دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

الدلالة ؛ بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة ، أو يوهن (١) به ما لولاه على خلافه لكان حجة ، أو يرجح به أحد المتعارضين ؛ بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح

______________________________________________________

الثالث : أن يكون موضوعها ما هو أعم من ذلك ومن مظنون المطابقة ، يعني : أن الحجة هي الخبر المظنون صدوره ـ بأي واحد من النحوين المذكورين ـ أو مظنون الصحة ، أي : مظنون المطابقة للواقع ، مع فرض كون نفس الخبر ضعيفا سندا ؛ ولو حصل الظن بالصحة من الخارج كالشهرة الفتوائية مع عدم العلم باستنادهم إلى هذا الخبر الضعيف. ولأجل هذه الاحتمالات اختلفت المباني ، بمعنى : إنه من يعتمد على الأول لا يجبر بالظن المزبور الخبر الذي لا يكون مظنون الصدور بنفس السند ؛ كما إذا كان بعض رواته ضعيفا أو مهملا أو مجهولا ؛ لأنه لا يدخل بالظن المزبور تحت أدلة الاعتبار.

ومن يعتمد على الآخرين يجبره بذلك ، فيسهل الأمر حينئذ في بعض الروايات الضعيفة سندا إذا كانت موافقة لفتوى المشهور.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المصنف قد اعتمد على الاحتمال الأخير بقرينيّة قوله : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه».

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

وأما المقام الثاني : فقد أشار إليه بقوله : «وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك». فسيأتي توضيح ذلك مع رأي المصنف. فانتظر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) عطف على قوله : «يجبر» أي : أو هل يوهن الظن القوي ـ كالحاصل من خبر الثقة ـ بالظن الذي لم يقم على حجيته دليل ، فيسقط عن الحجية بسبب مخالفة هذا الظن غير المعتبر له.

وضميرا «به ، لولاه» راجعان إلى الظن غير المعتبر ، و «ما» الموصول نائب فاعل «يوهن» ، والمراد بالموصول : الظن القوي ، وضمير «خلافه» راجع إلى هذا الموصول النائب عن الفاعل ، يعني : لو لا هذا الظن غير المعتبر على خلاف ذلك الظن القوي لكان الظن القوي حجة.

قوله : «أو يرجح» عطف على قوله «يجبر» ، و «أحد» نائب فاعل له ، وضميرا «به ، لولاه» راجعان على الظن الذي لم يقم دليل على اعتباره ، وضمير «وفقه» راجع على أحد المتعارضين. «بحيث» متعلق ب «يرجح» يعني : أو هل يرجح أحد المتعارضين ـ بسبب موافقة الظن غير المعتبر له ـ على معارضة الآخر أم لا؟

١٠١

لأحدهما ، أو كان (١) للآخر منهما أم لا؟

ومجمل القول في ذلك (٢) : أن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته هو الدخول بذلك (٣) تحت دليل الحجية أو المرجحية ، الراجعة (٤) إلى دليل الحجية. كما أن (٥) العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة (٦) عن تحت دليل الحجية ، فلا يبعد

______________________________________________________

(١) عطف على قوله : «لما كان» ، والضمير المستتر فيه راجح إلى الترجيح.

يعني : أو هل يرجح بالظن غير المعتبر أحد المتعارضين ؛ بحيث لو لا موافقة هذا الظن غير المعتبر له كان الترجيح للمعارض الآخر الذي لم يوافقه هذا الظن.

وبعبارة أخرى : لو كان أحد المتعارضين راجحا على الآخر ، وكان الظن غير المعتبر موافقا للآخر المرجوح ، فهل توجب موافقته لهذا الآخر المرجوح رجحان هذا المرجوح على ذلك المعارض الراجح أم لا توجب رجحانه؟ وقد تقدم توضيح هذا بقولنا : «ثانيهما : أن يتعارض الخبران من جميع الجهات أيضا سوى أن أحدهما أرجح من الآخر ...».

(٢) أي : فيما ذكر من الأمور الثلاثة من الجبر والوهن والترجيح ، وقد عرفت حاصل مرامه بقولنا : «ومجمل ما أفاده المصنف في المقام».

(٣) أي : بسبب الجبران أو الرجحان ، وضمير «بموافقته» راجع إلى الظن غير المعتبر.

(٤) صفة «المرجحية» ، يعني : أن المناط في حصول رجحان شيء بسبب الظن غير المعتبر هو اندراج ذلك الشيء لأجل رجحانه بهذا الظن ـ لو بنينا على رجحانه به تحت دليل المرجحية ، ومعنى قوله : «الراجعة على دليل الحجية» أن مرجع دليل المرجحية إلى دليل الحجية ، بمعنى : أن دليل الحجية هو منشأ اعتباره وحجيته ؛ وذلك لأن دليل الترجيح هو الذي يجعل ما اشتمل على المرجح حجة ؛ بحيث لو لا هذا الدليل لما كان حجة ، فحجيته هي التي تجعله مرجحا ، وحينئذ : فالموافق للظن غير المعتبر إنما يرجح به إذا اندرج ـ برجحانه به ـ تحت دليل المرجحية المستندة إلى دليل الحجية.

(٥) يعني : كما أن المناط في كون الظن غير المعتبر موهنا لشيء يكون حجة ـ لو لا هذا الظن غير المعتبر على خلافه ـ هو خروج ذلك الشيء بسبب مخالفة هذا الظن غير المعتبر له عن موضوع دليل الحجية ؛ كما إذا فرض أن موضوع دليل الحجية هو الخبر المظنون صدوره ، وكان هناك خبر مظنون الصدور ، وكان مخالفا لظن غير معتبر ؛ بحيث أوجبت مخالفته لهذا الظن غير المعتبر الشك في صدوره ، فلا ريب في خروجه حينئذ عن موضوع دليل الحجية ، وهذا معنى كون الظن غير المعتبر موهنا له.

(٦) الباء للسببية ، وهو مع قوله : «عن تحت» متعلقان بالخروج ، والمراد بالمخالفة مخالفة

١٠٢

جبر ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره (١) ، أو بصحة مضمونه (٢) ، ودخوله بذلك تحت ما دل على حجية ما يوثق به ، فراجع أدلة اعتبارها (٣).

