دروس في الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٧

١

٢

٣
٤

وينبغي التنبيه على أمور

الأول :

أنّ الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته (١) ، والعقوبة

______________________________________________________

تنبيهات مسألة اجتماع الأمر والنهي

(١) مجمل الكلام في المقام : إنّه لا إشكال في ارتفاع الحرمة بالاضطرار ؛ لكونه مسقطا لها عقلا عن قابليّة الزجر والردع ، مضافا إلى ما دلّ نقلا على ذلك كحديث الرفع وغيره ، بل يمكن الاستدلال بالأدلة الأربعة على رفع الحكم بالاضطرار.

أما العقل : فلقبح التكليف حال الاضطرار ، لأنّ قوام التكليف إحداث الداعي لتحقق الزجر عن الفعل في مورد النهي ، وهذا مما لا يتحقق مع الاضطرار.

أمّا الإجماع : فواضح.

أمّا الكتاب : فلقوله تعالى : (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ). الأنعام : ١١٩.

أمّا السنة : فلحديث الرفع.

فإذا ارتفع التكليف تبعه العقاب فلا عقاب في البين ، كما أشار إليه : «والعقوبة عليه» يعني : الاضطرار إلى ارتكاب الحرام يوجب ارتفاع العقوبة على الحرام ، كما يوجب ارتفاع نفس الحرمة.

هذا مما لا إشكال فيه ، وإنّما الإشكال في صحّة العبادة مع كون الفعل مبغوضا في نفسه ومحرّما لو لا الاضطرار إليه.

وكيف كان ؛ فتوضيح ما أفاده المصنف من اضطرار المكلف إلى ارتكاب الحرام يتوقف على مقدمة وهي : بيان ما يتصوّر في الاضطرار من صور وهي أربعة :

الأولى : أن لا يكون المضطر إليه بسوء الاختيار ، بل يكون الاضطرار إليه قهريا مع عدم ملاك الوجوب فيه ، كالارتماس المجرّد عن قصد الغسل ، والحكم فيها صحّة الصوم ، لارتفاع حرمته المانعة عن صحة الصوم بالاضطرار.

الصورة الثانية : نفس هذه الصورة الأولى ، لكن مع مصلحة الوجوب في الحرام

٥

عليه مع بقاء ملاك وجوبه ـ لو كان ـ مؤثرا له ؛ كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام (١) ، إلّا إنه (٢) إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، بأن (٣) يختار ما يؤدّي إليه لا محالة ، فإنّ (٤) الخطاب بالزجر عنه حينئذ وإن كان ساقطا ، إلّا إنّه حيث يصدر عنه

______________________________________________________

المضطر إليه ؛ كالارتماس المقرون بنيّة الغسل ، والحكم فيها صحّة الصوم والغسل ؛ لارتفاع حرمته المانعة عن صحته ، وتأثير مصلحة الوجوب في الغسل ، فيصحان معا.

الصورة الثالثة : أن يكون الحرام المضطر إليه خاليا من مصلحة الوجوب مع كون الاضطرار بسوء الاختيار ؛ كما إذا ألقى نفسه من شاهق ليقع في الماء مع كونه صائما ، فإنّ الاضطرار لمّا كان بسوء الاختيار لا يرفع أثر الحرمة وهي المبغوضيّة ، والحكم فيها بطلان الصوم بالارتماس.

الصورة الرابعة : أن يكون الحرام المضطر إليه واجدا لمصلحة الوجوب ، مع كون الاضطرار بسوء الاختيار ، والحكم فيها البطلان أيضا ؛ إذ لا يصلح ملاك الوجوب للتأثير في الوجوب بعد كون الفعل مبغوضا وارتكابه عصيانا للنهي. هذه الصور كلها مما لا إشكال في حكمها.

«وإنّما الإشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام» ، كما يأتي في كلام المصنف فانتظر.

(١) أي : الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته والعقوبة ... «بلا كلام» ، فيكون «بلا كلام» متعلقا بقوله : «يوجب».

(٢) أي : تأثير ملاك الوجوب في وجوب الحرام المضطر إليه منوط بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار ، فلا يؤثر ملاك الوجوب مع كون الاضطرار بسوء الاختيار.

(٣) بيان للاضطرار بسوء الاختيار يعني : بأن يختار ما يؤدّي إلى ارتكاب الحرام.

(٤) هذا الكلام من المصنف تمهيد لبيان وجه عدم ثبوت الوجوب فيما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار. وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٤٥» ـ :

أنّ خطاب حرمة المضطر إليه وإن كان ساقطا لأجل الاضطرار ؛ لكنّه مع ذلك لا يصلح المضطر إليه لتعلق الوجوب به ؛ لأنّ الاضطرار إليه لمّا كان بسوء الاختيار صار المضطر إليه مبغوضا ، وارتكابه عصيانا للنهي ، فلا يصلح ملاك وجوبه لتأثير الوجوب فيه. هذا ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام فيما إذا كان الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، وانحصر التخلّص عن الحرام فيه كالخروج عن المكان المغصوب ـ إذا لم يمكن التخلّص عن التصرف المحرم في مكان الغير إلّا بالخروج عنه ـ فهل يكون هذا الخروج مأمورا به ، لكونه مقدمة للتخلّص الواجب ، أم يكون منهيا عنه ، لكونه تصرّفا في مال الغير بدون إذنه ، أم

٦

مبغوضا عليه ، وعصيانا لذلك الخطاب ، ومستحقا عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلق به الإيجاب ، وهذا في الجملة (١) ممّا لا شبهة فيه ولا ارتياب.

وإنّما الإشكال (٢) فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره ، ممّا ينحصر به التخلّص عن محذور الحرام ، كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسّطها بالاختيار في كونه منهيا عنه ، أو مأمورا به ، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه ، فيه أقوال ، هذا على الامتناع.

