دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

تعيينا أو تخييرا (١) ، وهو (٢) ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا (٣).

وكذلك لا فرق (٤) بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا ؛ وذلك (٥) لأن التكليف المعلوم بينها من أول ...

______________________________________________________

بأربع صلوات عند اشتباه القبلة ، واضطر لضيق الوقت أو غيره إلى ترك إحداها معينة أو غير معينة. وضمير «تركه» ، راجع على «أحد».

(١) قيدان لجواز الارتكاب أو الترك تعيينا في الاضطرار إلى المعين ؛ وتخييرا في الاضطرار إلى غير المعين.

(٢) أي : جواز الارتكاب أو الترك. وهذا شاهد صدق على عدم الفرق ـ في ارتكاب بعض الأطراف بالاضطرار ـ بين كونه إلى طرف معين أو غير معين أي : الجامع ، وذلك لمنافاة إذن الشارع وترخيصه لفعلية التكليف وتنجزه بالعلم الإجمالي كما مر توضيحه.

والحاصل : أن الباقي مشكوك الحرمة بعد احتمال كون النجس هو الذي ارتكبه ، فلا يكون الحكم فعليا.

(٣) قيد ل «بحرمة المعلوم أو بوجوبه» ، وضمير «بينها» راجع على الأطراف.

(٤) يعني : لا فرق في عدم تنجيز العلم الإجمالي وعدم وجوب الاحتياط.

هذا إشارة إلى التفصيلي الثاني للشيخ «قدس‌سره» وإشكال عليه ، وحاصله : أنه لا فرق في عدم وجوب الاحتياط «بين أن يكون الاضطرار كذلك» أي : إلى أحد الأطراف «سابقا على حدوث العلم» ؛ بأن اضطر إلى أحدهما ثم علم بأن أحدهما نجس ، «أو لاحقا» بأن علم بنجاسة أحدهما ثم اضطر ، أم مقارنا له ، فإن الاضطرار اللاحق إن أوجب ارتفاع فعلية المعلوم فدافعيته لها في صورة المقارنة تكون بالأولوية ولعله «قدس‌سره» ترك ذكره لوضوحه فتدبر.

(٥) بيان لوجه الإشكال على التفصيل الثاني ، وحاصله : أن التكليف المعلوم بالإجمال ليس مطلقا ، بل هو مقيد بعدم الاضطرار ، فمع عروضه يشك في التكليف حدوثا إن كان الاضطرار سابقا على العلم أو مقارنا له ، أو بقاء إن كان الاضطرار لاحقا ، فالمورد من مجاري أصل البراءة.

وبعبارة أخرى : أن الشك إن كان في مرحلة الفراغ وسقوط ما في الذمة كان المرجع فيه قاعدة الاشتغال ، وإن كان في مرحلة ثبوت التكليف واشتغال الذمة به كان المرجع أصالة البراءة. وحيث إن الحكم الواقعي مقيد بعدم طروء الاضطرار ، فمع طروئه لا علم

٣٤١

الأمر (١) كان محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقه ، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان (٢) التكليف به معلوما ؛ لاحتمال (٣) أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى المعين ، أو يكون (٤) هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.

لا يقال (٥) : الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلا كفقد ...

______________________________________________________

بالتكليف حتى يكون الشك في مرحلة الاشتغال والفراغ لتجري فيه قاعدة الاشتغال ؛ بل الشك يكون في مقام الثبوت الذي هو مجرى البراءة.

(١) أي : من زمان تشريعه ، فإن التكليف المعلوم إجمالا شرع مقيدا بعدم الاضطرار ، وضمير «بينها» راجع على الأطراف.

(٢) جواب «فلو عرض» أي : فلو عرض الاضطرار إلى بعض أطراف العلم لما كان التكليف بالمتعلق معلوما بهذا العلم الإجمالي ، وضميرا «أطرافه ، به» راجعان على متعلق التكليف.

(٣) تعليل لقوله : «لما كان» يعني : لاحتمال أن يكون المتعلق هو ما عرضه الاضطرار ، فلم يثبت تعلق التكليف به حدوثا أو بقاء حتى تجري فيه قاعدة الاشتغال ، وضمير «هو» راجع على «متعلقه».

(٤) عطف على قوله : «يكون» يعني : أو لاحتمال أن يكون المتعلق هو ما اختاره المكلف من الأطراف في رفع اضطراره ، فيما إذا كان الاضطرار إلى غير معين.

(٥) هذا إشكال على ما أفاده بقوله : «وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على حدوث العلم أو لاحقا» ، وتأييد لتفصيل الشيخ «قدس‌سره» في الاضطرار إلى المعين بين الاضطرار السابق واللاحق.

وتوضيح الإشكال ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٦١» ـ : أن الاضطرار يقاس بفقدان بعض الأطراف ، فكما لا إشكال ـ في صورة فقدان بعض الأطراف ـ في وجوب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه ، فكذلك لا ينبغي الإشكال في صورة الاضطرار إلى بعض الأطراف في وجوب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه ، فيجب الاحتياط في سائر المحتملات خروجا عن عهدة التكليف المعلوم قبل عروض الاضطرار ، فيندرج المقام في كبرى قاعدة الاشتغال لا البراءة ؛ كما إذا علم إجمالا بحرمة شرب أحد الإناءين أو بوجوب تجهيز أحد الميتين عليه ، فأريق ما في أحد الإناءين ، أو افترس السبع أحد الجسدين أو أخذه السيل ، فإنه لا ريب في وجوب الاجتناب عن ثاني الإناءين ، ووجوب تجهيز الميت الآخر. ولو كان الفقدان قبل العلم الإجمالي ـ بأن أريق ما في أحد الإناءين

٣٤٢

بعضها (١) فكما لا إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان ، كذلك لا ينبغي الإشكال في لزوم رعايته مع الاضطرار ، فيجب الاجتناب عن الباقي (٢) أو ارتكابه (٣) خروجا (٤) عن عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.

فإنه يقال (٥) : حيث إن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده ...

______________________________________________________

أو فقد أحد الميتين ، ثم علم إجمالا بحرمة شرب هذا الماء الموجود أو ذاك الإناء المفقود ، أو وجوب تجهيز هذا الميت الموجود أو ذاك المفقود ـ لم يلزم الاحتياط بالنسبة إلى باقي الأطراف. وعليه : فحال الاضطرار حال الفقدان في منعه عن تنجيز العلم الإجمالي إذا كان سابقا ، وعدم منعه عنه إذا عرض بعد العلم ، فالحق ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» من التفصيل بين الاضطرار اللاحق وغيره.

(١) أي : الفقدان الطاري على العلم الإجمالي لا السابق عليه ولا المقارن له ، وضمير «بعضها» راجع على الأطراف.

(٢) في الشبهة التحريمية ، وضمير «رعايته» راجع على الاحتياط.

