليه محذور الدور الذي أورده على ما تقدم من استدلال الشهيد في الذكرى ؛ بل وزان قوله : «احتط» وزان قوله : في الأوامر الواقعية مثل : «صل» في كون المتعلق هو ذات الفعل المجرد عن قصد القربة ، فمدلول هيئة «احتط» هو البعث على الفعل الجامع لتمام ما يعتبر فيه شطرا وشرطا إلا نيّة التقرب وهي قصد الأمر ، ويكون الاحتياط بهذا المعنى مأمورا بمقتضى الأخبار الآمرة به ، وحينئذ : فيقصد المكلف التقرب بهذا الفعل ـ كقضاء الصلوات احتياطا لأجل احتمال وقوع خلل فيها ـ بنفس الأمر بالاحتياط. وبهذا يتوجه صحة الفتوى باستحباب بعض الأعمال التي لا دليل على استحبابها في الشرع.

وقد ظهر : عدم لزوم محذور الدور ، أعني : توقف عنوان الاحتياط على الأمر به الذي يتوقف هو أيضا على الاحتياط ؛ كتوقف سائر الأحكام على موضوعاتها.

وجه عدم اللزوم : أنه إنما يلزم إذا أريد بالاحتياط في الروايات الآمرة به معناه

٢٥١

.................................................................................................

______________________________________________________

الحقيقي ، وهو الإتيان بالفعل المشتمل على قصد القربة ؛ دون معناه المجازي الصوري وهو الإتيان بالفعل المجرد عن قصد القربة ، فإنه بهذا المعنى المجازي الصوري لا يتوقف على الأمر حتى يلزم الدور.

هذا توضيح ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» وللمصنف على هذا الجواب إيرادان :

الإيراد الأول : ما أشار إليه بقوله : «مضافا إلى عدم مساعدة دليل».

والإيراد الثاني : ما أشار إليه بقوله : «إنه التزام بالإشكال».

توضيح الإيراد الأول : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٤٩٣» ـ أنه لا وجه لرفع اليد عن ظهور الاحتياط ـ في الأخبار الآمرة به ـ في معناه الحقيقي ، أعني : الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه حتى نية التقرب المعتبرة في العبادات ، فلا وجه لصرف الاحتياط عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي ـ وهو الإتيان بالفعل مجردا عن قصد القربة ـ حتى يتمكن منه في العبادات التي لم يعلم أمر الشارع بها ، وذلك لمغايرة الاحتياط بهذا المعنى المجازي للاحتياط المأمور به في الأخبار موضوعا وحكما.

أما موضوعا : فلأن ما يستقل بحسنه العقلي ويرشد إليه النقل هو الإتيان بالفعل بجميع ما يعتبر فيه حتى قصد التقرب في العبادة فجعل الاحتياط المأمور به هو ذات الفعل المجرد عن نية التقرب أجنبي عن معناه المعروف المصطلح عليه.

وأما حكما : فلوجوه ثلاثة أولها : أن الأمر بالاحتياط بهذا المعنى ـ أي الإتيان بالفعل مجردا عن قصد التقرب ، وهو الذي اختاره الشيخ الأنصاري لحل الإشكال ـ أمر مولوي يصح قصد التقرب به ؛ إذ المفروض : مطلوبية الإتيان بالفعل المحتمل وجوبه بدون قصد التقرب ، وتتحقق القربة بقصد هذا الأمر المولوي المتعلق بالاحتياط بهذا المعنى الوارد ذلك الأمر في مثل قوله «عليه‌السلام» : «أخوك دينك فاحتط لدينك» ، والأمر بالاحتياط بمعناه الحقيقي إرشادي لا يصح التقرب به ، فاختلف الاحتياطان حكما ، هذا ولكن الالتزام بكون الأمر بالاحتياط بمعناه المجازي مولويا خلافا تصريح الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» بأنه إرشادي غير صالح للتقرب به ؛ كما تقدم في عبارته المنقولة سابقا بقوله : «إن الأمر الشرعي بهذا النحو من الانقياد كأمره بالانقياد الحقيقي ... إرشادي محض ... فلا إطاعة لهذا الأمر الإرشادي ، ولا ينفع في جعل الشيء عبادة».

