دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

ومعه (١) لا يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر فاسد (٢) قطعا ؛ لاستلزامه الانحلال

______________________________________________________

لقاعدة الملازمة أو غيرها ، وقوله : «عقلا» قيد أيضا ل «غيره» أي : بناء على كون وجوب المقدمة غيريا عقليا.

(١) أي : ومع الانحلال لا يوجب العلم الإجمالي تنجز التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر ، فضمير «يوجب» راجع على العلم الإجمالي ، وضميرا «تنجزه ، كان» راجعان على التكليف.

(٢) خبر «وتوهم» ورد لكلام الشيخ الأعظم «قدس‌سره» ، وقد أجاب عنه بوجهين :

أحدهما : استلزام الانحلال للمحال وهو الخلف وما يترتب عليه المحال محال أيضا.

وثانيهما : التناقض ، وقد عرفت توضيح هذين الوجهين.

وأما توضيح الوجه الأول ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ١٩٦» ـ فمنوط بالإشارة إلى أمور :

الأول : أن وجوب المقدمة تابع لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط والفعلية والتنجز ؛ لأن وجوبها سواء كان بحكم الشرع أم العقل وجوب ترشّحي متفرع في مقام الثبوت على وجوب ذي المقدمة ، فيقال : وجب ذو المقدمة فوجبت مقدمته ، فلا بد من تنجز حكم ذي المقدمة حتى يتنجز حكم المقدمة ، وهذا واضح.

الثاني : أن الخلف محال ، مثلا : إذا فرض اشتراط جواز التقليد بعدالة المجتهد ، ثم بني على جواز تقليد الفاسق ، لزم أن لا يكون ما فرض شرطا له بشرط ، وهذا محال للزوم التناقض وهو دخل العدالة وعدمه في جواز التقليد.

الثالث : أن يكون وجوب الأقل غيريا على تقدير وجوب الأكثر نفسيا ، بناء على ما قيل من تصوير المقدمات الداخلية.

الرابع : يعتبر في انحلال العلم الإجمالي بالتكليف تنجز الطلب في بعض الأطراف على كل تقدير ، حتى يتبدل العلم الإجمالي به بعلم تفصيلي بالتكليف في ذلك الطرف ، وشك بدوي في الآخر ، وحينئذ : يستقل العقل باشتغال الذمة بالتكليف فيما تنجز فيه والبراءة عما لم يتنجز فيه ، فالعلم بوجوب الأقل نفسيا أو غيريا إنما ينحل إذا كان وجوبه المعلوم بالتفصيل منجزا على كل تقدير ؛ إذ لو لم يكن كذلك بأن كان منجزا على تقدير وجوبه النفسي ، وغير منجز على تقدير وجوبه الغيري ؛ لجريان البراءة عن الأكثر المستلزم لعدم تنجز وجوب الأقل غيريا ومقدميا ، لما أمكن دعوى اشتغال الذمة به قطعا حتى يرتفع الترديد المقوم للعلم الإجمالي ؛ إذ الموجب لاشتغال الذمة هو

٣٨١

المحال ، بداهة (١) : توقف لزوم الأقل فعلا إما لنفسه أو لغيره (٢) على تنجز التكليف

______________________________________________________

التكليف الفعلي المنجز لا الفعلي ولو لم يبلغ مرتبة التنجز ، فإذا لم يتنجز وجوب الأكثر لم يتنجز وجوب الأقل الذي هو مقدمة له ، وحينئذ فلم يعلم اشتغال الذمة بهذا الأقل على تقدير وجوبه الغيري ، والمفروض : أن الانحلال متوقف على القطع بالاشتغال بأحد الطرفين بالخصوص على كل تقدير ؛ وإلا فلا مجال له ، لتبعية النتيجة لأخسّ المقدمتين كما في علم الميزان.

إذا عرفت هذه الأمور ، فاعلم : أن دعوى انحلال العلم الإجمالي هنا في غير محلها ؛ لأنه خلاف الفرض ؛ إذ المفروض : توقف الانحلال على تنجز وجوب الأقل على كل تقدير ـ بمقتضى المقدمة الرابعة ـ سواء كان الواجب الواقعي هو الأقل أم الأكثر ، مع أنه ليس كذلك ، فإن الواجب لو كان هو الأكثر لم يكن وجوب الأقل منجزا ؛ لتعبية وجوب المقدمة لوجوب ذيها كما عرفت في الأمر الأول ، والمفروض : عدم تنجز وجوب ذيها وهو الأكثر ، فيكون تنجز الأقل مختصا بتقدير تعلق الوجوب به لا بالأكثر ، مع أن المعتبر في الانحلال تنجز الأقل على كل تقدير ، ففي الحقيقة يكون لتنجز الأكثر دخل في الانحلال حتى يكون وجوب الأقل منجزا على كل من تقديري وجوبه النفسي والمقدمي ، وليس له دخل ؛ لأن دخله مانع من الانحلال وهذا هو الخلف المحال.

وإن شئت فقل : إن الانحلال الموجب لعدم تنجز وجوب الأكثر موقوف على العلم التفصيلي بوجوب الأقل فعلا ، وهذا العلم يتوقف على تنجز وجوب الأقل على كل حال ؛ سواء كان الوجوب متعلقا بالأقل أم بالأكثر ، وقد فرض عدم تنجز وجوب الأكثر بالانحلال لجريان البراءة فيه.

فدعوى : تنجز وجوب الأقل على كل تقدير تنافي عدم تنجز وجوب الأكثر ، فالذي يكون دخيلا في الانحلال هو تنجز الوجوب المتعلق بالأقل فقط ، وهو خلاف ما فرضناه من دخل تنجز وجوبه مطلقا ؛ ولو كان الواجب هو الأكثر. هذا تقريب إشكال الخلف.

وأما إشكال التناقض : فقد يأتي في كلام المصنف حيث قال : «مع أنه يلزم من وجوده عدمه». وخلاصته : أنه يلزم من وجود الانحلال عدمه ، وما يلزم من وجوده عدمه محال ؛ لأنه من التناقض فالانحلال محال ، وقد عرفت توضيح ذلك فلا حاجة إلى ذكره ثانيا على نحو التفصيل.

(١) بيان لاستلزام الانحلال المحال وهو الخلف ، وقد عرفته بقولنا : «إذا عرفت هذه الأمور فاعلم أن دعوى انحلال العلم الإجمالي ...».

(٢) هذا و «لنفسه» قيدان ل «لزوم» المقيد بقوله : «فعلا». و «على تنجز» متعلق

٣٨٢

مطلقا ؛ ولو كان (١) متعلقا بالأكثر ، فلو كان لزومه (٢) كذلك مستلزما لعدم تنجزه (٣) ؛ إلا إذا كان متعلقا بالأقل كان (٤) خلفا ، مع (٥) أنه يلزم من وجوده عدمه لاستلزامه (٦)

______________________________________________________

ب «توقف» يعني : بداهة توقف وجوبه الفعلي النفسي أو الغيري على تنجز التكليف ... الخ.

(١) بيان للإطلاق.

(٢) أي : «فلو كان لزوم الأقل مطلقا ـ ولو كان متعلقا بالأكثر ـ مستلزما لعدم تنجزه ...» الخ.

(٣) أي : لعدم تنجز التكليف كما ادعاه الشيخ «قدس‌سره» في تقريب الانحلال.

(٤) جواب «فلو كان» ، وقد عرفت تقريب الخلف.