(٣) في الشبهة الوجوبية ، كما إذا علم إجمالا بأن أحد الغريقين مما يجب إنقاذه والآخر كافر حربي ، فهلك أحدهما قبل الإنقاذ ، فإن إنقاذ الآخر واجب لاحتمال انطباق المعلوم بالإجمال عليه ، والمفروض تنجز هذا الاحتمال بالعلم الإجمالي الحاصل قبل عروض الاضطرار.

(٤) تعليل لقوله : «فيجب الاجتناب ...» الخ. وضمير «عروضه» راجع على الاضطرار ، وضمير «عليه» راجع على «ما» الموصول المراد به وجوب الاجتناب.

(٥) هذا دفع الإشكال. وحاصل الدفع : يتوقف على مقدمة وهي الفرق بين الاضطرار والفقدان وحاصل الفرق : أن الأول : من قيود التكليف شرعا بحيث يكون كل حكم إلزامي مقيدا حقيقة بعدم الاضطرار ، فمع طروئه يرتفع الحكم واقعا ، إذ الاضطرار يزاحم الملاك الداعي إلى الحكم ، فإن ملاك حرمة أكل مال الغير يؤثر في تشريع الحرمة إن لم يزاحم بمصلحة أهم كحفظ النفس ، ولذا يجوز أكله في المخمصة بدون رضا مالكه فاشتراط التكليف بعدم الاضطرار إلى متعلقه إنما هو من اشتراط الملاك بعدم المزاحم له ، وهذا بخلاف الفقدان ، فإن الحكم لم يقيد في الأدلة الشرعية بعدمه ؛ بل عدم الموضوع يوجب انتفاء الحكم عقلا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الحكم لما كان مقيدا بعدم الاضطرار شرعا لا يجب الاحتياط مع طروئه. هذا بخلاف الفقدان حيث إن الحكم لا يكون مقيدا بعدمه ،

٣٤٣

كان (١) التكليف المتعلق به مطلقا (٢) ، فإذا اشتغلت الذمة به كان قضية الاشتغال به يقينا الفراغ عنه كذلك (٣) ، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه (٤) فإنه (٥) من حدود التكليف به وقيوده (٦) ، ولا يكون (٧) الاشتغال به من الأول إلا مقيدا بعدم عروضه ، فلا يقين باشتغال الذمة به (٨) إلا إلى هذا الحد ، فلا يجب رعايته فيما بعده (٩) ، ولا يكون (١٠) إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية ، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا.

______________________________________________________

فيجب الاحتياط فيما بقي من الأطراف ؛ لكون الشك في بقاء الحكم المطلق بعد العلم باشتغال الذمة به فيجب الإتيان بالباقي أو الاجتناب عنه تحصيلا للعلم بفراغ الذمة.

وعليه : فقياس الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي بفقدان بعض الأطراف بعد العلم قياس مع الفارق فيكون باطلا.

والمراد بالمكلف به هو : متعلق المتعلق ، وهو الموضوع كالإناء في المثال أو الغريق في وجوب الإنقاذ.

(١) جواب «حيث» ، وضمير «به» راجع على المكلف به ، وضمير «قيود» راجع على التكليف.

(٢) أي : غير مقيد شرعا بالفقدان ، «والمتعلق» بكسر اللام ، وضمير «به» راجع على المكلف به.

(٣) أي : يقينا ، وضمائر «عنه ، به» في الموضعين راجعة على المكلف به.

(٤) الأولى إضافة «أو ارتكابه» إليه ؛ إذ الاضطرار إلى الترك إنما هو في الشبهة الوجوبية دون التحريمية ، فلا بد من عطف «أو ارتكابه» على «تركه» حتى يعم كلا من الشبهة الوجوبية والتحريمية ، حيث إن الاضطرار في الشبهة التحريمية يكون إلى ارتكاب بعض أطرافها لا إلى تركه.

(٥) أي : فإن الاضطرار إلى ترك المكلف به من شرائط التكليف بترك المتعلق كشرب الحرام أو النجس ، ومن المعلوم : عدم بقاء المحدود بعد الحد.

(٦) أي : من قيود التكليف شرعا ، وإلا فقيدية بقاء الموضوع للحكم عقلا مما لا إشكال فيه ، وضمير «به» راجع على «تركه».

(٧) هذه الجملة مفسرة لقوله : «من حدود التكليف».

(٨) أي : بالمكلف به ، وضمير «عروضه» راجع على الاضطرار.

(٩) أي : رعاية التكليف فيما بعد الاضطرار ، والمراد بهذا الحد : الاضطرار.

(١٠) الضمير المستتر فيه راجع على ما يستفاد من قوله : «رعايته» يعني : ولا يكون

٣٤٤

.................................................................................................

______________________________________________________

رعاية التكليف ـ بعد طروء الاضطرار ـ بالاحتياط في باقي الأطراف إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية في عدم اللزوم ؛ لأن العلم وإن حصل أولا لكنه بعد طروء الاضطرار تبدل بالشك ، فلا يقين بالتكليف الفعلي حتى يجب الاحتياط في أطرافه. وتركنا طول الكلام في المقام رعاية للاختصار.

قوله : «فافهم وتأمل» إشارة إلى دقة المطلب بقرينة قوله : «فإنه دقيق جدا» وبالتأمل حقيق.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ بيان ما هو محل البحث في هذا التنبيه الأول وهو : كون الاضطرار إلى بعض الاضطرار معينا أو غير معين ، فيقع الكلام في أنه هل هو مانع عن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال أم لا؟

ثم محل البحث ما إذا كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالإجمال ؛ كما إذا علم بنجاسة أحد المائعين المضافين ، ثم اضطر إلى شرب أحدهما ، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاضطرار. هذا بخلاف ما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار ؛ كما لو علم بنجاسة أحد الماءين المطلقين ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين ، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم هو حرمة الشرب وعدم جواز الوضوء به ، والاضطرار إنما يرفع الأول دون الثاني ، فلا وجه لتوهم انحلال العلم الإجمالي بالاضطرار وهو واضح.

٢ ـ اعتراض المصنف على الشيخ «قدس‌سرهما» :

وهو يتوقف على بيان ما هو مختار الشيخ في المقام فيقال : إنه يظهر منه تفصيلان : التفصيل الأول هو التفصيل بين الاضطرار إلى معين وإلى غير معين ، حيث قال بعدم وجوب الاحتياط بالنسبة إلى الباقي في الفرض الثاني مطلقا ، يعني : سواء كان الاضطرار بعد العلم الإجمالي أو قبله أو معه.

ثم على الفرض الأول وهو الاضطرار إلى المعين قال : بوجوب الاحتياط لو كان الاضطرار بعد العلم الإجمالي ، وعدم وجوبه فيما لو كان الاضطرار إلى المعين قبل العلم الإجمالي أو معه.

