دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وإحداثهما (١) الترديد بينهما لكان (٢) القياس في محله ؛ لدلالة (٣) الدليل على (٤) التخيير بينهما على التخيير هاهنا ، فتأمل جيدا. ولا مجال هاهنا (٥) لقاعدة قبح

______________________________________________________

بالتخيير حينئذ إنما هو احتمال الوجوب والحرمة ، سواء كان منشؤهما الخبرين أم غيرهما ، ولا خصوصيّة للخبرين.

(١) عطف تفسير ل «إبدائهما» ، وضميرا «إبدائهما وإحداثهما» راجعان على الخبرين ، وضميره بينهما ، راجع على الوجوب والحرمة.

(٢) جواب «ولو كان».

(٣) تعليل لصحة القياس.

(٤) متعلق ب «دليل» و «على التخيير» متعلق ب «دلالة» ، يعني : نفس الأخبار العلاجية الدالة على التخيير بين الخبرين المتعارضين تدل أيضا على التخيير في المقام ، بناء على كون التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما الاحتمال ؛ لوجود الترديد والاحتمال هنا أيضا.

«فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى أنه لا مجال لاستفادة كون المناط في الحكم بالتخيير في تعارض الخبرين هو إبداء الاحتمال حتى يحكم به فيما نحن فيه لهذا المناط.

وجه عدم المجال : أن من الواضح وجوب الأخذ بخصوص مضمون أحد الخبرين المتعارضين وإن احتمل كون الحكم الواقعي غيرهما ، كما إذا دل أحد الخبرين على الوجوب والآخر على الحرمة ، واحتمل الكراهة ، فإنه لا يجوز الاعتناء بها ، بل لا بد من الالتزام بمضمون أحد الخبرين.

هذا مضافا إلى أنه لو كان المناط إبداء الاحتمال لزم لغوية الشرائط المعتبرة في حجية الخبرين ، ومراعاة قواعد التعارض بين كل خبرين متعارضين يوجبان الاحتمال وإن كانا فاقدين لشرائط الحجية ، وهو كما ترى. وقد تحصل : أن القول الثالث وهو التخبير الشرعي بين الاحتمالين لا دليل عليه ، فلا مانع من شمول أصالة الحل للمقام.

(٥) يعني : في الدوران بين المحذورين.

والمقصود من هذا الكلام : هو الإشارة إلى دليل القول الأول في مسألة الدوران ـ وهو جريان البراءة الشرعية والعقلية ـ وردّه ، وقوله : «لقاعدة ، قبح العقاب بلا بيان» إشارة إلى الجزء الثاني منه وهو جريان البراءة العقلية لتحقق موضوعها ، وهو عدم البيان ، إذ لا بيان على خصوص الوجوب والحرمة المحتملين ، فالمؤاخذة على كل من الفعل والترك في المقام مما يستقل العقل بقبحه ، فتجري القاعدة بلا مانع ، فإن القاعدة إنما تجري فيما لا بيان له ، وليس ما نحن فيه من ذلك ؛ بل قد بين أحد الحكمين ، كما أنه في مورد دوران

٣٠١

العقاب بلا بيان. فإنه لا قصور فيه ـ هاهنا ـ وإنّما عدم تنجز التكليف لعدم التمكن (١) من الموافقة القطعية كمخالفتها ، والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الأمر بين طرفي العلم الإجمالي قد بيّن الحكم ، فقد يكون متعلق الحكم الواحد مرددا بين اثنين ، وقد يكون الشيء الواحد مرددا بين حكمين ، وفي كليهما قد بيّن الحكم في الجملة ، «فلا قصور فيه» أي : في البيان.

(١) وعدم التمكن غير عدم البيان ، ولذا نرى وجود البيان فيما لو دار الأمر بين وجوب هذا وحرمة ذلك ، فإن العقل يرى ذلك بيانا وموجبا لإتيان محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة ؛ إذ لا فرق بين تردّد الحكم بين الوجوب والحرمة ، مع وحدة الموضوع المردد فيه ـ كما في المقام ـ أو مع تعدد الموضوع كما في مورد العلم الإجمالي بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، في وجود البيان ووجوب الاحتياط. وكيف كان ؛ فقوله : «فإنه لا قصور فيه ...» الخ. ردّ على القول بجريان البراءة العقلية في المقام.

وتوضيح الردّ : يتوقف على مقدمة وهي : أن تنجّز التكليف المصحح للعقوبة على مخالفته ـ يتقوم بأمرين :

أحدهما : وجود البيان على الحكم الشرعي ولو كان إجماليا ،

وثانيهما : قدرة المكلف على الموافقة القطعية ، سواء كانت تفصيلية أم إجمالية ، كالصلاة إلى أربع جهات.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه بانتفاء أحد الأمرين وإن كان ينتفي تنجّز التكليف ، ومقتضى انتفائه جريان قاعدة القبح ؛ إلا إن القاعدة مع ذلك أيضا لا تجري هنا ؛ لا لعدم البيان إذ البيان موجود ، لغرض العلم بالتكليف ولو إجمالا وهو مطلق الإلزام ، ولذا يكون منجزا إذا تعلق بأمرين كوجوب الدعاء عند رؤية الهلال وحرمة شرب التتن ، فإن الاحتياط حينئذ بفعل الدعاء وترك الشرب لازم ؛ بل عدم جريانها إنما هو لعدم التمكن من الامتثال القطعي مع وحدة المتعلق بالاحتياط بالجمع بين التكليفين ، لامتناع الجمع بين الفعل والترك ، ضرورة : أنهما نقيضان ؛ كعدم التمكن من المخالفة القطعية لاستحالة ارتفاع النقيضين ، وإلا فالبيان وهو العلم بلزوم الفعل أو الترك موجود ؛ لكن لما كان متعلقهما واحدا لم يؤثر العلم المذكور في نظر العقل ، فيسقط عن المنجزية ، بخلاف ما إذا تعدد المتعلق حيث يكون الاحتياط ممكنا.

والحاصل : أن قبح العقاب في المقام مسلّم ؛ لكنه ليس لأجل عدم البيان بل لعدم

٣٠٢

ثم إنّ مورد هذه الوجوه (١) وإن كان ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة

______________________________________________________

قدرة المكلف على الامتثال القطعي ، فلا مجال لتطبيق قاعدة القبح هنا لوضوح تحقق البيان الرافع لموضوع القاعدة بسبب العلم بأصل الإلزام ؛ ولو مع الجهل بنوعه ، فإن العلم بجنس التكليف كاف في البيانية ، ولذا يجب الاحتياط إذا تمكن منه كما في تعدد المتعلق.