ثانيها : أنه لو سلم أن الأمر به مولوي فهو نفسي ؛ لقيام المصلحة بالإتيان بالفعل

٢٥٢

.................................................................................................

______________________________________________________

العبادي المحتمل وجوبه بهذا النحو ـ أي : مجردا عن قصد القربة ـ ولم يكن الغرض منه حفظ المصلحة الواقعية المحتملة ؛ لأن الفعل على فرض وجوبه واقعا لم يسقط أمره بالإتيان به بدون قصد التقرب ؛ إذ قوام العبادة به وهو دخيل في صميمه ، ولو كان الغرض منه حفظ المصلحة الواقعية لوجب الإتيان به مع قصد القربة ، فالأمر بالإتيان به مجردا عن القصد المذكور أمر نفسي يثاب على طاعته ويعاقب على مخالفته إذا كان إلزاميا كما هو شأن التكليف النفسي لا غيري ، مع أنه لا سبيل إلى الالتزام بنفسية أوامر الاحتياط ، ضرورة : أن المقصود من تشريعه التحفظ على الغرض الواقعي كما هو شأن سائر الواجبات الغيرية التي تقوم المصلحة بما يترتب عليها ؛ كالمسير إلى الحج الذي تكون مطلوبيته للتوصل إلى الواجب النفسي ، أعني : الحج ، فالاحتياط بالصلاة إلى جهات أربع عند اشتباه القبلة واجب غيري ، أمر الشارع به تحفظا على «معراج المؤمن» مثلا الذي هو ملاك لتشريع الصلاة ، وحيث إن العبادة المحتملة قد سلب عنها قصد القربة ، فليس المراد بالاحتياط التوصل إليها ، فلو وجب وجب لذاته كسائر الواجبات النفسية لا للتوصل إلى الواقع المجهول.

ثالثها : أن الأمر بالاحتياط بهذا النحو ـ على تقدير تسليم نفسيته ـ يكون عباديا لا يسقط أمره إلا بالإتيان بالفعل متقربا به إليه تعالى ، مع أن المقصود تجريده عن قصد التقرب ، وأن المطلوب هو وجود المتعلق في الخارج كيفما اتفق كتطهير اللباس للصلاة ودفن الميت ، فيكون الأمر به توصليا ؛ لوفاء مطلق وجوده في الخارج بالغرض الداعي إلى التشريع ولو لم يأت به عن داع إلهي ، فالإتيان بمحتمل الوجوب سواء انبعث عن الأمر المحتمل أم عن الأمر بالاحتياط هو المطلوب للشارع ، فلا محالة يتمحض الأمر به في التوصلية ، فلا يلزم قصد التقرب به مع أن مفروض كلام الشيخ «قدس‌سره» التقرب بالأمر بالاحتياط كما عرفت.

والحاصل : أن التقرب بالأمر بالاحتياط يتوقف على كونه مولويا نفسيا عباديا مع وضوح أن الأمر به ليس كذلك لأنه إرشادي فكيف يتقرب به؟

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

«حينئذ» أي : كون المراد بالاحتياط هو الفعل المجرد عن نية التقرب ، وهذا هو المراد بقوله : «بهذا المعنى». وضمير «فيها» راجع على العبادات. وضمير «حسنه» راجع على الاحتياط.

٢٥٣

المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نيّة القربة.

فيه : مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها ، بداهة (١): أنه ليس باحتياط حقيقة ؛ بل (٢) هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا (٣) نفسيا عباديا والعقل (٤) لا يستقل إلا بحسن الاحتياط ، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه.

نعم (٥) ؛ لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة لما

______________________________________________________

(١) تعليل لعدم مساعدة دليل الاحتياط على حسنه بهذا المعنى المجازي لوضوح : أن الإتيان بالمأمور به العبادي مجردا عن قصد التقرب مغاير للاحتياط موضوعا ، وليس امتثالا لأمره أصلا ؛ بل هو أجنبي عنه بالمرة كما عرفت توضيحه.