٣٤٥

الثاني (١) : أنه لما كان النهي عن الشيء إنما هو لأجل أن يصير داعيا للمكلف نحو

______________________________________________________

إذا عرفت ما ذهب إليه الشيخ من التفصيليين فاعلم : أن المصنف قد أورد على كلا التفصيليين بتقريب : أن الاضطرار من حدود التكليف فلا تكليف معه أصلا ، سواء كان سابقا أو لاحقا أو مقارنا له ؛ إذ التكليف مشروط بالاختيار حدوثا وبقاء فينتفي مع الاضطرار مطلقا.

٣ ـ إشكال قياس الاضطرار بفقدان بعض الأطراف ، فكما يجب الاحتياط بالنسبة إلى الباقي في صورة فقد بعض الأطراف ، كذلك يجب الاحتياط في صورة الاضطرار إلى بعض الاضطرار مدفوع بالفرق بين الاضطرار والفقدان ؛ لأن الأول من قيود التكليف وحدوده دون الثاني.

وعليه : فقياس الاضطرار اللاحق للعلم الإجمالي بفقدان بعض الأطراف بعد العلم الإجمالي قياس مع الفارق ، فيكون باطلا.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو أن الاضطرار مطلقا مانع عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي.

في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه : بيان شرط من شرائط فعلية الحكم ، وهو كون المكلف به موردا لابتلاء المكلف ، بمعنى : كونه مقدورا عاديا له.

وقد تعرض في هذا التنبيه لجهتين : إحداهما في اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف.

وثانيتهما : في حكم الشك في الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره.

وقد تعرض الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» لاعتبار هذا الأمر في خصوص التكاليف التحريمية ، وهو أول من اعتبر هذا الشرط مضافا إلى الشرائط العامة الأربعة في كل تكليف كما في بعض الشروح.

وكيف كان ؛ فيقع الكلام فعلا في الجهة الأولى وهو اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف.

وتوضيح الكلام : فيها يتوقف على مقدمة وهي : أنه لا شك في اعتبار القدرة على جميع أطراف العلم الإجمالي في منجزيته واستحقاق العقوبة على مخالفته ، فيعتبر في صحة النهي عن الشيء أو الأمر به كون المتعلق مقدورا ، فلو كان بعض الأطراف غير مقدور للمكلف كان التكليف فيه ساقطا لا محالة ؛ لقبح التكليف بغير المقدور ، وهو في

٣٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

سائر الأطراف مشكوك فيجري فيها الأصل النافي بلا معارض. وهذا واضح.

وإنما المقصود هنا بيان أن المعتبر في توجه الخطاب إلى المكلف هو إمكان الابتلاء عادة ؛ إذ مع عدم إمكان الابتلاء عادة بجميع الأطراف على البدل لا يصح توجه النهي إليه.

إذا عرفت هذه المقدمة فيقال في توضيح الجهة الأولى : إن غرض الشارع من النهي عن فعل إنما هو إحداث المانع في نفس المكلف عن ارتكاب متعلق النهي الواصل إليه ، بحيث يستند ترك المنهي عنه إلى النهي ، وهذا يتحقق في موردين :

أحدهما : أن لا يكون للمكلف داع إلى الترك أصلا ، وإنما حدث الداعي له إلى الترك بزجر الشارع ونهيه.

ثانيهما : أن يكون له داع إلى الترك ، ولكن تتأكد إرادة تركه للمنهي عنه بواسطة النهي ؛ إذ لو لا الزجر الشرعي ربما كانت وسوسة النفس تحمل المكلف على المخالفة ، وتوجد فيه حب الارتكاب له. إلّا إنه بعد العلم بخطاب الشارع وبما يترتب على مخالفته من استحقاق العقوبة يقوى داعيه إلى الترك ، فيجتنب عن الحرام أو يقصد القربة بالترك ، ولو لا نهي الشارع لما تمكن من قصد القربة لتوقفه على وصول الخطاب المولوي إليه.

ومن المعلوم : أن داعوية النهي للترك تتوقف على إمكان تعلق إرادة العبد بكل من الفعل والترك ؛ بحيث يمكنه عادة اختيار أيهما شاء ، ومع خروج متعلق النهي ـ كالخمر ـ عن معرضية الابتلاء به لا يتمكن عادة من الارتكاب ، ومع عدم التمكن منه كذلك لا تنقدح الإرادة في نفس المكلف ، ومع عدم انقداحها يكون نهي الشارع عن مبغوضه لغوا ؛ لوضوح أن ترك الحرام يستند حينئذ إلى عدم المقتضى ـ وهو الإرادة ـ لعدم وجود المتعلق حتى يتمكن من إرادة ارتكابه لا إلى وجود المانع وهو زجر الشارع ونهيه ، وقد تقرر أن عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع ؛ بل إلى عدم مقتضيه ؛ لتقدمه الطبيعي على المانع.

وعليه : فالنهي عن فعل متروك بنفسه ـ مثل شرب الخمر الموجود في إناء الملك مع عدم قدرته عليه عادة ـ لغو ؛ لعدم ترتب فائدته وهي إحداث الداعي النفساني إلى الترك عليه ، واللغو لا يصدر من الحكيم لمنافاته للحكمة ؛ بل يكون من طلب الحاصل المحال في نفسه.

٣٤٧

تركه لو لم يكن له داع آخر (١) ، ولا يكاد يكون (٢) ذلك إلا فيما يمكن عادة ابتلاؤه به بحسبها فليس للنهي عنه موقع أصلا ، ضرورة : أنه (٣) بلا فائدة ولا طائل ؛ بل يكون

______________________________________________________

وبهذا يظهر وجه اشتراط تنجيز العلم الإجمالي بكون تمام الأطراف مورد الابتلاء ، ضرورة : أنه يتوقف عليه حصول العلم بالتكليف الفعلي على كل تقدير بحيث يكون انطباق المعلوم بالإجمال على كل واحد من الأطراف موجبا لصحة توجيه الخطاب إلى المكلف ، ومع خروج بعضها عن الابتلاء لا يحصل العلم كذلك ، لاحتمال انطباق الحرام على الخارج عن الابتلاء المانع عن جريان الأصل فيه ؛ لعدم ترتب أثر عملي عليه ، فيجري فيما بقي من الأطراف بلا معارض.

قوله : «أن يصير داعيا للمكلف» إشارة إلى أول الموردين المتقدمين يعني : أن النهي يوجب أرجحية ترك متعلقه من فعله ، لما يترتب على فعله من المؤاخذة ، فيحدث بالنهي الداعي العقلي إلى تركه إن لم يكن له داع آخر.

(١) يعني : غير النهي ، كعدم الرغبة النفسانية والميل الطبعي إلى المنهي عنه. وهذا إشارة إلى ثاني الموردين المتقدمين ، يعني : وأن كان له داع آخر إلى الترك كان النهي مؤكدا له ومصححا لنية التقرب بالترك إن أراد قربيته.