وبالجملة : فلا مجال عند دوران الأمر بين المحذورين لجريان قاعدة القبح ؛ لوجود البيان الإجمالي وهو العلم بأصل الإلزام ، وهو كاف في المنع من جريانها.

نعم ، لا يستحق المكلف للعقاب لأجل عدم القدرة على الامتثال والموافقة القطعية ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٦٠١» مع توضيح وتلخيص منّا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» :

الضمير في «فإنه لا قصور فيه» للشأن ، يعني : لا قصور في البيان في دوران الأمر بين المحذورين ، والمراد بالبيان هو العلم بأصل الإلزام ويمكن أن يكون ضميرا «فإنه ، فيه» راجعين إلى البيان.

قوله : «كمخالفتها» فاسد لفظا ومعنى ؛ لأن الضمير راجع على القطعية التي هي صفة لكل من الموافقة والمخالفة. وأما لفظا : فلأن القطعية صفة للمخالفة ، ولازم العبارة حينئذ : إضافة الموصوف إلى ضمير صفته وهو فاسد ؛ إذ لا تقول مثلا : «أسهرني المرض الشديد وألمه» بإرجاع الضمير إلى الشديد ، بل تقول : «والألم الشديد» وأما معنى : فلأن المقصود أن المانع عن تنجز التكليف هو عدم التمكن من الموافقة القطعية ؛ كعدم القدرة على المخالفة القطعية ، وعبارة المتن لو تركت بحالها تكون هكذا : «كمخالفة القطعية» ، وهذا فاسد أيضا ، فالصواب سوق العبارة هكذا : كالمخالفة القطعية أو لعدم التمكن من القطع بالموافقة والمخالفة». وكيف كان ؛ فالمطلب واضح.

«والموافقة الاحتمالية حاصلة» يعني : أن كلا من الموافقة والمخالفة الاحتماليتين حاصل قطعا ، سواء جرت قاعدة القبح أم لا.

«لا محالة» لعدم خلو المكلف تكوينا من الفعل أو الترك.

(١) يعني : الوجوه الخمسة المتقدمة في الدوران بين الوجوب والحرمة.

المقصود من هذه العبارة إلى قوله : «ولا يذهب عليك» هو : تضعيف ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، حيث قال في صدر البحث بعد بيان وجوه ثلاثة في المسألة «ما لفظه» : «ومحل هذه الوجوه ما لو كان كل من الوجوب والحرمة توصليا ؛ بحيث يسقط بمجرد

٣٠٣

على التعيين تعبّديا (١) ، إذ لو كانا (٢) تعبديين أو كان أحدهما المعيّن كذلك ، لم

______________________________________________________

الموافقة ؛ إذ لو كانا تعبديين محتاجين إلى قصد امتثال التكليف ، أو كان أحدها المعيّن كذلك لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة ؛ لأنها مخالفة قطعية عملية».

وحاصل ما أفاده الشيخ : من أن الحكم بالإباحة الظاهرية التي كانت هي إحدى وجوه المسألة مما لا يجري فيما إذا كان كل من الوجوب والحرمة تعبديا ، أو كان أحدهما المعيّن تعبديا ؛ إذ لو حكمنا حينئذ بالإباحة ، ولم نمتثل شيئا منهما على وجه قربي لحصلت المخالفة القطعية العملية ، فلا يجري بعض الوجوه على هذا الفرض ، فنظرا إلى جريان جميع الوجوه ، وعدم لزوم المخالفة القطعية العملية قال الشيخ «قدس‌سره» باختصاص هذه الوجوه بما إذا كان كل من الوجوب والحرمة توصليا.

وأما تعريض المصنف «قدس‌سره» على الشيخ : فلأجل أن المهم في المقام عند المصنف هو التخيير العقلي بين الفعل والترك ، وهو ما يجري في جميع الوجوه والصور الأربع ، وهي أن يكون كلاهما توصليا. وأن يكون كلاهما تعبديا. وأن يكون أحدهما المعيّن تعبديا. وأن يكون أحدهما غير المعيّن تعبديا.

غاية الأمر : يتخير عقلا في الثاني بين الإتيان بالشيء بنحو قربي ، وبين تركه كذلك. وفي الثالث بين الإتيان بأحدهما المعيّن بنحو قربي ، وبين مجرد الموافقة في الآخر.

نعم ، يختص الحكم بالإباحة الشرعية : بما إذا كانا توصليين ، أو كان أحدهما غير المعيّن تعبديا ؛ وإلا لم يمكن الحكم بها ، وذلك لتصوير المخالفة القطعية فيما إذا كانا تعبديين ، أو كان أحدهما المعيّن تعبديا.

ففي الأول : لو أتى المكلف بالفعل لا بنحو قربي ، أو تركه كذلك وفي الثاني لو أتى بأحدهما المعين لا بنحو قربي تتحصل المخالفة القطعية حينئذ بلا شبهة ، فتحرم بلا إشكال.

وكيف كان ؛ فنظر صاحب الكفاية إنما هو إلى جريان التخيير العقلي ، وهو يجري في جميع الصور ، فلا وجه لإخراج بعض الصور عن مورد الوجوه المذكورة ؛ كما صنعه الشيخ «قدس‌سره».

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف في المقام.

(١) خبر «لم يكن».

(٢) هذا هو كلام الشيخ الأنصاري ، وقد تقدم متنا وتوضيحا.

٣٠٤

يكن (١) إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع (٢) إلى الإباحة ؛ لأنها (٣) مخالفة عملية قطعية على ما أفاده شيخنا الأستاذ «قدس‌سره» ؛ إلا إن (٤) الحكم أيضا فيهما (٥) إذا كانا كذلك هو التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي ؛ بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه ، وتركه (٦) كذلك ؛ لعدم الترجيح (٧) وقبحه (٨) بلا مرجح.

فانقدح (٩) ، أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة (١٠) إلى ما هو المهم في المقام ؛ وإن اختص بعض الوجوه بهما كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) جواب «لو كانا». وقوله : «كذلك» يعني : تعبديا.

(٢) بالجر عطف على «طرحهما».

(٣) هذا تعليل لقوله : «لم يكن إشكال» ، يعني : لم يكن إشكال في عدم جواز طرحهما ، وعدم جواز الرجوع إلى الإباحة ، وذلك لأن الإباحة توجب المخالفة العملية القطعية على ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، وضمير «لأنها» راجع على الإباحة.

