دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

والاحتمال ، فلا محيص (١) عن تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته ، وحينئذ (٢) لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع (٣) أو الوضع (٤) أو السعة (٥) أو الإباحة (٦) مما يعم أطراف العلم (٧) مخصصا (٨) عقلا لأجل مناقضتها (٩) معه.

______________________________________________________

جميع الجهات ، فالعلم الإجمالي بوجود دم محقون مردد بين شخصين أحدهما مؤمن متق والآخر كافر حربي جائز القتل منجز للتكليف.

ومن هذا القبيل : حكمهم بوجوب الفحص في بعض الشبهات الموضوعية الوجوبية كالاستطاعة المالية ، وبلوغ المال الزكوي حد النصاب ، فإنهم مع التزامهم بالبراءة في الشبهات الموضوعية حكموا بالاحتياط ووجوب الفحص في هذين الموردين. وإن كان كالخمر الدائر بين الإناءين أمكن إثبات حلية كل واحد من الأطراف بالأدلة المرخصة.

(١) جواب «إن كان» ، وضميرا «تنجزه ، مخالفته» راجعان على التكليف.

وغرضه : أن فعلية التكليف من جميع الجهات توجب تنجزه وامتناع جعل الترخيص شرعا ؛ لكون الترخيص مضادا للتكليف الفعلي ونقضا للغرض منه وهو جعل الداعي حقيقة من غير فرق فيهما بين العلم بالتكليف والظن به واحتماله ؛ لأن شمول أدلة الترخيص للأطراف يوجب العلم باجتماع الضدين في صورة العلم بالتكليف ، والظن باجتماعهما في صورة الظن به ، واحتمال اجتماعهما في صور احتماله ، ومن المعلوم : امتناع الجميع.

(٢) أي : وحين كون التكليف فعليا من جميع الجهات لا محالة ... والأولى اقتران «لا محالة» بالفاء فيقال «فلا محالة».

(٣) نحو : «رفع ما لا يعلمون».

(٤) نحو : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم».

(٥) نحو : «الناس في سعة ما لا يعلمون».

(٦) نحو : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه فتدعه».

(٧) أي : العلم الإجمالي. قوله : «مما يعم» بيان للموصول في «ما دل» ، والمراد بالعلم هو الإجمالي.

(٨) بصيغة اسم المفعول خبر «يكون» يعني : أن أدلة البراءة الشرعية وإن كانت شاملة ـ بمقتضى إطلاقها ـ لأطراف العلم الإجمالي لكن لا بد من تخصيصها بالشبهات البدوية ؛ لمحذور المناقضة المذكورة.

(٩) أي : مناقضة الرفع والوضع والسعة والإباحة مع التكليف الفعلي من جميع

٣٢١

وإن لم يكن (١) فعليا كذلك (٢) ـ ولو كان (٣) بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح العقاب على مخالفته (٤) ـ ...

______________________________________________________

الجهات. فقوله : «لأجل» تعليل لتخصيص ما دل بعمومه على الرفع أو الوضع أو السعة أو الإباحة عقلا.

نعم لو قطعنا بعدم التكليف ـ كما في الشبهات البدوية بعد الفحص ـ تجري البراءة.

إن قلت : نحتمل التكليف في الشبهات البدوية فكيف تجري البراءة؟ وذلك يستلزم احتمال المناقضة ، وهو أيضا لا يجامع البراءة ؛ لأنه من احتمال الجمع بين الضدين. وهو كالقطع به مستحيل.

قلت : لا يحتمل التكليف الفعلي في الشبهات البدوية بعد الفحص واليأس.

(١) عطف على «إن كان فعليا» والضمير المستتر فيه وفي «لو كان» راجع على المعلوم بالإجمال.

(٢) أي : فعليا من جميع الجهات ، وهذا إشارة إلى القسم الثاني من التكليف الفعلي ، وهو الفعلي التعليقي وقد تقدم توضيحه بقولنا : «الثاني أن لا يكون الغرض الداعي إلى الحكم مهما بنحو ...» الخ ، يعني : أن فعليته التامة تتوقف على العلم به تفصيلا ، فالعلم الإجمالي لا يوجب تنجزه قهرا ؛ لكنه لا لقصور في العلم ، بل لعدم بلوغ ملاكه بدون العلم التفصيلي حدا يقتضي لزوم إيصاله إلى المكلف بأي نحو كان ، فالخلل في المعلوم لا في العلم.

ولما كان كل واحد من الأطراف مجرى للأصل النافي للتكليف ؛ للشك في كون كل واحد منها متعلقا للحكم الفعلي ، كان المقتضي لجريان أصل البراءة فيه موجودا والمانع عنه مفقودا ، ومعه يرتفع موضوع حكم العقل باستحقاق العقوبة على ارتكاب كل واحد من الأطراف.

(٣) للمعلوم بالإجمال الذي لا يكون فعليا من جميع الجهات فردان : أحدهما : أن لا يكون فعليا أصلا يعني : لا من جهة العلم ولا من سائر الجهات.

ثانيهما : أن لا يكون فعليا من جهة العلم فقط ، فقوله : «ولو كان بحيث ...» الخ. إشارة إلى الخفي منهما وهو الثاني.

(٤) إذ لا يبقى مع العلم التفصيلي مرتبة الحكم الظاهري محفوظة فإن الحكم الظاهري في مرتبة الجهل بالواقع والعلم التفصيلي لا يبقى مجالا للجهل ، وذلك بخلاف أطراف العلم الإجمالي التي يكون مرتبة الحكم الظاهري في كل طرف منها محفوظة.

٣٢٢

لم يكن (١) هناك مانع عقلا ولا شرعا.

______________________________________________________

(١) جواب «وإن لم يكن» وضميرا «امتثاله ، مخالفته» راجعان على المعلوم بالإجمال.

أما عدم المانع العقلي : فلأن المانع هو قبح الترخيص في المعصية القطعية ، وهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا من جميع الجهات ، وأما إذا لم يبلغ هذه المرتبة ولو لعدم العلم التفصيلي به ، فلا مانع حينئذ من الإذن في ارتكاب تمام الأطراف.

وأما عدم المانع الشرعي : فلأن المتوهم من المانع شرعا في المقام هو لزوم محذور التناقض بين صدر أدلة الأصول وذيلها إذا بنينا على شمولها لأطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

توضيح لزوم التناقض : أن مقتضى عموم قوله : «عليه‌السلام» : «كل شيء لك حلال» حلية المشتبه بالشبهة البدوية ، وكذا كل واحد من الأطراف في المقرونة ، ومقتضى إطلاق ذيله ـ أعني : «حتى تعلم أنه حرام» ـ هو تنجز الحرمة بالعلم الإجمالي ، لأن «تعلم» مطلق يشمل كلا من العلم التفصيلي والإجمالي ، فيلزم الحكم بالحلية لكل طرف بمقتضى الصدر ، والحكم بالحرمة بمقتضى الذيل.