______________________________________________________

يكون مأمورا به فعلا مع جريان حكم المعصية من استحقاق العقوبة عليه أم بدون جريان حكمها عليه؟ فيه أقوال ستأتي الإشارة في قول المصنف إليها.

وكيف كان ؛ فالمكلف كان قادرا على حفظ نفسه من الدخول إلى الدار المغصوبة ؛ بأن لا يدخل حتى يحتاج إلى الخروج ، فلو لم يحفظ نفسه حتى دخل فاضطر إلى التخلّص من الحرام بالخروج كان معاقبا على الدخول والخروج ، أمّا على الدخول :

فواضح ؛ لأنّه كان باختياره ، وأمّا على الخروج : فلأنّه وإن كان مضطرا إليه إلّا إنّه كان بسوء اختياره.

(١) قوله : «في الجملة» مقابل للصورة الآتية المشار إليها بقوله : «وإنما الإشكال ...» إلخ.

(٢) المقصود الأصلي من عقد هذا التنبيه الأول : بيان حكم الخروج شرعا من الأرض المغصوبة إذا توسطها المكلف بسوء اختياره ، وتوقف التخلّص من الحرام على الخروج ، فيكون مقدمة للواجب وهو التخلّص من الحرام فنقول : إنّ بيان حكم الخروج شرعا ـ على رأي المصنف ـ يتوقف على ذكر ما في المسألة من الأقوال ، وهي على القول بالامتناع أربعة :

أحدها : أنه مأمور به فقط ، ولا يجري عليه حكم المعصية ، وهو خيرة الشيخ الأنصاري ، وفي التقريرات : «وقد نسبه بعضهم إلى قوم ، ولعلّه الظاهر من العضدي كالحاجبي ، حيث اقتصروا على كونه مأمورا به فقط».

ثانيها : ما في التقريرات أيضا من : «أن بعض الأجلة ذهب إلى أنّه مأمور به ، ولكنه معصية بالنظر إلى النهي السابق ، وعليه حمل الكلام المنقول من الفخر الرازي».

ثالثها : أنّه مأمور به وليس بمنهي عنه مع جريان حكم المعصية عليه ، وهو المحكي عن الفخر الرازي ، ومال إليه بعض المتأخرين كصاحب الفصول.

رابعها : أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار ، وليس بمأمور به. وهذا الأخير هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، وكيف كان ؛ فهذا الخلاف الواقع بينهم في

٧

وأمّا على القول بالجواز (١) : فعن أبي هاشم (٢) : أنّه مأمور به ومنهي عنه ، واختاره

______________________________________________________

تعيين الحكم الفعلي مبني على القول بالامتناع كما أشار إليه بقوله : «هذا على الامتناع».

(١) أي : على القول بالجواز وإمكان اجتماع الأمر والنهي فلا بدّ من الالتزام بفعلية كلا الحكمين ـ أعني : الوجوب والحرمة ـ لعدم تزاحمهما مع تعدد الموضوع وكون جهتي الأمر والنهي تقييديتين ، لا تعليليتين.

(٢) قال في التقريرات : «وهو المحكي عن أبي هاشم على ما نسب إليه العلامة ، حيث أفاد في محكي النهاية : أطبق العقلاء كافة على تخطئة أبي هاشم في قوله : بأن الخروج تصرف في المغصوب ، فيكون معصية ، فلا تصح الصلاة وهو خارج سواء تضيق الوقت أم لا» (١).

قال في التقريرات أيضا : «واختاره المحقق القمي «قدس‌سره» ناسبا له إلى أكثر أفاضل متأخري أصحابنا ، وظاهر الفقهاء ، والوجه في النسبة المذكورة هو قولهم بوجوب الحج على المستطيع وإن فاتت الاستطاعة الشرعية» (٢) ؛ لكن قول الفقهاء بوجوب الحج على المستطيع وإن فاتت الاستطاعة الشرعية لا يدلّ على الاجتماع ؛ بل وجوب الحج على من فاتت استطاعته تكليف بما لا يطاق ، لكنه لمّا كان تأخير الحج عن سنة الاستطاعة باختياره لم يكن به بأس. وما نحن فيه أيضا كذلك ؛ لأنّ الاضطرار إلى الغصب لمّا كان باختياره ، فلا مانع من اجتماع الوجوب والحرمة فيه وإن كان ذلك تكليفا بما لا يطاق.

وجه عدم الدلالة : إنّ الاستطاعة الشرعية ليست شرطا حدوثا وبقاء حتى يلزم من انتفائها مع بقاء الوجوب تكليف ما لا يطاق ؛ بل يكفي مع التأخير عمدا القدرة العقلية. فاستظهار اجتماع الوجوب والحرمة في مسألتنا من العبارة المزبورة في غير محلّه ؛ لأنّ المشهور بين الأصحاب : هو القول بالامتناع ، ومجرد التزام كثير منهم بصحة صلاة الغاصب حين الخروج لا يدل على كونها مأمورا بها ومنهيا عنها ؛ بل لا يدل على كونها مأمورا بها أيضا ؛ لاحتمال كفاية الملاك في صحة الصلاة ، وعدم الحاجة إلى الأمر ، فيمكن أن لا يكون المضطر إليه بسوء الاختيار مع الانحصار مأمورا به ، ولا منهيا عنه فعلا كما اختاره المصنف «قدس‌سره».

والمتحصل : أنّ الحق هو : امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وقد اختار المصنف القول الرابع الّذي أشار إليه بقوله : «والحق : أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث

__________________

(١) مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٧٠٧ ، عن نهاية الوصول ، ص ١١٧.

(٢) مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٧٠٧.

٨

الفاضل القمي (*) ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء. والحق : أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه وعصيان له بسوء الاختيار ، ولا يكاد يكون مأمورا به كما إذا لم يكن هناك توقف عليه ، أو بلا انحصار به ، وذلك (١) ضرورة : إنّه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته

______________________________________________________

الاضطرار إليه وعصيان له بسوء الاختيار ، ولا يكاد يكون مأمورا به ؛ كما إذا لم يكن هناك توقف عليه».