(٤) هذا إشارة إلى المناقشة في كلام الشيخ «قدس‌سره».

(٥) أي : في الوجوب والحرمة ، قوله : «كذلك» يعني : تعبديين أو أحدهما المعيّن تعبديا ، والمقصود : أن الحكم في الوجوب والحرمة إذا كانا تعبديين أو أحدهما المعيّن تعبديا هو التخيير عقلا ؛ كحكمهما إذا كانا توصليين ، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا ، وعليه : فالتخيير العقلي يجري في جميع الأقسام الأربعة. والضمائر في «إتيانه ، وبه ، وطلبه ، وتركه» راجعة على أحدهما.

(٦) بالجر عطف على «إتيانه» ، وقوله «كذلك» يعني : على وجه قربي.

(٧) تعليل لقوله : «هو التخيير عقلا».

(٨) بالجر عطف على عدم الترجيح.

(٩) هذا نتيجة ما أفاده لتعميم مورد جريان أصالة التخيير ، يعني : فظهر من جميع ما ذكرنا : أن التخيير العقلي يجري في جميع الأقسام الأربعة التي تقدمت الإشارة إليها لمسألة الدوران بين المحذورين ، لا في خصوص ما إذا كان الوجوب والحرمة توصليين ، أو كان أحدهما غير المعيّن توصليا ، فلا وجه لاختصاص مورد الوجوه الخمسة المتقدمة ـ التي منها التخيير العقلي ـ بما إذا كانا توصليين ، أو كان أحدهما غير المعيّن تعبديا ، حتى يكون التخيير العقلي أيضا مختصا بهما ؛ كما أفاده الشيخ «قدس‌سره» حيث خص ـ في كلامه المتقدم ـ مورد الوجوه بهما ، نعم ؛ القول بالإباحة يختص بهما ؛ لما تقدم من لزوم المخالفة العملية القطعية لو جرت في غيرهما.

(١٠) متعلق ب «لا وجه» والمقصود بالمهم في المقام هو : التخيير العقلي المبحوث عنه

٣٠٥

ولا يذهب عليك (١) أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين (٢) ، ...

______________________________________________________

في المقام ، وهو دوران الأمر بين المحذورين ، يعني : لا وجه لتخصيص مورد الوجوه الخمسة بالتوصليين. والمراد ببعض الوجوه هو : الأول والخامس ، وضمير «بهما» راجع على التوصليين ، فلا يجري بعض الوجوه في التعبديين ؛ لوجود المانع وهو المخالفة العملية.

(١) مقصود المصنف من هذا الكلام هو : بيان أن ما تقدم من التخيير العقلي في هذا البحث ليس مطلقا وفي جميع الموارد ؛ بل مقيد بما إذا لم يكن ـ ولو احتمالا ـ مزية لأحد الاحتمالين ترجحه على الآخر ، ومعها لا استقلال للعقل بالتخيير ، فهنا بحثان أحدهما : كبروي ، وهو عدم استقلال العقل بالحكم بالتخيير فيما إذا كان لأحد الاحتمالين مزية على الآخر ، بل يستقل بتعينه ـ وقوله : «أن استقلال العقل بالتخيير» إشارة إلى هذا البحث الكبروي. والآخر صغروي ، وهو بيان ما هو المناط في المزية التي يوجب وجودها ـ ولو احتمالا ـ عدم استقلال العقل بالحكم بالتخيير.

أما الأول : فملخص ما أفاده فيه هو : عدم استقلال العقل بالتخيير مع وجود رجحان أو احتماله في الفعل أو الترك يقتضي أهميته من الآخر ، فإن احتمال الأهمية أيضا يوجب حكم العقل بتقديم واجد هذه الأهمية المحتملة على فاقدها ؛ لكونه حينئذ : من صغريات التعيين والتخيير ؛ كحكمه بتعين تقليد الأفضل لحجية قوله تعيينا أو تخييرا ، والشك في حجية قول غير الأفضل عند المخالفة ، وكحكمه بلزوم إنقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير بدون إذنه ؛ لأهمية وجوب حفظ النفس من حرمة الغصب ، وهكذا.

وبالجملة : فحكم العقل بتقديم الأهم معلوما أو محتملا مما لا ينبغي الارتياب فيه.

والذي يظهر من العبارة : أن المصنف قاس دوران الأمر بين المحذورين ـ في تقديم محتمل الأهمية أو معلومها ـ تارة : بدوران الأمر بين التعيين والتخيير ؛ كما في مسألة تقليد الأفضل ، وأخرى : بتزاحم الواجبين كما في إنقاذ أحد الغريقين المحتمل أهميته ، وسننبه على عبارته التي يستفاد منها هذان القياسان ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٦١٠».

(٢) قيد ل «أحدهما» يعني : في أحدهما المعين. ووجه التقييد به واضح ؛ إذ لا عبرة باحتمال الترجيح في أحدهما لا على التعيين ، فإن العقل يستقل بالتخيير فيه ، كما يستقل به فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما أصلا كما تقدم توضيحه.

٣٠٦

ومع احتماله (١) : لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه ؛ كما هو (١) الحال في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام.

ولكن (٣) الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما ، وزيادته على الطلب في

______________________________________________________

فالمتحصل مما ذكرنا : أنه إما أن لا يحتمل الترجيح في أحدهما أصلا ، أو يحتمل.

وعلى الثاني : فإما أن يحتمل في أحدهما غير المعين أو يحتمل في أحدهما المعين ، فعلى الأولين : يستقل العقل بالتخيير ، وعلى الثالث : لا يستقل به ؛ بل يجب العمل بما يحتمل رجحانه كما هو ظاهر.

(١) يعني : مع احتمال ترجيح أحدهما المعيّن. وضمير «بتعيينه» راجع على «أحدهما على التعيين».

(٢) أي : كما أن استقلال العقل بتعين ما يحتمل ترجيحه مسلّم في دوران الأمر بين التعيين والتخيير. وهذا ما يستفاد منه القياس الأول.

وقد عرفت : أنه كحجيّة فتوى الأفضل تعيينا أو تخييرا ، والشك في حجية فتوى غير الأفضل.

والمراد بغير المقام في قوله : «غير المقام» موارد التزاحم ؛ كمسألة تقديم إنقاذ الغريق المحتمل أهميته ـ لاحتمال كونه عالما ـ على إنقاذ الآخر.