وهذا الإشكال ـ وهو التناقض المذكور ـ تعرض له الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في بحث تعارض الاستصحابين بالنسبة إلى بعض أخبار الاستصحاب المشتمل على الذيل.

قال الشيخ «قدس‌سره» : «فإذا فرض اليقين بارتفاع الحالة السابقة في أحد المستصحبين فلا يجوز إبقاء كل منهما تحت عموم حرمة النقض بالشك ؛ لأنه مستلزم لطرح الحكم بنقض اليقين بمثله» (١) ؛ لكن هذا المحذور مفقود هنا ، لاختصاصه بالأدلة المرخصة المشتملة على هذا الذيل.

وأما الفاقد له مثل حديث الرفع فلا تناقض فيه أصلا ، فلا مانع من شموله للأطراف وإثبات الترخيص فيها ، والحاصل : أنه مع عدم وجود المحذور العقلي والشرعي عن شمول أدلة الأصول النافية للأطراف لا مناص من الحكم بحليتها.

فالمتحصل : أن المصنف قال في مباحث القطع : بأن العلم الإجمالي كالعلم التفصيلي علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة وقال في حاشيته على بحث القطع ، إن العلم الإجمالي مقتض لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة.

وقال هنا : بالتفصيل بين ما إذا كان التكليف فعليا من جميع الجهات ، فكان العلم

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٤١٠.

٣٢٣

ومن هنا (١) انقدح : أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي إلا إنه لا مجال (٢) للحكم الظاهري مع التفصيلي ، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات (٣) لا

______________________________________________________

الإجمالي علة تامة لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة.

وإن لم يكن التكليف فعليا من جميع الجهات لكان العلم الإجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة ، فالمراد بقوله : «وإن لم يكن فعليا» ليس نفي فعليته رأسا بأن يكون التكليف اقتضائيا أو إنشائيا ؛ بل معناه نفي الفعلية من جميع الجهات ؛ بأن يكون التكليف فعليا ولكن لا من جميع الجهات ، فحينئذ يكون لترخيص الشارع مجالا لأجل التردد والشك في كل واحد من أطراف العلم الإجمالي ، فيختلف العلم الإجمالي عن العلم التفصيلي بمعنى إنه لا مجال لأصل البراءة في مورد العلم التفصيلي ، هذا بخلاف العلم الإجمالي حيث يكون هناك مجال لأصل البراءة. هذا غاية ما يمكن أن يقال فيما أفاده المصنف من التفصيل في المقام.

(١) يعني : ومن انقسام الفعلي إلى قسمين ظهر : عدم الفرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في علية كل منهما للتنجيز إذا كان المعلوم فعليا من جميع الجهات.

وأما إذا لم يكن فعليا كذلك فيحصل الفرق بين العلمين ، ضرورة : أن الفعلي بمرتبته الأولى يتنجز إذا علم به تفصيلا ، ولا يبقى مجال للإذن في مخالفته ؛ لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري ـ وهو الشك في الحكم الواقعي ـ لانكشافه تمام الانكشاف حسب الفرض.

وأما إذا علم به إجمالا فرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه للشك في وجود التكليف في كل واحد من الأطراف ، وبه يتحقق موضوع الأصل النافي ، فيجري بلا مانع.

فبالجملة : فالتفاوت في ناحية المعلوم لا في ناحية العلم ؛ إذ لو كانت فعلية التكليف تامة من ناحية إرادة المولى وكراهته ـ بحيث لا يتوقف استحقاق العقوبة على مخالفته إلا على وصوله إلى المكلف بأي نحو من أنحاء الوصول ـ تنجز بالعلم الإجمالي أيضا. وإن لم تكن الفعلية تامة إلا بالعلم التفصيلي ، لم يؤثر العلم الإجمالي في تنجيزه ؛ لعدم حصول شرط فعليته التامة وهو العلم به تفصيلا ، فموضوع الأصل المرخص باق مع العلم الإجمالي كما كان قبله.

(٢) لما عرفت من عدم الشك الذي هو موضوع الحكم الظاهري مع العلم التفصيلي.

وتوضيح بعض العبارات كان غالبا طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٣) أي : من غير جهة العلم التفصيلي به ؛ بل من جهة الملاك وإرادة المولى وكراهته ،

٣٢٤

محالة (١) يصير فعليا معه من جميع الجهات ، وله (٢) مجال مع الإجمالي ، فيمكن أن لا يصير فعليا معه (٣) ؛ لإمكان جعل الظاهري في أطرافه (٤) وإن كان (٥) فعليا من غير هذه الجهة فافهم (٦).

ثم إن الظاهر (٧) أنه لو فرض أن المعلوم بالإجمال كان فعليا من جميع ...

______________________________________________________

فإذا علم به تفصيلا صار فعليا من جميع الجهات ، فيصير حتميا ولا يبقى معه مجال لحكم آخر.

(١) الأولى اقترانه بالفاء ، لأنه جواب «فإذا كان» إلا أن يكون الجواب قوله : «يصير» ؛ لكن ينبغي حينئذ تأخير «لا محالة» عنه لأنه من معمولات «يصير».

والضمير في «معه» راجع على العلم التفصيلي حتى لا يبقى للحكم الظاهري مجال.

(٢) أي : وللحكم الظاهري مجال مع العلم الإجمالي لوجود موضوعه وهو الشك معه ، والضمير المستتر في «يصير» في الموردين راجع على الحكم الواقعي.

(٣) أي : مع العلم الإجمالي ؛ إذ المفروض : وجود الجهل في كل طرف الذي هو مناط الحكم الظاهري ، وقد أشار إلى وجه عدم فعلية الحكم مع العلم الإجمالي بقوله : «لإمكان».

وحاصله : أن اقتران العلم الإجمالي بالشك أوجب إمكان جعل الحكم الظاهري في أطرافه ، وهذا مفقود في العلم التفصيلي.

(٤) أي : أطراف العلم الإجمالي.

(٥) يعني : وإن كان الحكم الواقعي «فعليا من غير هذه الجهة» أي : من سائر الجهات بحيث لو علم به تفصيلا لتنجز ولم يكن فعليا من الجهة المضادة ؛ لجعل الترخيص والحكم الظاهري في أطرافه.

(٦) لعله إشارة إلى عدم الفرق عقلا وشرعا بين العلمين في عدم صحة الترخيص ؛ إذ فعلية الحكم لا تتوقف على العلم بنفس الحكم لا تفصيلا ولا إجمالا وإلا لزم دخل العلم فيه وهو خلاف الإجماع ؛ بل الضرورة ، فالحكم يصير فعليا بمجرد وجود موضوعه علم به المكلف أم لا.