وحاصل ما أفاده المصنف : من أنّ الحق عنده : «أنّه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه».

وجه السقوط : عدم جواز التكليف بالمحال ؛ بأن يقال : لا تخرج ولا تبق ، فهذا الخروج كما لا يكون منهيا عنه فعلا كذلك لا يكون مأمورا به ، فلا يكون واجبا ، وإن كان مقدمة للواجب ـ وهو التخلّص من الحرام ـ وكان الطريق منحصرا به ؛ بل مثل هذا الخروج مثل الخروج الّذي لم يكن مقدمة أو كان مقدمة ، ولكن لم يكن مقدمة منحصرة ، فكما إنّ الخروج في هذين الموردين ليس بواجب كذلك في المورد الأول.

(١) إشارة إلى ما هو الوجه لمختاره وحاصله : أنّه لمّا كان مدعاه مركبا من جزءين :

أحدهما : كون الخروج منهيا عنه بالنهي السابق الساقط بالاضطرار.

ثانيهما : عدم كونه مأمورا به. وقد تصدّى لإثبات كليهما :

أما الأوّل : فبأنّ مخالفة الحرام مع القدرة على تركه توجب عقلا استحقاق العقوبة ، ومع هذه القدرة لا يرى العقل الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار عذرا في ارتكاب المضطر إليه. نعم يوجب الاضطرار سقوط الخطاب ، لعدم صلاحيته مع الاضطرار للزجر والردع ، فالخطاب ساقط والعقاب ثابت.

وأمّا الثاني : ـ وهو الذي أشار إليه بقوله : «ولا يكاد يجدى» ـ فبأنّ توهم كون المضطر إليه مأمورا به إنّما هو لأجل توقف الواجب ـ وهو التخلّص عن الحرام عليه ـ مندفع بأنّ هذا الوجه لا يصلح لإثبات وجوب الخروج ، وذلك لأن الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار لا يرفع مبغوضية الخروج ، ولا يوجب محبوبيّته ، هذا ما أشار إليه بقوله : «لكونه بسوء الاختيار» ، فيكون الاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار هو علّة عدم كون الخروج مأمورا به على ما هو ظاهر كلام المصنف ، ولكن كان الأولى على المصنف أن يعلّل عدم كون الخروج مأمورا به بأنّ الأمر يستدعي المصلحة في متعلقه ، فإن كانت

__________________

(*) قوانين الأصول ، ج ١ ، ص ١٥٣ ، س ٢١.

٩

فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره ، ويكون معاقبا عليه ، كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه ، أو مع عدم الانحصار به ، ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلّص عن الحرام به لكونه بسوء الاختيار.

إن قلت (١) : كيف لا يجديه ، ومقدمة الواجب واجبة؟

قلت (٢) : إنّما يجب المقدمة لو لم تكن محرمة ، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة ، مع اشتراكهما في المقدميّة.

______________________________________________________

نفسية فالوجوب نفسي ، وإن كانت مقدمية فالوجوب غيري ، وكلتاهما مفقودتان في الخروج.

أمّا الأوّل : فلتوقف مصلحته النفسية على انطباق عنوان حسن شرعا عليه ، والعنوان المتصوّر انطباقه على الخروج ليس إلّا التخلّص عن الغصب الموجب لكونه ذا مصلحة نفسية ، وواجبا نفسيا ، وذلك لا يصلح لجعل الخروج معنونا بهذا العنوان ، حيث إن التخلّص عن الغصب عبارة عن تركه المتحقق بانتهاء الحركة الخروجية إلى الكون في خارج المغصوب ، فليس الخروج مصداقا للتخلّص حتى يكون محبوبا ، وواجبا ؛ بل هو مصداق للغصب المبغوض المحرم ، فلا مصلحة فيه حتى يكون واجبا نفسيا.

وأمّا الثاني : فلعدم كون الحركات الخروجية مقدمة للتخلّص والتخلية الواجبة حتى تتصف بالوجوب المقدمي ، بل الحركات الخروجيّة مقدمة للكون في خارج المكان المغصوب وهو ليس بواجب ؛ بل ملازم للواجب أعني : التخلية ، فالخروج ليس بواجب لا نفسيا ولا مقدميا ، بل هو باق على المبغوضية ، فيعاقب عليه لكون الاضطرار بسوء الاختيار وإن ارتفعت حرمته ؛ لأن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا. كما في هامش «منتهى الدراية ، ج ٣ ، ص ١٥٢» مع تصرّف منّا بالتوضيح والاختصار.

(١) حاصل الإشكال على عدم وجوب الخروج مع انحصار التخلّص عن الحرام الواجب به : أنّ الخروج مقدمة للواجب ومقدمة الواجب واجبة فالخروج واجب ، فكيف يقال : إنّه لا يجدي انحصار التخلّص عن الحرام بالخروج في اتصافه بالوجوب الغيري مع إن مقدمة الواجب واجبة؟ فيكون الخروج واجبا ، هذا مضافا إلى أن وجوب المقدمة عقلي غير قابل للتخصيص ، فكيف يحكم بعدم وجوب الخروج مع إنه مقدمة للتخلّص الواجب؟

(٢) توضيح ما أفاده المصنف في الجواب : يتوقف على مقدمة : وهي بيان أقسام مقدمة الواجب وأحكامها ، وأما أقسامها فهي ثلاثة : فإنّها تارة : تكون منحصرة في المباح ، وأخرى : تكون منحصرة في الحرام. وثالثة : تكون غير منحصرة في أحدهما ؛ بأن

١٠

وإطلاق (١) الوجوب بحيث ربّما يترشّح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها

______________________________________________________

تكون ذات فردين مباح وحرام. أما أحكامها : فلا ريب في وجوب القسم الأول منها على القول بوجوب المقدمة.

وأمّا إذا كانت من القسم الثاني : فيقع التزاحم بين مقتضى الحرمة ومقتضى وجوب ذيها ، فيؤخذ بما هو الأقوى عند ترجيح أحدهما على الآخر ، ويتخيّر مع تساويهما.