(٣) هذا إشارة إلى البحث الثاني وهو البحث الصغروي ، وتوضيح ما أفاده فيه : أن الموجب للتقديم هو أهمية الملاك الموجبة لشدة الطلب وتأكده وزيادته على الطلب في الآخر ؛ بحيث لو كان المحتملان معلومين لكان أحدهما المعين لأهميته مقدما على صاحبه عند المزاحمة ؛ كما في مثال إنقاذ الغريق المتوقف على التصرف في مال الغير بدون رضاه ، فإن كلا من الحكمين ـ وهما وجوب الإنقاذ وحرمة الغصب ـ معلوم ولا بد من امتثاله ، وقد اتفق ابتلاء المكلف بهما في زمان واحد ؛ لكن لما كان وجوب حفظ النفس المحترمة أهم من حرمة الغصب كان اللازم التصرف في مال الغير لأجل إنقاذ الغريق المؤمن ، هذا في باب التزاحم.

وفي المقام ـ وهو وجود احتمال حكمين لا نفس الحكمين الواقعيين ـ إذا كان الوجوب المحتمل أهم من الحرمة المحتملة قدم الفعل على الترك ، وإن كان احتمال الحرمة أقوى ؛ إذ المدار في الترجيح على أهمية المحتمل لا أقوائية الاحتمال ، فإذا فرض أن احتمال الحرمة أقوى من احتمال الوجوب ؛ لكن كان الوجوب المحتمل على تقدير ثبوته واقعا أشد وأهم من الحرمة المحتملة بل المظنونة قدم احتمال الوجوب الأهم على احتمال

٣٠٧

الآخر بما (١) لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة (٢) ، ووجب (٣) الترجيح بها (٤) ، وكذا (٥) وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة الدوران.

ولا وجه لترجيح (٦) احتمال الحرمة مطلقا ؛ لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك

______________________________________________________

الحرمة الأقوى ؛ كالصلاة في أيام الاستظهار ، فإنها إما واجبة إن كانت طاهرة ، وإما حرام إن كانت حائضا ؛ لكن حيث إنها لو كانت واجبة عليها واقعا كان وجوبها أهم من حرمتها ، نظرا إلى أن وجوبها ـ على تقدير ثبوته واقعا ـ ذاتي ، بخلاف حرمتها فإنها ـ على فرض ثبوتها ـ تشريعية ، فيرجح الوجوب على الحرمة ، ولذا يحكم بوجوبها عليها في تلك الأيام حتى لو فرض أن احتمال حرمتها ـ لاحتمال كونها حائضا ـ أقوى من احتمال وجوبها ؛ لاحتمال كونها طاهرة.

والمراد بشدة الطلب : قوة الملاك ، فإن المناط في أهمية طلب من طلب آخر هو : كون الملاك الداعي للمولى إلى أحد الطلبين أقوى وأشد من الملاك الداعي إلى الطلب الآخر ؛ إذ لا ريب في اختلاف الملاكات في جميع الأحكام الاقتضائية ؛ من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة كما هو واضح.

(١) متعلق ب «زيادته». والمراد بالموصول : المرتبة والمثابة ، يعني : كانت شدة الطلب في أحدهما بمثابة توجب أهميته ؛ بأن تكون كاشفة عن زيادة في المصلحة ؛ بحيث لا يجوز الإخلال بتلك الزيادة ، بل يجب استيفاؤها بترجيح ما هي موجودة فيه من أحد المتزاحمين.

(٢) وهذا ما يستفاد منه القياس الثاني ، فإن الواجبين المتزاحمين إذا كان أحدهما أهم من الآخر كانت أهميته من جهة اشتماله على ملاك أقوى ومصلحة زائدة على مصلحة مزاحمه ، فتجب مراعاة تلك الزيادة.

(٣) عطف على «لا يجوز» وبيان له.

(٤) هذا الضمير وضمير «بها» المتقدم راجعان على الشدة والزيادة.

(٥) عطف على «لا يجوز» ، يعني : كما أن العلم بشدّة يكون مرجحا في المتزاحمين المعلومين ، حيث يتعدد الحكم فيهما حقيقة ، فكذا يكون احتمال أهمية أحد المحتملين مرجحا في صورة الدوران بين المحذورين ، الذي يكون الحكم الواقعي واحدا حقيقة دائرا بين الوجوب والحرمة.

(٦) هذا إشارة إلى القول الثاني في مسألة الدوران بين المحذورين ؛ وهو وجوب الأخذ بأحدهما تعيينا بترجيح جانب الحرمة على الوجوب ، وقد تقدم ذكر الاستدلال

٣٠٨

المصلحة ، ضرورة (١) : أنه ربّ واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا كلام ، فكيف يقدم على احتماله (٢) في صورة الدوران بين مثليهما (٣)؟ فافهم.

______________________________________________________

عليه بوجوه ، وقد أشار المصنف هنا إلى الوجه الثالث في تلك الوجوه ، وهو : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. ثم أجاب المصنف عنه بقوله : «ضرورة : أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام».

وحاصل الجواب عنه : أنه ليس كل حكم تحريمي أهم من كل حكم إيجابي ؛ حتى يكون احتمال الحرمة دائما مقدما على احتمال الوجوب ؛ بل لا بد من ملاحظة المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام ، فرب واجب يكون أهم من الحرام كحفظ النفس ، فإنه مقدم على حرمة الغصب عند المزاحمة ، فلذا يكون احتمال وجوبه ـ مهما كان ضعيفا ـ مقدما على احتمال حرمة الغصب مهما كان قويا ، وكذا إذا دار الأمر بين كون شخص نبيا أو سابا للنبي ، فإن وجوب حفظ النبي أهم قطعا من حرمة حفظ سابه حدا.

وربّ حرام يكون أهم من واجب كالغصب والوضوء ، وعليه : فلا يقدم احتمال الحرمة مطلقا على احتمال الوجوب. هذا ما أشار إليه المصنف بقوله : «ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا ؛ لأجل أن دفع المفسدة أولى من ترك المصلحة».

قوله : «مطلقا» قيد «لترجيح» يعني : سواء كانت الحرمة مشتملة على الشدة والزيادة أم لا. «لأجل» متعلق «لترجيح» وعلة له.

(١) تعليل لقوله : «لا وجه» ، وجواب عن مفاد الدليل وهو إطلاق الأولوية والترجيح. وقد تقدم توضيحه.

(٢) أي : فكيف يقدم احتمال الحرام على احتمال الوجوب مطلقا؟

(٣) أي : مثل الواجب والحرام المتزاحمين. والمراد بمثليهما : الوجوب والحرمة في المقام.