وعليه : فجريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي لعدم كون الحكم فعليا من جميع الجهات لم يظهر له وجه وجيه ؛ بل الحق بناء على منجزية العلم الإجمالي أنه لا تجري الأصول في أطرافه أصلا كالعلم التفصيلي.

(٧) هذا الكلام من المصنف «قدس‌سره» تعريض بما اشتهر من التفصيل في وجوب

٣٢٥

.................................................................................................

______________________________________________________

الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي بين الشبهة المحصورة بوجوبه فيها ، وغير المحصورة بعدم وجوبه فيها ، ويظهر هذا التفصيل من الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» أيضا.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان ما هو المناط لوجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي.

ويظهر من كلام الشيخ «قدس‌سره» تبعا للمشهور : أن المناط لوجوب الاحتياط وعدم وجوبه فيها هو كون الشبهة محصورة أو غير محصورة ، فيجب الاحتياط على الأول ؛ لأن العلم الإجمالي منجز للتكليف الواقعي فيجب علينا امتثاله ؛ لأن الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، ولا يحصل العلم بالبراءة إلا بالاحتياط والإتيان بجميع الأطراف في الشبهة الوجوبية وترك الجميع في الشبهة التحريمية.

هذا بخلاف ما إذا كانت الشبهة غير محصورة ، حيث لا يؤثر العلم الإجمالي في تنجز التكليف الواقعي ، فلا يجب الاحتياط.

وأما مناط وجوب الاحتياط عند المصنف «قدس‌سره» فهو كون التكليف فعليا من جميع الجهات ، سواء كانت الشبهة محصورة أو غير محصورة ،

ولا يجب الاحتياط لو لم يكن التكليف فعليا كذلك من دون فرق بين كون الشبهة محصورة أو غير محصورة.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك إشكال المصنف على هذا التفصيل.

وحاصل الإشكال : أن المعلوم إجمالا إن كان فعليا من جميع الجهات وجب الاحتياط في جميع الأطراف ؛ وإن كانت غيره محصورة ، وإن لم يكن فعليا كذلك لم يجب الاحتياط في شيء منها ؛ بل تجوز مخالفته القطعية وإن كانت الأطراف محصورة ؛ إذ لا علم حينئذ بحكم فعلي من جميع الجهات حتى تجب موافقته وتحرم مخالفته.

وبالجملة فلا وجه لإناطة تنجيز العلم الإجمالي بحصر الأطراف تنجيزه بعدم حصرها ؛ بل المدار في التنجيز وعدمه على الفعلية التامة وعدمها ، فلا تفاوت بين حصر الأطراف وعدم حصرها.

نعم يكون بينهما تفاوت فيما أشار إليه بقوله : «وإنما التفاوت».

وحاصل التفاوت : أن الشبهة غير المحصورة تلازم غالبا جهة مانعة عن فعلية الحكم كالخروج عن الابتلاء ، والاضطرار المانع عن الفعلية ؛ لكون الرفع فيه واقعيا لا ظاهريا ، فتكون كثرة الأطراف ملازمة لما يمنع الفعلية التامة ، فالتفاوت أيضا من ناحية المعلوم لا

٣٢٦

الجهات (١) لوجب عقلا موافقته (٢) مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة ، وإنما التفاوت بين المحصورة وغيرها هو : أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم مع كونه فعليا لولاه (٣) من سائر الجهات.

وبالجملة : لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها في التنجز وعدمه (٤) فيما (٥) كان المعلوم إجمالا فعليا يبعث (٦) المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه ...

______________________________________________________

من جهة كثرة الأطراف ، فإذا كانت الأطراف الكثيرة مورد الابتلاء ، ولم يترتب الحرج المنفي شرعا على الاجتناب عن جميعها كان العلم الإجمالي منجزا ؛ لتعلقه بتكليف فعلي ، وعليه ، فلا يدور عدم تنجيز العلم الإجمالي مدار عدم انحصار الأطراف كما سيأتي في التنبيه الثالث ، فانتظر.

(١) أي : حتى الإرادة والكراهة.

(٢) أي : موافقة التكليف الفعلي بالاجتناب عن جميع أطرافه في الشبهة التحريمية «مطلقا» ، أي : ولو كانت أطرافه غير محصورة.

(٣) أي : لو لا ما يمنع ، فالضمير راجع على الموصول في «ما يمنع» المراد به ما عدا سائر الجهات كالخروج عن الابتلاء ، وضمير «كونه» راجع على المعلوم بالإجمال ، و «من سائر الجهات» متعلق ب «فعليا».

وتوضيحه ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٢٤» ـ : أن الحكم الواقعي في غير المحصورة فعلي من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري ، فهو بحيث لو علم به تفصيلا لتنجز ؛ لكن هذه الفعلية في كل طرف منوطة بعدم ما يمنع عنها بالنسبة إلى ذلك الطرف كخروجه عن مورد الابتلاء أو الاضطرار إلى ارتكابه أو نحوهما ، فإنه لو لا خروج بعض الأطراف عن الابتلاء مثلا لكان الحكم الواقعي بالنسبة إليه فعليا من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري ، لكن هذا المانع أخرجه عن الفعلية من سائر الجهات غير جهة مضادته للحكم الظاهري أيضا ، فعدم فعليته حينئذ ليس من جهة واحدة ؛ بل من جهات عديدة ، ولذا لو تعلق به العلم التفصيلي لم يتنجز أيضا.

(٤) يعني : عدم التنجز ، فإن كان العلم الإجمالي منجزا في المحصورة كان في غير المحصورة كذلك.

(٥) متعلق ب «تفاوتا» و «ما» ظرف لكون المعلوم بالإجمال فعليا.

(٦) إن كان التكليف المعلوم إجمالا هو الوجوب كالأمر المردد بين القصر والتمام في بعض الموارد «يبعث المولى نحوه فعلا» بأن يريده.

٣٢٧

كذلك (١) ، مع (٢) ما هو عليه من كثرة أطرافه.

والحاصل : أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب (٣) تفاوتا في ناحية العلم ، ولو أوجب (٤) تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر وعدمها (٥) مع عدمه ، فلا يكاد يختلف العلم الإجمالي باختلاف الأطراف قلة وكثرة في التنجيز (٦) وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها (٧) ...

______________________________________________________

(١) أي : فعلا بأن يكرهه.

(٢) متعلق بكل من «يبعث ، ويزجر» ، وضمير «هو» راجع على المعلوم بالإجمال ، وضمير «عليه» راجع على الموصول ، و «من كثرة أطرافه» بيان له يعني مع كثرة أطراف المعلوم بالإجمال.

(٣) بحيث يوجب تنجز العلم لو كانت الأطراف محصورة وعدمه إن لم تكن كذلك كما عليه المشهور ؛ بل ادعي عليه الإجماع كما قال الشيخ.