(٢) أي : ولا يكاد يكون النهي داعيا «إلّا ...» وهذا شروع في الجهة الأولى من الجهتين اللتين عقد لهما هذا التنبيه وهي بيان أصل اعتبار الابتلاء بتمام الأطراف في منجزية العلم الإجمالي ، وحاصله : أن الشيء إذا كان بنفسه متروكا بحيث لا يبتلي به المكلف عادة حتى يحصل له داع إلى فعله فلا وجه للنهي عنه ، لعدم صلاحيته لإيجاد الداعي إلى الترك ، فيكون النهي لغوا ، واللغو مناف للحكمة فلا يصدر من الحكيم ؛ بل النهي محال في نفسه ، لكونه طلبا للحاصل المحال ، ضرورة : أن الغرض من النهي ـ وهو عدم الوقوع في المفسدة ـ حاصل بنفس خروج المتعلق عن الابتلاء ، فلا يعقل طلبه حينئذ. وضميرا «به ، عنه» راجعان على «ما» الموصول في «ما لا ابتلاء» المراد به المورد الخارج عن الابتلاء ، وضمير «بحسبها» راجع على العادة.

(٣) أي : أن النهي عما لا ابتلاء به بحسب العادة بلا فائدة ؛ لعدم ترتب الغرض من النهي وهو كونه داعيا إلى الترك عليه ، وهذا إشارة إلى لغوية الخطاب بالخارج عن الابتلاء ، وهي تستفاد من كلام الشيخ «قدس‌سره» ، «والسر في ذلك أن غير المبتلى تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه ، فلا حاجة إلى نهيه».

٣٤٨

من قبيل طلب الحاصل (١) كان (٢) الابتلاء بجميع الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم ، فإنه بدونه (٣) لا علم بتكليف فعلي ؛ لاحتمال تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.

ومنه (٤) قد انقدح : أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح (٥) طلب تركه في نفس المولى فعلا هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد ، مع اطلاعه على ما هو عليه من (٦) الحال.

______________________________________________________

(١) لحصول الغرض من النهي وهو ترك المفسدة بالترك الحاصل قهرا بنفس عدم الابتلاء ، ومعه يستحيل طلب الترك بالخطاب.

(٢) جواب «لما» في قوله : «لما كان النهي عن الشيء ...» الخ.

(٣) أي : بدون الابتلاء بجميع الأطراف ، وضمير «فإنه» للشأن ، وضمير «منه» راجع على «ما» الموصول. وحاصله : أنه بدون الابتلاء بتمام الأطراف ـ بحيث يكون قادرا عادة بالمعنى المتقدم على ارتكاب أي واحد منها شاء ـ لا علم بتكليف فعلي ؛ لاحتمال كون موضوعه ما هو خارج عن الابتلاء ، ولذا لا يجب الاحتياط حينئذ في سائر الأطراف ؛ لعدم دوران متعلق التكاليف الفعلي بينها بالخصوص مع احتمال كونه هو الطرف الخارج عن الابتلاء ، فلا يكون التكليف الفعلي في الأطراف المبتلى بها محرزا حتى يجب فيها الاحتياط.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٤) يعني : ومن كون النهي عن الشيء لأجل إحداث الداعي إلى الترك ظهر ما هو الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر ، ومحصله : أن انقداح طلب الترك الفعلي في نفس المولى تابع لإمكان حصول الداعي إلى الفعل في نفس العبد ، فإن أمكن للعبد إرادة شيء جاز للمولى طلبه منه ؛ إذ لا يريد إلا ما يمكن للعبد إرادته ، لقبح التكليف بغير المقدور ، وحينئذ : فإن علم العبد بتكليف مردد بين أمور ، فإن أمكنه إرادة فعل كل واحد منها أمكن أيضا للمولى إرادته وطلب ذلك منه ، وإلا فلا. وهذا مرادهم بقولهم : إن الإرادة الأمرية تابعة للإرادة المأمورية ، أو الإرادة التشريعية تابعة للإرادة التكوينية ، كما أن إرادة العبد في مقام الامتثال وانبعاثه تابعة لإرادة المولى وبعثه لأنها علّة لإرادة العبد كما ثبت في محله.

(٥) عطف تفسيري ل «فعلية» ، والأولى إضافة «عنه» إلى كلمة «الزجر» وضمير «هو» خبر «أن الملاك».

(٦) بيان للموصول في «ما هو» ، وضمير «هو» راجع على الفعل المنهي عنه ، وضمير

٣٤٩

ولو شك في ذلك (١) كان المرجع هو البراءة ؛ ...

______________________________________________________

«عليه» راجع على الموصول ، وضمير «اطلاعه» إلى المولى ، يعني : أن المولى إذا اطلع على حال العبد من حيث كونه داخلا في الابتلاء أو خارجا عنه ، فإن رأى صحة انقداح الداعي في نفس العبد إلى فعله صح له الزجر عنه وإلا فلا. هذا تمام الكلام في اعتبار الابتلاء والعلم به.

(١) يعني : في الابتلاء ، وهذا شروع في الجهة الثانية من جهتي هذا التنبيه وهي بيان حكم الشك في الابتلاء ، كما إذا علم إجمالا بأن دارا مغصوبة مرددة بين هذه الدار التي يريد المكلف شراءها ودارا أخرى في بلد آخر يشك المكلف في دخولها في محل الابتلاء وخروجها عنه ، فهل يكون هذا العلم الإجمالي منجزا وإن مشكوك الابتلاء به محكوم بحكم ما هو معلوم الابتلاء به أم لا يكون منجزا ، وأن مشكوك الابتلاء محكوم بحكم ما هو خارج عنه قطعا؟ فيه خلاف بين الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما» ، فذهب الشيخ إلى أنه بحكم ما هو مقطوع الابتلاء به ، وتمسك لذلك بالأصل اللفظي أعني : أصالة الإطلاق المقتضية لتنجز الخطاب بالمعلوم الإجمالي ، وذهب المصنف إلى أنه بحكم ما هو مقطوع الخروج عن محل الابتلاء ، وأورد على الشيخ بما سيأتي ، ثم جعل المرجع في الشك في الابتلاء أصالة البراءة.

وحاصل الكلام في الجهة الثانية : وهي بيان حكم الشك في الابتلاء ، فإذا شك في كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء من جهة الشك في مفهومه وعدم تعين حدوده بناء على اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف ، فهل يرجع إلى إطلاقات أدلة التكليف ويحكم بالتنجيز في الطرف المشكوك كالمبتلى به ، أو إلى أصالة البراءة؟

ذهب الشيخ «قدس‌سره» إلى الأول بدعوى : أن الإطلاقات هي المرجع ما لم يثبت التقييد ، فلا مجال لجريان الأصل ، فإن مقتضى الإطلاق هو العلم بالتكليف الفعلي ، فلا يجري الأصل في أطرافه.

وذهب المصنف «قدس‌سره» إلى الثاني بدعوى : أن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات إنما يصح فيما إذا أمكن الإطلاق في مقام الثبوت ليستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات الإطلاق في مقام الثبوت ، ومع الشك في إمكان الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا ، والمقام من هذا القبيل ، فإنه بعد الالتزام باعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف عقلا ، كان الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء من حيث

٣٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

المفهوم شكا في إمكان الإطلاق بالنسبة إليه ، ومع الشك في الإمكان ثبوتا لا ينفع الرجوع إلى الإطلاق في مقام الإثبات.