هذا إذا لم يكن انحصار المقدمة في الحرام بسوء الاختيار. وأمّا معه فلا تتغيّر المقدمة عما هي عليه من الحرمة والمبغوضية ، ولا يكاد يترشّح إليها الوجوب من ذيها. كما عرفت غير مرّة.

وأمّا إن كانت من القسم الثالث : فيثبت الوجوب للفرد المباح لا للفرد المحرم.

إذا عرفت هذه المقدمة ؛ فالمقام من القسم الثاني ؛ لا من القسم الثالث حتى تكون المقدمة واجبة.

فخلاصة الكلام في المقام : أن وجوب المقدمة مختصّ بالمقدمات المباحة ، فلا يترشّح الوجوب من وجوب ذي المقدمة على مقدماته المحرمة ، وإن كانت مشتركة مع المقدمات المباحة في أصل التوقف والمقدميّة ، كركوب الدابة المغصوبة ، فإنّه كركوب الدابة المباحة في المقدميّة ، «ولذا لا يترشح الوجوب» .. إلخ ، أي : ولاختصاص وجوب المقدمة بغير المحرّمة لا يترشّح الوجوب من الواجب إلّا على المقدمات المباحة ، فلا يتّصف ما عدا المحرمة منها بالوجوب.

(١) جواب عن توهّم وجوب المقدمة المحرّمة : بتقريب : أن وجوب المقدمة لا يختصّ بالمقدمة المباحة في صورة انحصار المقدمة بالمحرمة ، نعم إنّما يختصّ بالمقدمة المباحة في غير صورة انحصارها بالمحرمة ؛ بأن يكون لها فردان محرم ومباح. وأمّا إذا كانت المقدمة منحصرة بالحرمة ، فيترشّح الوجوب عليها. وعلى هذا : فلو انحصر التخلّص عن الحرام بالخروج الذي هو أيضا حرام ـ لكونه غصبا ـ اتصف بالوجوب لكونه مقدمة للتخلّص الواجب.

وبعبارة أخرى : أنّ الواجبات مختلفة ، فبعضها يسقط عن الوجوب إذا كانت مقدمته منحصرة في المحرم ، وبعضها يقتضي وجوب مقدمته المحرمة لأهميته في نظر الشارع كما لو توقف حفظ النفس على توسط الأرض المغصوبة ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأنّ التخلّص عن الغصب أهم من الغصب في الخروج ، فيكون الخروج واجبا. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب التوهم المزبور.

وحاصل الجواب : أن إطلاق الوجوب في ذي المقدمة بحيث ربّما يترشّح منه

١١

إنّما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرّمة ، والمفروض هاهنا وإن كان

______________________________________________________

الوجوب على المقدمة وإن كانت محرمة إنّما هو مشروط بشروط ثلاثة :

١ ـ انحصار المقدمة في المقدمة المحرمة. ٢ ـ كون الواجب أهم. ٣ ـ عدم كون الانحصار بسوء الاختيار.

والخروج في محلّ البحث وإن كان واجدا للشرط الأوّل والثاني ، إلّا إنّه فاقد للشرط الثالث. فإن انتفى الشرط ينتفي المشروط ـ وهو وجوب الخروج ـ من باب المقدمة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية». قوله : «إنّما هو فيما إذا كان الواجب» خبر لقوله : «وإطلاق الوجوب» ، ودفع للتوهم المزبور الذي تقدم تقريبه مع الجواب عنه.

قوله : «وإلّا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف» يعني : لو تغيّرت حرمة المقدمة وانقلبت المقدمة عن الحرمة إلى الوجوب حتى يقال بوجوب المقدمة في صورة الانحصار ولو بسوء الاختيار لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلف ، والغرض من هذا الكلام : إقامة البرهان على عدم ارتفاع الحرمة عن المقدمة المنحصرة.

توضيح ذلك : أنّه يلزم من ارتفاع حرمة المقدمة محذوران لا يمكن الالتزام بهما :

المحذور الأول : تعليق حرمة المقدمة ووجوبها على إرادة المكلف واختياره ، ضرورة : أن الخروج لا يتصف بالحرمة إلّا مع إرادة عدم التصرف في المكان المغصوب دخولا وخروجا.

وأما مع إرادة الدخول فيه واختياره : فلا يكون الخروج حراما ؛ بل يتصف بالوجوب.

وكيف كان ؛ فالخروج مع اختيار الدخول في المغصوب يكون واجبا ، ومع اختيار عدمه يكون التصرّف فيه دخولا وخروجا حراما.

هذا ما أشار إليه بقوله : «وهو كما ترى» يعني : ما ذكر من تعليق الحرمة على إرادة عدم الدخول في المغصوب ممّا لا ينبغي التفوّه به ، لأنّ إرادة المكلف ليست من شرائط التكليف كما هو واضح.

وأمّا المحذور الثاني : فلأنّ تعليق الحكم بالحرمة أو الوجوب على الإرادة خلاف الفرض ـ كما أشار إليه بقوله : «مع إنه خلاف الفرض» ـ لأنّ المفروض : عدم حرمة الخروج لأجل المقدمية للتخلّص ؛ لا لإرادة الدخول ، فالخروج مع الغضّ عن مقدميته للتخلّص يكون حراما ، لأنّه من أفراد الغصب المحرم ، فإذا كان عدم حرمته لأجل إرادة عدم الدخول لم يتحقق الاضطرار إلى الحرام ؛ إذ لا حرام حتى يتحقق الاضطرار إليه. وهذا خلاف ما فرضناه من الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار.

١٢

ذلك إلّا إنه كان بسوء الاختيار ، ومعه لا يتغيّر عمّا هو عليه من الحرمة والمبغوضية ، وإلا لكانت الحرمة معلّقة على إرادة المكلف واختياره لغيره ، وعدم حرمته مع اختياره له ، وهو كما ترى ، مع إنه خلاف الفرض ، وإنّ الاضطرار يكون بسوء الاختيار.