(٢) هذا إشارة إلى مغايرة الاحتياط ـ بالمعنى الذي ذكره الشيخ ـ موضوعا للاحتياط الذي هو مدلول الأخبار ، وقد تقدم توضيح المغايرة بقوله : «وأما موضوعا ...» الخ.

وضمير «هو» راجع على قوله : «الفعل المطابق للعبادة» ، وهو الاحتياط الذي ذكره الشيخ الأنصاري «قدس‌سره».

يعني : الاحتياط ـ بمعنى الفعل المطابق للعبادة ـ شيء «لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا».

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الأول من وجوه المغايرة بين الاحتياطيين حكما ، و «نفسيا» إشارة إلى الوجه الثاني منها ، و «عباديا» ، إلى الثالث منها ، وقد تقدمت هذه الوجوه.

(٤) الواو للحال ، يعني : والحال أن العقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط لا بحسن ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» لمعنى الاحتياط ، الذي عرفت : أنه لو دل عليه دليل لم يكن إلا مطلوبا مولويا نفسيا عباديا ، كما أن الشرع أيضا لا يرشد إلا إلى حسن الاحتياط لا إلى حسن هذا المعنى الذي جعله الشيخ «قدس‌سره» لمعنى الاحتياط ؛ لأنه أجنبي عما يحكم بحسنه العقل ويرشد إليه النقل.

وبالجملة : فالأمر في مثل ـ «خذ بالحائطة لدينك» ، و «عليكم بالاحتياط ونحوهما ـ أمر إرشادي ، ومتعلقه هو الاحتياط الذي يحكم به العقل المنوط بالإتيان بكل ما يحتمل دخله في تحصيل الغرض ؛ لا المجرد عن نية التقرب فيما يحتمل عباديته ، فالمأمور به هو معناه الحقيقي لا الصوري الذي يصح سلب عنوان الاحتياط عنه حقيقة ، فإنه بهذا المعنى ليس حسنا عقلا ، ولا مما يرشد إليه الشرع.

(٥) استدراك على قوله : «لعدم مساعدة دليل».

وغرضه : أن حمل الاحتياط على معناه المجازي لا وجه له إلا إذا ألجأتنا دلالة

٢٥٤

كان محيص عن دلالته (١) اقتضاء ، على أن المراد به ذاك المعنى بناء (٢) على عدم إمكانه (٣) فيها بمعناه حقيقة ، كما لا يخفى أنه (٤) التزام بالإشكال ، وعدم جريانه فيها ،

______________________________________________________

الاقتضاء إلى ذلك ، كما ألجأتنا في مثل قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) إلى حمله على المجاز في الحذف بتقدير «الأهل» ، فإنه إذا قام دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة كقضاء الصلوات لمجرد خلل موهوم فيها ، ولم يمكن إرادة معناه الحقيقي لعدم إحراز الأمر حسب الفرض حتى يقصده ويتصف الفعل بكونه عباديا ، فإنه لا بد حينئذ : من تجريد الفعل عن نية التقرب ، والإتيان به كذلك امتثالا لأمر الشارع بالاحتياط وارتكاب هذا المعنى المجازي مما لا بد منه صونا لكلام الحكيم عن اللغوية ؛ إذ لو لم يجرد الفعل عن قصد القربة لم يمكن الاحتياط فيه ، فلا بد من تعلق الأمر الاحتياطي بما عدا القربة من الأجزاء والشرائط.

والحاصل : أن ارتكاب هذا المعنى المجازي منوط بورود الأمر بالاحتياط في خصوص العبادة ، ولا وجه لصرف أوامر الاحتياط عن ظاهرها إلى هذا المعنى المجازي.

(١) يعني : دلالة الدليل على الترغيب ، وضمير «به» راجع على الاحتياط ، و «ذاك المعنى» يعني : المجازي.

(٢) قيد لقوله : «أن المراد به ذاك المعنى».