وعدم (٤) جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد ؛ لاختصاص (٥) دليل الحجية بحجية

______________________________________________________

الموهون ـ وهو الخبر الصحيح مثلا ـ للموهن وهو الظن المشكوك اعتباره ، كإعراض المشهور عنه الموهن للظن الحاصل بصدوره من صحة السند.

قوله : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر ...» الخ نتيجة لما ذكره من المعيار في الجبر وغيره ومتفرع عليه.

وحاصله : أن الظن غير المعتبر إذا كان موجبا للظن بالصدور أو صحة المضمون بمعنى : مطابقة مضمونه للواقع كان ذلك موجبا لاندراج الخبر الموافق له تحت أدلة اعتبار الخبر الموثوق به.

قوله : «في الخبر» متعلق ب «السند» يعني : جبر ضعف سند الخبر.

وقوله : «بالظن» متعلق ب «جبر».

وقوله : «بصدوره» متعلق ب «الظن» ، وضمائر «بصدوره ، مضمونه ، دخوله» راجعة على الخبر.

وقوله : «بذلك» إشارة إلى جبر ضعف السند ، وضمير «به» راجع على الموصول في «ما يوثق» المراد به الخبر ، وضمير «اعتبارها» راجع على الخبر ، فالصواب تذكيره وإن احتمل رجوعه إلى الأمارات المستفادة من سوق العبارة.

(١) كالظن الحاصل من عمل الأصحاب برواية ضعيفة سندا.

(٢) كما تقدم في الظن الحاصل من الشهرة الموافق لأحد الخبرين المتعارضين ..

(٣) وقد ذكرنا الوجوه المحتملة في أدلة الحجية ، مع ما هو رأي المصنف ، فلا حاجة إلى الإعادة والتكرار.

(٤) عطف على «جبر ضعف السند» ، يعني : لا يبعد عدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد الحاصل من الظن الخارجي لا من ظاهر اللفظ.

(٥) هذا وجه عدم الجبر.

توضيحه : على ما في «منتهى الدراية ج ٥ ، ص ١٣٣» ، أن دليل الحجية مختص بحجية ظهور اللفظ في تعيين المراد ، بمعنى : أن الظن بالمراد إن استند إلى ظهور اللفظ فذلك حجة بمقتضى أدلة اعتبار الظهورات ، وإن استند إلى غيره من الظن الحاصل من أمارة خارجية ؛ كما هو المبحوث عنه في المقام ، فلا دليل على اعتباره ، فليس الظن بالمراد

١٠٣

الظهور في تعيين المراد والظن من أمارة خارجية به لا يوجب (١) ظهور اللفظ فيه ، كما هو ظاهر ؛ إلا (٢) فيما أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه ؛ لو لا (٣) عروض انتفائه.

وعدم (٤) وهن السند بالظن بعدم صدوره ، ...

______________________________________________________

جابرا لضعف الدلالة ؛ إذ لا يندرج بذلك في حيز دليل الحجية ، وقد عرفت : أن المعيار في الجبر هو شمول دليل الحجية له ، مثلا : دلالة قوله «عليه‌السلام» : «في الغنم السائمة زكاة» على عدم وجوب الزكاة في المعلوفة ضعيفة ؛ لقوة احتمال عدم حجية مفهوم الوصف ، فإذا قامت الشهرة الفتوائية على عدم وجوبها في المعلوفة يظن بذلك إرادة عدم وجوبها من قوله «عليه‌السلام» : «في الغنم السائمة» ؛ لكن هذا الظن بمراد الشارع لم ينشأ من ظهور اللفظ فيه ؛ بل من الخارج وهو الشهرة ، فلا ينجبر ضعف دلالة القول المزبور بالظن المذكور ، فلا يكون مجرد الظن بالمراد ـ ولو من غير ظهور اللفظ ـ موضوعا للحجية ؛ حتى يكون الظن الخارجي بالمراد موجبا لشمول دليل الاعتبار له.

ولذا قال الشيخ «قدس‌سره» : «لا ينبغي التأمل في عدم انجبار قصور الدلالة بالظن المطلق ؛ لأن المعتبر في باب الدلالات هو ظهور الألفاظ نوعا في دلالتها ؛ لا مجرد الظن بمطابقة مدلولها للواقع ولو من الخارج ...» الخ. «الوصائل إلى الرسائل ، ج ٥ ، ص ١٢٧».

(١) خبر «والظن» ، وضميرا «به ، فيه» راجعان إلى المراد.

(٢) استثناء من «لا يوجب» ولكنه لا يناسب المقام ؛ إذ القطع باحتفاف الكلام بما يوجب الظهور يخرجه عن صيرورة المراد مظنونا بالظن غير المعتبر الذي هو محل البحث.

وكيف كان ؛ فقوله : «أوجب القطع» يعني : القطع بالمراد.

وضمير «باحتفافه» راجع على اللفظ ، وهو متعلق ب «أوجب».

وقوله : «بما» متعلق ب «احتفافه» ، وضمير «لظهوره» راجع على اللفظ ، وضمير «فيه» إلى المراد.

(٣) قيد لقوله : موجبا ، وضمير «انتفائه» راجع على الموصول في «بما» المراد به ما يوجب ظهور اللفظ في المراد.

(٤) عطف على «جبر ضعف السند» ، يعني : وكذا لا يبعد عدم وهن السند بالظن غير المعتبر بعدم صدوره ، وكذا عدم وهن دلالته بهذا الظن.

وحاصل مرامه : أن الظن غير المعتبر لا يوهن السند ولا الظهور ؛ لعدم تقيد إطلاق

١٠٤

وكذا (١) عدم وهن دلالته مع ظهوره ؛ إلّا (٢) فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده ، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لو لا تلك القرينة ؛ لعدم (٣) اختصاص دليل اعتبار خبر الثقة ، ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صوره ، أو ظن بعدم إرادة ظهوره (٤).

وأمّا الترجيح (٥) بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به بعد سقوط الأمارتين

______________________________________________________

أدلة اعتبارهما بعدم قيام الظن على خلافهما ، فلا يكون الظن غير المعتبر موهنا لهما إلا إذا كشف الظن عن ثبوت خلل في السند ، أو وجود قرينة مانعة عن انعقاد ظهور اللفظ فيما يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا.