وكيف كان ؛ فاختلاف الأطراف في الحصر في عدد قليل وعدم الحصر في عدد قليل «لا يوجب تفاوتا في ناحية العلم» ؛ بأن ينجز العلم في أحدهما فيجب الاجتناب عن جميع أطرافه ، ولا ينجز في الآخر فلا يجب الاجتناب كما هو المستفاد من كلام الشيخ والمنسوب إلى جماعة آخرين.

(٤) أي : ولو أوجب اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه «تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم» ، أي : أن العلم الذي كشف عن الواقع ـ الذي هو معلوم ـ لا يوجب التفاوت ، وإنما الواقع المكشوف بالعلم يوجب التفاوت ، فإن كان الواقع فعليا ـ بأن أراده المولى أو كرهه ـ كان سببا للاحتياط في الأطراف كلها ولو كانت محصورة فالاختلاف لم يحدث من ناحية الأطراف قلة وكثرة وإنما حدث من ناحية الواقع «في فعلية البعث أو الزجر مع الحصر». هذا بيان لقوله : «ناحية المعلوم» «مع الحصر» متعلق ب «فعلية البعث» ، فلو كانت الأطراف محصورة كان الواقع فعليا فيجب الاحتياط فيها.

(٥) أي : وعدم الفعلية مع عدم الحصر ، يعني : أن الحكم فعلي مع الحصر وغير فعلي مع عدمه.

(٦) متعلق ب «يختلف» ، و «ما» في «ما لم يختلف» ظرف له.

(٧) وعدم الفعلية بتفاوت الأطراف كثرة وقلة ، يعني : أن التنجيز غير منوط بقلة الأطراف حتى تكون كثرتها مانعة عنه ، بل المناط في التنجيز وعدمه هو فعلية المعلوم وعدمها ، فكثرتها وقلتها إن أوجبتا اختلاف المعلوم في الفعلية وعدمها اختلف في التنجيز وإلا فلا كما مر آنفا.

٣٢٨

بذلك (١) ، وقد عرفت آنفا (٢) : أنه لا تفاوت بين التفصيلي والإجمالي في ذلك (٣) ما لم يكن تفاوت في طرف المعلوم (٤) أيضا (٥) ، تأمل تعرف.

وقد انقدح (٦) : أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة مخالفتها ، ضرورة : أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجبت موافقته قطعا ؛

______________________________________________________

(١) أي : بسبب القلة والكثرة فإن أوجب كثرة الأطراف عدم إرادة المولى لم يجب الاحتياط ؛ وإلا وجب وإن كانت الأطراف كثيرة جدا.

(٢) أي : قوله : «ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين ...» الخ.

(٣) أي : في التنجيز وعدمه.

(٤) أي : من حيث الفعلية التامة وعدمها.

(٥) الظاهر زيادة هذه الكلمة ؛ إذ المدار في التنجيز وعدمه هو الفعلية التامة وعدمها ، لا تفصيلية العلم وإجماله ، ولا كثرة الأطراف وقلتها ، ومن المعلوم : ظهور «أيضا» في عدم انحصار مناط التنجيز في فعلية المعلوم فقط ؛ بل للعلم دخل فيه أيضا ، وهذا خلاف ما صرح به آنفا.

(٦) وهذا الكلام من المصنف تعريض بكلام الشيخ «قدس‌سره» ، حيث يظهر منه التفصيل بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة مخالفتها وجعل العلم الإجمالي علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، ومقتضيا بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : بيان الأقوال في المسألة ، فهناك أربعة أقوال :

١ ـ أنه لا تأثير للعلم الإجمالي أصلا ؛ بل حكمه حكم الشك فتجري البراءة في جميع أطرافه.

٢ ـ أنه كالعلم التفصيلي علة تامة بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة كذلك.

٣ ـ أنه مقتض بالنسبة إلى كل من وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية ، فيؤثر في كل منهما لو لا المانع.

٤ ـ أنه علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، ومقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

وهذا الأخير ما ذهب إليه الشيخ «قدس‌سره».

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن المصنف اعترض على التفصيل الذي قال به الشيخ «قدس‌سره» ، فإنه بعد أن حكم بلزوم الاجتناب عن كلا المشتبهين بحكم العقل قال :

٣٢٩

وإلا (١) لم يحرم مخالفته كذلك أيضا (٢) ...

______________________________________________________

«نعم لو أذن الشارع في ارتكاب أحدهما مع جعل الآخر بدلا عن الواقع في الاجتزاء بالاجتناب عنه جاز ...».

وحاصل كلام الشيخ قبل إيراد المصنف عليه : أن للشارع التصرف في مرحلة الامتثال بأن يقنع بالموافقة الاحتمالية الحاصلة بترك أحد الطرفين ، والترخيص في ارتكاب الآخر لمصلحة تقتضيه ، فإذن الشارع في ارتكاب الحرام الواقعي لا يقبح مع جعل الحلال الواقعي بدلا عنه إذا كان ما ارتكبه هو المحرم المعلوم بالإجمال ، وتكون مصلحة الترخيص جابرة لمفسدة ارتكاب الحرام الواقعي. وعليه : فالامتثال التعبدي الحاصل باجتناب ما جعله الشارع بدلا عن الحرام الواقعي مؤمن من عقوبة المولى ورافع لموضوع حكم العقل بلزوم رعاية التكليف في كل واحد من المشتبهين ، ومن المعلوم : أن قناعة الشارع بالموافقة الاحتمالية مبنية على كون العلم الإجمالي مقتضيا لوجوب الموافقة القطعية ؛ لا علة تامة له ، إذ لو كان علة له لم يتوجه الترخيص في بعض الأطراف. هذا ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في هذا المقام.

وحاصل ما أورد المصنف : أنه لا وجه للتفكيك ـ في علية العلم الإجمالي للتنجيز ـ بين حرمة المخالفة ووجوب الموافقة القطعيتين ؛ بل إما أن يكون علة لكليهما فتجب الموافقة القطعية كما تحرم المخالفة القطعية ، أو لا يكون علة لشيء منهما ، فلا تحرم المخالفة القطعية كما لا تجب الموافقة القطعية ؛ إذ لو كان المعلوم بالإجمال إلزاما فعليا من جميع الجهات ـ بمعنى : كونه بالغا من الأهمية حدا لا يرضى معه المولى بمخالفته على كل تقدير كما عرفت توضيحه في بيان الفعلي من جميع الجهات ـ حرمت مخالفته ووجبت موافقته قطعا ، وإن لم يكن إلزاما بالغا هذا الحد جازت مخالفته القطعية ، ولم تجب موافقته كذلك ؛ لفرض توقف فعليته التامة على العلم به تفصيلا ، والمفروض عدم حصوله ، والحكم غير الفعلي الحتمي لا موافقة ولا مخالفة له ولا تشتغل الذمة به.