وغرضه : أن الالتزام بالمعنى المجازي ـ لورود أمر بالاحتياط في العبادة ـ لدلالة الاقتضاء إنما هو إذا تعذر حمل ذلك الأمر على معناه الحقيقي ، كما هو كذلك بناء على عدّ قصد القربة من الأجزاء ، والشرائط. وأما بناء على كونه من كيفيات الإطاعة : فلو فرض ورود أمر بالاحتياط في خصوص العبادة أمكن حمله على معناه الحقيقي ؛ لعدم كون القربة في عداد سائر الشرائط كما سيظهر.

(٣) أي : إمكان الاحتياط في العبادة بمعناه الحقيقي.

(٤) مبتدأ مؤخر ، وخبره قوله المتقدم : «فيه مضافا». والجملة بأجمعها خبر لقوله : «وما قيل».

وضمير «أنه» راجع على «ما قيل». وقوله : «وعدم» عطف على الإشكال وتفسير له.

وهذا هو الإيراد الثاني على كلام الشيخ «قدس‌سره» وهو المقصود الأصلي في مقام الاعتراض عليه.

توضيحه : أن صرف الاحتياط عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ـ وهو الإتيان بالفعل مجردا عن قصد القربة ـ تسليم لإشكال جريان الاحتياط ؛ وذلك لأن تجريده عن

٢٥٥

وهو (١) كما ترى.

قلت (٢) : لا يخفى أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل

______________________________________________________

قصد الأمر دليل على عدم إمكان الاحتياط بمعناه الحقيقي في العبادة.

والالتزام بأنه بمعناه الحقيقي لا يجري في العبادة حتى ينسلخ منه قصد الأمر.

(١) أي : والحال أن الالتزام بعدم جريان الاحتياط في العبادة كما لا يمكن المصير إليه ، كيف وهو مورد فتوى المشهور؟ فلا بد لحل الإشكال من التماس وجه آخر وهو ما اختاره المصنف «قدس‌سره».

(٢) هذا هو الجواب الرابع عن إشكال الاحتياط في العبادة ، وهذا الجواب هو مختار المصنف ، وهو تزييف للمبنى الذي أسس عليه هذا الإشكال ، فيقال في توضيح هذا الجواب : إن الإشكال المذكور نشأ من تخيل كون وزان القربة المعتبرة في العبادة وزان غيرها مما يعتبر فيها شطرا أو شرطا في اعتبار تعلق الأمر بها ، فيتعلق أمر العبادة في مثل : «صل» بقصد القربة كتعلقه بغيره مما هو دخيل في المأمور به ، فيشكل حينئذ جريان الاحتياط في العبادة ؛ لتعذر قصد الأمر مع الشك فيه.

لكن هذا التخيل فاسد ؛ لما ذكره المصنف في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم كون قصد القربة دخيلا في المأمور به على نحو دخل مثل الاستقبال والستر في الصلاة ؛ بل هو من الأمور المحصلة للغرض والحاكم باعتباره ولزومه هو العقل ، فمتعلق الطلب في مثل : «صل» ، و «احتط» هو ذات الفعل ، والقصد المزبور خارج عن ماهية المأمور به ، ولا يلزم الدور إذ لم يكن قصد الأمر المتأخر عن الأمر دخيلا في المتعلق على نحو سائر الأجزاء والشرائط ؛ بل هو من كيفيات الإطاعة التي هي في رتبة تالية للأمر ، وبه يصير الاحتياط في العبادة ممكنا ؛ إذ كما يأتي المكلف بالصلاة الواقعية المعلومة بداعي أمرها المعلوم بحيث يكون الأمر المعلوم هو الداعي للمكلف والمحرك له نحو الإتيان بالصلاة لا داع آخر من الدواعي النفسانية ، كذلك يأتي المكلف بالصلاة الاحتياطية بداعي الأمر المحتمل ، وحينئذ : فلو كانت مأمورا بها واقعا لكانت مقربة.