(١) يعني : وكذا لا يبعد عدم وهن دلالته بالظن غير المعتبر.

وضمائر «صدوره ، دلالته ، ظهوره» راجعة إلى الخبر.

(٢) أي : إلا فيما كشف الموهن بالكسر وهو الظن غير المعتبر بسبب أمارة إلى معتبرة من علم أو علمي «عن ثبوت خلل في سنده ...» الخ ، ولا إشكال في الوهن حينئذ ؛ لكنه خارج عن موضوع البحث ، وهو وهن السند والظهور بالظن غير المعتبر ، فالاستثناء منقطع.

والمراد بالموصول في «فيما فيه» هو المعنى الذي يكون اللفظ ظاهرا فيه فعلا ، وضمير «ظهوره» راجع إلى اللفظ ، والصناعة تقتضي رفع الظاهر ـ كما في بعض النسخ ـ لا نصبه كما في بعضها الآخر ؛ وذلك لأن كلمة «ظاهر» خبر لمبتدا محذوف ، أعني : الضمير الذي هو صدر صلة الموصول ، فتكون العبارة هكذا : «فيما هو ظاهر». وضمير «هو» راجع إلى اللفظ. ويمكن تصحيح نصب «الظاهر» بأن يكون خبرا لمحذوف تقديره : «فيما يكون اللفظ فيه ظاهرا» ؛ لكن الأول أولى.

قوله : «لو لا تلك القرينة» قيد لقوله : «انعقاد ظهوره» يعني : أن الظهور ينعقد لو لا تلك القرينة.

(٣) علة لعدم وهن السند والدلالة بالظن غير المعتبر.

توضيحه : أن إطلاق دليل اعتبار خبر الثقة والظهور يقتضي عدم وهن السند والظهور بقيام ظن غير معتبر على عدم صدور الخبر ، أو عدم إرادة ظهوره.

(٤) هذا الضمير وضمير «صدوره» راجعان إلى «خبر» ، و «بما» متعلق ب «اختصاص».

(٥) عطف على قوله : «فلا يبعد جبر ضعف السند في الخبر» الخ. والأولى سوق العبارة هكذا : «والترجيح بالظن فرع الدليل على الترجيح به «؛ إذ لم يذكر لفظ «أمّا» قبل ذلك ليعطف عليه بلفظ «أمّا» هنا.

١٠٥

بالتعارض من البين (١) ، وعدم (٢) حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه ؛ وإن بقي أحدهما بلا عنوان على حجيته (٣) ، ولم يقم (٤) دليل بالخصوص على الترجيح به ؛ وإن ادعى شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» استفادته (٥) من الأخبار الدالة على الترجيح بالمرجحات الخاصة ، على ما يأتي تفصيله في التعادل والترجيح.

______________________________________________________

وكيف كان ؛ فهو شروع في بيان الترجيح بالظن غير المعتبر وعدمه.

وتوضيح ما أفاده فيه ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ١٣٥» ـ هو عدم كون الظن غير المعتبر مرجحا لأحد المتعارضين ؛ لعدم الدليل على الترجيح به بعد كون المرجحية ـ كالحجية ـ منوطة بقيام دليل عليها ، فالأمارتان المتعارضتان بعد تساقطهما وعدم حجية واحدة منهما ـ بناء على الطريقية ـ لا تكون إحداهما بالخصوص حجة ، إلا بالدليل ، فجعل إحداهما بالخصوص حجة بسبب موافقة ظن غير معتبر لها موقوف على دليل على الترجيح بذلك الظن غير المعتبر ، ولم يثبت ذلك وإن استدل له بوجوه أشار في المتن إلى جملة منها وسيأتي بيانها.

(١) كما هو مقتضى الأصل الأولي في تعارض الأمارات ، بناء على الطريقية. وكلمة «بعد» ظرف لقوله : «على الترجيح به» ، وضمير «به» راجع على الظن غير المعتبر.

(٢) عطف تفسيري لسقوط المتعارضين.

وغرضه : أن الروايتين المتعارضتين يسقط كل منهما بالتعارض عن الحجية ، ولا تبقى إحداهما بالخصوص على الحجية وإن بقيت إحداهما لا بعينها على الحجية لنفي الثالث. كما إذا دل أحد الخبرين على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، وآخر على استحبابه ، فإنهما يتساقطان بالتعارض في مدلولهما المطابقي ، ولكنهما يشتركان في الثالث أعني : في نفي ما عدا الوجوب والاستحباب من الأحكام.

(٣) حجية أحدهما بلا عنوان ، والصواب تأنيث الضمائر في «بخصوصه ، عنوانه ، حجيته» ، وكذا تأنيث «واحد» و «أحدهما» ؛ لأن المراد بها : الأمارة.

(٤) الواو للحال ، فكأنه قال : وأما الترجيح بالظن فهو فرع دليل على الترجيح به ، يعني : بالظن غير المعتبر.

(٥) أي : استفادة الترجيح بالظن غير المعتبر من الأخبار.

وهذا هو الوجه الأول : مما استدل به على الترجيح بالظن غير المعتبر.

وكيف كان ؛ فقال الشيخ هنا ما هذا لفظه : «الثالث : ما يظهر من الأخبار من أن المناط في الترجيح كون أحد الخبرين أقرب مطابقة للواقع ، سواء كان لمرجح داخلي

١٠٦

ومقدمات الانسداد (١) في الأحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة ؛ لا الترجيح به ما لم توجب الظن بأحدهما.

ومقدماته (٢) في خصوص الترجيح لو جرت إنما توجب حجية الظن في تعيين

______________________________________________________

كالأعدلية مثلا ، أو لمرجح خارجي كمطابقته لأمارة توجب كون مضمونه أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ، مثل ما دل على الترجيح بالأصدقية في الحديث ...» (١) الخ. «الوصائل إلى الرسائل ، ج ٥ ، ص ١٨٩».