والحاصل : أن المناط في ترجيح أحد احتمال الوجوب والحرمة على الآخر في صورة دوران الأمر بين المحذورين هو المناط في ترجيح أحد المحتملين على تقدير العلم بهما وتزاحمها ، فكما لا يكون هناك أحدهما مقدما مطلقا على الآخر ؛ بل يكون المقدم منهما ما له شدة طلب وزيادة اهتمام به ، سواء كان هو الواجب أم الحرام ، فكذلك هنا. ولو تمت الأولوية المذكورة مطلقا وفي جميع الموارد لكان أصغر المحرمات أعظم من ترك أهم الفرائض عند التزاحم ، مع أن ترك الواجب سيّئ أيضا ؛ بل عدّ ترك الصلاة من أكبر الكبائر.

٣٠٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وبالجملة : فكل ما يكون مرجحا في ظرف العلم بالواجب والحرام يكون مرجحا أيضا في صورة احتمال الوجوب والحرمة.

«فافهم» لعله إشارة إلى أن الخصم لا يقول بوجوب الأخذ بجانب الحرمة مطلقا ؛ حتى في صورة الدوران بين الواجب الأهم أو محتمل الأهمية ، وبين الحرام المهم ؛ بل يقول في صورة التساوي بينهما ، بدعوى : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، أو إشارة إلى عدم وجه للفرق بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث حكم بعدم جريانها ، وبين البراءة الشرعية ، حيث حكم بشمولها للمقام.

إلى هنا كان الكلام في الشك في أصل التكليف ، ومن هنا يقع الكلام في الشك في المكلف به مع العلم بأصل التكليف.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تحرير محل النزاع : وهو ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ، ولم يحتمل غيرهما من الإباحة ولم يكن أحد الحكمين مسبوقا بالوجود حتى يستصحب ، وما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليا ، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا.

وأما لو كان كلاهما تعبديا ، أو أحدهما المعين تعبديا : لكان خارجا عن محل النزاع ؛ لعدم جريان الوجوه المذكورة فيه أولا ، ولزوم المخالفة القطعية ثانيا ؛ إذ محل الكلام ما إذا كان كل من المخالفة القطعية والموافقة متعذرة : ومثال الشبهة الحكمية : ما إذا ساحق مقطوع الذكر زوجته ثم طلقها ، فإن كانت المساحقة في حكم الدخول فطلاقها رجعي وإن لم تكن في حكم الدخول كان الطلاق بائنا.

فعلى الأول : تجب عليها الإجابة عند طلب الزوج الاستمتاع منها في العدة. وعلى الثاني : تحرم عليها الإجابة عند طلب الزوج الاستمتاع منها في العدة ؛ لأن الاستمتاع حينئذ إنما يجوز بالعقد الجديد ، فيدور حكم الإجابة بين الحرمة والوجوب.

ومثالا الشبهة الموضوعية : ما إذا علم الزوج أنه حلف إما على وطء زوجته في هذه الليلة ، أو على ترك وطئها في نفس الليلة ، فيدور حكم الوطء في الليلة المعينة بين الحرمة والوجوب.

٣١٠

.................................................................................................

______________________________________________________

٢ ـ في وجوه المسألة وبيان مختار المصنف منها :

الأول : الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ، نظير الشبهات البدوية ؛ وذلك لعموم أدلة الإباحة الشرعية ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك جميعا.

الثاني : وجوب الأخذ بأحدهما تعيينا ؛ كالأخذ بالحرمة تعيينا لوجوه :

١ ـ قاعدة الاحتياط ، حيث يدور الأمر بين التعيين والتخيير.

٢ ـ الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة ، بناء على كون المراد منه هو عدم الدخول في الشبهة ، وهو معنى تقديم جانب الحرمة على الوجوب.

٣ ـ وجوب الأخذ بجانب الحرمة ؛ لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

الثالث : وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا ، أي : تخييرا شرعيا قياسا لما نحن فيه بتعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية.

الرابع : التخيير بين الفعل والترك عقلا ، مع التوقف عن الحكم بشيء رأسا لا ظاهرا ولا واقعا.

الخامس : التخيير بين الفعل والترك عقلا مع الحكم عليه بالإباحة شرعا. وهذا هو مختار المصنف «قدس‌سره».

٣ ـ توهم : أن لزوم المخالفة الالتزامية القطعية مانع عن الرجوع إلى الإباحة شرعا ، فإن العقل كما يستقل بوجوب إطاعة المولى عملا ، كذلك يحكم بوجوب إطاعته التزاما ، بمعنى : لزوم التدين والالتزام القلبي بأحكامه. ومن المعلوم : أن علم المكلف بعدم خلو الواقع عن أحد الحكمين الإلزاميين ينافي البناء على إباحة كل من الفعل والترك ظاهرا ؛ لاقتضاء هذه الإباحة الظاهرية جواز المخالفة الالتزامية ، وهذا مما يمنع عنه العقل ، فلا تجري أصالة الحل في المقام لمانع عقلي ؛ مدفوع لوجهين :

أحدهما : عدم وجوب موافقة الأحكام التزاما.

وثانيهما : هو كفاية الالتزام بالواقع بما هو عليه إجمالا على تقدير وجوب موافقة الأحكام التزاما.

والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لم ينهض دليل على وجوبه قطعا.

٤ ـ قياس دوران الأمر بين المحذورين بتعارض الخبرين : بتقريب : أن الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو نفي الثالث ، أو اهتمام الشارع بالعمل

٣١١

.................................................................................................

______________________________________________________

بالأحكام الشرعية وعدم إهمالها موجود في المقام باطل ؛ لكونه مع الفارق.

وتوضيح الفرق : أن التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة بناء على حجية الأخبار من باب السببية لأجل التزاحم بينهما ، فيحكم العقل بالتخيير مع التكافؤ ومن المعلوم : أن تزاحم الاحتمالين في المقام ليس كتزاحم الخبرين على السببية ؛ كي يصح قياس المقام بتعارض الخبرين.

وأما على الطريقية : فأيضا يكون القياس مع الفارق ، ضرورة : أن مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الخبرين وإن كان هو التساقط لا التخيير ؛ إلا أنه لما كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية ولمناط الطريقية من الكشف نوعا عن الواقع ، واحتمال الإصابة في خصوص كل واحد منهما لم يمكن الجمع بينهما في الحجية الفعلية لمكان التعارض ، فجعل الشارع أحدهما حجة تخييرا مع التكافؤ وتعيينا مع الترجيح. وهذا بخلاف المقام ؛ إذ ليس في شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين المتعارضين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين المتعارضين ، فلا مانع من طرح كلا الاحتمالين وإجراء الإباحة الظاهرية.