وكذا الحال عند الشك في أصل اعتبار الدخول في محل الابتلاء في صحة التكليف ، فإنه أيضا شك في الإمكان ثبوتا ، فلا يمكن الرجوع إلى الإطلاق إثباتا.

وكيف كان ؛ فلا بد من توضيح كل ما ذهب إليه الشيخ والمصنف «قدس‌سرهما».

فأما توضيح ما ذهب إليه الشيخ «قدس‌سره» فحاصله : أنه لا شك في فعلية التكليف وتنجزه مع العلم بمعرضية الأطراف للابتلاء بها ، كما لا شك في عدم فعليته مع العلم بخروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

وأما إذا شك في خروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء من جهة الشك في مفهومه سعة وضيقا ، وعدم تعين حدوده لعدم الإحاطة بحقيقته العرفية ، كان مقتضى إطلاق الهيئة مثل : «لا تشرب الخمر» فعلية التكليف في الطرف المبتلى به ؛ إذ لو كان الطرف المشكوك فيه خارجا عن مورد الابتلاء كان الخطاب بالنسبة إليه مقيدا ، فإنه بمنزلة قوله : «لا تشرب الخمر إن ابتليت به» ، ولو كان داخلا فيه لم يكن الحكم مقيدا به ، ومن المعلوم : أن المرجع في الشك في أصل التقييد وفي التقييد الزائد هو إطلاق الخطاب ؛ إذ الخارج عنه قطعا بملاحظة الاستهجان العرفي هو ما لا ابتلاء به أصلا.

وأما المشكوك خروجه عن الابتلاء فهو مما يشمله الإطلاق ، ولا بد من الاحتياط ، ومعه لا تصل النوبة إلى التمسك بالأصل العملي المحكوم من الاحتياط والبراءة. هذا محصل ما اختاره الشيخ «قدس‌سره».

وأما المصنف : فقد التزم بالرجوع إلى البراءة في مورد الشك ؛ لأنه من الشك في التكليف الفعلي الذي هو مجرى الأصل النافي لإناطة فعلية الحكم بالابتلاء بالمتعلق ، ومع الشك في الابتلاء به يشك في نفس الحكم.

وأصالة الإطلاق وإن كانت حاكمة أو واردة على الأصول العملية إلا إنه لا سبيل للتمسك بها هنا.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن القيد تارة : يكون مصححا للخطاب بحيث لا يصح الخطاب بدونه كالقدرة العقلية ؛ لقبح التكليف بغير المقدور. وأخرى : لا يكون كذلك ؛ بل يصح الخطاب بدونه كما يصح تقييده به أيضا كالاستطاعة الشرعية بالنسبة إلى وجوب الحج ؛ إذ يمكن توجيه الخطاب إلى المكلف القادر عقلا

٣٥١

لعدم (١) القطع بالاشتغال ، لا إطلاق (٢) الخطاب ، ضرورة (٣) : إنه لا مجال للتشبث

______________________________________________________

على الحج وإن لم يكن مستطيعا شرعا ، كما يصح توجيه الخطاب إليه مقيدا بالاستطاعة أيضا ، فإذا شك في دخل الاستطاعة الشرعية فمقتضى إطلاق وجوب الحج عدم دخلها فيه ، نظير إطلاق الرقبة في قوله : «أعتق رقبة» في التمسك به عند الشك في تقيدها بالإيمان.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن التمسك بإطلاق الخطاب إنما يصح إذا كان ما شك في قيديته من قبيل القسم الثاني لصحة الإطلاق ـ بمعنى رفض القيد المشكوك اعتباره ـ حينئذ قطعا ، وبالتمسك به ينتفي الشك في إطلاق الحكم ثبوتا ؛ لكشف إطلاقه إنا في مقام الإثبات عن إطلاقه ثبوتا ، فيثبت إطلاق الحكم واقعا بالنسبة إلى القيد الذي يكون من قبيل القسم الثاني كالاستطاعة.

وأما إذا كان القيد من قبيل القسم الأول وهو ما لا يصح الخطاب بدونه كالقدرة العقلية أو العادية التي منها الابتلاء ، فلا معنى للتمسك بالإطلاق في مرحلة الإثبات ؛ لعدم إمكان الإطلاق في مقام الثبوت بعد دخل القدرة في التكليف حتى يستكشف بالإطلاق في مقام الإثبات ، فكل خطاب محفوف بمقيد عقلي ـ وهو كون متعلقه مقدورا عقلا ومبتلى به عادة ـ لا يمكن تشريع الخطاب بنحو الإطلاق من دون هذا القيد العقلي ثبوتا حتى تصل النوبة إلى الإطلاق إثباتا ، ومع تقييد إطلاق الحكم بالقدرة العادية لا يبقى إطلاق في مثل قوله : «لا تشرب الخمر» حتى يتمسك به في الشك في الابتلاء. فيرجع الشك حينئذ إلى الشك في أصل الحكم ، والمرجع فيه أصالة البراءة.

والمتحصل : التمسك بالإطلاق منوط بإحراز صحة إطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، فلا يصح التمسك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه كالابتلاء فيما نحن فيه.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) هذا تعليل لجريان البراءة ومحصله : عدم منجزية العلم الإجمالي المثبت للتكليف ؛ ما لم يكن المعلوم حكما فعليا على كل تقدير ، وذلك منوط بالابتلاء بتمام الأطرف ، والمفروض : عدم إحراز الابتلاء بجميعها ، فيصير الحكم مشكوكا فيه فتجري فيه البراءة.

(٢) كما يقول الشيخ على ما عرفت ذلك.

(٣) تعليل لعدم صحة التمسك بإطلاق الخطاب ، وقد عرفت توضيح ذلك.

٣٥٢

به (١) إلا فيما إذا شك في التقييد بشيء بعد (٢) الفراغ عن صحة الإطلاق بدونه ، لا (٣) فيما شك في اعتباره في صحته (٤) ، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.

______________________________________________________

(١) أي : بالإطلاق ، وضمير «إنه» للشأن ، و «بشيء» متعلق ب «التقييد» ، وضمير «بدونه» راجع على «التقييد بشيء» ، أو إلى الشيء وذلك كالابتلاء الذي يتقيد كل خطاب به.

(٢) متعلق ب «شك» ، وإشارة إلى القسم الثاني من قسمي دخل القيد في الخطاب كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، فإنه يصح التمسك بإطلاق الرقبة إذا شك في تقيدها به.

(٣) عطف على «فيما إذا شك» وإشارة إلى القسم الأول من قسمي القيد وهو ما اعتبر في صحة نفس الخطاب ، يعني : أنه لا يصح التمسك بالإطلاق فيما شك في تحقق ما اعتبر في صحة الإطلاق بدونه كالابتلاء ، فإنه لا يصح الخطاب بدونه.