وحاصله : التعدي عن المرجحات المنصوصة إلى كل ما يوجب أقربية أحد المتعارضين إلى الواقع من الآخر. ويأتي في بحث التعادل والترجيح تفصيل ذلك.

(١) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر ، وحاصله : أن مقدمات الانسداد الجارية في الأحكام الكلية توجب الترجيح بالظن غير المعتبر ، فإن نتيجتها حجية الظن مطلقا ، سواء تعلق بالحكم أم بالحجة أم بالترجيح ، فالظن بالترجيح أيضا حجة.

قوله : «إنما توجب» خبر «ومقدمات» وجواب عنه ، وحاصله : أن الظن الانسدادي إنما يكون حجة إذا تعلق بالحكم كالوجوب والحرمة ، أو بالطريق كالظن بحجية الإجماع المنقول ، أو هما معا على الخلاف السابق ، والظن بالترجيح خارج عن كليهما.

وبالجملة : فمقدمات الانسداد لا توجب حجية الترجيح بالظن ما لم توجب الظن بالحكم أو الطريق.

(٢) أي : ومقدمات الانسداد ، وهذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر.

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ١٣٨» ـ أنه يمكن إجراء مقدمات الانسداد في خصوص المرجحات ؛ لتنتج حجية الظن في مقام الترجيح ، بأن يقال : إنا نعلم إجمالا بمرجحات للروايات في الشريعة المقدسة ، وباب العلم والعلمي بها منسد ، ولا يجوز إهمالها للعلم الإجمالي المزبور. ولا يمكن التعرض لها بالاحتياط لعدم إمكانه ، حيث إنه يدور الأمر بين المحذورين لحجية الراجح وعدم حجية المرجوح ، ولا يمكن الاحتياط فيهما ، ولا يجوز الرجوع إلى الأصل ؛ إذ مقتضاه عدم الحجية ، وهو ينافي العلم الإجمالي المزبور بوجودها ، ومقتضى قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو العمل بالظن ، ونتيجة ذلك : حجية الظن في مقام الترجيح.

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٦١٠.

١٠٧

المرجح (١) ، لا أنه مرجح ؛ إلّا (٢) إذا ظن أنه أيضا (٣) مرجح ، فتأمل جيدا.

______________________________________________________

وقد أجاب المصنف عن هذا الوجه الثالث أولا : بما أشار إليه بقوله : «لو جرت» من عدم تسليم جريان مقدمات الانسداد في خصوص الترجيح ، ولعله لأجل عدم العلم الإجمالي بعد كون المرجحات المنصوصة بمقدار المعلوم بالإجمال.

وثانيا : بأن مصب المقدمات المذكورة هو المرجحات المعلومة إجمالا ـ بعد الفراغ عن مرجحيتها ـ بالمعتبر بالانسداد هو : الظن بتعيين ما هو مرجح ؛ لا الظن بأن هذا الشيء مرجح ، فمقدمات الانسداد إنما تنتج حجية الظن بتعيين تلك المرجحات المعلومة إجمالا ، فإن ظن بأن الشهرة الفتوائية مثلا مرجحة للخبر كان هذا الظن حجة بدليل الانسداد ، وتثبت به مرجحية الشهرة للخبر المبتلى بالمعارض ، ولا تنتج حجية الظن بأن هذا الشيء مرجح كما هو المطلوب.

قوله : «إنما توجب» خبر «ومقدماته» ، وهذا إشارة إلى الجواب الثاني.

(١) أي : الذي هو من المرجحات المعلومة إجمالا.

(٢) استثناء من قوله : «لا أنه مرجح» المعطوف على قوله : «تعيين» ، وضمير «أنه» في الموضعين راجع على الظن ، وقوله : «أيضا» يعني : كما أنه معين للمرجح المعلوم إجمالا كونه مرجحا.

(٣) أي : كحجية الظن بالمرجح.

وحاصل الكلام في المقام : أنه إذا علم إجمالا بمرجحية أمور ، وحصل الظن ـ بمقدمات الانسداد ـ بأن منها الشهرة في الرواية ، فهذا الظن الانسداد معين للمرجح أعني : الشهرة ، فإذا حصل الظن بأن هذه الشهرة المستندة إلى الظن الانسدادي بنفسها مرجحة لأحد الخبرين المتعارضين : جاز الترجيح بها.

والحاصل : أن مقدمات الانسداد لو جرت في المرجحات ـ كجريانها في الأحكام ـ أنتجت أمرين : أحدهما : حجية الظن في تعيين المرجح ، والآخر : حجية الظن بمرجحية الأقربية مثلا.

قوله : «فتأمل جيدا» لعله إشارة إلى : أن دليل الانسداد قاصر عن إثبات حجية الظن في الأحكام الشرعية ، فضلا عن حجيته في تعيين المرجحات عند التعارض ؛ إذ لم يثبت وجوب الترجيح بها حتى يكون انسداد باب العلم بها كانسداد باب العلم بالأحكام موجبا للأخذ بالظن ؛ لإمكان حمل الأمر بالترجيح ـ كما سيأتي في باب التعادل والترجيح ـ على الاستحباب كما اختاره المصنف وجماعة ، فلا يبقى مجال للتمسك

١٠٨

هذا (١) فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.

وأما ما قام (٢) الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس : فلا يكاد يكون به جبر أو وهن أو ترجيح فيما لا يكون لغيره (٣) أيضا ، وكذا فيما يكون به ...

______________________________________________________

بمقدمات الانسداد. ولو سلم جريانها في نفس الأحكام ، فلا موجب لجريانها في المرجحات ؛ لإمكان الاحتياط ، أو الرجوع إلى الأصل العملي في مورد الشك.

هذا تمام الكلام في المقام الأول المتكفل لحكم الظن الذي لم يقم على عدم اعتباره دليل خاص ؛ بل كان عدم اعتباره لأجل عدم الدليل على حجيته ، الموجب لاندراجه تحت الأصل الدال على عدم حجية الظن وحرمة العمل به.

(١) أي : ما ذكرناه من الوهن والجبر والترجيح كان متعلقا بالظن الذي لم يثبت اعتباره بدليل خاص.

الجبر والوهن والترجيح بمثل القياس

(٢) هذا هو المقام الثاني أعني به : الظن غير المعتبر الذي ثبت عدم اعتباره بدليل خاص كالقياس.