والمتحصل : أن تأثير العلم الإجمالي في كل من الموافقة والمخالفة على حد سواء ، والمدار على المعلوم ، فما أفاده الشيخ «قدس‌سره» من إمكان عدم وجوب الموافقة القطعية بناء على جعل البدل لا يخلو عن إشكال.

(١) أي : وإن لم يكن التكليف فعليا لم تحرم مخالفته القطعية.

(٢) أي : كعدم وجوب موافقته القطعية ، فقوله : «كذلك» أي قطعا. وهناك كلام طويل أضربنا عنه رعاية للاختصار.

٣٣٠

ومنه (١) ظهر : أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا إما (٢) من جهة عدم الابتلاء ببعض أطرافه أو (٣) من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا ، ...

______________________________________________________

وخلاصة ما يظهر من الشيخ وجماعة آخرين : أنه يشترط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي : أن لا تكون الأطراف غير محصورة ، وأن لا يكون بعضها خارجا عن محل الابتلاء ، وأن لا يكون بعضها مضطرا إليه ، وأن لا يكون تدريجيا ، ولكن المصنف «قدس‌سره» على أن جامع هذه الشرائط عدم فعلية التكليف ، فإن كان التكليف فعليا لم يفد شيء من ذلك فإنه يرى دوران الأمر مدار الفعلية فقط ، ولذا قال : «ومنه» ، أي : مما تقدم من كون التنجز دائرا مدار فعلية الواقع وعدمها «ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به» أي : بالتكليف «إجمالا» لم تجب الموافقة وجازت المخالفة ؛ لعدم الإرادة الفعلية للواقع.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : ومما ذكرنا من أن المناط في وجوب الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي هو فعلية التكليف المعلوم بالإجمال فعلية تامة أي : من جميع الجهات ؛ لا كون الأطراف محصورة «ظهر ...» الخ.

وغرضه من هذا الكلام هو : الإشارة إلى بعض الجهات المانعة عن فعلية التكليف الموجبة لعدم وجوب الموافقة القطعية وعدم حرمة المخالفة كذلك مع العلم بالحكم إجمالا.

وقد ذكر في العبارة ثلاثا من الجهات المانعة.

(٢) هذا إشارة إلى الجهة الأولى ، وهي عدم الابتلاء ، فإن الابتلاء بجميع الأطراف شرط في فعلية التكليف.

فلو علم إجمالا بنجاسة إناء مردد بين إنائه وإناء من لا يبتلى به عادة كأحد ملوك الدنيا ، أو علم بحرمة امرأة معينة في بلده عليه بالرضاع ونحوه ، أو امرأة أخرى في أقصى بلاد الدنيا مع عدم ابتلائه بها عادة لم يكن هذا العلم الإجمالي علما بتكليف فعلي ؛ لاحتمال أن يكون متعلق التكليف ما هو خارج عن مورد الابتلاء وسيأتي تفصيله في التنبيه الثاني إن شاء الله تعالى فانتظر.

(٣) عطف على «إما من جهة» وإشارة إلى الجهة الثانية وهي الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا ؛ كما إذا كان في أحد الإناءين المشتبهين ماء وفي الآخر ماء الرمان ، واضطر إلى شرب ماء الرمان للتداوي مثلا ، أو مرددا كالاضطرار إلى شرب ماء أحد

٣٣١

أو (١) من جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر كأيام حيض

______________________________________________________

الإناءين المشتبهين لرفع العطش الحاصل بشرب أي واحد منهما ، فإن الاضطرار بأي نحو كان مانع عن فعلية وجوب الاجتناب ، وسيأتي تفصيل ذلك في التنبيه الأول إن شاء الله تعالى فانتظر.

في منجزية العلم الإجمالي في التدريجيات

(١) عطف أيضا على «إما من جهة» ، وإشارة إلى الجهة الثالثة المعبر عنها بالعلم الإجمالي في التدريجيات ، وهي عدم العلم بتحقق موضوع التكليف فعلا وإن علم تحققه إجمالا في الشهر مثلا ، وعلم تعلق التكليف به أيضا ، فإن العلم بتحقق الموضوع فعلا شرط في فعلية التكليف وتنجزه.

بيان ذلك ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٣٨» ـ : أنه لا ريب في أنه إذا كان التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات ـ التي منها العلم الإجمالي بتحقق موضوعه ـ كان التكليف منجزا ، ووجبت موافقته وحرمت مخالفته القطعيتان كما مر غير مرة ، سواء كانت أطراف الشبهة دفعية ـ أي : موجودة في زمان واحد ـ كالخمر المردد بين الإناءين اللذين يتمكن المكلف من ارتكاب أيهما شاء ، أم تدريجية أي : موجودة شيئا فشيئا في أزمنة متعددة ، فإن التدرج في وجود الأطراف لا يمنع عن فعلية التكليف وتنجزه ؛ إذ كما يصح تعلقه بأمر حاصل ويكون منجزا كذلك يصح تعلقه بأمر مستقبل كما هو الحال في الواجب المعلق ، ومثل له المصنف في فوائده : بما إذا علم المكلف وجوب فعل خاص عليه بالنذر أو الحلف في يوم معين ، وتردد ذلك اليوم بين يومين ؛ كما إذا علم أنه نذر صوم يوم معين وشك في أن ذلك اليوم هو يوم الخميس أو الجمعة ، فإنه بمجرد انعقاد النذر أو حصول المعلق عليه ـ فيما إذا كان النذر معلقا على شيء كصحة مريض أو قدوم مسافر ـ يصير وجوب الوفاء بالنذر حكما فعليا يجب الخروج عن عهدته بتكرار الفعل المنذور ، فيجب عليه صوم كلا اليومين الخميس والجمعة ، فلو توقف الامتثال في طرفه على إيجاد مقدمات قبل حلول زمان الإطاعة وجب تحصيلها ؛ لأن وجوب الوفاء غير معلق على شرط غير حاصل ، بل هو منجز فعلا ، ومجرد عدم حضور زمان الامتثال حين العلم الإجمالي لا يمنع من فعلية وجوب الصوم المنذور ، وتنجز خطابه ، ويشهد له صحة إيجاب الحج على المستطيع قبل الموسم ، ووجوب تهيئة المقدمات الموجبة للكون في المواقف المشرفة في أيام ذي الحجة ، وكذا وجوب الغسل على الجنب لصوم الغد ، وهكذا.