إن قلت (١) : إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام ، وأمّا التصرّف بالخروج الذي يترتّب عليه رفع الظلم ويتوقف عليه

______________________________________________________

والمتحصّل : أن تعليق الحرمة على إرادة عدم الدخول في المغصوب ، وتعليق عدم الحرمة على إرادة الدخول واختياره باطل قطعا ؛ لأن إرادة المكلف ليست من شرائط التكليف ؛ إذ الشرط يقتضي تقدمه على الحكم ، ولازمه : إناطة الحكم بالإرادة ، فلو لم يرد الغصب أو شرب الخمر أو غيرهما من المحرمات لم يكن حراما ، وهذا واضح الفساد ؛ لأنّ الحكم علّة لحدوث الداعي في العبد. فالإرادة في رتبة معلول الحكم ، فكيف تكون علّة له؟

هذا مضافا إلى : أنّ تعليق الحرمة وعدمها على الإرادة خلاف الفرض ؛ لأنّ المفروض : تحقق الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار ، فلو علق عدم الحرمة على إرادة الدخول واختياره لا يتحقق الاضطرار إلى الحرام أصلا ، فضلا عن كونه بسوء الاختيار. هذا خلاف ما هو المفروض من كون الاضطرار إلى الحرام بسوء الاختيار.

(١) المقصود من هذا الإشكال : هو الإشارة إلى كلام الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، القائل بكون المحرم المضطر إليه بسوء الاختيار مع الانحصار مأمورا به فقط ، على ما يظهر من التقريرات (١) المنسوبة إليه. وهو أحد الأقوال في المسألة. وهو كون الخروج عن الغصب واجبا ، مع عدم جريان حكم المعصية عليه وإن كان الدخول بسوء الاختيار كما هو مفروض البحث.

وحاصل الدليل على وجوب الخروج بلا جريان حكم المعصية عليه يتوقف على مقدمة وهي : أنّ التصرّف في مال الغير بدون إذنه لا يخلو عن ثلاثة أنحاء أعني : ١ ـ الدخولي. ١ ـ البقائي. ٣ ـ الخروجي.

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنّ المحرم من هذه الأقسام هو الأوّل والثاني. وأمّا الثالث ـ وهو التّصرف الخروجي ـ وإن كان من مصاديق الغصب لكنه ليس بحرام لوجهين :

الوجه الأوّل : أنّ الغصب ليس كالظلم علّة تامّة للقبح ؛ بل مقتضي له ، فلا يقبح إذا

__________________

(١) راجع : مطارح الأنظار ، ج ١ ، ص ٧٠٩.

١٣

التخلّص عن التصرّف الحرام فهو ليس بحرام في حال من الحالات ؛ بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.

ومنه (١) : ظهر المنع عن كون جميع أنحاء التصرّف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول ، وأنّه يتمكّن من ترك الجميع حتى الخروج ؛ وذلك (٢) لأنّه لو لم يدخل لما كان متمكّنا من الخروج وتركه ، وترك (٣) الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة

______________________________________________________

ترتب عليه عنوان حسن كترتّب التخلّص عن الغصب على الخروج ، فالخروج التخلّصي لم يكن بحرام في زمان ؛ بل واجب ، فلا مجال لأن يقال إنّه كان حراما قبل الدخول وقد عصى به ، فيجري عليه حكم المعصية.

الوجه الثاني : أنّ التصرّف الخروجي لكونه مقدمة للواجب ـ وهو التخلّص عن الحرام ـ لا يتصف بالحرمة في حال من الحالات ، نظير شرب الخمر ، فإنّه حلال مع توقف النجاة من الهلاك عليه ، ولا يتصف بالحرمة أصلا ، فعليه لا وجه لحرمة جميع التصرّفات من الدخولية والبقائية والخروجية ؛ بدعوى : أنّ المكلف قبل الدخول كان متمكّنا من جميع هذه التصرّفات ، فهي بأسرها محرمة وذلك لما عرفت من عدم حرمة الخروج أصلا ، فيكون مأمورا به فقط من دون أن يجري حكم المعصية عليه.

(١) أي : ومن منع حرمة التصرّف الخروجي : ظهر المنع عن حرمة جميع التصرّفات بتوهّم : أنّ الغاصب قادر على ترك الخروج ولو بواسطة ترك الدخول ، فلا بدّ من أن يكون الخروج حراما أيضا.

أما وجه ظهور المنع : فلأنّه قد عرفت آنفا : أنّ المحرم من التصرّفات في المغصوب هو التصرّف الدخولي والبقائي ، وأمّا التصرّف الخروجي فهو خارج عن حيّز الحرمة لكونه مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك.

(٢) بيان لظهور المنع وحاصله : ـ على ما في «منتهى الدارية ، ج ٣ ، ص ١٥٨» ـ أنّ القدرة شرط التكليف ، والخروج فعلا وتركا قبل الدخول غير مقدور ، فترك الخروج قبل الدخول لا يصدق عليه إلا ترك الدخول ، فلا يصدق عرفا ترك الخروج على من لم يدخل إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وعليه : فلا يكون ترك الخروج حقيقة مقدورا له ، فلا يصير قبل الدخول موضوعا للحكم بالحرمة.

(٣) قوله : «وترك الخروج ...» إلخ إشارة إلى توهم كون ترك الخروج قبل الدخول

١٤

إلّا ترك الدخول ، فمن لم يشرب الخمر لعدم وقوعه في المهلكة الّتي يعالجها به مثلا لم يصدق عليه إلّا إنّه لم يقع في المهلكة ، لا إنّه ما شرب الخمر فيها إلّا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، كما لا يخفى.

وبالجملة : لا يكون الخروج ـ بملاحظة كونه مصداقا للتخلّص (١) عن الحرام أو سببا له ـ إلّا مطلوبا ، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ويحكم عليه بغير المطلوبية.