ونخبة القول فيه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ١٤١» ـ أنه لا يوجب انجبار ضعف ولا وهنا ولا ترجيحا ؛ لأن الدليل المانع عنه بالخصوص يوجب سقوطه عن الاعتبار أصلا ، فلا يصلح لشيء مما ذكر ؛ لأن هذه الأمور نحو استعمال للقياس في الشرعيات ، والمفروض : المنع عنه. انتهى مورد الحاجة.

قوله : «كذلك» يعني : بخصوصه ، و «يكون» في المواضع الثلاثة تامة بمعنى «يحصل» ، وفاعل «يكون» الأولى هو قوله : «جبر» ، وفاعل الثانية ضمير مستتر فيها راجع على «جبر» ، وفاعل الثالثة هو قوله : «أحدها» ، وضميرا «به جبر ، لغيره» راجعان على الموصول في قوله : «ما قام» المراد به الظن الذي قام الدليل على المنع عنه بخصوصه كالقياس.

وغرضه : إنه لا يحصل الجبر وأخواه بالظن الذي قام الدليل الخاص على المنع عنه ، وأن وجوده كعدمه في عدم ترتب شيء من الجبر وأخويه عليه ، وأن ترتب جميع هذه الأمور الثلاثة أو بعضها على الظنون غير المعتبرة بنحو العموم كالشهرة الفتوائية ، بناء على بقائها تحت أصالة عدم حجية الأمارات غير العلمية ، وعدم شمول دليل الانسداد لها ، حيث إنها حينئذ ظن ممنوع عنه بنحو العموم ، فلو حصل لها في مورد جبر أو أحد أخويه لم يحصل شيء منها للقياس.

(٣) أي : من سائر الظنون «أيضا» جبر ووهن وترجيح.

١٠٩

أحدها (١) «أحدهما» ؛ لوضوح (٢) : أن الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه (٣)

______________________________________________________

(١) الضمير راجع على «جبر أو وهن أو ترجيح» ، ومعنى العبارة : أنه لا يكاد يحصل بالظن ـ الذي قام دليل خاص على عدم اعتباره ـ جبر أو وهن أو ترجيح في مورد لا يحصل الجبر أو أخواه لغير هذا الظن أيضا من الظنون غير المعتبرة ؛ لأجل عدم نهوض دليل على اعتبارها ، وبقائها تحت أصالة عدم الحجية ، وكذا في مورد يحصل الجبر أو أخواه بالظن الذي لم يقم على اعتباره دليل.

وببيان أوضح : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ١٤٢» ـ أنه لا يحصل شيء من الجبر وأخويه للقياس مطلقا ، سواء حصل الجبر وأخواه أو بعضها لغيره من الظنون غير المعتبرة ؛ لأصالة عدم الحجية ، أم لم يحصل شيء منها له.

وبالجملة : لا حظّ لمثل القياس من الظنون الممنوعة بدليل خاص من الجبر وأخويه ، ففرق بينه وبين الظن غير المعتبر بالعموم.

وهذا خلافا لجماعة كالمحقق وصاحب الضوابط تبعا لشيخيه شريف العلماء كما حكاه شيخنا الأعظم بقوله : «نعم ، يظهر من المعارج (١) وجود القول به بين أصحابنا ، حيث قال في باب القياس : ذهب ذاهب إلى أن الخبرين إذا تعارضا ، وكان القياس موافقا لما تضمنه أحدهما كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتج لذلك : بأن الحق في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما وطرحهما ، فتعين العمل بأحدهما. وإذا كان التقدير تقدير التعارض : فلا بد للعمل بأحدهما من مرجح ، والقياس يصلح أن يكون مرجحا لحصول الظن به ، فتعين العمل بما طابقه ... إلى أن قال : ومال إلى ذلك بعض سادة مشايخنا المعاصرين بعض الميل والحق خلافه ...» (٢).

(٢) علة لعدم الجبر والوهن والترجيح بالظن غير المعتبر بالخصوص ، وحاصله : أن مناط هذه الأمور مفقود هنا ؛ إذ المعيار فيها كون الظن سببا للدخول تحت أدلة الحجية أو الخروج عنها ، وبعد فرض النهي الخاص عن ظن مخصوص لا يصلح ذلك الظن للدخول تحتها.

(٣) الضمير راجع على الموصول المراد به الظن المعتبر قبل المنع عن الظن القياسي ،

__________________

(١) معارج الأصول : ١٨٦.

(٢) فرائد الأصول ١ : ٥٩٧ ، و ٤ : ١٤٣.

١١٠

لكان حجة ـ بعد المنع عنه ـ لا يوجب (١) خروجه عن تحت دليل الحجية ، وإذا كان (٢) على وفق ما لولاه لما كان حجة لا يوجب دخوله تحت دليل الحجية ، وهكذا (٣) لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين ؛ وذلك (٤) لدلالة دليل المنع على إلغائه (٥)

______________________________________________________

واسم «كان» ضمير راجع على الموصول المراد به الحجة المعتبرة فإذا دل الخبر المعتبر على حكم مخالف للقياس أخذ به ، ولا يعتني بالقياس أصلا ؛ لعدم اعتباره ، هذا في عدم وهن الحجة بمخالفة القياس ، وضمير «عنه» راجع على الظن القياسي.

(١) خبر «أن الظن» ، وضمير «خروجه» راجع على الموصول المراد به الحجة المعتبرة ، يعني : لا يوجب الظن القياسي ، بعد المنع عنه خروج الظن المعتبر عن الحجية.

غرضه : أن مخالفة القياس قبل المنع عنه كما لا توهن الظن المعتبر ولا تخرجه عن الحجية ، كذلك بعد النهي عنه ، فقوله : «بعد المنع» متعلق ب «لا يوجب» ، فكأنه قال : إن الظن القياسي إذا كان على خلاف الظن الذي لو لا القياس لكان حجة لا يوجب هذا الظن القياسي بعد المنع عنه خروج الظن المعتبر عن موضوع دليل الحجية.