(٤) أي : صحة الإطلاق ، فلا يمكن التثبت بالإطلاق ، إذا كان الشك في قيد لا يصح الإطلاق بدونه كما فيما نحن فيه ، فإن الابتلاء قيد لا يصح الإطلاق بدونه ، فإنه إذا كان إناء الجار خارجا عن محل الابتلاء لا يصح أن يطلق المولى.

قوله : «اجتنب عن إناء زيد» ، وإنما يصح أن يقول : «اجتنب عنه إن ابتليت به». وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا التنبيه : هو بيان شرط من شرائط فعلية الحكم وهو كون المكلف به موردا لابتلاء المكلف.

وقد تعرض المصنف في هذا التنبيه لجهتين :

إحداهما : في اعتبار الابتلاء بالمتعلق في صحة توجيه الخطاب إلى المكلف.

ثانيتهما : في حكم الشك في الابتلاء بعد الفراغ عن اعتباره.

والشيخ أول من اعتبر هذا الشرط ، غاية الأمر : أنه تعرض لاعتبار هذا الشرط في خصوص التكاليف التحريمية.

٢ ـ الكلام في الجهة الأولى : أن غرض الشارع من النهي عن فعل هو إحداث المانع في نفس المكلف عن ارتكاب متعلق النهي الواصل إليه ؛ بحيث يستند ترك المنهي عنه إلى النهي. وهذا يتحقق في موردين.

٣٥٣

.................................................................................................

______________________________________________________

الأول : أن لا يكون للمكلف داع إلى الترك أصلا وإنما حدث الداعي له إليه بنهي الشارع عنه.

الثاني : أن يكون له داع إلى الترك ولكن لو لا نهي الشارع ربما كانت وسوسة النفس تحمل المكلف على المخالفة ، فتتأكد إرادة ترك المنهي عنه بواسطة النهي فيجتنب عن الحرام.

وكيف كان ؛ فالنهي عن فعل متروك بنفسه لغو ؛ بل يكون من طلب الحاصل المحال ، وبهذا يظهر وجه اشتراط تنجيز العلم الإجمالي بكون تمام الأطراف مورد الابتلاء.

وبالجملة : إن الشيء إذا كان بنفسه متروكا بحيث لا يبتلي به المكلف عادة حتى يحصل له داع إلى فعله فلا وجه للنهي عنه لعدم صلاحية النهي لإيجاد الداعي إلى الترك ، فيكون النهي لغوا ، واللغو مناف للحكمة فلا يصدر من الحكيم.

٣ ـ الكلام في الجهة الثانية : وهي بيان حكم الشك في الابتلاء ، فإذا شك في كون بعض الأطراف خارجا عن مورد الابتلاء من جهة الشك في مفهومه بناء على اعتبار دخول جميع الأطراف في محل الابتلاء في صحة التكليف. فهل يرجع إلى إطلاقات أدلة التكليف فيحكم بالتنجيز في الطرف المبتلى به ، أو إلى أصل البراءة؟

ذهب الشيخ «قدس‌سره» إلى الأول بدعوى : أن إطلاق الدليل هو المرجع ما لم يثبت التقييد ، فإن مقتضى الإطلاق هو العلم بالتكليف الفعلي ، فلا يجري الأصل في أطرافه.

وذهب المصنف «قدس‌سره» إلى الثاني بدعوى : أن التمسك بالإطلاق في مقام الإثبات إنما هو فرع إمكان الإطلاق في مقام الثبوت ، ومع الشك في إمكان الإطلاق ثبوتا لا أثر للإطلاق إثباتا كما هو الحال في المقام ؛ لأن الشك في دخول بعض الأطراف في محل الابتلاء من حيث المفهوم يكون شكا في إمكان الإطلاق بالنسبة إليه. ومع الشك في الإمكان ثبوتا لا ينفع الرجوع إلى الإطلاق إثباتا ؛ لأن التمسك بالإطلاق منوط بإحراز صحة إطلاق الخطاب ثبوتا في مشكوك القيدية كالإيمان بالنسبة إلى الرقبة ، فلا يصح التمسك به إذا لم يصح الخطاب ثبوتا بدون ذلك القيد المشكوك فيه كالابتلاء فيما نحن فيه.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ اعتبار دخول جميع الأطراف في محل الابتلاء في فعلية الحكم وتنجزه بالعلم الإجمالي.

٣٥٤

الثالث (١) : أنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم لا تفاوت بين أن تكون

______________________________________________________

٢ ـ المرجع عند الشك في خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء هو : أصل البراءة لا إطلاق الدليل.

في الشبهة غير المحصورة

(١) الغرض من عقد هذا التنبيه : بيان أمرين :

الأول : أن ما قيل من كثرة الأطراف بنفسها مانعة عن فعلية التكليف وعن تنجيز العلم الإجمالي فيها مما لا أصل له ولا دليل عليه ، وضمير «أنه» الأول كالثاني للشأن.

الثاني : أن مرجع الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف هل هو إطلاق الدليل أم أصالة البراءة؟

وخلاصة ما أفاده المصنف «قدس‌سره» في الأمر الأول : هو عدم الفرق بين الشبهتين مع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال. وعرفت سابقا : أن المدار في تنجيز العلم الإجمالي للتكليف إنما هو فعلية التكليف من جميع الجهات لا قلة أطرافها ، فلو كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا تنجز بالعلم الإجمالي ، من دون تفاوت بين أن تكون الأطراف محصورة أو غير محصورة ، فلا ينبغي حينئذ عقد مقامين للشبهة الموضوعية التحريمية أحدهما : للمحصورة والآخر لغير المحصورة كما وصنعه الشيخ ، واختار في الثاني منهما عدم وجوب الاحتياط ، واستدل عليه بوجوه ستة أولها الإجماع ، راجع «دروس في الرسائل ، ج ٣ ، ص ٢٧٥».

وكيف كان ؛ فالمدار في تنجيز العلم الإجمالي عند المصنف إنما هو فعلية التكليف لا قلة الأطراف كما يقول الشيخ «قدس‌سره».

نعم ؛ ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر أو ضرر أو غيرهما مما لا يكون التكليف معه فعليا ، فلا يجب حينئذ الاحتياط ؛ لكن يمكن طروء هذه الموانع في الشبهة المحصورة أيضا ، فلا خصوصية لعدم انحصار أطراف الشبهة في عدم وجوب الاحتياط.

ولذا يقول المصنف : بعدم تفاوت بين الشبهتين مع فعلية التكليف بمعنى : أنه يجب الاحتياط فيهما معها.

ولكن الشيخ «قدس‌سره» بحث عنها مفصلا ، وذهب إلى عدم وجوب الاحتياط فيها من ناحية كثرة الأطراف ، وتبعه غيره من الأعلام ، فالمسألة حينئذ ذات قولين على الأقل. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

وأما الأمر الثاني الذي أشار إليه بقوله : «ولو شك في عروض الموجب» فتوضيحه

٣٥٥

أطرافه محصورة ، وأن تكون غير محصورة (١).