______________________________________________________

مقدورا بواسطة القدرة على ترك الدخول ، ومن المعلوم : أن المقدور بالواسطة مقدور ، فلا يصغى إلى ما ذكر من عدم كون ترك الخروج قبل الدخول مقدورا فلا يصير قبل الدخول موضوعا للحكم بالحرمة ؛ بل يكون مقدورا فيكون موضوعا للحكم بالحرمة.

وقد أشار إلى جواب هذا التوهم بقوله : «وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلّا ترك الدخول».

وحاصل الدفع : أنّ المقدور الذي يصحّ تعلق التكليف به : ما تكون القدرة على وجوده وعدمه على حد سواء ، ومن المعلوم : أن الخروج قبل الدخول غير مقدور ، فكذا ترك الخروج ، فترك الخروج بدون الدخول لا يصدق إلا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، والصدق الحقيقي منوط بالدخول ، فإذا دخل المكان المغصوب ولم يخرج منه يصدق عليه أنّه ترك الخروج ، نظير مثال شرب الخمر بدون المرض المهلك ؛ إذ لا يصدق على من لم يشرب الخمر أنه لم يشرب الخمر لأجل النجاة عن الهلاك إلّا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع ، كما أشار إليه بقوله : «لم يصدق عليه إلّا إنه لم يقع في المهلكة» ، ولا يصدق عليه أنه لم يشرب الخمر في التهلكة ؛ بل يصدق عليه أنه لم يقع في التهلكة.

وكيف كان ؛ فالخروج قبل الدخول غير مقدور ، فلا يجب فعله ولا يحرم تركه.

(١) فيكون الخروج حينئذ واجبا نفسيا لأنّه مصداق للتخلّص من الحرام الواجب بالوجوب النفسي ، إلّا إنّه مجرد فرض إذ لم يقل أحد بأن الخروج مصداق للتخلّص ؛ بل هو مصداق للغصب ، فالخروج سبب وعلّة للتخلّص لا نفسه كما أشار إليه بقوله : «أو سببا له» أي : للتخلّص ؛ فيكون الخروج حينئذ واجبا غيريا.

وكيف كان ؛ فكان الخروج مطلوبا إمّا لكونه مصداقا للتخلّص أو سببا له ، وعلى كلا التقديرين : يستحيل أن يتصف بغير المحبوبية ، فيمتنع اتصافه بالحرمة والمبغوضية ، هذا ما تقدم من الشيخ الأنصاري من أن الخروج ليس بحرام في حال من الحالات.

١٥

قلت : هذا (١) غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلّص مأمورا به ، وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة «أعلى الله مقامه» على ما في تقريرات بعض الأجلّة ، لكنه (٢) لا يخفى : أنّ ما به التخلّص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنّما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل وإن كان قبيحا ذاتا إذا لم

______________________________________________________

(١) أي : ما ذكرناه. غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون المضطر إليه بسوء الاختيار ـ مع انحصار التخلّص عن الحرام به ـ مأمورا به.

(٢) جواب عن استدلال التقريرات على كون الحرام المضطر إليه بسوء الاختيار مع الانحصار مأمورا به ، والضمير في قوله : «لكنه» للشأن.

ثم هذا الجواب يرجع إلى جوابين : أحدهما : حلّي والآخر نقضي ، والأول : ما أشار إليه بقوله : «إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه ، ولم يقع بسوء اختياره» ، والثاني : ما أشار إليه بقوله : «كما هو الحال في البقاء».

وأمّا الجواب الحلّي فهو : أنّ المقدميّة لا ترفع حرمة ما يكون مقدمة لفعل واجب كالتخلّص عن الغصب ، ولا توجب ترشّح الوجوب المقدمي على المقدمة المحرمة.

وتوضيح ذلك : يتوقف على مقدمة وهي : أنّ ترشّح الوجوب المقدمي على المقدمة المحرمة ، وانقلاب المحرم إلى الواجب مشروط بشرطين

الشرط الأوّل : هو انحصار المقدمة في خصوص المحرمة بأن يكون التخلّص منحصرا بالحرام ؛ كانحصار طريق الإنقاذ الواجب في المكان المغصوب ، إذ لو لا الانحصار وكان له مقدمة مباحة أيضا لا يترشّح الوجوب الغيري من ذي المقدمة على المقدّمة المحرمة ؛ بل يترشّح على خصوص المباحة فلم يصير المحرم واجبا؟

الشرط الثاني : أن لا يكون الاضطرار إلى المقدمة المحرمة بسوء الاختيار. فلو كان بسوء الاختيار ـ كما لو دخل الدار المغصوبة مع العلم بانحصار طريق الخروج في المحرم ـ لم يترشّح الوجوب المقدميّ إلى المقدمة المحرمة ؛ بل تبقى على حرمتها إلى ما بعد الاضطرار أيضا فلم يصير المحرم واجبا؟

ثم فسّر المصنف سوء الاختيار : بأنّه عبارة عن إيقاع النفس في أمر لا محيص معه عن ارتكاب أحد محرمين :

المحرّم الأول : الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام ، والاقتحام في ترك الواجب كما إذا اختار البقاء في المكان المغصوب ؛ حيث إن البقاء ترك للتخلّص الواجب. والاقتحام في فعل الحرام كالبقاء في المغصوب حيث إنّه حرام لكونه غصبا ، فالبقاء يمكن

١٦

يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه ، ولم يقع بسوء اختياره ؛ إمّا في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام ، وإمّا في الإقدام على ما هو قبيح وحرام ؛ لو لا أنّ به التخلّص

______________________________________________________

أن يكون اقتحاما في ترك الواجب أو اقتحاما في فعل الحرام لكونه مصداقا للغصب ، فيكون ترك الواجب أو فعل الحرام على البدل ذا المقدمة ، والاقتحام بكلا قسميه مقدمة للحرام ، ومن المعلوم : أنّ مقدّمة الحرام حرام.