(٥) هذا هو الوجه الثاني من الإشكال على الانحلال وهو التناقض ، ومحصله : أنه يلزم من وجود الانحلال عدمه وما يلزم من وجوده عدمه محال ؛ لأنه من التناقض فالانحلال محال ، توضيحه : أن انحلال العلم الإجمالي بالعلم التفصيلي ، والشك البدوي منوط بالعلم بوجوب الأقل تفصيلا ، وهذا العلم التفصيلي موقوف على تنجز وجوب الأقل مطلقا نفسيا كان أو غيريا ، وتنجز وجوبه الغيري يقتضي تنجز وجوب الأكثر نفسيا حتى يترشح منه على الأقل ويصير واجبا غيريا ؛ لما مر من تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في أصل الوجوب والتنجز ، مع اقتضاء الانحلال لعدم تنجز التكليف بالأكثر نفسيا المستلزم لعدم تنجز وجوب الأقل غيريا ، فإذا لم يكن وجوب الأكثر منجزا ـ لجريان قاعدة القبح فيه ـ فلا يتنجز وجوب الأقل أيضا ، فيمتنع الانحلال.

وإن شئت فقل : إن لازم الانحلال عدم تنجز وجوب الأكثر على تقدير تعلق الوجوب به ، ولازم عدم تنجزه عدم الانحلال ؛ لإناطة الانحلال بتنجز وجوب الأقل مطلقا ولو كان الواجب هو الأكثر ، فإذا كان تنجز وجوب الأقل في صورة واحدة وهي وجوب الأقل نفسيا ، فلا ينحل العلم الإجمالي بالتفصيلي ؛ لعدم حصول العلم التفصيلي حينئذ بوجوب الأقل على كل حال ؛ بل يبقى العلم الإجمالي على حاله ، ومقتضاه : وجوب الاحتياط عقلا بإتيان الأكثر تفريغا للذمة عن الواجب النفسي المعلوم.

وعليه : فوجوب الأقل ثابت على كل حال ، وغير ثابت كذلك ، وليس هذا إلا التناقض ، فملاك هذا الإشكال هو التناقض ، كما أن ملاك الإشكال الأول هو الخلف.

(٦) هذه الضمائر غير ضمير «أنه» الذي هو للشأن راجعة على الانحلال ، وقد عرفت وجه الاستلزام ؛ إذ معنى الانحلال هو تنجز التكليف في بعض الأطراف بالخصوص ، وصيرورة غيره مشكوكا فيه بالشك البدوي ، وكون التكليف فيه غير منجز على تقدير تعلقه به.

٣٨٣

عدم تنجز التكليف على كل حال (١) المستلزم (٢) لعدم لزوم الأقل مطلقا (٣) المستلزم (٤) لعدم الانحلال ، وما (٥) يلزم من وجوده عدمه محال.

نعم (٦) ؛ إنما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة ، فإن وجوبه حينئذ (٧) يكون

______________________________________________________

(١) أي : سواء كان وجوب الأقل نفسيا أم غيريا.

(٢) صفة لقوله : «عدم» والوجه في الاستلزام ما عرفت من : أنه على تقدير عدم تنجز وجوب الأكثر نفسيا استقلاليا ينتفي تنجز وجوب الأقل غيريا ؛ لتبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في التنجز وعدمه ، فيصير الأقل منجزا في صورة واحدة ، وهو وجوبه نفسيا لا مطلقا ولو كان غيريا.

(٣) أي : ولو كان متعلقا بالأكثر ؛ لأن وجوب الأقل حينئذ غيري وليس بمنجز ؛ لعدم تنجز وجوب الأكثر.

(٤) بالكسر نعت لقوله : «لعدم» ، والوجه في هذا الاستلزام أيضا واضح ؛ إذ لا بد من تنجز وجوب الأقل على كل تقدير حتى ينحل به العلم الإجمالي ، والمفروض : عدم تنجزه كذلك كما مر غير مرة.

(٥) أي : الانحلال المستلزم للمحال محال أيضا ، وهذا هو التناقض ، وضميرا «وجوده ، عدمه» راجعان على الموصول المراد به الانحلال.

(٦) استدراك على عدم انحلال العلم الإجمالي بالأقل والأكثر الارتباطيين ، وهذا الاستدراك خارج موضوعا عن محل البحث كما سينبه عليه المصنف.

وحاصله : أن الأقل والأكثر إذا كانا استقلاليين ، وعلم إجمالا بمطلوبية أحدهما فلا مانع عقلا من انحلاله ، فإن المصلحة الملزمة في الأقل تقتضي وجوبه النفسي الاستقلالي ؛ لامكان وجود مصلحتين ملزمتين تقوم إحداهما بالأقل والأخرى بالأكثر ، فلو اقتصر على الأقل ترتبت عليه مصلحته ، وجرت البراءة عن وجوب الأكثر ؛ كتردد الدين بين الدرهم والدرهمين.

هذا إذا لم يتوقف استيفاء مصلحة الأقل على استيفاء مصلحة أخرى ؛ وإلا فمع التوقف أو التلازم لا يستقيم جريان البراءة عن الأكثر الموقوف جريانها على انحلال العلم الإجمالي ؛ لتلازم أوامر الأجزاء حينئذ ثبوتا وسقوطا ، الموجب لاندراجه في الأقل والأكثر الارتباطيين.

(٧) أي : فإن وجوب الأقل حين كونه ذا مصلحة نفسية مستقلة ـ وإن كانت بالنسبة إلى مصلحة الأكثر ضعيفة ـ يكون معلوما له.

٣٨٤

معلوما له ، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين (١) أو مصلحة أقوى (٢) من مصلحة الأقل ، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة (٣) بلا كلام ، إلا إنه خارج (٤) عما هو محل النقض والإبرام في المقام ، هذا (٥) مع أن الغرض الداعي إلى الأمر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر.

بناء (٦) على ما ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في المأمور بها والمنهي عنها ، وكون (٧) الواجبات الشرعية ألطافا في

______________________________________________________

(١) يعني : غير متلازمتين ، وإلا فيجري عليهما حكم الارتباطية ؛ لعدم قيام المصلحة بالأقل على فرض كون واجد الملاك واقعا هو الأكثر كما أشرنا إليه.

(٢) بلا ملازمة بين مراتب المصلحة المترتبة على الأقل والأكثر ؛ بحيث يمكن استيفاء مصلحة الأقل بدون مصلحة الأكثر.

(٣) للشك في تعلق خطاب نفسي آخر بالأكثر غير ما تعلق قطعا بالأقل.

(٤) أي : خروجا موضوعيا ؛ لأن محل الكلام هو الأقل والأكثر الارتباطيان ، وليس هذا منهما ؛ بل من الاستقلاليين اللذين لا إشكال في استقلال العقل بالبراءة فيهما لكون العلم الإجمالي فيهما صوريا لا حقيقيا ؛ لأنه من أول الأمر يعلم تفصيلا بوجوب الأقل ويشك في وجوب الأكثر ، فالتعبير بالانحلال فيهما مسامحة.

(٥) أي : ما ذكرناه من لزوم الإتيان بالأكثر عقلا في الارتباطيين ؛ لعدم انحلال العلم الإجمالي بالتكليف الدائر بين الأقل والأكثر.