وبالجملة : أنه يمكن دفع إشكال الاحتياط في العبادة على وجه لا يلزم المحذور ، وهو أن اعتبار القربة ـ في جميع العبادات ـ ليس شرعيا بل هو عقلي ، والعقل لا يعتبر أزيد من قصد الأمر جزميا كان أو احتماليا ، فحينئذ : يتحقق الاحتياط بلا حاجة إلى أمر الشارع المستلزم للدور.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

٢٥٦

سائر الشروط المعتبرة فيها مما يتعلق بها الأمر المتعلق بها ، فيشكل جريانه حينئذ (١) لعدم التمكن من قصد القربة فيها.

وقد عرفت : أنه (٢) فاسد ، وإنما اعتبر قصد القربة فيها (٣) عقلا لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه ، وعليه (٤) : كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الإمكان ، ضرورة (٥) : التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله ، غاية الأمر : أنه لا بد أن يؤتى به (٦) على نحو لو كان (٧) مأمورا به لكان مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر ، أو احتمال كونه (٨) محبوبا له تعالى ، فيقع (٩) حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا

______________________________________________________

قوله : «مما» ـ المراد به الشروط ـ بيان ل «الشروط». وضمير «بها» راجع على الموصول في «مما» باعتبار الشروط. وضمير «جريانه» راجع على الاحتياط. وضمير «بها» في «المتعلق بها» راجع على العبادة.

(١) أي : فيشكل جريان الاحتياط حين كون القربة مثل سائر الشروط المعتبرة في العبادة كالطهارة والاستقبال في الصلاة كما هو مبنى التخيل المذكور.

(٢) أي : التخيل الذي صار منشأ للإشكال المتقدم فاسد ؛ لما تقدم من امتناع أخذ الأمر في المتعلق شرعا ؛ بل المتعلق ذات العبادة.

(٣) هذا الضمير وضمير «فيها» راجع على العبادة. وضمير «بدونه» راجع على قصد القربة.

(٤) أي : وبناء على أن اعتبار قصد القربة عقلي ؛ كان جريان الاحتياط في العبادة بمكان من الإمكان. كان الأولى تأنيث ضمير «فيه» لرجوعه إلى العبادة التي هي ظرف الاحتياط ؛ إلا أن يرجع إلى العمل العبادي.

(٥) تعليل ل «كان جريان الاحتياط».

(٦) يعني : بما احتمل وجوبه.

(٧) اسم كان ضمير راجع على «ما احتمل وجوبه». والضمائر المذكورة من قوله : «ما احتمل وجوبه» إلى قوله : «فيقع الأمر به» كلها راجعة على «ما احتمل وجوبه».

(٨) أي : كون الفعل المحتمل وجوبه محبوبا له تعالى. وهذا إشارة إلى عدم انحصار نية القربة في الأمر ؛ بل مطلق إضافته إليه تعالى ـ كقصد المحبوبية ـ من القربة المطلوبة في العبادة.

(٩) أي : فيقع الفعل المحتمل وجوبه حين الإتيان به بالنحو المذكور ، أعني : «أنه لو كان مأمورا به لكان مقربا» امتثالا له تعالى على تقدير الأمر به ، وانقيادا له «عزوجل» على تقدير عدمه.

٢٥٧

لأمره تعالى ، وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه «تبارك وتعالى» ، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد (١).

وقد انقدح بذلك (٢) : أنه لا حاجة في جريانه في العبادة إلى تعلق أمر بها ؛ بل لو

______________________________________________________

(١) الذي هو في حكم الإطاعة الحقيقية ، ثم إن هذا وما قبله مفسر لقوله «على كل حال».

(٢) يعني : وقد ظهر مما ذكرنا ـ من عدم دخل قصد القربة في المتعلق ، وإنما هو دخيل عقلا في حصول غرض المولى من الأمر ـ أنه لا حاجة في جريان الاحتياط في العبادة إلى تعلق أمر بها حتى يقصد ؛ «كأن يقول المولى : «احتط في العبادة لمجرد خلل موهوم فيها» ، فيكفي في جريان الاحتياط فيها نفس الأمر المحتمل ، يعني : أن احتمال بقاء الأمر بالصلاة كاف في مشروعية الاحتياط وقضائها ؛ بل لو علم تعلق أمر بها لم يكن من الاحتياط في شيء ؛ بل كان إطاعة حقيقية ، لتقوّم الاحتياط باحتمال الأمر ، فمع العلم به لا احتياط ، ويكون ذلك الأمر تكليفا نفسيا وجوبيا أو استحبابيا ؛ كما تقدم الكلام فيه.