المحرّم الثاني : هو الإقدام على ما هو قبيح عقلا وحرام شرعا ، أعني به : المقدمة المحرّمة كالخروج الذي لو لم يكن مقدمة للتخلّص الواجب كان حراما لكونه غصبا. فقوله : «وإمّا في الإقدام ..» إلخ عدل لقوله : «إمّا في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام».

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : «إنّ ما به التخلّص عن فعل الحرام» كالخروج الموجب للتخلّص عن الغصب ، فيكون مقدّمة لفعل واجب وهو التخلّص عن الغصب ، أو ما به التخلّص عن ترك الواجب ، كشرب الخمر الموجب للتخلّص عن ترك حفظ النفس ـ وهو واجب ـ «إنّما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل» لكونه واجبا بالوجوب المقدّمي ؛ لأنّ التخلّص عن فعل الحرام أو التخلّص عن ترك الواجب واجب فيما به التخلّص واجب بالوجوب الغيري لكونه مقدمة للواجب ، وإن كان كل من الخروج وشرب الخمر قبيحا ذاتا لحرمتهما شرعا «إذا لم يتمكّن المكلّف من التخلّص بدونه» أي : بدون ما به التخلّص عن فعل الحرام أو ترك الواجب ، أي : ما به التخلّص عن فعل الحرام ، وترك الواجب وإن كان قبيحا ذاتا يعني : مع الغض عن مقدميّته لفعل واجب أو ترك حرام. هذا إشارة إلى الشرط الأوّل وهو انحصار المقدمة في المقدمة المحرّمة. وقد أشار إلى الشرط الثاني بقوله : «ولم يقع بسوء اختياره» أي : لم يكن الوقوع في الحرام والاضطرار إليه بسوء الاختيار.

وحاصل الكلام في المقام : أن الشرط الأول وإن كان موجودا ومتحققا في محل الكلام إلّا إنّ الشرط الثاني ـ وهو عدم الاضطرار بسوء الاختيار ـ غير ثابت ، لأنّ المفروض : كون الاضطرار إلى ارتكاب الحرام بسوء الاختيار ، فحينئذ المقدميّة لا ترفع حرمة ما يكون مقدمة لفعل واجب ، فلا يكون الخروج الذي يكون مقدمة للواجب ـ أعني التخلّص عن الغصب ـ مأمورا به كما زعمه الشيخ الأعظم «قدس‌سره» ، بل هو منهي عنه كما هو مختار المصنف «قدس‌سره». كما أشار إليه بقوله : «هو قبيح وحرام لو لا أن به التخلّص بلا كلام».

١٧

بلا كلام كما هو المفروض في المقام (١) ، ضرورة : تمكّنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره.

وبالجملة (٢) : كان قبل ذلك متمكّنا من التصرّف خروجا كما يتمكّن منه دخولا ، غاية الأمر : يتمكّن منه بلا واسطة ، ومنه بالواسطة. ومجرّد عدم التمكّن منه إلّا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا (٣) ، كما هو الحال في البقاء (٤) ، فكما يكون

______________________________________________________

(١) «كما هو المفروض» أي : الوقوع في أحد المحرمين بسوء الاختيار «المفروض في المقام» ، وإنّما يكون الخروج محرّما إذا كان الدخول بسوء الاختيار ، «ضرورة : تمكنه منه» أي : تمكّن المكلّف من التخلّص عن الحرام «قبل اقتحامه فيه» قبل اقتحام المكلف في الحرام ، الصادر هذا الاقتحام «بسوء اختياره» ، فقوله : «ضرورة» تعليل لكون الوقوع في الحرام بسوء الاختيار.

(٢) هذا ردّ لما يتوهم من الفرق بين الدخول في المكان المغصوب والخروج عنه بتقريب : أن الدخول حرام لكونه مقدورا للمكلف ، بخلاف الخروج حيث إنه غير مقدور له ، إذ لو لم يدخل لما كان متمكّنا منه ، فلا يكون حراما لأنّ التكليف مشروط بالقدرة.

وحاصل الرّد : أنّ التكليف وإن كان مشروطا بالتمكّن والقدرة إلّا إنّ القدرة المعتبرة فيه أعمّ من أن تكون بلا واسطة أو معها ، ومن المعلوم : أن الخروج مقدور للمكلّف بواسطة الدخول ، وهذا المقدار من القدرة كاف في صحّة توجه النهي إليه ، فيصير الخروج منهيا عنه لكونه مقدورا بواسطة الدخول.

وكيف كان ؛ فيتمكّن المكلف من الدخول بلا واسطة ، ومن الخروج بالواسطة.

(٣) لأن المقدور بالواسطة مقدور.

(٤) هذا إشارة إلى الجواب النقضي وهو نقض الخروج بالبقاء ، بمعنى : أن كلّا من البقاء في الدار المغصوبة والخروج عنها متوقف على الدخول ، وقد اعترف الخصم بحرمة البقاء بقوله : «إنّ قلت : إنّ التصرّف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال».

وتوضيح النقض : أن البقاء عبارة عن استمرار الغصب ، وهو متفرع على أصل الغصب بالدخول كتفرع الخروج عليه ، فلا فرق بين البقاء والخروج في الفرعية على الدخول ، وكونهما مقدورين بالواسطة ، فلو لم تكف القدرة بالواسطة في صحة توجه التكليف بالنهي إلى الخروج لم تكف القدرة بالواسطة في صحة توجه التكليف بالنهي إلى البقاء أيضا ، فما أجاب به الخصم عن الإشكال الوارد على البقاء نجعله جوابا عن الإشكال الذي أورده على الخروج ، والنقض في الحقيقة تكثير في الإشكال.

١٨

تركه مطلوبا في جميع الأوقات ، فكذلك الخروج ، مع إنّه (١) مثله في الفرعية على الدخول ، فكما لا تكون الفرعية (٢) مانعة عن مطلوبيّته قبله وبعده ، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيّته (٣) وإن كان العقل يحكم بلزومه (٤) إرشادا إلى اختيار أقلّ المحذورين وأخف القبيحين.