ومحصل هذا الوجه : هو اقتضاء الغرض الداعي إلى التشريع ؛ لوجوب الاحتياط بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها كما عليه مشهور العدلية ، فإذا علم المكلف بأمر المولى المتعلق إما بالأقل وإما بالأكثر فقد علم بالغرض الملزم الوحداني المترتب عليه ؛ لاستلزام العلم بالمعلول للعلم بالعلة ، فيجب عقلا تحصيل العلم باستيفاء ذلك الغرض ، والاقتصار على فعل الأقل لا يوجب العلم باستيفائه ؛ للشك في كونه محصلا له ، فلا يجوز الاكتفاء به عقلا ، بل لا بد في إحراز الغرض اللازم الاستيفاء من الإتيان بالأكثر ؛ لكونه محصلا له قطعا.

وبالجملة : فالمقام من صغريات الشك في المحصل وهو مجرى قاعدة الاشتغال.

(٦) وأما بناء على حصول الغرض بنفس الأمر لا بفعل المأمور به وترك المنهي عنه ، فلا موجب للاحتياط حينئذ ؛ للعلم بحصول الغرض بمجرد إنشاء الأمر.

(٧) بالجر عطف على قوله : «تبعية». وحاصله : أن الواجبات الشرعية تقرب العباد

٣٨٥

.................................................................................................

______________________________________________________

إلى الواجبات العقلية ، وهي القرب إليه «جل وعلا» ، فإن التنزه عن القبائح تخلية للنفس عن الرذائل ، وفعل الواجبات تكملة وتحلية لها بالفضائل كما يرشد إليه قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، و (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) فالواجب تحصيل اللطف ، وهو يتوقف على الإتيان بالأكثر لأنه محصل له قطعا بخلاف الأقل ، فإنه يشك معه في تحقق تلك الواجبات العقلية ، فلا وجه للاقتصار عليه.

وبعبارة أخرى : أن قوله : «مع أن الغرض الداعي» إشارة إلى الوجه الثاني من المصنف على وجوب الاحتياط عقلا في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.

توضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن في كون الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد أقوالا :

الأول : أن مشهور العدلية يقولون : إنها تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها ، بمعنى : أن في الصلاة مصلحة ملزمة ، وفي شرب الخمر مفسدة ملزمة ، فوجوب الصلاة تابعة للمصلحة فيها ، وحرمة شرب الخمر تابعة للمفسدة فيه.

الثاني : أن بعض العدلية يقول : بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد فيها لا في متعلقاتها ، بمعنى : أن أمر الشارع فيه مصلحة ، وكذلك نهيه نظير الأوامر الامتحانية.

الثالث : قول الأشاعرة حيث يقولون بعدم كون الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد أصلا ، ثم هناك خلاف آخر في علم الكلام ، حيث إن العدلية يقولون : بأن أفعال الله معللة بأغراض ، والأشاعرة ينكرون ذلك.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الأصوليين من العدلية يقولون بوجوب الاحتياط عقلا في موردين :

الأول : في الشك في محصل عنوان المأمور به نحو عنوان الصلاة مثلا ، فإذا شك في تحقق عنوان الصلاة المأمور بها عند ترددها بين الأقل وهو تسعة أجزاء ، وبين الأكثر وهو عشرة أجزاء مع العلم بتحقق عنوان الصلاة المأمور بها بالأكثر وهو الإتيان بعشرة أجزاء ، فيجب الإتيان بالأكثر احتياطا لتحصيل عنوان المأمور به.

الثاني : في الشك في محصل غرض المولى ، فإذا شك المكلف في محصل غرض المولى هل هو الأقل أو الأكثر ، مع علمه بأن الإتيان بالأكثر محصل للغرض قطعا ، فيجب عليه الإتيان بالأكثر احتياطا للعلم بتحصيل غرض المولى.

٣٨٦

الواجبات العقلية (١) ، وقد مر (٢) اعتبار موافقة الغرض وحصوله (٣) عقلا في إطاعة

______________________________________________________

فالمتحصل : أن الشك في المحصل مجرى الاحتياط ، سواء كان الشك في محصل عنوان المأمور به أو في محصل غرض المولى الحاصل بإتيان الأكثر ؛ لأن الغرض أو المصلحة في المأمور به علة لأمر الشارع ، فلا يسقط الأمر إلا بتحققهما ، ولا يعلم بتحققهما إلا بإتيان الأكثر ، فيجب احتياطا الإتيان بالأكثر حتى يعلم بتحققهما.

(١) توضيح «كون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية» يتوقف على مقدمة وهي : بيان ما هو المراد من الكلمات الثلاث ، فيقال : إن المراد من الواجبات الشرعية واضح ، وهو الصوم والصلاة ونحوهما. والمراد من الواجبات العقلية هي : الأمور الاعتقادية نحو معرفة الحق تعالى بما له من صفات الكمال والجلال حتى يحصل القرب بين الواجب تعالى وبين العباد.

والمراد من الألطاف جمع اللطف : ما يكون معه العبد أقرب إلى الطاعة وأبعد من المعصية. هذا معنى اللطف في اصطلاح المتكلمين.

إذا عرفت هذه المقدمة يتضح لك معنى قوله «قدس‌سره» : الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية ؛ إذ بالواجب الشرعي يكون العبد أقرب إلى الطاعة وأبعد من المعصية ، فيحصل له القرب إلى الله بالطاعة وترك المعصية بعد العلم بالواجب وصفاته «سبحانه تعالى».

فيكون الواجب الشرعي مقربا إلى الواجب العقلي وهو القرب إليه تعالى بالطاعة.

(٢) حيث قال في بحث التعبدي والتوصلي في مقام الفرق بينهما : «بخلاف التعبدي ، فإن الغرض منه لا يكاد يحصل بذلك ؛ بل لا بد في سقوطه وحصول غرضه من الإتيان به متقربا به منه تعالى».

ومعنى كلامه هنا : أن الغرض لا يسقط في التعبديات ، إلا مع قصد الإطاعة ، والإطاعة فيها يتوقف على قصد أمرها ، فما لم يقصد أمرها لم يسقط الغرض الباعث على الأمر.

(٣) أي : وحصول الغرض «عقلا في إطاعة الأمر وسقوطه» ، فإن العقلاء يلومون العبد التارك للغرض وإن أتى بالمأمور به ، فلو أمر المولى عبده أن يسد باب البيت وعلمنا أن غرضه عدم ضياع ولده ، ثم أطاع العبد بسد الباب ؛ لكن الولد ألقى بنفسه من السطح في الشارع مما يسبب ضياعه فأهمله العبد ، كان ملوما عند العقلاء إذا لم ينقذه من الضياع وإن اعتذر بأنه أطاع الأمر ، وأن المولى لم يقل له بأكثر من ذلك.

٣٨٧

الأمر وسقوطه ، فلا بد من إحرازه (١) في إحرازها كما لا يخفى.

ولا وجه (٢) للتفصي عنه تارة : بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما ذهب

______________________________________________________

(١) أي : إحراز الغرض في إحراز الإطاعة. وحاصله : أن علة الأمر حدوثا وبقاء هو الغرض ، فسقوط الأمر موقوف على سقوط الغرض ، ومن المعلوم : عدم حصول العلم بتحقق الغرض إلا بالإتيان بالأكثر. وضمير «إحرازها» راجع على «إطاعة».

وكيف كان ؛ فما ذكرنا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الوجه الثاني على وجوب الاحتياط عقلا.