٣٣٢

المستحاضة مثلا لما (١) وجب موافقته بل جاز مخالفته (٢) ، وأنه (٣) لو علم فعليته ـ ولو كان (٤) بين أطراف تدريجية ـ لكان منجزا ووجب موافقته ، فإن التدرج لا يمنع عن

______________________________________________________

وأما إذا لم يكن التكليف المعلوم بالإجمال فعليا من جميع الجهات ؛ لأجل عدم العلم بتحقق موضوعه فعلا لم يكن منجزا ، فلا تجب موافقته ؛ بل جازت مخالفته القطعية ، كما إذا كانت المرأة مستمرة الدم من أول الشهر إلى آخره وعلمت بأنها في أحد ثلاثة أيام من الشهر حائض ، فإنه لا يجب عليها ولا على زوجها ترتيب أحكام الحيض في شيء من أيام الشهر ؛ إذ لا تكليف ما لم تصر الزوجة حائضا ، وليس قبل الحيض إلزام فعلي حتى تجب رعايته بترتيب الأحكام المختصة به في أيام الشهر.

فلها إجراء الأصل الموضوعي أعني : استصحاب الطهر من أول الشهر إلى أن تبقى ثلاثة أيام منه ، ثم ترجع في الثلاثة الأخيرة إلى أصالة البراءة عن الأحكام الإلزامية للحائض ، ولا مجال لاستصحاب عدم الحيض فيها ؛ إذ مع انقضاء زمان يسير من هذه الثلاثة الأخيرة تعلم المرأة بانتقاض الطهر في تمام الشهر ، إما في هذه الثلاثة وإما فيما انقضى من الأيام ، فلا مجال للاستصحاب ، فترجع حينئذ إلى الأصل المحكوم وهو أصالة الإباحة.

وعليه : فلهذه المرأة ترتيب جميع الأحكام التكليفية والوضعية ، فيجوز لها دخول المسجد كما يجوز لزوجها مباشرتها وطلاقها ؛ لأن موضوع حرمة دخول المسجد ووجوب الاعتزال وفساد الطلاق هو الحائض ، والمفروض : عدم إحرازه في شيء من أيام الشهر ، وحيث إنه لم يحرز الموضوع لم يكن الحكم المترتب عليه فعليا. فلا تجب موافقته ولا تحرم مخالفته.

وهناك كلام طويل متضمن لكون المصنف مخالفا للشيخ من حيث المبنى تركناه رعاية للاختصار.

(١) جواب «لو لم يعلم» ، وضمائر «موافقته ، مخالفته ، فعليته» راجعة على التكليف.

(٢) كما عرفت في مثال المرأة المستمرة دما في أيام الشهر.

(٣) عطف على «أنه لو لم يعلم» ، والضمير راجع على التكليف لو لم يكن للشأن.

(٤) بأن يكون وجود بعض الأطراف مترتبا زمانا على وجود الآخر ؛ كعلمه إجمالا بوجوب صوم أحد اليومين بالنذر ، فإن مجرد التدريجية لا تمنع عن الفعلية ؛ لصحة التكليف الفعلي بأمر استقبالي كصحته بأمر حالي ، حيث يكون الوجوب حاليا والواجب استقباليا ، كما هو الحال في الواجب المطلق الفصولي كالحج حيث إنه يستقر

٣٣٣

الفعلية ، ضرورة : أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي كالحج في الموسم للمستطيع فافهم (١).

______________________________________________________

وجوب الحج في ذمة المستطيع قبل حلول زمان الواجب وهو الموسم ، ولذا يجب عليه المسير وتهيئة المقدمات التي يتمكن بها من إتيان المناسك في وقتها.

(١) لعله إشارة إلى أن صحة التكليف بأمر استقبالي ـ بحيث يكون التكليف فعليا غير مشروط بشيء ـ محل الكلام ؛ إذ القيود غير الاختيارية لا محالة تخرج عن حيز الطلب ويتقيد هو بها ، ولذا بنى غير واحد من المتأخرين على استحالة الواجب المعلق خلافا لآخرين. أو إشارة إلى عدم صحة الواجب المعلق أصلا كما تقدم في بحث الواجب المعلق.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ أصالة الاشتغال ، ومجراها هو الشك ـ في المكلف به مع العلم بنوع التكليف وإمكان الاحتياط.

ثم الشك في المكلف به على قسمين :

١ ـ أن يكون المكلف به دائرا بين المتباينين ؛ كدورانه يوم الجمعة بين الظهر والجمعة مع العلم بوجوب صلاة فيه.

٢ ـ أن يكون دائرا بين الأقل والأكثر الارتباطيين كما لو شك في كون الاستعاذة من أجزاء الصلاة أم لا بمعنى : أن أجزاء الصلاة هل هي تسعة أو عشرة؟

وعلى هذا فيقع الكلام في مقامين :

الأول : في دوران الأمر بين المتباينين.

الثاني : في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

الكلام فعلا في المقام الأول أعني : دوران الأمر بين المتباينين والمراد بهما : أن لا يكون لهما قدر متيقن ، سواء كان تباينهما ذاتا كدوران الواجب بين الصوم والصدقة ، أم عرضا كدورانه بين القصر والتمام فيما إذا علم بوجوب أحدهما إجمالا ، فإن التباين بينهما باعتبار بشرط اللائية وبشرط الشيئية.

٢ ـ والضابط في العلم الإجمالي المتعلق بالمتباينين : هو رجوعه إلى قضية منفصلة مانعة الخلو ، فيقال في المثال المذكور. «الواجب إما الصوم وإما الصدقة» ، وهذا يرجع إلى قضيتين شرطيتين يكون مقدم كل واحدة منهما إحدى طرفي العلم الإجمالي. وتاليها

٣٣٤

.................................................................................................

______________________________________________________

نقيض الطرف الآخر. فيقال : حينئذ : «إن كان الصوم واجبا فليست الصدقة واجبة» ، وبالعكس.

هذا بخلاف الأقل والأكثر ، فإنه لا يصح ذلك فيهما ، فلا يقال : «إن كانت العشرة واجبة فليست التسعة واجبة» لوجوب التسعة على كل تقدير.

وقد قيد المصنف «قدس‌سره» الأقل والأكثر بالارتباطيين ؛ لأن المردد بين الأقل والأكثر الاستقلاليين خارج موضوعا عن الشك في المكلف به ؛ بل هو شك في أصل التكليف بالنسبة إلى الزائد.

٣ ـ الأقوال المعروفة في المقام لا تتجاوز عن خمسة :

الأول : العلم الإجمالي غير مؤثر أصلا لا في وجوب الموافقة ولا في حرمة المخالفة فتجوز المخالفة القطعية فضلا عن الاحتمالية نسب هذا القول إلى العلامة المجلسي.

الثاني : أنه مؤثر في حرمة المخالفة ووجوب الموافقة على نحو المقتضي لا العلة التامة ، وهو مختار المصنف في مبحث القطع من الكتاب.

الثالث : أنه مؤثر فيهما على نحو العلة التامة ، وهو مختار المصنف في المقام.

الرابع : أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية ومقتض بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية.