ومن هنا (٥) : ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلّصا عن المهلكة ، وأنّه (٦) إنّما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، وإلّا (٧) فهو

______________________________________________________

فكل من الخروج والبقاء محكوم بحكم واحد لما هو المعروف من أنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد.

(١) أي : مع إنّ الخروج مثل البقاء في الفرعية على الدخول.

(٢) يعني : كما لا تكون الفرعية للبقاء مانعة عن مطلوبيّة ترك البقاء قبل الدخول وبعده.

(٣) يعني : عن مطلوبية الخروج.

(٤) أي : يحكم العقل بلزوم الخروج. غرضه : إثبات الفرق بين البقاء والخروج نظرا إلى حكم العقل حيث يحكم العقل برجحان اختيار الخروج مع كونه حراما كالبقاء.

وحاصل وجه الرجحان : أن الخروج لمّا كان أقل محذورا من البقاء لحصول التخلّص به عن الغصب المحرم دون البقاء ؛ بل يزيد به الحرام حكم العقل بلزوم الخروج ، واختياره على البقاء إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين ، وأخفّ القبيحين ، ولكن هذا الفرق غير موجب للفرق بينهما بالنسبة إلى ما هو المقصود في المقام من حرمة كليهما.

(٥) من اعتبار عدم كون الاضطرار بسوء الاختيار في انقلاب الحرمة إلى الوجوب ، ظهر حال شرب الخمر تخلّصا عن المهلكة فيقال : إن مطلوبيّة شرب الخمر لأجل التخلّص عن المهلكة منوطة بعدم كون الاضطرار بسوء الاختيار ، إذ معه لا يتصف شرب الخمر بالمطلوبيّة.

(٦) معطوف على «حال» ، يعني : وظهر أنّ شرب الخمر علاجا إنما يكون مطلوبا شرعا في كل حال ، من غير فرق بين ما قبل الاضطرار وما بعده بشرط أن لا يكون الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، وإلّا فشرب الخمر باق على الحرمة ، ولا تتبدل حرمته بالوجوب بالاضطرار الناشئ عن سوء الاختيار.

(٧) أي : وإن كان الاضطرار إلى شرب الخمر بسوء الاختيار ، فهذا الشرب باق على ما هو عليه من الحرمة ، ولم يخرج عن عموم دليل حرمة شرب الخمر ولم يصر مطلوبا بسبب توقف نجاة النفس عن الهلاك عليه ، لكون الاضطرار إليه بسوء الاختيار ، فحرمة

١٩

على ما هو عليه من الحرمة ، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه ؛ لكون الغرض فيه أعظم ، فمن (١) ترك الاقتحام فيما يؤدّي إلى

______________________________________________________

شرب الخمر أو الخروج من المكان المغصوب باقية على حالها ، فإنّ حكم العقل بلزوم اختيارهما إنما هو من باب الإرشاد إلى الأخذ بأقل المحذورين فلا منافاة بين حرمته ومبغوضيّته ، وبين حكم العقل بلزوم اختياره من باب اختيار أقلّ المحذورين.

وحاصل الكلام في المقام : أنّ الشرب يكون حراما «وإن كان العقل يلزمه» بالشرب في صورة سوء الاختيار أيضا «إرشادا إلى ما هو أهمّ» أعني : حفظ النفس ، «وأولى بالرعاية من تركه» أي : ترك الشرب ، فإنّ المكلّف بعد سوء الاختيار وإيقاع نفسه في المهلكة يتردّد بين حرامين : ترك الشرب المؤدي إلى الهلكة المحرّمة ، والشرب المحرم الموجب لعدم الهلكة ، والعقل يلزمه بالشرب إبقاء على حفظ النفس لكون الغرض فيه أعظم. فقوله : «لكون الغرض فيه أعظم» تعليل للأهميّة والأولوية.

(١) هذا إشارة إلى جواب ما ذكره الشيخ الأعظم «قدس‌سره» بقوله : «فمن لم يشرب الخمر ... إلخ». وهذا ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» مؤيّدا لعدم كون الخروج مقدورا للمكلف من دون الدخول ، وحاصله : أن الخروج قبل الدخول غير مقدور ، فكذا ترك الخروج ، فصدق ترك الخروج بدون الدخول ليس إلّا من باب السالبة بانتفاء الموضوع ؛ نظير صدق ترك شرب الخمر بدون المرض حيث إنّه لا يصدق أنّه لم يشرب الخمر في التهلكة إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وحاصل جواب المصنف عنه : أنّ «من ترك الاقتحام فيما يؤدّي إلى هلاك النفس ، أو شرب الخمر لئلّا يقع في أشدّ المحذورين منهما ، فيصدق أنّه تركهما». يعني : ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» سابقا من عدم صدق «ما شرب» على من لم يقع في المهلكة غير تام ، لبداهة : أنّه إذا ترك الشخص المهلكة بأن لم يعرض نفسه للهلاك يصدق عليه أنّه تارك للهلاك ، أو تارك لشرب الخمر ، لأنّ شرب الخمر مقدور له نظير الفعل التوليدي.

فكما أنّ ترك الإحراق ـ في الفعل التوليدي ـ مقدور بواسطة ترك الإلقاء في النار.  كذلك ترك الشرب الناجي مقدور بواسطة القدرة على ترك إلقاء النفس في المرض الذي لا يعالج إلا بشرب الخمر : وكما يصدق على تارك الإلقاء في النار أنّه تارك الإحراق ؛ كذلك يصدق على تارك حفظ النفس أنّه تارك الشرب الناجي ، وأنّه لم يشرب الخمر.

فليس السلب بانتفاء الموضوع ـ كما زعم الشيخ «قدس‌سره» ـ إذ ليس إيقاع النفس في المهلكة موضوع الشرب ؛ بل مقدمة له.

والمتحصل : أن ترك شرب الخمر يصدق مع عدم التعريض أصلا كما يصدق مع

٢٠