والحاصل : أن قوام الاحتياط والإتيان بالفعل برجاء مطلوبيته وموافقته للأمر الواقعي المحتمل ، فإذا ورد أمر من الشارع بفعل مشكوك المطلوبية ـ بهذا العنوان ـ لم يكن الإتيان به احتياطا ؛ بل كان إطاعة جزمية لأمر معلوم ، فيقصد ذلك الأمر المعلوم الوارد على «عنوان محتمل المطلوبية».

والظاهر : أن غرض المصنف التعريض بكلام الشيخ الأنصاري ، حيث إنه «قدس‌سره» بعد ما وجه الاحتياط في العبادة بما تقدم مفصلا قال : «ثم إن منشأ احتمال الوجوب إذا كان خبرا ضعيفا ، فلا حاجة إلى أخبار الاحتياط وإثبات الأمر فيها للاستحباب الشرعي دون الإرشاد العقلي ؛ لورود بعض الأخبار باستحباب فعل كل ما يحتمل فيه الثواب ؛ كصحيحة هشام بن سالم المحكية عن المحاسن ...».

وحاصله : أنه لو لم تصلح أوامر الاحتياط لإثبات مشروعيته في الفعل الدائر بين كونه واجبا عباديا ومباحا ، فأخبار «من بلغ» تصلح لإثبات استحباب نفس العمل الذي قام على استحبابه خبر ضعيف ، كالدعاء عند رؤية الهلال ، فإن الرواية الفاقدة لشرائط الحجية وإن لم تصلح لإثبات استحبابه ؛ إلا إنه يتحقق ـ بهذا الخبر الضعيف ـ موضوع أخبار «من بلغ» وهو البلوغ ، فيثبت استحبابه ببركة هذه الأخبار المعتبرة ، وبعد العلم بالأمر المستفاد منها يجري الاحتياط في العبادة.

٢٥٨

فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشيء (١) ؛ بل كسائر ما علم (٢) وجوبه أو استحبابه منها (٣) كما لا يخفى.

______________________________________________________

هذا ما استظهره الشيخ «قدس‌سره» ؛ ولكن المصنف أورد عليه : بأنه مع تسليم دلالة أخبار «من بلغ» على استحباب الفعل الذي ورد الثواب عليه في خبر ضعيف لم يكن الإتيان بذلك الفعل بداعي أمره المستفاد من هذه الأخبار من الاحتياط أصلا ، بل هو من الإطاعة الحقيقية ، لفرض العلم بالأمر حينئذ دون احتماله المقوّم للاحتياط.

وبما ذكرناه : ظهر وجه ارتباط البحث عن مفاد أخبار «من بلغ» بمسألة الاحتياط في العبادة ، وأن إشكال الاحتياط في العبادة كما يمكن حله بالتصرف في معنى الاحتياط وإرادة معنى مجازي منه ـ كما عليه الشيخ ـ كذلك هل يمكن حله بتعلق الأمر المولوي المستفاد من أخبار «من بلغ» بكل فعل دل على استحبابه رواية ضعيفة أم لا؟

(١) لتقوّم الاحتياط بإتيان العمل برجاء وجود الأمر الواقعي.

(٢) المراد به : الفعل المعلوم وجوبه ، حيث يقصد ذلك الأمر ، وليس من الاحتياط في شيء بل من الإطاعة الحقيقية ؛ كالصلوات اليومية وغيرها من الواجبات المعلومة.