(٢) يعني : لا وجه للتفصي عن الاستدلال بالغرض. وهذا إشارة إلى ما أجاب به الشيخ عن الاستدلال لوجوب الأكثر بدليل لزوم تحصيل الغرض ، وقد أجاب الشيخ عن الاستدلال المذكور بوجهين :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «تارة : بعدم ابتناء مسألة البراءة ...» الخ.

والثاني : ما أشار إليه بقوله : «وأخرى : بأن حصول المصلحة ...» الخ.

وحاصل الكلام في المقام : أن الشيخ «قدس‌سره» قد أجاب عن برهان الغرض الموجب للاحتياط بفعل الأكثر بوجهين :

الأول : أن الالتزام بوجود الغرض مبني على مذهب مشهور العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في متعلقاتهما وهي أفعال المكلفين ، ومن المعلوم : أن مسألة البراءة والاحتياط ليست مبنية على ذلك ؛ بل تجري على مذهب بعض العدلية أيضا المكتفي بوجود المصلحة في نفس الأمر الذي هو فعل المولى ، وعلى مذهب الأشعري من عدم التبعية أصلا ولو في نفس الأمر ، فيمكن المصير إلى أحد هذين المذهبين ، ومن المعلوم : عدم وجود غرض حينئذ حتى يجب إحرازه في إحراز سقوط الأمر المنوط بإتيان الأكثر.

الثاني : أن الغرض بعد تسليم كونه في فعل العبد ـ كما هو مقتضى مذهب المشهور من العدلية ـ وإن كان موردا لقاعدة الاشتغال ؛ لما اشتهر من عدم جريان البراءة في الشك في المحصل ؛ إلا إنه يكون فيما يمكن تحصيل العلم بوجود الغرض ، وأمّا فيما لا يمكن للعبد إحرازه فلا ، كالمقام ، ضرورة : أن حصول المصلحة في العبادات وإن كان منوطا بقصد الإطاعة ؛ لكنه يحتمل عدم حصولها بمجرد ذلك ، لاحتمال دخل قصد وجه أجزاء العبادة من الوجوب والندب في تحققها أيضا. ومن المعلوم : أن هذا القصد موقوف على معرفة وجه الأجزاء من الوجوب والندب ، ومع الجهل به لا يتمشى قصد الوجه ، فلا يحصل العلم بالغرض.

٣٨٨

إليه مشهور العدلية ، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين (١) لذلك ، أو بعض العدلية المكتفين (٢) بكون المصلحة في نفس الأمر (٣) دون المأمور به.

وأخرى (٤) : بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها على وجه الامتثال ، وحينئذ (٥) : كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا ليؤتى بها مع قصد الوجه مجال (٦) ، ومعه (٧) لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية

______________________________________________________

وبالجملة : فمرجع هذا الوجه إلى عدم القدرة على تحصيل العلم بوجود الغرض في العبادات ، فلا يجب إحرازه ، فمن ناحية الغرض لا يبقى وجه لوجوب الاحتياط بإتيان الأكثر ، وحينئذ فلا يبقى في البين إلا التخلص عن تبعة التكليف المنجز بالعلم الإجمالي ، والبيان المسوّغ للمؤاخذة على المخالفة منحصر بالأقل دون الأكثر ، فلو كان هو الواجب فالمؤاخذة عليه تكون بلا حجة وبيان ، وهو قبيح بالوجدان ، فلا ملزم بإتيان الأكثر احتياطا.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الوجه الأول من جواب الشيخ عن الاستدلال بالغرض على وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «وجريانها» عطف على «عدم ابتناء» ، والضمير راجع على «مسألة البراءة» و «على ما ذهب» متعلق ب «ابتناء».

(١) أي : المنكرون لما ذهب إليه العدلية من قيام الملاكات بالمتعلقات.

(٢) الصواب «المكتفى» لكونه صفة ل «بعض» كما أن الصواب «المنكرون».

(٣) لا في فعل العبد الذي هو المأمور به حتى يلزم إحرازه ؛ بل الغرض قائم بفعل المولى وهو الأمر.

(٤) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين اللذين أجاب بهما الشيخ «قدس‌سره» عن الاستدلال ببرهان الغرض على وجوب الاحتياط ، وقد عرفت توضيح هذا الوجه ، فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.

(٥) أي : وحين عدم حصول المصلحة إلا بإتيان العبادة على وجه الامتثال. وضمير «بإتيانها» راجع على «العبادات».

(٦) اسم «كان» ، و «لاحتمال» خبره وضمير «أجزائها» راجع على «العبادات» ، وضمير «بها» راجع على «أجزائها».

(٧) أي : ومع احتمال اعتبار معرفة الأجزاء لا يكاد يحصل القطع بحصول المصلحة

٣٨٩

إلى الأمر ، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان (١) ما علم تعلقه (٢) به ، فإنه (٣) واجب عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا ؛ لتنجزه بالعلم به (٤) إجمالا. وأما الزائد عليه (٥) لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته (٦) ، فإن العقوبة عليه بلا بيان.

وذلك (٧) ضرورة : أن حكم العقل بالبراءة على مذهب الأشعري ...

______________________________________________________

بدون قصد وجه الأجزاء ، ولا يتمشى هذا القصد مع فرض عدم معرفة وجه الأجزاء ، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بإتيان الأكثر من ناحية لزوم تحصيل الغرض.

(١) متعلق ب «التخلص» ، وضمير «مخالفته» راجع على الأمر.

(٢) أي : تعلق الأمر ، وضمير «به» راجع على الموصول في «ما علم» المراد به فعل العبد ؛ لأنه المتعلق للأمر كالصلاة والصوم وغيرهما من أفعاله. والمراد ب «ما علم» هو الأقل ، وحاصله : أنه بعد عدم إمكان تحصيل الغرض بإتيان الأكثر لا يبقى في البين إلا التخلص عن تبعة مخالفة التكليف ، وهو يحصل بفعل الأقل ؛ لأنه المنجز بالعلم الإجمالي.

(٣) أي : فإن الإتيان بالأقل المعلوم تعلق الأمر به واجب عقلا ؛ لكونه إطاعة تجب بحكم العقل ، فإن وجوب الإطاعة حكم عقلي ، وأمرها الشرعي أمر إرشادي كما هو واضح.

(٤) هذا الضمير وضمير «لتنجزه» راجعان على الأمر ، وقوله : «لتنجزه» متعلق بقوله : «واجب عقلا» ، يعني : يجب عقلا الإتيان بمتعلق الأمر ـ وهو الأقل ـ لتنجزه بالعلم به إجمالا.

(٥) أي : على ما علم تعلق الأمر به وهو الأقل ، والمراد بالزائد هو الأكثر.

(٦) أي : فلا تبعة على مخالفة الأمر من جهة الزائد ؛ لعدم تنجز أمره على تقدير وجوده واقعا ، فالعقوبة عليه بلا بيان.

(٧) تعليل لقوله : «ولا وجه للتفصي عنه» ، وشروع في الإشكال على كلا الجوابين اللذين أجاب بهما الشيخ «قدس‌سره» عن الاستدلال بالعلم بالغرض.

وملخص إشكال المصنف على الجواب الأول هو : أن إنكار أصل الغرض بناء على مذهب الأشعري لا يجدي في التخلص عن برهان الغرض على مذهب غيره ، نعم هو يجدي من يلتزم بذلك المذهب الفاسد.