٥ ـ عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في المقام : لوجود البيان في المقام ، وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم تمكن المكلف من الموافقة القطعية ، فلا يتمكن المكلف من الاحتياط بالجمع بين الفعل والترك ؛ إذ الجمع بينهما جمع بين النقيضين ، فيكون مستحيلا.

وكيف كان ؛ فقبح العقاب في المقام مسلّم لكنه ليس لأجل عدم البيان ؛ بل لأجل عدم قدرة المكلف على الامتثال القطعي ، فلا مجال لجريان قاعدة القبح لوجود البيان الإجمالي ، وهو العلم بأصل الإلزام ، وهو كاف في المنع عن جريانها.

٦ ـ مورد هذه الوجوه الخمسة هو : ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا ، فتجري فيما إذا كانا توصليين ، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا. ولا تجري فيما إذا كان تعبديين ، أو كان أحدهما المعين تعبديا. هذا تعريض من المصنف على الشيخ «قدس‌سرهما» ، حيث اعتبر في جريان الوجوه المذكورة : كون كلا الحكمين توصليا ؛ للزوم المخالفة القطعية لو كان كليهما أو أحدهما المعين تعبديا. إلا أن المصنف نظر إلى التخيير العقلي الجاري في جميع الصور الأربع ، فلا وجه لإخراج بعض الصور عن مورد الوجوه المذكورة ؛ كما صنعه الشيخ «قدس‌سره».

٣١٢

.................................................................................................

______________________________________________________

٧ ـ لا وجه لترجيح احتمال الحرمة : بدعوى : أن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ؛ إذ ليس كل حكم تحريمي أهم من كل حكم إيجابي حتى يكون احتمال الحرمة دائما مقدما على احتمال الوجوب.

بل لا بد من ملاحظة المصالح والمفاسد التي هي ملاكات الأحكام الشرعية ، فرب واجب يكون أهم من الحرام ؛ كحفظ النفس ، فإنه مقدم على حرمة الغصب عند المزاحمة.

وربّ حرام يكون من أهم من واجب كالغصب والوضوء.

وعليه : فلا يقدم احتمال الحرمة مطلق على احتمال الوجوب.

«فافهم» : لعله إشارة إلى عدم وجه للفرق بين قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، حيث حكم بعدم جريانها في المقام ، وبين البراءة الشرعية حيث حكم بجريانها وشمولها للمقام.

٨ ـ نظريات المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ هو التخيير عقلا مع الحكم بالإباحة شرعا.

٢ ـ عدم وجوب الموافقة الالتزامية.

٣ ـ مورد الوجوه والأقوال هو : ما إذا لم يكن واحد من الوجوب والحرمة على التعيين تعبديا.

٤ ـ حكم العقل بالتخيير إنما هو فيما لم يكن هناك ترجيح لأحد الاحتمالين ؛ وإلا فيقدم ما له ترجيح ومزيّة.

٣١٣
٣١٤

فصل

لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من (١) الإيجاب والتحريم ، فتارة

______________________________________________________

في أصالة الاشتغال

(١) بيان للتكليف يعني : أنه يعتبر في جريان قاعدة الاشتغال ـ التي هي من الأصول العملية الأربعة ـ العلم بنوع التكليف كالعلم بوجوب فعل مردد بين المتباينين كالظهر والجمعة ، أو بين الأقل والأكثر الارتباطيين كتردد أجزاء الصلاة بين التسعة والعشرة ، أو العلم بحرمة فعل مردد بين فعلين كشرب هذا الإناء أو ذاك الإناء ؛ للعلم بإصابة بنجس بأحدهما إجمالا ، ولا يكفي العلم بجنس التكليف ـ وهو الإلزام الدائر بين وجوب فعل وحرمة آخر ـ في جريان قاعدة الاحتياط ، وذلك ـ أي : اعتبار العلم بنوع التكليف وعدم كفاية العلم بجنسه في جريان أصالة الاشتغال.

وكيف كان ؛ فلا بد من تحرير محل النزاع قبل الخوض في البحث فنقول : إن تحرير محل النزاع يتوقف على مقدمة وهي : بيان مجاري الأصول العملية فيقال : إن الأصول العملية على أربعة أقسام :

١ ـ أصالة البراءة.

٢ ـ أصالة التخيير.

٣ ـ أصالة الاشتغال.

٤ ـ الاستصحاب.

وملخص الفرق بين هذه الأصول العملية :

أن مجرى أصالة البراءة هو الشك في أصل التكليف بأن لا يكون التكليف الإلزامي معلوما لا جنسا ولا نوعا.

ومجرى أصالة التخيير هو : دوران الأمر بين المحذورين مع العلم الإجمالي بجنس التكليف أعني : الإلزام وعدم العلم بنوع التكليف من أنه الوجوب أو الحرمة.

ومجرى أصالة الاشتغال هو : الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي مع العلم بجنس التكليف ؛ بل بنوعه ولا يعلم متعلق التكليف مع إمكان الاحتياط.

٣١٥

لتردده (١) بين المتباينين ، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

______________________________________________________

ومجرى الاستصحاب هو : ملاحظة الحالة السابقة.

إذ عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه قد تقدم الكلام في أصالة البراءة وأصالة التخيير ، فيكون البحث فعلا في أصالة الاشتغال ومجراها ـ كما عرفت ـ هو الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي بأن يكون الشك في المكلف به وهو متعلق التكليف ، مع العلم بأصل التكليف.

ثم الشك في المكلف به على قسمين :

إذا قد يكون الشك في المكلف به دائرا بين المتباينين ؛ كما لو علم بوجوب صلاة يوم الجمعة ولم يدر أنها الجمعة أو الظهر ، أو علم بحرمة وطء إحدى المرأتين لكونها أخته من الرضاعة.

وقد يكون دائرا بين الأقل والأكثر ، وهذا ينقسم إلى قسمين ؛ لأن الأقل والأكثر قد يكونان ارتباطيين ؛ كما لو شك في كون السورة من أجزاء الصلاة أم لا ، فيكون الشك في أن أجزاء الصلاة هل هي تسعة أو عشرة مثلا.