نعم ؛ ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية باجتناب كلها (٢) ، أو ارتكابه (٣) ، أو ضرر (٤) فيها أو غيرهما (٥) مما لا يكون ...

______________________________________________________

يتوقف على مقدمة وهي : أن في المسألة صورتين :

الأولى : أن يكون دليل التكليف المعلوم بالإجمال لفظيا مطلقا كقوله : «اجتنب عن المغصوب» ، ويستلزم الاجتناب عن الجميع ضررا ماليا ، ويكون الشك في جريان نفي الضرر هنا من جهة عدم العلم بحدود مفهومه وقيوده ، فإن كان المقام من موارد الضرر المنفي في الشريعة المقدسة كانت القاعدة حاكمة وموجبة لسقوط العلم الإجمالي حينئذ عن التأثير ، وإن لم يكن من موارده أو شك في كونه من موارده كان المعلوم فعليا منجزا.

الثانية : أن يكون دليل الحكم المعلوم إجمالا لبيا كالإجماع أو لفظيا مجملا واشتبه المحرم بين أطراف غير محصورة ، وشك في استلزام الاجتناب عن الجميع لعروض مانع عن التكليف من العسر والحرج ونحوهما.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المرجع في الصورة الأولى هي قاعدة الاشتغال ، وهي لزوم الاجتناب عن جميع الأطراف إلا ما علم كونه مستلزما للضرر أو الحرج أو نحوهما.

والمرجع في الثانية أصالة البراءة للشك في التكليف الفعلي مع احتمال ارتفاعه بالمانع.

والفرق بين الصورتين : أن الدليل إذا كان لبيا كما في الصورة الثانية لا يجب الأخذ إلا بالمتيقن منه ، وهو ما علم ثبوته ، وعدم عروض شيء من الموانع حتى ما يشك في مانعيته. هذا بخلاف الدليل اللفظي كما في الصورة الأولى ، فإن إطلاقه محكم وبه يدفع احتمال قيدية المشكوك ويثبت به الحكم.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) سيأتي بيان بعض ما قيل في تحديد عدم الحصر.

(٢) هذا في الشبهة التحريمية ، كما إذا تردد إناء الخمر بين ألفي إناء مثلا.

(٣) أي : ارتكاب كل الأطراف ، وهذا في الشبهة الوجوبية ؛ كما إذا تردد زيد العالم الواجب إكرامه بين ألفي شخص مثلا.

(٤) بالجر عطف على «عسر» ، وضمير «فيها» راجع على «موافقته» أي : موجبة لضرر في الموافقة القطعية.

(٥) أي : غير العسر والضرر من موانع فعلية التكليف ؛ كخروج بعض الأطراف عن مورد الابتلاء.

٣٥٦

معه (١) التكليف فعليا بعثا أو زجرا فعلا ، وليس (٢) بموجبة لذلك (٣) في غيره ، كما أن نفسها (٤) ربما تكون موجبة لذلك (٥) ولو كانت (٦) قليلة في مورد آخر (٧).

فلا بد (٨) من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أنه (٩)

______________________________________________________

(١) الضمير راجع على الموصول في «مما» المراد به مانع فعلية التكليف غير العسر والضرر ، و «بعثا ، أو زجرا» قيدان للتكليف.

(٢) عطف على «موجبة» وفي بعض النسخ «وليست» يعني : أن كثرة الأطراف قد تكون موجبة لأحد موانع الفعلية في مورد ، ولا تكون موجبة في غير ذلك المورد ، فلا تلازم بين كثرة الأطراف وبين وجود بعض موانع الفعلية ، والأولى أن يقال : «وغير موجبة لذلك في غيره».

(٣) يعني : لا تكون كثرة الأطراف موجبة للعسر في غير ذلك المورد ، مثلا لو اشتبهت حبة من الحنطة النجسة في ألف حبة لا يوجب الاجتناب عن الألف عسرا.

(٤) أي : نفس الموافقة القطعية ربما تكون موجبة لذلك العسر.

(٥) يعني : لأحد موانع الفعلية ، ولو كانت الأطراف قليلة ، بمعنى : أنه قد يتفق عروض أحد موانع الفعلية في صورة قلة الأطراف أيضا ، كما إذا اشتبه الماء المطلق بين إناءين مثلا ، وكانت الموافقة القطعية بالتوضؤ بهما معا موجبة للعسر أو الضرر.

(٦) كلمة لو وصلية ، فالمعنى ولو كانت الأطراف قليلة في مورد آخر ، يعني : غير المورد الذي أوجبت فيه كثرة الأطراف عروض بعض الموانع عن فعلية التكليف.

(٧) كما لو كانت المخابز في البلد خمسين وعلمنا بنجاسة أحدها ، فإنّ الاجتناب عن الجميع مقدمة للموافقة القطعية موجب للعسر ، وبهذا تبين : أن ليس للعسر الذي هو مناط لسقوط التكليف ميزان خاص ، فقد تكون الأطراف كثيرة ولا يوجب الاجتناب عسرا ، وقد تكون الأطراف قليلة ويوجب الاجتناب عسرا ، فليس المناط هو المحصورة وغير المحصورة وإنما المناط هو العسر والضرر والخروج عن محل الابتلاء كما تقدم.

(٨) الظاهر عدم الحاجة إليه ، إذ المستفاد من كلامه : أن التكليف من البعث أو الزجر لا يكون فعليا مع أحد هذه الموانع ، فقوله : «فعلا» مستدرك فحق العبارة أن تكون هكذا : مما لا يكون معه التكليف البعثي أو الزجري فعليا. الأولى أن تكون العبارة هكذا : فلا بد من ملاحظة أنه يكون في هذا المورد ذلك الموجب لرفع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال أو لا يكون عن فعلية التكليف ، كما في هامش «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ١١٢».

(٩) أي : الموجب ، والأولى أن يقال : «وأنه يكون» ، و «يكون» في المواضع الثلاثة

٣٥٧

يكون أو لا يكون في هذا المورد ، أو يكون (١) مع كثرة أطرافه ، وملاحظة (٢) أنه مع أية مرتبة من كثرتها كما لا يخفى.

ولو شك (٣) في عروض الموجب فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان (٤) ؛ وإلا (٥) فالبراءة لأجل الشك في التكليف الفعلي.

هذا (٦) هو حق القول في المقام.

______________________________________________________

تامة ، يعني : هل يوجد المانع الفعلية في ذلك المورد مطلقا أي : من غير فرق بين قلة الأطراف وكثرتها ، أم يوجد المانع مع كثرة الأطراف فقط.

(١) هذا عدل لقوله : «أنه يكون ...».

(٢) أي : مع ملاحظة أن الموجب لرفع فعلية التكليف يوجد مع أية مرتبة من مراتب الكثرة ولا يوجد مع أية منها ؛ إذ يمكن أن يكون ذلك الموجب مع بعض المراتب لا جميعها ، وضمير «أنه» راجع على الموجب ، وضمير «أطرافه» راجع على «المعلوم بالإجمال» ، وضمير «كثرتها» راجع على الأطراف.