وما أفاده الشيخ من إمكان كون الغرض في نفس الأمر كما عليه بعض العدلية لا في

٣٩٠

لا يجدي (١) من ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية ؛ بل (٢) من ذهب إلى ما عليه غير المشهور ؛ لاحتمال أن يكون الداعي إلى الأمر ومصلحته (٣) على هذا المذهب (٤) أيضا (٥) هو (٦) ما في الواجبات من المصلحة ، وكونها (٧) ألطافا ، فافهم (٨).

______________________________________________________

المأمور به ـ حتى يكون الغرض مشكوك الحصول بالإتيان بالأقل ويوجب ذلك فعل الأكثر ـ يرد عليه : أن مقصود ذلك البعض من العدلية القائل بتبعية الأمر لمصلحة في نفسه هو ردّ من التزم بوجوب كون المصلحة في المأمور به بأنه يجوز أن تكون المصلحة في نفس الأمر ، لا أنه يجب أن تكون في المأمور به ، وعلى هذا فيحتمل أن تكون في المأمور به ، ومع هذا الاحتمال لا يمكن الاقتصار على الأقل ؛ لعدم العلم بحصول الغرض منه.

(١) لفرض قيام الملاكات بنفس المتعلقات الموجب للاحتياط بإتيان الأكثر.

(٢) عطف على «مذهب» ، وهو منصوب محلا لكونه مفعولا به ل «لا يجدي» يعني : ولا يجدي هذا التفصي على مذهب غير المشهور أيضا القائل بقيام المصلحة بنفس الأمر ، وجه عدم الإجداء ما عرفت آنفا من أن غرض ذلك البعض جواز قيامها بالأمر ؛ لا منع قيامها بالمأمور به ، ومع احتمال قيامها بالمتعلقات يقضي العقل بالاحتياط بفعل الأكثر.

(٣) عطف على الداعي ، وضميره راجع على الأمر ، وقوله : «لاحتمال» تعليل لعدم إجداء حكم العقل بالبراءة على مذهب غير المشهور من العدلية ، وقد مر توضيحه بقولنا : «ومع احتمال قيامها بالمتعلقات ...» الخ.

والأولى إضافة كلمة «أيضا» بعد قوله «غير المشهور» كما لا يخفى وجهه.

(٤) يعني : مذهب غير المشهور من العدلية.

(٥) يعني : كمذهب مشهور العدلية.

(٦) أي : الداعي إلى الأمر.

(٧) عطف على «المصلحة» ، يعني : أن الداعي إلى الأمر هو ما في الواجبات من المصلحة ، ومن كون الواجبات ألطافا ، فقوله : «من المصلحة» بيان للموصول في «ما في الواجبات».

(٨) لعله إشارة إلى احتمال أن من ذهب إلى ما عليه غير المشهور لا يقول بالمصلحة إلا في الأمر فقط من غير أن يحتملها في المأمور به ، وعليه فكما أن العقل يحكم بالبراءة على مذهب الأشعري المنكر للمصلحة والغرض ، فكذلك يحكم على مذهب بعض العدلية القائل بوجود المصلحة في الأمر دون المأمور به.

٣٩١

وحصول اللطف (١) والمصلحة في العبادة وإن كان يتوقف على الإتيان بها على وجه الامتثال ؛ إلا إنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الأجزاء وإتيانها على وجهها ،

______________________________________________________

أو إشارة إلى أن مجرد الاحتمال لا يكفي في لزوم الإتيان بالأكثر ؛ لأن الشك حينئذ في الاشتغال لا في الامتثال ؛ إذ الشك الشخصي في أن للمولى غرضا في المأمور به ، فالمجرى البراءة لا الاحتياط.

أو إشارة إلى أنه بعد احتمال كون الغرض الداعي إلى الأمر على مذهب بعض العدلية هو المصلحة في نفس الأمر لا المأمور به ، فلا يكون هنا علم بغرض قائم بفعل حتى يجب عليه إحرازه ؛ إذ لو كان قائما بنفس الأمر فليس مقدورا للعبد ؛ لعدم كون الأمر فعل العبد ؛ ومع احتمال قيام الغرض بالأمر لا ملزم بالاحتياط بفعل الأكثر لا عقلا ولا نقلا.

(١) هذا شروع في الإشكال على الوجه الثاني من جواب الشيخ «قدس‌سره» من تعذر استيفاء الغرض في العبادات ؛ لاحتمال دخل قصد وجه أجزائها في تحققه ، فيصير الشك في حصول الغرض الداعي إلى الأمر بدون قصد الوجه شكا في المحصل الذي يكون المرجع فيه قاعدة الاشتغال لا البراءة ، لكن يتعذر الاحتياط هنا ؛ لعدم المعرفة بوجه الأجزاء حتى يقصد ، فلا يبقى إلا الإتيان بما قام عليه البيان ، وهو الأقل تخلصا عن تبعة مخالفته.

والمصنف أورد عليه بوجوه :

الأول : ما أشار إليه بقوله : «إلا إنه لا مجال ...» ، وبيانه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٢١٥» ـ أن حصول المصلحة في العبادات وإن كان منوطا بقصد الامتثال ؛ لكنه لا يتوقف على قصد وجه الأجزاء ؛ إذ لا منشأ لاحتمال اعتباره فيها ، فإنه مع هذا الاحتمال يخرج المقام ـ أعني : الأقل والأكثر الارتباطيين ـ عن الشك في المكلف به الذي يمكن معه الاحتياط ، ويندرج فيما يتعذر فيه الاحتياط ، مع أن من الواضح كون الارتباطيين كالمتباينين في إمكان الاحتياط بالإتيان بكلا الطرفين ، كما لو دار أمر العبادة بين القصر والتمام ، فإنه لو اعتبر في صحة الامتثال الجزم بالوجه لما أمكن فيها الاحتياط ؛ لعدم العلم بجزئية ما زاد على المتيقن ـ وهو الأقل ـ حتى يقصد المكلف وجوبه ، إلا مع التشريع المحرم ، فيترتب على اعتبار هذا القصد احتياطا خلاف الاحتياط لعدم التمكن منه ، مع أن البحث في المقام وفي المتباينين ليس في إمكان الاحتياط ؛ بل في لزومه وعدم لزومه بعد الفراغ عن إمكانه كما هو واضح.

٣٩٢

كيف؟ (١) ولا إشكال في إمكان الاحتياط هاهنا (٢) كما في المتباينين ، ولا يكاد (٣) يمكن مع اعتباره ، هذا مع (٤) وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه ...

______________________________________________________

فحاصل الوجه الأول : أنه لا دليل على اعتبار قصد وجه الأجزاء في العبادة ، حتى يتم كلام الشيخ من عدم إمكان الاحتياط بإتيان الأكثر ؛ بل الدليل على خلافه موجود ، وهو كون المقام كالمتباينين في إمكان الاحتياط كما عرفت.

(١) يعني : كيف يكون لهذا الاحتمال مجال مع أنه لا إشكال في إمكان الاحتياط هنا كالمتباينين؟ ولا يكاد يمكن الاحتياط مع اعتبار إتيان الأجزاء على وجهها. والضمير في «إتيانها ، وجهها» راجع على الأجزاء و «إتيانها» عطف على «معرفة».

(٢) يعني : في الأقل والأكثر الارتباطيين ، والحاصل : أن الاتفاق على حسن الاحتياط هنا يأبى عن اشتراط إتيان الأجزاء على وجهها.