الخامس : أنه علة تامة بالنسبة إلى المخالفة القطعية. وأما بالنسبة إلى الموافقة القطعية فغير مؤثر أصلا ، ونسب هذا القول إلى المحقق القمي «رحمه‌الله».

٤ ـ المناط لوجوب الاحتياط والموافقة القطعية عند المصنف «قدس‌سره» كون التكليف فعليا من جميع الجهات ؛ لا كون الشبهة محصورة كما يظهر من الشيخ تبعا للمشهور.

وأما إذا لم يكن التكليف فعليا من جميع الجهات : فلا مانع عقلا ولا شرعا من جريان البراءة ، وأما عدم المانع عقلا فلأن المانع عقلا هو قبح الترخيص في المعصية القطعية ، وهو مختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما فعليا من جميع الجهات ، وأما لو لم يبلغ هذه المرتبة ولو لأجل عدم العلم التفصيلي به فلا مانع حينئذ من الإذن في ارتكاب تمام الأطراف.

وأما عدم المانع شرعا : فلأن المتوهم من المانع شرعا في المقام هو لزوم محذور التناقض بين صدر أدلة الأصول وذيلها إذا بنينا على شمولها لأطراف الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

٣٣٥

.................................................................................................

______________________________________________________

ولكن هذا المحذور مفقود فيما إذا لم يكن الدليل مغيّا بالعلم ـ نحو : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» ـ مثل حديث الرفع والحجب ونحوهما.

٥ ـ لا فرق بين العلم التفصيلي والإجمالي في علية كل منهما لتنجز التكليف فيما إذا كان التكليف فعليا من جميع الجهات.

وأما إذا لم يكن كذلك : فيحصل الفرق بين العلمين بمعنى : أن التكليف الفعلي يتنجز إذا علم به تفصيلا ؛ إذ لا يبقى حينئذ مجال للإذن في مخالفته لعدم بقاء موضوع للحكم الظاهري وهو الشك في الحكم الواقعي.

وأما إذا علم به إجمالا فرتبة الحكم الظاهري محفوظة معه للشك في وجود التكليف في كل واحد من الأطراف ، وبه يتحقق موضوع الأصل النافي فيجري بلا مانع أصلا.

٦ ـ الجهات المانعة عن فعلية التكليف :

الأولى : عدم الابتلاء ، فإن الابتلاء بجميع الأطراف شرط في فعلية التكليف.

الثانية : الاضطرار إلى بعض الأطراف معينا أو مرددا ، فإن الاضطرار بأي نحو كان مانع عن فعلية التكليف.

الثالثة : هي كون أطراف العلم الإجمالي من التدريجيات.

«فافهم» لعله إشارة إلى عدم صحة الواجب المعلق أصلا كما تقدم. فكيف يستشهد به في المقام؟

٧ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ أن العلم الإجمالي مؤثر على نحو العلة التامة بالنسبة إلى كل واحدة من الموافقة القطعية والمخالفة كذلك.

٢ ـ المناط لوجوب الاحتياط هو كون التكليف فعليا من جميع الجهات.

٣٣٦

تنبيهات

الأول (١) : أن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين ، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين.

______________________________________________________

مانعية الاضطرار عن تنجز التكليف بالعلم الإجمالي

(١) وقبل الشروع في البحث في هذا التنبيه لا بد من بيان أمر به يتضح محل البحث ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الأفعال الصادرة عن المكلفين تارة : معنونة بعناوين أولية وذاتية ، وأخرى : معنونة بعناوين ثانوية وعرضية.

ثم الأدلة المثبتة للأحكام الشرعية أيضا على قسمين :

تارة : تكون مثبتة لها على الموضوعات بعناوينها الأولية نحو : الخمر حرام ، والميتة حرام ، والوضوء واجب ، والصوم واجب.

وأخرى : تكون مثبتة لها على الموضوعات بعناوينها الثانوية نحو : «رفع ما اضطروا إليه ، ورفع ما استكرهوا عليه» ، و «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، ومن المعلوم : أن هذه الأدلة حاكمة على الأدلة المثبتة للأحكام الشرعية على الموضوعات بعناوينها الأولية ، فالاضطرار مانع عن فعلية حرمة الميتة مثلا ، ومحل البحث في هذا التنبيه الأول هو كون الاضطرار إلى بعض أطراف العلم الإجمالي مانعا عن تنجز التكليف المعلوم بالإجمال.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك : أن محل البحث في هذا التنبيه هو كون الاضطرار مانعا عن تنجز التكليف المعلوم بالعلم الإجمالي ، ثم محل الكلام ما إذا كان الاضطرار رافعا لجميع الآثار للمعلوم بالإجمال ؛ كما إذا علم بنجاسة أحد المائعين المضافين ، ثم اضطر إلى شرب أحدهما ، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم بالإجمال ليس إلا الحرمة المرتفعة بالاضطرار ، فيقع الكلام في أنه هل ينحل العلم الإجمالي بذلك أم لا؟

وأما إذا كان المرتفع بالاضطرار بعض الآثار ؛ كما لو علم بنجاسة أحد الماءين المطلقين ، ثم اضطر إلى شرب أحدهما لا على التعيين ، فإن الأثر المترتب على هذا المعلوم

٣٣٧

.................................................................................................

______________________________________________________

هو حرمة الشرب وعدم جواز الوضوء به ، والاضطرار إنما يرفع الأول دون الثاني ، فلا وجه لتوهم انحلال العلم الإجمالي وهو واضح ، فلا يجوز الوضوء بشيء منهما ، فهذا خارج عن محل الكلام.

إذا عرفت ما هو محل البحث في هذا التنبيه الأول فاعلم : أن غرض المصنف من عقد هذه التنبيهات هو : بيان موانع فعلية التكليف المعلوم بالإجمال.

ثم غرض المصنف من عقد هذا التنبيه هو : التعريض بما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في التنبيه الخامس من التنبيهات التي عقدها الشيخ «قدس‌سره» للشبهة التحريمية الموضوعية من الاشتغال. فلا بد من ذكر ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في التنبيه الخامس حتى يتضح ما أورده صاحب الكفاية عليه.

قال الشيخ : «الخامس : لو اضطر إلى ارتكاب بعض المحتملات : فإن كان بعضا معينا فالظاهر عدم وجوب الاجتناب عن الباقي إن كان الاضطرار قبل العلم أو معه ؛ لرجوعه إلى عدم تنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي ؛ لاحتمال كون المحرم هو المضطر إليه». ـ إلى أن قال : «وإن كان بعده ، فالظاهر وجوب الاجتناب عن الآخر». دروس «في الرسائل ، ج ٣ ، ص ٢٤٩».

وأما توضيح اعتراض المصنف عليه : فيتوقف على مقدمة وهي : بيان صور المسألة مع ما فيها من الخلاف بين الشيخ والمصنف.