(٢) عطف على «إذا كان» ، والضمير المستتر فيه والبارز في «لولاه» راجعان على الظن القياسي ، والمراد بالموصول : ما لا يكون بنفسه حجة ، وقوله : «لا يوجب» خبر «إن الظن القياسي» ، وفاعله ضمير مستتر فيه راجع على «كون الظن القياسي على وفق ما ليس بنفسه حجة» ، المستفاد من سياق العبارة ، وضمير «دخوله» راجع إلى الموصول في «ما لولاه» المراد به ما ليس بنفسه حجة يعنى : إن موافقة الظن القياسي لما ليس بنفسه حجة لا توجب دخول هذا الشيء الذي وافقه الظن القياسي تحت دليل الاعتبار.

(٣) يعني : أن الظن القياسي كما لا يكون جابرا وموهنا ؛ كذلك لا يكون مرجحا.

(٤) تعليل لعدم الترجيح والوهن والجبر بالقياس ، وحاصله ، كما تقدم في كلام الشيخ : أن دليل المنع يدل على إلغاء الشارع للظن القياسي رأسا ، وعدم جواز استعماله في الشرعيات ، ومن المعلوم : أن الجبر أو الوهن أو الترجيح مما يصدق عليه الاستعمال فلا يجوز.

(٥) الضمير في «إلغائه» راجع على الظن القياسي ، وهو مفعول المصدر المضاف والشارع فاعله ، والأولى سوق العبارة هكذا «على إلغاء الشارع إياه» ؛ وذلك لأن إضافة المصدر إلى مفعوله وتكميل عمله بالمرفوع ـ كما في المتن ـ قليل ؛ بل ربما قيل باختصاصه بالشعر.

١١١

الشارع رأسا ، وعدم (١) جواز استعماله في الشرعيات قطعا ، ودخله (٢) في واحد منها نحو استعمال له فيها كما لا يخفى ، فتأمل جيدا (٣).

______________________________________________________

(١) عطف على «إلغائه» ومفسر له.

(٢) مبتدأ خبره «نحو استعمال» ، وضميرا «دخله ، له» راجعان على الظن القياسي وضميرا «منها ، فيها» راجعان على الجبر والوهن والترجيح.

(٣) كي تعلم أن الاعتناء بالظن القياسي ممنوع شرعا مطلقا ، فليس القياس غبر المعتبر بدليل خاص كالظن غير المعتبر بدليل عام ؛ إذ يمكن الجبر أو حد أخويه به في بعض الموارد ، بخلاف القياس ، فإنه لا يمكن فيه شيء من ذلك أصلا كما عرفت وجه ذلك.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ خلاصة الكلام في المقام الأول : أنه قد اختلفوا فيه ، ومجمل الكلام في هذا المقام : أن المعيار في الجبر بهذا الظن غير المعتبر هو كونه موجبا لاندراج ما يوافقه تحت دليل الحجية ، فكان جابرا وإلا فلا.

وكذا المعيار في كونه مرجحا لأحد الخبرين المتعارضين على الآخر هو : اندراج ما يوافقه منهما تحت دليل الحجية ، كما أن المعيار فيه الوهن بهذا الظن غير المعتبر هو خروج ما يخالفه من الخبر المعتبر عن تحت دليل الاعتبار والحجية.

٢ ـ بيان الوجوه المحتملة في أدلة الحجية : وهي ثلاثة :

الأول : أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره بنفس السند لكون رواته ثقات مثلا.

الثاني : أن يكون موضوعها الخبر المظنون صدوره ، وإن كان الظن بصدوره مستندا إلى غير السند كعمل الأصحاب به واستنادهم إليه الموجب للظن بصدوره.

الثالث : أن يكون موضوعها ما هو أعم من ذلك ومن مظنون المطابقة يعني : أن الحجة هي الخبر المظنون صدوره ـ بأي واحد من النحوين المذكورين ـ أو مظنون الصحة أي : مظنون المطابقة للواقع ، مع فرض كون نفس الخبر ضعيفا سندا ، ولأجل هذه الاحتمالات اختلفت المباني. بمعنى أنه من يعتمد على الأول لا يجبر بالظن المذكور.

ومن يعتمد على الأخيرين يجبره بالظن المذكور ، ومختار المصنف هو : الاحتمال الثالث.

١١٢

٣ ـ الوجوه التي استدل بها على الترجيح بالظن غير المعتبر :

الأول : كونه موجبا لأقربية ما يوافقه إلى الواقع.

الثاني : أن مقومات الانسداد الجارية في الأحكام توجب الترجيح بالظن غير المعتبر ، فإن نتيجتها حجية الظن مطلقا ، سواء تعلق بالحكم أم بالحجة ، أم بالترجيح ، فالظن بالترجيح أيضا حجة.

الثالث : أنه يمكن إجراء مقدمات الانسداد في خصوص المرجحات لتنتج حجية الظن في مقام الترجيح بأن يقال : إنا نعلم إجمالا بمرجحات للروايات في الشريعة المقدسة ، وباب العلم والعلمي بها منسد. ولا يمكن إهمالها للعمل الإجمالي المزبور ، ولا يمكن الاحتياط لعدم إمكانه ، ولا يجوز الرجوع إلى الأصل ؛ إذ مقتضاه : عدم الحجية ، وهو ينافي العلم الإجمالي المزبور بوجودها.

ومقتضى قبح ترجيح المرجوح على الراجح هو : العمل بالظن ، ولازم ذلك : حجية الظن في مقام الترجيح.

٤ ـ جواب المصنف عن هذه الوجوه الثلاثة :

أما الجواب عن الوجه الأول : فلأنه لم يقم دليل على الترجيح بالظن غير المعتبر.

وأما الجواب عن الوجه الثاني : فلأن جريان مقدمات الانسداد في الأحكام لا تنتج إلا حجية الظن بالأحكام أو الطرق ، على خلاف تقدم ، والظن بالترجيح خارج عنهما.

وأما الجواب عن الوجه الثالث : فلأنه يقال : أولا : إنه لا تجري مقدمات الانسداد في خصوص الترجيح.

وثانيا : أن مصب المقدمات المذكورة هو المرجحات المعلومة إجمالا ـ بعد الفراغ عن مرجحيتها فالمعتبر بالانسداد هو الظن بتعيين ما هو مرجح لا حجية الظن بأن هذا الشيء مرجح.