(٣) يعني : ولا يكاد يمكن الاحتياط مع اعتبار إتيان الأجزاء على وجهها ، ومن المسلم إمكان الاحتياط فيها فهو دليل على عدم اعتبار قصد الوجه فيها.

(٤) هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي أوردها المصنف على الشيخ.

ومحصله : أنه على تقدير اعتبار الجزم بالنية في العبادة ليس المقصود منه اعتباره في كل واحد من الأجزاء ؛ بل المقصود منه اعتباره في العبادة في الجملة ، وهذا المقدار يمكن تحققه بالاحتياط بإتيان الأكثر بقصد وجوبه النفسي في الجملة بما اشتمل على الأجزاء والشرائط.

بيانه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٢١٧» ـ أن القائل بلزوم الإتيان بالعبادة على وجهها من الوجوب والاستحباب ـ كما حكي عن العلامة «قدس‌سره» ـ إنما يدعي لزوم فعل العبادة الواجبة بقصد وجوبها النفسي ، ومن المعلوم : أن الاحتياط بفعل الأكثر بقصد مطلوبيته النفسية بمكان من الإمكان ، وليس مقصوده لزوم قصد الوجوب في كل واحد من الأجزاء ، إما بالوجوب الغيري المقدمي ـ كما تضمنه كلام الشيخ «قدس‌سره» من وجوب الأجزاء ترشحيا غيريا ، وإما بالوجوب النفسي الضمني الثابت للأجزاء بواسطة اتصاف الكل بالوجوب ؛ لوقوعه تحت الطلب حتى يتعذر الاحتياط بفعل الأكثر ، لعدم الجزم بوجوب تمام الأجزاء.

ومع عدم اعتبار قصد وجوب كل واحد من الأجزاء واستحبابه ، فللمكلف إيقاع العبادة بنيّة وجوبها النفسي في الجملة أي : بلا تعيين أن فرد الواجب تمام المأتي به أو بعضه كالصلاة المشتملة على السورة مع عدم وجوبها في الصلاة ، فتكون السورة

٣٩٣

كذلك (١) ، والمراد (٢) بالوجه في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب (٣) اقترانه به : هو وجه نفسه من وجوبه النفسي ، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري (٤) أو وجوبها العرضي (٥) ، ...

______________________________________________________

كالإتيان بالفريضة في المسجد من مشخصات طبيعة الصلاة وخارجة عن ماهيتها وحقيقتها. فلو كان الأكثر هو الواجب فقد أتى به لاشتمال المأتي به على السورة المشكوكة جزئيتها للعبادة ، ولو كان الأقل هو المأمور به فقد أتى به أيضا ، واحتمال اشتماله على ما ليس بواجب ـ وهو السورة ـ مثلا غير قادح في قصد الوجوب النفسي لطبيعة الصلاة وإن لم يقصد وجوب خصوص الجزء المشكوك فيه ، فإن السورة حينئذ كسائر المشخصات الفردية التي ليست دخيلة في مطلوبية الطبيعة ، ولا تضر في صدقها على الفرد المتشخص بها للقطع بعدم كونها من الموانع.

نعم ؛ لو كان مشكوك الجزئية محتمل المانعية أيضا لكان منافيا لقصد وجوب الفعل المشتمل عليه ؛ إلا إن المفروض : أن السورة يدور أمرها بين كونها جزءا للطبيعة ، وبين كونها من مشخصات الماهية التي تكون الطبيعة صادقة في صورتي وجود السورة وعدمها ، وليست كالمانع في الإخلال بقصد الوجوب النفسي للصلاة إجمالا ، وعليه : فيكون الأكثر محصلا للغرض من المأمور به.

(١) أي : قصد الوجه في كل واحد من الأجزاء.

(٢) الأولى أن يقال : «إذ المراد» لأنه تعليل لوضوح الفساد وليس وجها آخر. وقصد الوجه لو قيل باعتباره إنما يكون مورده هو الوجوب النفسي المتعلق بعنوان المركب كالصلاة ؛ لا الوجوب الغيري أو العرضي لأجزائها.

(٣) عطف على «وجوب» ، وضمائر «اقترانه ، نفسه ، وجوبه» راجعة على الواجب ، وضمير «به» راجع على الوجه.

(٤) صفة ل «وجوبها». وهذا إشارة إلى ما قيل في وجوب المقدمة من كونه غيريا ، يعني : أن وجوب الأجزاء ليس لمصلحة في نفسها حتى يكون نفسيا ؛ بل المصلحة في المركب ، فيكون كل واحد من الأجزاء واجبا غيريا ، لكونها مقدمة لتحقق الكل ، وضمير «وجوبها» راجع على «أجزائه».

(٥) يعني : الوجوب النفسي من الأمر بالكل على كل واحد من الأجزاء ، وتسميته بالعرضي إنما هي لأجل كون المتصف بالوجوب أولا وبالذات هو الكل ؛ لتعلق الطلب به بقوله : «صلّ» ، ووجوب الجزء يكون ثانيا وبالعرض ، وليس المراد بالعرضي ما يساوق

٣٩٤

وإتيان (١) الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان (٢) الأكثر بمكان من الإمكان ؛ لانطباق (٣) الواجب عليه ولو كان (٤) هو الأقل ، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه (٥) واحتمال اشتماله (٦) على ما ليس من أجزائه ليس (٧) بضائر إذا قصد وجوب المأتي به

______________________________________________________

الوساطة في العروض الذي يصح معه سلب المحمول حقيقة عن الموضوع ؛ كما في جالس السفينة المتحركة. وضمير «وجوبها» راجع على «أجزائه».

(١) مبتدأ خبره قوله : «بمكان من الإمكان».

وغرضه : إثبات إمكان الإتيان بالأكثر بقصد الوجه بعد وضوح : أن قصده على تقدير اعتباره يكون في نفس الواجب لا في أجزائه ؛ إذ من المعلوم : أن إتيان صلاة الظهر مثلا بفعل الأكثر بقصد الوجه بمكان من الإمكان ؛ لأن المشكوك فيه إن كان مرددا بين كونه جزءا للماهية وجزءا للفرد انطبق طبيعي الواجب على تمام الأجزاء ، وإن كان مرددا بين كونه جزءا للماهية أو الفرد وبين كونه مقارنا ـ إما للغويته أو وجوبه نفسيا أو استحبابه كذلك من قبيل الواجب في الواجب أو المستحب كذلك ـ انطبق الطبيعي المأمور به إما على تمامه بناء على جزئيته ، وإما على ما عدا المشكوك من سائر الأجزاء بناء على عدم جزئيته.

الفرق بين جعل الوجه غاية وبين جعله وصفا : أن في الأول أن ينوي : «أصلي صلاة الظهر لوجوبها» ، وفي الثاني يقول : «أصلي صلاة الظهر الواجبة» بدل «لوجوبها».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(٢) متعلق ب «إتيان الواجب».

(٣) تعليل لقوله : «بمكان من الإمكان» ، وضمير «عليه» راجع على الأكثر.

(٤) أي : ولو كان الواجب بحسب الواقع هو الأقل.

(٥) يعني : فيتأتى من المكلف مع هذا النحو من الإتيان قصد الوجه.

(٦) أي اشتمال الأكثر ، هذا إشارة إلى إشكال ودفعه.