(٣) هذا هو الأمر الثاني الذي تقدمت الإشارة إليه في بداية هذا التنبيه ، وهو بيان حكم الشك في ارتفاع فعلية التكليف من جهة الشك في طروء الرافع لها مثل الضرر والعسر مثلا.

توضيح ذلك : أنه بناء على ما تقدم من منجزية العلم الإجمالي بفعلية التكليف في الشبهة غير المحصورة أيضا ، فإذا شك في أن الاجتناب عن جميع الأطراف هل يستلزم الضرر المنفي أو العسر والحرج الشديدين حتى يرتفع التكليف به أم لا؟ ففي المسألة صورتان ، وقد تقدم توضيح المسألة بكلتا صورتيها ، فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

وأضربنا عن تطويل الكلام في المقام رعاية للاختصار.

(٤) أي : لو ثبت إطلاق ، ف «كان» هنا تامة. يعني : فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان إطلاق في المقام ، فيقال أن قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) مطلق ولا يعلم وجود عسر في المقام رافع لهذا التكليف فالمرجع هو الإطلاق.

(٥) أي : وإن لم يكن إطلاق في البين ، كما إذا كان الدليل لبيا أو لفظيا مجملا ، فالمرجع أصالة البراءة ؛ لكون الشك في التكليف.

(٦) أي : التفصيل في رعاية المعلوم بالإجمال وعدمها بين ما إذا ثبت بدليل لفظي مطلق ، وبين ما إذا ثبت بغيره من إجماع وغيره ، فالمرجع هو لزوم الاحتياط على الأول ،

٣٥٨

وما قيل (١) في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف.

______________________________________________________

وأصالة البراءة في الثاني. وهكذا التفصيل بين كون التكليف فعليا من جميع الجهات وبين عدم كونه كذلك حيث يجب الاحتياط على الأول ، من دون فرق بين الشبهة المحصورة وبين الغير المحصورة ، ولا يجب الاحتياط على الثاني كذلك.

(١) في تعريف الشبهة غير المحصورة لا يخلو من الجزاف ؛ إذ لا دليل على شيء من التعريفات المذكورة ، مضافا إلى ورود الإشكال فيها.

توضيح ذلك : أنه قد عرفت الشبهة غير المحصورة بوجوه :

منها : أن غير المحصورة ما يعسر عده.

وفيه أولا : أنه إحالة إلى أمر غير منضبط ؛ لاختلاف الأشخاص والأزمان في تحقق العسر بالعد.

وثانيا : أن العسر قد يعد بالنسبة إلى بعض الأشياء من الشبهة غير المحصورة ؛ كتردد شاة محرمة بالغصب أو غيره بين عشرة آلاف شاة ، وقد لا يعد من الشبهة غير المحصورة بالنسبة إلى بعضها الآخر ، كتردد حبة واحدة متنجسة من الحنطة مثلا بين مائة ألف حبة ، فإن العسر مع تحققه في كليهما لا يوجب كون المثال الثاني من الشبهة غير المحصورة.

وثالثا : أن التحديد بالعسر ناظر إلى ما يرفع الحكم ، ومن المعلوم : أن المناط حينئذ هو لحاظ ذلك العنوان الرافع بالنسبة إلى عمل المكلف ، فالعسر يرفع الفعل العسري أو الترك كذلك. وأما عسر العد مع عدم العسر في الفعل أو الترك فلا تصلح لرفع الحكم حتى يناط به حد الشبهة غير المحصورة.

ومنها : أن الشبهة غير المحصورة ما تعسر موافقتها القطعية.

وفيه أولا : أنه تعريف باللازم الأعم ؛ لعدم اختصاص العسر المزبور بالشبهة غير المحصورة ، إذ قد يتفق ذلك في المحصورة أيضا.

ثانيا : أن عسر الامتثال اليقيني لا يمنع عن تنجيز العلم الإجمالي حتى يرفع التكليف رأسا كما هو المقصود في غير المحصورة ؛ بل يوجب التنزل إلى الإطاعة الاحتياطية الناقصة.

ثالثا : أنه لا انضباط لاختلافه بحسب الأشخاص والأزمان ، فالإحالة إليه إحالة إلى أمر مجهول.

ومنها : أن الضابط هو الصدق العرفي ، فما صدق عليه عرفا أنه غير محصور ترتب عليه حكمه.

٣٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

وفيه أولا : أن الرجوع إلى العرف في تشخيص المفاهيم إنما يكون في الألفاظ الواقعة في الأدلة الشرعية لترتيب ما لها من الأحكام عليها ، ومن المعلوم : أن لفظ «غير المحصورة» لم يقع في شيء من تلك الأدلة حتى يرجع في تشخيص مفهومه إلى العرف ، بل هو اصطلاح مستحدث من الأصوليين.

وثانيا : أن الرجوع إلى العرف لا يوجب تميز ضابط غير المحصور عن المحصور ؛ إذ ليس له معنى متأصل عندهم ، بل هو من الأمور الإضافية التي تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان ، فلا جدوى في الرجوع إليهم في تعيين ما هم فيه مختلفون.

وهناك تعريفات كثيرة للشبهة غير المحصورة تركنا ذكرها رعاية للاختصار.

فالمتحصل : أن ما ذكر لها من الضوابط والتعريفات لا يخلو من الجزاف ؛ لما عرفت من عدم دليل على شيء منها ، مضافا إلى ما ورد من الإشكال على كل واحد منها.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا التنبيه بيان أمرين :

الأول : أن ما قيل من كون كثرة الأطراف مانعة عن فعلية التكليف وعن تنجيز العلم الإجمالي فيها مما لا أصل له ولا دليل عليه.

الثاني : أن مرجع الشك في عروض ما يوجب ارتفاع فعلية التكليف هل هو إطلاق الدليل أم أصالة البراءة؟

٢ ـ خلاصة بيان الأمر الأول هو : عدم الفرق بين الشبهتين في وجوب الاحتياط مع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال ؛ بل المدار في تنجيز العلم الإجمالي هو فعلية التكليف من جميع الجهات لا قلة الأطراف ، فلا ينبغي حينئذ عقد مقامين أحدهما للشبهة المحصورة والآخر لغير المحصورة كما صنعه الشيخ «قدس‌سره» نعم ؛ ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر أو ضرر أو غيرهما مما لا يكون التكليف معه فعليا ، فلا يجب حينئذ الاحتياط ؛ لكن يمكن طروء هذه الموانع للشبهة المحصورة أيضا فلا خصوصية لعدم انحصار أطراف الشبهة في عدم وجوب الاحتياط.

ولكن الشيخ «قدس‌سره» قال بعدم وجوب الاحتياط في غير المحصورة ، وتبعه غيره من الأعلام ، فالمسألة ذات قولين.

٣٦٠