وقد يكونان غير ارتباطيين ؛ كما لو شك في أن الدّين على ذمته عشر دنانير أو تسعة ؛ لكن هذا القسم من الأقل والأكثر حيث يؤول أمره إلى الشك في أصل التكليف ، إذ الفرض أنه لا يعلم أنه مديون بدينار آخر فوق تلك الدنانير التسعة أم لا.

فهو ليس مربوطا بمحل الكلام.

وعلى هذا فيقع الكلام في مقامين : الأول : في دوران الأمر بين المتباينين. والثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

توضيح بعض العبارات.

(١) أي : تردد المكلف به «بين المتباينين» وهما ما ليس أحدهما داخلا في الآخر ، ثم الشك في المكلف به قد يكون لتردده بين المتباينين ذاتا ؛ كدوران الواجب بين الصوم والصدقة ، أو عرضا كدورانه بين القصر والتمام فيما إذا علم بوجوب أحدهما إجمالا فإن التباين بينهما إنما هو لكون الركعتين الأولتين ملحوظتين في الأول بشرط لا ، وفي الثاني بشرط شيء ، ولذا لا ينطبق أحدهما على الآخر ، كما لا ينطبق أحد المتباينين ذاتا كالصوم والصدقة على الآخر.

والضابط في العلم الإجمالي المتعلق بالمتباينين هو : رجوعه إلى قضية منفصلة مانعة الخلو ، فيقال في المثال المذكور : «الواجب إما الصوم وإما الصدقة» ، وهذا يرجع إلى

٣١٦

فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في دوران الأمر بين المتباينين (١). لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما

______________________________________________________

قضيتين شرطيتين يكون مقدم كل واحدة منها إحدى طرفي العلم الإجمالي ، وتاليها نقيض الطرف الآخر ، فيقال حينئذ : «إن كان الصوم واجبا فليست الصدقة واجبة» وبالعكس. وهذا بخلاف الأقل والأكثر ، فإنه لا يصح ذلك فيهما ، فلا يقال : «إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة» بداهة : أن التسعة بعض العشرة ، فوجوب العشرة وجوب التسعة وزيادة ، فوجوب التسعة قطعي سواء كان الأكثر واجبا أم لا.

وقد قيد المصنف الأقل والأكثر بالارتباطيين ؛ لأن المردد بين الأقل والأكثر الاستقلاليين خارج موضوعا عن الشك في المكلف به ؛ إذ لا إجمال في المكلف به حقيقة ، ضرورة : أنه يعلم من أول الأمر بتعلق التكليف بالأقل ، ويشك بتعلقه بالزائد عليه.

(١) المراد بهما : أن لا يكون بينهما قدر متيقن ، سواء كان تباينهما ذاتيا أم عرضيا كما مر آنفا ، بخلاف الأقل والأكثر ، فإن بينهما قدرا متيقنا ، والمراد بهما فعلا هو الارتباطيان اللذان تكون أوامر أجزائهما متلازمة الثبوت والسقوط ؛ دون الأقل والأكثر الاستقلاليين اللذين لا تكون أوامر أجزائهما كذلك كالدين المردد بين الأقل والأكثر ؛ لأن امتثال الأمر بالأقل ليس منوطا بامتثال الأمر بالأكثر على تقدير ثبوته واقعا.

وقبل الخوض في البحث في المقام الأول نذكر ما هو الفرق بين طريقة الشيخ وطريقة المصنف في بيان مسألة أصالة البراءة وأصالة التخيير وأصالة الاشتغال ، فقد عقد الشيخ «قدس‌سره» ، لكل من أصالة البراءة وأصالة التخيير وأصالة الاشتغال ثماني مسائل ، أربع للشبهة التحريمية ، وأربع للشبهة الوجوبية ، وذلك لأن منشأ الاشتباه في كل واحدة منها هي أربعة :

١ ـ فقدان النص.

٢ ـ إجمال النص.

٣ ـ تعارض النصين.

٤ ـ الأمور الخارجية.

والشبهة في الأخير تسمى بالموضوعية ، وفي الثلاثة الأولى تسمى بالحكمية.

ثم ما كان منشأ الاشتباه تعارض النصين خارج عن محل الكلام ؛ إذ حكمه هو التخيير أو الترجيح على الخلاف الآتي في باب التعادل والتراجيح لا الاحتياط والاشتغال كما هو محل الكلام في المقام.

٣١٧

مطلقا ولو (١) كانا فعل أمر وترك آخر إن كان فعليا من جميع الجهات ؛ بأن (٢) يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر الفعلي مع ما هو عليه من الإجمال والتردد

______________________________________________________

وأما طريقة المصنف فإنه قد عقد لكل واحدة منها مسألة واحدة فقد عقد للمقام مسألة واحدة جمع فيها بين المسائل الثمان كما فعل ذلك في أصالة البراءة وأصالة التخيير.

وكيف كان ؛ فالحق في تحرير الدوران بين المتباينين أن يقال : إن التكليف المعلوم بالإجمال المردد بين أمرين متباينين أو أكثر إن كان حرمة فالشبهة تحريمية ، وإن كان وجوبا فالشبهة وجوبية ، سواء كان منشأ الاشتباه فقدان النص أو إجماله ، أو تعارض النصين أو الأمور الخارجية.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) بيان لقوله : «مطلقا» ، وتوضيحه : أن العلم بالتكليف يتصور على وجهين :

أحدهما : العلم بنوعه كالوجوب مع تردد متعلقه بين المتباينين كالظهر والجمعة.

ثانيهما : العلم بجنس التكليف مع تردد نوعه بين نوعين وهما الوجوب والحرمة ؛ كالإلزام المردد بين فعل كالدعاء وحرمة آخر كشرب التتن.

ومقتضى العبارة اندراج العلم بجنس التكليف في الشك في المكلف به ، فيصح أن يقال : «يجب فعل الدعاء عند رؤية الهلال أو يحرم شرب التتن» ، وهذا تعريض بشيخنا الأعظم ، حيث خص النزاع بالعلم بنوع التكليف ، وجعل العلم بالجنس مجرى البراءة.

وهناك تطويل في الكلام أضربنا عنه رعاية للاختصار.

(٢) هذا شروع في بيان منجزية العلم الإجمالي بالتكليف.

الأقوال المعروفة لا تتجاوز عن خمسة :

١ ـ العلم الإجمالي غير مؤثر لا في وجوب الموافقة ولا في حرمة المخالفة ، فتجوز المخالفة القطعية فضلا عن الاحتمالية ، ونسب هذا القول إلى العلامة المجلسي.