أما الإشكال فهو : أنه قد يستشكل فيما أفاده من إمكان إتيان الواجب مقترنا بوجه نفسه بإتيان الأكثر بما محصله : عدم إمكان ذلك ؛ لاحتمال اشتمال الأكثر على ما ليس جزءا له ، ومعه كيف يمكن قصد الوجه بإتيان الأكثر؟

وأما الدفع فملخصه : أن الاحتمال المزبور لا يقدح في تمشي قصد الوجه بإتيان الواجب إجمالا وإنما يقدح في قصد الوجوب بالنسبة إلى كل جزء من أجزاء الواجب.

(٧) خبر «واحتمال» ، وهو إشارة إلى دفع الإشكال ، وقد عرفت توضيح ذلك.

٣٩٥

على إجماله (١) بلا تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه ، لا سيما (٢) إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته وجزءا لفرده ، حيث (٣) ينطبق الواجب على المأتي به حينئذ (٤) بتمامه وكماله ؛ لأن الطبيعي (٥) يصدق على الفرد بمشخصاته (٦).

نعم (٧) ؛ لو دار بين كونه (٨) جزءا أو مقارنا لما كان (٩) منطبقا عليه بتمامه لو لم

______________________________________________________

(١) أي : بلا تعيين أنه الأقل أو الأكثر ، و «من أجزائه» بيان ل «ما له دخل».

(٢) وجه الخصوصية : أنه جزء قطعا ، غاية الأمر : أنه يشك في كونه جزءا للماهية إن كان واجبا ، أو جزءا للفرد إن كان مستحبا ، وذلك كالسورة مثلا بالنسبة إلى الصلاة ، إذا فرض دورانها بين جزئيتها للماهية إن كانت واجبة ، وللفرد إن كانت مستحبة ، فعلى تقدير جزئيتها للماهية : فالواجب هو الأكثر ، وعلى تقدير جزئيتها للفرد وكونها من مشخصاته : فالواجب هو الأقل ، فالسورة كالاستعاذة حينئذ.

وعليه : فالمراد بجزء الماهية ما تنتفي بانتفائه الماهية كالأجزاء الواجبة ، وبجزء الفرد ما ينتفي بانتفائه الفرد كالأجزاء المستحبة وإن لم تنتف الماهية ، فالصلاة تصدق مثلا على الواجدة للاستعاذة والفاقدة لها ؛ لعدم كونها من مقومات الطبيعة ، بخلاف الأجزاء الواجبة ، فإن الفاقد لها لا يكون مصداقا للماهية.

(٣) تعليل لقوله : «لا سيما» ، وقد عرفت وجه الخصوصية ، وأنه لا يكون الزائد لغوا على كل حال ، بل هو إما جزء الفرد وإما جزء الماهية.

(٤) أي : حين دوران الزائد بين الجزئية للماهية وللفرد.

(٥) تعليل لقوله : «حيث ينطبق».

(٦) فإن طبيعي الإنسان يصدق على زيد مع أن له مشخصات فردية ؛ لكن الصدق باعتبار أنه فرد للحيوان الناطق ، وكذا الصلاة جماعة في المسجد من مشخصات الفرد ، ويصدق الطبيعي عليه.

(٧) استدراك على قوله : «لأن الطبيعي يصدق». وحاصل الاستدراك : أنه إذا دار أمر المشكوك فيه بين كونه جزءا مطلقا ـ للماهية أو الفرد ـ وبين كونه خارجا وأجنبيا عن العبادة لم ينطبق الطبيعي عليه بتمامه ؛ إذ المشكوك فيه على تقدير عدم جزئيته خارج عن صميم الفعل العبادي وإن لم يكن منافيا له ، وإنما هو لغو ، ولكن ينطبق الواجب على المأتي به في الجملة ، أي : على أجزائه المعلومة ، وهو كاف في صحة العبادة.

(٨) هذا الضمير والمستتر في «دار» راجعان على المشكوك فيه ، ومع احتمال مقارنته لا جزئيته لا وجه لقصد الوجوب به بالخصوص.

(٩) جواب «لو دار». واسم «كان» ضمير راجع على الطبيعي.

٣٩٦

يكن جزءا (١) ، لكنه (٢) غير ضائر ؛ لانطباقه عليه أيضا (٣) فيما لم يكن ذاك الزائد جزءا ، غايته لا بتمامه (٤) بل بسائر أجزائه. هذا مضافا (٥) إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس (٦) مما يقطع بخلافه.

مع أن (٧) الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه الامتثال من (٨) العبادات.

______________________________________________________

(١) لا للماهية ولا للفرد ، وضمير «عليه» راجع على الفرد المأتي به.

(٢) أي : لكن عدم الانطباق على المأتي به بتمامه لو لم يكن المشكوك فيه جزءا غير ضائر لانطباق الكلي على المأتي به إجمالا.

(٣) أي : كانطباق الكلي على المأتي به في صورة دوران الجزء بين جزئيته للماهية والفرد.

(٤) أي : لا ينطبق الطبيعي على تمام المأتي به ؛ بل على ما عدا ذلك الزائد من الأجزاء المعلومة.

(٥) هذا هو الوجه الثالث من وجوه الإشكال والمناقشة في كلام الشيخ «قدس‌سره».

وحاصله : القطع بعدم دخل قصد الوجه أصلا لا في نفس الواجب ولا في أجزائه ، وما تقدم في الوجه الأول كان ناظرا إلى عدم الدليل على اعتبار قصد الوجه في خصوص الأجزاء.

(٦) أي : لا في الواجب ولا في أجزائه ، وذلك لما تقدم منه في مباحث القطع من أنه ليس منه في الأخبار عين ولا أثر ، وفي مثله مما يغفل عنه غالبا لا بد من التنبيه عليه حتى لا يلزم الإخلال بالغرض.

(٧) هذا هو الوجه الرابع من وجوه الإشكال ، وحاصله : أن ما تقدم في كلام الشيخ أخص من المدعى ؛ إذ المدعى وهو جريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين لا يختص بالعبادات التي يعتبر فيها الإتيان بها على وجه قربي ؛ بل يعم التوصليات ، لاشتمالها أيضا على المصالح ومن المعلوم : عدم اعتبار قصد الوجه في ترتبها على تلك الواجبات ، فيتوقف استيفاء الغرض فيها على فعل الأكثر ، مع عدم لزوم قصد الامتثال فيها فضلا عن قصد الوجه ، وحديث قصد الوجه مختص بالعبادات كما لا يخفى.

(٨) بيان للموصول في «بما لا بد أن يؤتى به ...» ، وضمير «به» راجع على «ما» الموصول.

٣٩٧

مع أنه (١) لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال ، فلا وجه معه للزوم مراعاة الأمر المعلوم أصلا ولو (٢) بإتيان الأقل لو لم

______________________________________________________

(١) هذا هو الوجه الخامس من الإشكالات ، وهو إشكال على كلام الشيخ الذي حكاه المصنف عنه بقوله : «فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به ...».

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٦ ، ص ٢٢٣» ـ أن قصد الوجه الذي يتوقف عليه حصول الغرض الداعي إلى الأمر لا يخلو إما أن يكون شرطا في حصوله مطلقا حتى مع تعذر الإتيان به من جهة تردد المأمور به بين الأقل والأكثر المانع من تحقق قصد الوجوب ، وإما أن يكون مقيدا بصورة التمكن منه.