(٣) أي : من العبادات. هذا إشارة إلى وجه خامس لدفع إشكال الاحتياط في العبادة ،

وحاصل هذا الوجه : أن مشكوك العبادية وإن لم يمكن الإتيان به بقصد القربة من جهة أنه لم يحرز تعلق الأمر به ؛ لكن يمكن الإتيان به بقصد القربة بملاحظة الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» ، فقد ورد في مستفيض الأحاديث : أن «من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن كما بلغه» ، فلو قام خبر ضعيف على استحباب الأذان لصلاة مستحبة مثلا صح الاحتياط بإتيان الأذان لها بقصد القربة لوجود الأمر العام المستفاد من أخبار «من بلغ» ؛ لكن هذا الوجه أيضا مخدوش بوجهين :

أحدهما : أن هذا لا يدفع الإشكال عن جميع موارد الشبهة في العبادة وإنما يختص بما ورد فيه أمر ولو بخبر ضعيف.

ثانيهما : أن موافقة هذا الأمر الاستحبابي يجعل المأتي به طاعة جزمية ، ويخرج عن المتنازع فيه الذي هو الاحتياط في محتمل الوجوب أو الاستحباب ؛ كصلاة الليل والنوافل المرتبة وغسل الجمعة ، وكثير من المستحبات التي هي من ضروريات المذهب بل الدين ، ويقصد ذلك الأمر الاستحبابي المعلوم.

٢٥٩

فظهر (١) : أنه لو قيل (٢) بدلالة أخبار «من بلغه ثواب» على استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف لما كان (٣) يجدي في جريانه في خصوص ما دل على وجوبه أو استحبابه. خبر ضعيف ؛ بل كان (٤) عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل على استحبابه لا يقال (٥) : هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ

______________________________________________________

(١) متفرع على ما أفاده من عدم الحاجة في جريان الاحتياط في العبادة إلى العلم بالأمر ؛ بل مع العلم به لا يكون من الاحتياط أصلا.

(٢) القائل هو الشيخ الأنصاري «قدس‌سره». وقد تقدم كلامه سابقا.

(٣) جواب «لو قيل» ورد له.

توضيح الرد : أنه إذا تعلق الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» بعمل كالدعاء عند رؤية الهلال ، كان العمل مأمورا به جزما ، فيكون الإتيان به إطاعة حقيقية لقصد امتثال ذلك الأمر حين العمل ، فلا يكون الإتيان به حينئذ من باب الاحتياط المتقوم بداعي احتمال تعلق الأمر به واقعا ؛ بل هو إطاعة علمية تفصيلية. فالأخبار الكثيرة الدالة على ترتب الثواب على العمل الذي دل خبر ضعيف على وجوبه أو استحبابه على تقدير دلالتها على الاستحباب لا تجدي في دفع إشكال جريان الاحتياط في العبادة عند دوران الأمر بين الوجوب وغير الاستحباب ؛ لصيرورة العمل بسبب تلك الأخبار مستحبا نفسيا كسائر المستحبات النفسية ، فالإتيان به بقصد استحبابه إطاعة حقيقية لا احتياطية.

والمتحصل : أن الاستحباب المستفاد من أخبار «من بلغ» يوجب استحباب العمل البالغ عليه الثواب بخبر ضعيف كسائر المستحبات ، وهو أجنبي عن الاحتياط الذي هو مورد البحث ، ولا يستفاد من تلك الأخبار استحباب العمل الذي شك في استحبابه من غير ناحية الخبر الضعيف.

(٤) اسم كان ضمير راجع على الموصول في «ما دل» المراد به العمل الذي دل الدليل على استحبابه ؛ كزيارة المعصومين «عليهم‌السلام».

(٥) هذا إشكال على ما أفاده المصنف «قدس‌سره» من عدم كون الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» مجديا في إمكان الاحتياط في العبادة ؛ بل يكون الأمر المستفاد من أخبار «من بلغ» مجديا في إمكان الاحتياط في العبادة ، فيكون هذا جوابا سادسا عن إشكال الاحتياط في العبادة.

تقريبه : يتوقف على مقدمة وهي : أن في أخبار «من بلغ» احتمالين :

الأول : أن يكون المستفاد منها هو استحباب العمل الذي قام خبر ضعيف على

٢٦٠