وأما صورة المسألة فهي ست ؛ وذلك لأن الاضطرار يمكن أن يحصل قبل العلم الإجمالي ، أو معه ، أو بعده. وعلى جميع التقادير : إما أن يكون الاضطرار إلى واحد معين من أطراف الشبهة ، أو إلى واحد غير معين منها.

ومثال الاضطرار إلى المعين هو : ما إذا كان أحد المشتبهين بالنجس ماء ، والآخر ماء الرمان مثلا ، فاضطر إلى شرب ماء الرمان لمعالجة المرض. ومثال الاضطرار إلى الواحد غير المعين هو : ما إذا كان كلا المشتبهين بالنجس ماء وكان شرب أحدهما كافيا في رفع الاضطرار.

وكيف كان ؛ فصور الاضطرار ستة فلا بد من حكمها عند المصنف والشيخ «قدس‌سرهما».

فيقال : إنه لا خلاف ولا إشكال في رفع حرمة ما اضطر إليه بالاضطرار ، فيجوز ارتكاب أحد المشتبهين معينا فيما إذا اضطر إليه معينا ، أو مخيرا فيما إذا كان الاضطرار

٣٣٨

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى أحدهما لا بعينه ، وإنما الخلاف في حكم ما بقي من أطراف الشبهة بعد ارتكاب المكلف الطرف المضطر إليه ، فهل يجب الاجتناب عن الباقي مطلقا أو لا يجب كذلك أو فيه تفصيل؟

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مختار المصنف هو : الاحتمال الثاني ، فإن الاضطرار عنده كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى واحد معين ، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين ، ضرورة : أنه مطلقا موجب لجواز ارتكاب أحد الأطراف أو تركه تعيينا أو تخييرا ، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم أو بوجوبه بينها فعلا.

ومختار الشيخ «قدس‌سره» هو : الاحتمال الثالث أعني : التفصيل.

وقد استدل الشيخ على التفصيل بوجهين :

أحدهما : إن وجوب الاحتياط والاجتناب عن كلا المشتبهين إنما هو مع تنجز التكليف بالحرام على كل تقدير ؛ بحيث لو علم تحريمه تفصيلا لوجب الاجتناب عنه ، وهذا المناط مفقود في المقام ، إذ على تقدير العلم التفصيلي بحرمة المضطر إليه لا يجب الاجتناب عنه لرفع التكليف بالاضطرار إليه ، فيرجع الشك في الباقي إلى الشك في أصل التكليف ، فلا مانع من الرجوع إلى أصل البراءة.

وثانيهما : أن المناط في وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين هو تعارض الأصول فيهما ، وهو مفقود هنا أيضا ؛ وذلك لأن الاضطرار يوجب سقوط الأصل في المضطر إليه ، فيبقى الأصل في الباقي سليما عن المعارض ، ولازمه : عدم وجوب الاجتناب عنه. وهذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح ما أفاده الشيخ في المقام.

فالمتحصل : أن الشيخ «قدس‌سره» أوجب الاجتناب عن الباقي في أربع صور من الصور الست ، ثلاث منها هي صور كون الاضطرار إلى غير المعين ، والرابعة هي صورة كون الاضطرار إلى معين مع حصوله بعد العلم الإجمالي ، ولم يوجب الاجتناب عن الباقي في اثنتين منها ، وهما كون الاضطرار إلى معين مع حصوله قبل العلم الإجمالي أو معه ، فيظهر من كلامه «قدس‌سره» تفصيلان تفصيل بين الاضطرار إلى المعين وغير المعين فيجب الاجتناب عن الباقي في الأول دون الثاني ، وتفصيل بين الاضطرار بعد العلم الإجمالي وبين حصوله قبله أو معه فيجب الاجتناب عن الباقي في الأول دون الثاني والثالث.

ويظهر من المصنف «قدس‌سره» في المتن : الإشكال على كلا التفصيلين ، بتقريب : أن

٣٣٩

ضرورة (١) : أنه (٢) مطلقا موجب لجواز ارتكاب (٣) أحد الأطراف ، أو تركه (٤)

______________________________________________________

الاضطرار من حدود التكليف بمعنى اشتراط فعلية التكليف بالاختيار ودورانه مداره حدوثا وبقاء ، وعدم حصول العلم بالتكليف الفعلي المنجز في الاضطرار السابق على زمان العلم به والمقارن له واضح ؛ كما يظهر من التزام الشيخ بالبراءة في سائر الأطراف في هاتين الصورتين ، وكذا في الاضطرار اللاحق ؛ لأن العلم بالتكليف الفعلي وإن كان ثابتا ظاهرا حال اختيار المكلف وقدرته على الامتثال ؛ إلّا إن طروء الاضطرار يوجب انتفاء العلم بالتكليف الفعلي المنجز لاعتبار الاختيار في فعلية الحكم حدوثا وبقاء كما عرفت. ومع احتمال انطباق الحرام الواقعي على المضطر إليه لا مقتضى لوجوب الاجتناب عن سائر الأطراف كما في الاضطرار السابق والمقارن. والعلم الإجمالي وإن حصل في زمان الاختيار واستقل العقل بلزوم رعايته ؛ إلّا إن طروء الاضطرار بعده أوجب اختصاص تنجيزه بزمان قبل عروض الاضطرار ؛ لعدم بقاء العلم بالتكليف الفعلي المنجز على كل تقدير بعد عروضه ، حيث إنه ترتفع به القضية المنفصلة الحقيقية المقومة للعلم الإجمالي ، لمنافاة الترخيص الفعلي في المضطر إليه مع التكليف الإلزامي المحتمل وجوده ؛ لأن احتمال جعل المتنافيين كالقطع به في الاستحالة.

وكيف كان ؛ فالتكليف مشروط بالاختيار حدوثا وبقاء ، فينتفي مع الاضطرار من دون فرق بين الصور الست أصلا.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين» يعني : كذلك يكون الاضطرار مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان الاضطرار إلى طرف غير معين من الأطراف. وهذا إشارة إلى أول تفصيلي الشيخ «قدس‌سره» ، وهو متضمن للصورة الرابعة والخامسة والسادسة.

(١) تعليل لقوله : «مانعا» وإشكال على هذا التفصيل وقد عرفت توضيحه.

(٢) أي : الاضطرار مطلقا ـ سواء كان إلى معين أم إلى غير معين ـ موجب لجواز الارتكاب في الشبهة التحريمية ؛ لما عرفت : من منافاة الترخيص الفعلي مع فعلية الحرمة على كل تقدير ، فلا وجه للتفصيل بين المعين وغير المعين.

(٣) هذا في الشبهة التحريمية ؛ كالاضطرار إلى شرب أحد الماءين معينا أو مخيرا ، مع العلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين.

(٤) عطف على «ارتكاب» هذا في الشبهة الوجوبية ؛ كما إذا وجب عليه الإتيان

٣٤٠