فعلى الأول : يلزم سقوط التكليف من أصله ؛ لتعذر شرطه الناشئ من الجهل بوجوب كل جزء ، وسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز رأسا حتى بالنسبة إلى الأقل ؛ لفرض عدم حصول الغرض لا به ولا بالأكثر ، فلا عقاب على تركه حتى يجب التخلص منه بفعل الأقل كما أفاده الشيخ «قدس‌سره».

وعلى الثاني : يلزم سقوط قصد الوجه عن الاعتبار ، وعدم توقف حصول الغرض عليه ، ولا بد حينئذ من تحصيل الغرض. والعلم بحصوله منوط بإتيان الأكثر ، فيجب عقلا فعله ، بداهة : عدم إحراز تحقق المصلحة والملاك بالأقل ، ولا مؤمّن من تبعة التكليف المعلوم إجمالا ، فيحتاط المكلف بفعل كل ما يحتمل دخله في حصول الغرض ، نظير الشك في المحصل.

قوله : «على وجه» متعلق ب «قصد الوجه» ، وضمير «ينافيه» راجع على قصد الوجه ، يعني : إذا كان قصد الوجه المعتبر منوطا بتمييز وجه كل جزء من الأجزاء من الوجوب والاستحباب ، فلا محالة لا يتمشى قصده مع احتمال الجزئية وترددها ؛ لعدم إمكان تمييز الوجه حينئذ حتى يقصد.

قوله : «فلا وجه معه ...» جواب لو و «للزوم» متعلق ب «فلا وجه» ، وضمير «معه» راجع على التردد والاحتمال.

(٢) وصلية ، ووجه عدم حصول الغرض هو : توقف حصوله على قصد الوجه الموقوف على التمييز ، ومع عدم قصد الوجه لا يحصل الغرض ؛ لتوقفه على ما ليس بمقدور للعبد أعني : تمييز وجه المشكوك فيه.

ووجه عدم مراعاة الأمر المعلوم إجمالا ولو بإتيان الأقل الذي التزم الشيخ «قدس

٣٩٨

يحصل الغرض ، وللزم (١) الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله ؛ ليحصل (٢) القطع بالفراغ بعد القطع بالاشتغال ، لاحتمال بقائه (٣) مع الأقل بسبب بقاء غرضه ، فافهم (٤).

______________________________________________________

سره» بفعله تخلصا عن العقاب هو : ما أوضحناه بقولنا : «فعلى الأول يلزم سقوط التكليف من أصله ...» الخ.

(١) عطف على قوله : «فلا وجه معه» يعني : لو قيل باعتبار قصد الوجه على هذا النحو ، فإن لم يحصل الغرض سقط العلم الإجمالي عن التأثير حتى بالنسبة إلى الأقل ، فلا يجب الإتيان به أيضا ، وإن حصل الغرض لزم الإتيان بالأكثر ؛ لتوقف يقين الفراغ بعد العلم بالاشتغال عليه ؛ إذ مع الاقتصار على الأقل لا يحصل العلم بالفراغ ؛ لاحتمال بقاء الأمر بسبب احتمال بقاء غرضه ، فلا بد من الإتيان بالأكثر حتى يحصل العلم بتحقق الغرض.

(٢) يعني : أنه بعد فرض إمكان تحصيل الغرض يجب الإتيان بالأكثر ، لكون المقام من صغريات قاعدة الاشتغال ؛ للشك في الفراغ مع الاقتصار على الأقل ، وضمير «حصوله» راجع على «الغرض».

(٣) أي : لاحتمال بقاء الأمر مع الإتيان بالأقل بسبب بقاء غرضه وضمير «غرضه» راجع على الأمر.

(٤) لعله إشارة إلى : أن حصول الغرض بالأكثر الموجب للاحتياط بإتيانه خلاف الفرض ؛ إذ المفروض : اعتبار قصد الوجه المنوط بمعرفة وجه الأجزاء تفصيلا في العبادة ، ومقتضى توقف الغرض على قصد الوجه بهذا النحو هو : عدم إمكان إحرازه لا بالأقل ولا بالأكثر ، فلا موجب للإتيان بالأكثر أيضا كما لا يخفى.

أو إشارة إلى : أن الشيخ «قدس‌سره» لم يجزم باعتبار قصد الوجه حتى لا يمكن تحصيل الغرض ، ويوجب ذلك سقوط العلم الإجمالي عن التنجيز مطلقا حتى بالنسبة إلى إتيان الأقل ؛ بل احتمله ، حيث قال : «فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ...» الخ.

ومن الواضح : أن الاحتمال لا يوجب شيئا من القطع بعدم حصول الغرض ، ولا القطع بسقوط العلم الإجمالي عن التنجيز. وعليه : فيبقى المجال لمراعاة التكليف المعلوم بالإجمال ولو بإتيان الأقل تخلصا عن تبعة مخالفة الأمر المعلوم إجمالا كما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، فلا يرد عليه خامس الإشكالات.

٣٩٩

هذا (١) بحسب حكم العقل.

وأما النقل (٢) : فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك في جزئيته ، فبمثله يرتفع الإجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر ويعيّنه في الأول.

______________________________________________________

(١) يعني : ما تقدم من الاحتياط بلزوم إتيان الأكثر كان راجعا إلى إثبات أحد جزءي المدعى ، وهو جريان قاعدة الاشتغال في الأقل والأكثر الارتباطيين ، وعدم جريان البراءة العقلية فيهما. وأما إثبات جزئه الآخر وهو جريان البراءة النقلية فيهما ، فمحصله : أن البراءة الشرعية تجري في جزئية ما شك في جزئيته ؛ لشمول حديث الرفع لها ، فترتفع به ، ويتعين الواجب في الأقل.

في عدم وجوب الاحتياط شرعا

(٢) يعني : وأما النقل فهو يقضي برفع جزئية ما شك في جزئيته.

وبعبارة واضحة : أن جميع ما تقدم من أول البحث إلى هنا كان بيانا لعدم جريان البراءة العقلية. وأما البراءة النقلية فهي تجري عن جزئية ما شك في جزئيته ، وهذا هو التفصيل الذي اختاره المصنف ، حيث اختار التفصيل بين البراءة العقلية فلا تجري ، والبراءة الشرعية فتجري.

فقوله : «وأما النقل» فإشارة إلى الجزء الأخير من تفصيله. وهذا التفصيل اعتراض من المصنف على الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» حيث قال بجريان البراءة عقلية كانت أم نقلية.

وتوضيح ما أفاده الشيخ «قدس‌سره» في البراءة الشرعية هو : جريان حديث الرفع والحجب ونحوهما في وجوب الجزء المشكوك وجوبه ، وأن وجوب الأكثر مما حجب علمه فهو موضوع عن العباد ، ولا يعارضه أصالة البراءة عن وجوب الأقل ؛ للعلم بوجوبه المردد بين النفسي والغيري.

وكيف كان ؛ فالمقتضي للبراءة الشرعية موجود ، وهو كون المرفوع مجعولا شرعيا مجهولا وفي رفعه منّة ، والمانع مفقود ، فإن المانع إما هو العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، وإما هو معارضة الأصل مع أصالة عدم وجوب الأقل.

أما الأول : فلارتفاعه ؛ لأن هذه الأخبار حاكمة عليه وموجبة لانحلاله ، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر المشكوك لو كان هو الواجب واقعا ، ومعه لا يحكم العقل بلزوم رعاية احتمال التكليف الإلزامي في الأكثر من باب المقدمة العلمية.

٤٠٠