٢ ـ أنه مؤثر في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة على نحو المقتضي لا العلة التامة ، وهو مختار المصنف «قدس‌سره» في باب مباحث القطع من الكتاب.

٣ ـ أنه مؤثر فيهما على نحو العلة التامة ، وهو مختار المصنف في المقام.

٤ ـ أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، ومقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

٥ ـ أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية.

٣١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

وأما بالنسبة إلى الموافقة كذلك فغير مؤثر أبدا ؛ لا على نحو العلة التامة ولا على نحو المقتضي ، وبذلك يمتاز عن القول الرابع ، ونسب إلى المحقق القمي «قدس‌سره».

وكيف كان ؛ فلا بد قبل تقريب كلام المصنف «قدس‌سره» من تمهيد مقدمة وهي : أن للأحكام الشرعية مراتب :

١ ـ مرتبة الاقتضاء والشأنية ، وهي عبارة عن ملاكات الأحكام كالمصالح والمفاسد على مذهب العدلية.

٢ ـ مرتبة الإنشاء والجعل ، وهي صدور الأوامر والنواهي من المولى مثلا.

٣ ـ مرتبة الفعلية ، وهي بيان الأحكام بالبعث والزجر ، فتكون الأحكام فعلية قبل علم المكلفين بها.

٤ ـ مرتبة التنجز ، وهي استحقاق العقوبة على المخالفة ، وهي مرتبة وصول الأحكام إلى المكلفين وعلمهم بها.

ثم مرتبة الفعلية مقولة بالتشكيك فهي على قسمين :

الأول : أن يكون التكليف والحكم فعليا من جميع الجهات بمعنى : أن يكون الغرض الداعي إليه مهما بمثابة لا يرضي المولى ـ وهو الشارع ـ بفواته أصلا ؛ بل تتعلق إرادته باستيفائه على كل تقدير ، يعني سواء علم به المكلف لوصول الخطاب إليه ولو تصادفا ، أم لم يعلم به وفي مثله يكون على الحاكم إيصال التكليف إلى العبد ورفع موانع تنجزه إما برفع جهل العبد بجعله عالما بالحكم تكوينا ، وإما بنصب طريق مصيب إليه وإما بتشريع إيجاب الاحتياط عليه ؛ لمنجزية نفس الاحتمال ، وحيث تنجز التكليف بأي سبب من أسبابه استحق العقوبة على المخالفة لقيام الحجة القاطعة للعذر عليه.

الثاني : أن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بنحو يريد من العبد استيفاءه على كل حال ؛ بل يريده على تقدير وصول الخطاب به إليه تفصيلا ولو من باب الاتفاق ، وحينئذ فالحكم الذي يدعو إليه هذا النحو من الغرض يكون واجدا لمرتبة ما من التحريك ، وفعليته منوطة بالعلم به تفصيلا ؛ بحيث يكون العلم التفصيلي به موجبا لتمامية فعليته أولا ولتنجزه ثانيا ، ومن المعلوم : أن إيصال الحكم الناشئ عن هذا النحو من الغرض الملزم والخطاب المتكفل له إلى العبد ليس من وظيفة المولى ؛ لما تقدم من أن إرادته لاستيفاء الغرض ليست على كل تقدير ، بل إنما هي على تقدير وصول الخطاب إلى المكلف ولو من باب الاتفاق ، فكما لا يجب حينئذ على الحاكم رفع موانع تنجزه ،

٣١٩

.................................................................................................

______________________________________________________

فكذلك يجوز له إيجاد المانع من وصوله إلى المكلف بنصب طريق غير مصيب أو أصل مرخص ؛ لعدم الفرق بين إبقاء المانع وإيجاده ، إذ المفروض : عدم تعلق إرادة المولى باستيفاء هذا الغرض على كل تقدير.

فالمتحصل : أن التكليف في كل من القسمين واصل إلى مرتبة البعث والزجر ، وواجد لما هو قوام الحكم ؛ لكن مراتب التحريك والردع مختلفة كما عرفت ، فيكون فعليا حتميا تارة كما في القسم الأول ، وتعليقيا أخرى كما في القسم الثاني.

إذا عرفت هذه المقدمة وأن التكاليف الفعلية على قسمين ، فاعلم : أن قوله : «إن كان فعليا من جميع الجهات ...» الخ. إشارة إلى القسم الأول منهما.

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ١٠» ـ أن العلم بما هو طريق للواقع لا يفرق فيه بين الإجمالي والتفصيلي في وجوب اتباعه والجري على وفقه ؛ لكن التكليف المعلوم بالإجمال إن كان من سنخ القسم الأول فهو يتنجز بالعلم الإجمالي ؛ لوصول البعث أو الزجر إلى العبد الرافع لعذره الجهلي ، فيستحق العقوبة على المخالفة والإجمال في المتعلق غير مانع عن التنجيز بعد فرض ارتفاع عذره الجهلي ، غاية الأمر : حكم العقل بلزوم الاحتياط بالإتيان بجميع المحتملات كما سيأتي. وحينئذ : فالأدلة النافية للتكليف ـ بعد فرض شمولها لأطراف العلم الإجمالي ـ لا بد من تخصيصها ؛ لقيام القرينة القطعية عليه ، وهي استلزام شمولها للأطراف للترخيص في المعصية ، ضرورة : أن المعلوم بالإجمال واجد للمرتبة الأكيدة من البعث والزجر ، ولا يرضى الحاكم بالمخالفة أصلا ، ولازم الإذن في الاقتحام عدم لزوم موافقته على بعض التقادير ، وهو كون الطرف المأذون فيه متعلقا للحكم وهذا هو التناقض المستحيل.

وإن كان التكليف من سنخ القسم الثاني فهو لا يتنجز بالعلم الإجمالي ـ لا القصور في العلم ـ بل لخلل في المعلوم ، وهو عدم تحقق شرط تمامية فعليته أعني : العلم التفصيلي به ، ولما كان التكليف في كل واحد من الأطراف مشكوكا فيه أمكن جعل الحكم الظاهري فيه لتحقق موضوعه ـ أعني : الشك في الحكم الواقعي ـ مع العلم الإجمالي بمرتبة من الفعلية. وعليه : فالمدار في التنجيز وعدمه على فعلية المعلوم لا على العلم من حيث التفصيلية والإجمالية.

ثم إن إحراز كون الحكم المعلوم بالإجمال من القسم الأول أو الثاني منوط باستظهار الفقيه من أدلة الأحكام ، فإن كان المورد من قبيل الدماء والأعراض كان الحكم فعليا من

٣٢٠