٥ ـ المقام الثاني ـ وهو الظن غير المعتبر الذي ثبت عدم اعتباره بدليل خاص كالقياس ـ فحاصل الكلام فيه : أنه لا يوجب انجبار ضعف ولا وهنا ولا ترجيحا ؛ لأن الدليل المانع عنه بالخصوص يوجب سقوطه عن الاعتبار أصلا ، فلا يصلح لشيء مما ذكر لأن هذه الأمور نحو استعمال للقياس في الشرعيات ، والمفروض المنع عنه.

٦ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أن المناط في الجبر والترجيح اندراج ما يوافق الظن غير المعتبر تحت دليل الحجية ،

١١٣

.................................................................................................

______________________________________________________

كما أن المناط في الوهن خروج ما يخالفه عن تحت دليل الحجية.

٢ ـ موضوع أدلة الحجية هو الاحتمال الثالث.

٣ ـ الظن القياسي لا يكون موجبا للانجبار ولا موجبا للوهن ولا الترجيح.

١١٤

المقصد السابع

في الأصول العملية

١١٥
١١٦

المقصد السابع : في الأصول العملية (١)

______________________________________________________

الأصول العملية

(١) وقبل الخوض في أصل البحث ينبغي تقديم أمور :

الأول : بيان الفرق بين الأدلة الاجتهادية والأصول العملية.

وحاصل الفرق بينهما : أن المراد بالأصول العلمية هو : الوظائف المقررة للشاك الذي لم يكن له طريق معتبر إلى الواقع من القطع أو الأمارة ، التي جعلها الشارع حجة وطريقا إلى الواقع.

فالأصل العملي عبارة عن حكم مجعول للشك وفي ظرف الشك ؛ بحيث لوحظ الشك موضوعا له ويقابله الدليل الاجتهادي ، حيث أن الحكم مجعول للواقع في مورد الشك ؛ ولكن الشك ليس جزءا من موضوعه ، مثلا : خبر الواحد حجة عند الشك في الحكم الواقعي ؛ لكن ليس الموضوع مأخوذا فيه الشك ، فقول زرارة بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال إخبار عن الواقع ؛ وإن كان حجية خبره في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

أما أصالة البراءة : فقد أخذ في موضوعها الشك ؛ لأنها تقول : إذا لم تدر وجوب الدعاء أجر البراءة ، فالدعاء المشكوك مجرى للبراءة.

فالمتحصل : أن المجعول في الأصول العملية حكم على الشك ، وفي الأدلة حكم على الواقع حال سترته ، مع جعل الأمارة دليلا عليه.

أما الفرق بينهما من حيث التسمية : فلأن الأصول العملية الدالة على الوظائف في الشك تسمى أدلة فقاهتية ، والأدلة الدالة على الحكم الشرعي في نفس الأمر تسمى أدلة اجتهادية ؛ وذلك لمناسبة موجودة في تعريف الفقه والاجتهاد ، حيث عرفوا الفقه «بأنه العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية» ، وليس المراد من الأحكام هي الأحكام الواقعية ؛ لعدم تعلق العلم بها دائما.

فتعين أن يكون المراد بها هي : الظاهرية الموجودة في مواضع الأصول العلمية. فناسب أن يسمى ما دل على الأحكام الظاهرية التي تعلق بها العلم بالأدلة الفقاهتية.

وعرفوا الاجتهاد : «باستفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي» ، ومن المعلوم : أن ليس المراد منه هو الحكم الظاهري ؛ وإلا يكون معلوما لا مظنونا ؛ بل المراد هو الحكم

١١٧

.................................................................................................

______________________________________________________

الواقعي الذي تعلق به الظن ، فناسب ذلك أن يسمى ما دل على ذلك الحكم الواقعي الذي يتعلق به الظن دليلا اجتهاديا ، ولا مناقشة في الاصطلاح.

ثم الأصول العملية قد تكون في مقابل الأصول الاعتقادية التي يجب الاعتقاد بها ، فهذه للاعتقاد وتلك للعمل ، وإذا أطلق الأصول احتمل أن يراد به : أصول الفقه الشامل للأصل والدليل ، واحتمل أن يراد به : أصول الاعتقاد. هذا تمام الكلام في الأمر الأول.

الثاني : بيان ما هو الوجه ، والسبب لمخالفة المصنف مع الشيخ الأنصاري «قدهما» ، حيث عنون المصنف مبحث البراءة بعنوان واحد ، وجعله مسألة واحدة. هذا بخلاف الشيخ «قدس‌سره» حيث جعل الشك في التكليف الذي هو مجرى للبراءة اثني عشرة مسألة ، وتعرض في ضمن مباحث وسائل متعددة. باعتبار أن الشبهة تارة : تكون وجوبية ، وأخرى : تكون تحريمية ، وثالثة : تكون مشتبهة بينهما ؛ كدوران الأمر بين الوجوب والحرمة والإباحة ، ومنشأ الشك في الجميع : إما فقدان النص أو إجماله ، أو تعارض النصين ، أو الأمور الخارجية.

فحاصل ضرب الثلاثة في الأربعة اثنا عشر.

ثم تعرض الشيخ «قدس‌سره» للبحث عن كل قسم مستقلا ، والوجه والسبب لتفصيل الشيخ وتقسيمه «قدس‌سره» أمران :

الأول : اختصاص بعض أدلة البراءة بالشبهة التحريمية ؛ كقوله «عليه‌السلام» : «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» (١).

الثاني : أن النزاع المعروف بين الأصوليين والأخباريين مختص بالشبهة التحريمية ، وأما الشبهة الوجوبية : فوافق الأخباريون الأصوليين في الرجوع إلى البراءة ، فالحاصل : أن السبب لتفصيل الشيخ «قدس‌سره» هو : اختلاف الموارد في بعض الخصوصيات ولذا ذهب الأخباريون إلى البراءة في الشبهة الوجوبية ، وإلى الاحتياط في الشبهة التحريمية ، بدعوى : وجود الفرق بينهما ، فلا بد من البحث عن كل مسألة على حدة ؛ لاختلاف جهة البحث.

وأما المصنف : فقد خالف الشيخ ، حيث جعل البحث عاما لمطلق الشك في التكليف الجامع بين جميع الأقسام المذكورة ؛ إلا فرض تعارض النصين ، فأخرجه من هذا البحث

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣١٧ / ٩٣٧ ، الوسائل ٦ : ٢٨٩.

١١٨

.................................................................................................

______________________________________________________

بدعوى : إنه ليس موردا للبراءة ؛ لأن المتعيّن فيه الرجوع إلى المرجحات ، ومع فقدها : يتخير.

وكيف كان ؛ فهو خارج عن المبحث لقيام الحجة المعينة على الترجيح أو التخيير عند تمامية أدلة العلاج ترجيحا أو تخييرا ، فإن أصالة البراءة تكون مرجعا عند عدم الدليل ، ومع وجود الدليل تعيينا ـ كما إذا كان أحد النصين راجحا على الآخر ـ أو تخييرا ـ كما إذا لم يكن لأحدهما ترجيح على الآخر ـ لا تصل النوبة إلى البراءة ، فالسبب والوجه لما صنعه المصنف «قدس‌سره» : أن تعدد المسائل بنظره إنما هو بتعدد جهة البحث ، فمع وحدة الجهة تتحد المسألة ولو مع تعدد الموضوع أو المحمول. وبما أن جهة البحث هاهنا واحدة يعم البحث ويشمل جميع ما فرض من الموضوعات المتنوعة ، ولا خصوصية لبعض تلك الموضوعات عن الأخرى ، في جهة البحث.

الثالث : بيان وجه حصر الأصول في الأربعة ، وهي : الاستصحاب والبراءة والاحتياط والتخيير. قيل : الوجه في ذلك أمران :

الأول : جريان الأصول الأربعة في جميع أبواب الفقه.

الثاني : عدم كثرة النقض والإبرام إلا في هذه الأربعة. ثم انحصار مجاري الأصول ومواردها وإن كان عقليا ؛ لأنه يدور بين النفي والإثبات ؛ إلا إن حصر نفس الأصول في الأربعة استقرائي ، بمعنى : أن الأصول التي تجري في جميع أبواب الفقه منحصرة فيها ؛ وإلا فالأصول التي ينتهي إليها الفقيه في مقام العمل أكثر من هذه الأربعة ؛ كقاعدة الفراغ ، وقاعدة التجاوز ، وقاعدة الطهارة ، وقاعدة الحلية ، وما أشبهها.

ولذا يقول المصنف «قدس‌سره» : «والمهم منها أربعة».

الرابع : إن الأصول العقلية ليست في طول الأصول الشرعية ؛ بل الجميع في عرض واحد ، ففي الظرف الذي يحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يحكم الشرع برفع الحكم عن الجاهل.

نعم ؛ يظهر من صاحب مصباح الأصول : كون الأصول العقلية في طول الأصول الشرعية ، حيث قال : «فإن المكلف إذا لم يصل إلى الحكم الواقعي بالقطع الوجداني ولا بالتعبد الشرعي ، وعجز أيضا عن معرفة الحكم الظاهري تعيّن عليه الرجوع إلى ما يستقل به العقل من البراءة أو الاحتياط أو التخيير على اختلاف الموارد. وتسمى هذه القواعد بالأصول العلمية العقلية». «مصباح الأصول ، ج ٢ ، ص ٢٤٨». وظاهر كلامه

١١٩

وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص (١) واليأس عن الظفر بدليل مما (٢) دل

______________________________________________________

هو : كون الأصول العقلية في طول الأصول الشرعية ، ولازم ذلك : أن لا تصل النوبة إلى الأصول العقلية ؛ إذا ما من مورد إلا وفيه أصل شرعي كالبراءة الشرعية وغيرها ، فالحق : أن الجميع في عرض واحد ، وأن الاختلاف في التسمية لأجل الاختلاف في المصدر والدليل.

إذا عرفت هذه الأمور ، فنرجع إلى توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية» كما هو العادة.

(١) يعني : أن رتبة الأصل العملي متأخرة عن الدليل ، فلا تصل النوبة إليه إلا بعد اليأس عنه ؛ لتوقف موضوع الأصل العملي ـ وهو الشك في الحكم الواقعي ـ على عدم الدليل عليه ؛ فمعه لا موضوع للأصل ولو تعبدا ، ثم إن توصيف الأصول العملية بما أفاده إنما هو لإدراجها في المسائل الأصولية ، وإخراج القواعد الفقهية ؛ كقاعدة : «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» عنها.

أما الأول : فلأن الأصول العلمية لا تقع في طريق الاستنباط ؛ لعدم انطباق ضابط المسألة الأصولية عليها ، حتى تكون من المسائل الأصولية التي هي كبريات القياسات المنتجة ـ بعد ضم صغرياتها إليها ـ لأحكام كلية فرعية ؛ إذ ليست الأصول العملية إلا وظائف للجاهل بالحكم الشرعي الواقعي بعد اليأس عن الظفر بدليل عليه ، من دون أن تقع في طريق الاستنباط ليستنتج منها حكم كلي فرعي ، فلا بد من تعميم القواعد الأصولية لما ينتهي إليه المجتهد بعد الفحص عن الدليل على الحكم وعدم الظفر به ، حتى تندرج الأصول العملية في المسائل الأصولية.

وأما الثاني : فلأنه لا ينتهي الفقيه بعد الفحص عن الدليل على الحكم إلى القواعد الفقهية ؛ لعدم ترتبها على مشكوك الحكم ؛ كما هو شأن الأصول العملية ؛ بل هي أحكام كلية يرجع إليها المجتهد ابتداء.

(٢) بيان لقوله : «التي ينتهي إليها» ، والمراد بالموصول : الوظائف المدلول عليها بسوق الكلام ، يعني : من الوظائف التي دل عليها حكم العقل ، كالبراءة العقلية المستندة إلى قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، أو دل عليها عموم النقل كالبراءة الشرعية المستندة إلى مثل حديث الرفع.

فقوله : «حكم العقل أو عموم النقل» إشارة إلى انقسام الأصول إلى العقلية والشرعية.

١٢٠