دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

فصل

قد اشتهر الإشكال بالقطع بخروج القياس (١) عن عموم نتيجة دليل الانسداد

______________________________________________________

إشكال خروج القياس من عموم النتيجة

(١) وقبل الخوض في الإشكال ينبغي بيان ما هو مورد للإشكال ، فنقول : إنه قد عرفت احتمالين في نتيجة مقدمات الانسداد ، وهما حجية الظن من باب الحكومة أو الكشف ، فمورد الإشكال هو خروج الظن الحاصل من القياس عن عموم حجية الظن بدليل الانسداد بناء على الحكومة ؛ إذ لا إشكال في خروجه بناء على الكشف ؛ إذ المفروض : أن حجية الظن حينئذ تكون بجعل الشارع ، فله إثبات الحجية لبعض الظن ، ونفيها عن الآخر حسبما تقتضيه المصلحة في نظره.

وعليه : فالعقل لا يستكشف حينئذ عن حجية ظن نهي الشارع عنه كالقياس ، فلا يكون الظن القياسي طريقا منصوبا من قبل الشارع لإثبات الأحكام أو نفيها ؛ بل الحجة هو ما عداه من الظنون.

وكيف كان ؛ فالغرض من عقد هذا الفصل : بيان خروج الظن القياسي من عموم حجية الظن بدليل الانسداد على الحكومة لا على الكشف.

وأما توضيح الإشكال : فيتوقف على مقدمة وهي أمور :

الأول : بيان الفرق بين الأحكام العقلية وبين غيرها ، وهو : أن الأحكام العقلية غير قابلة للتخصيص ، فلا يصح أن يقال : إن العقل يحكم باستحالة اجتماع النقيضين إلا في مورد فلان. هذا بخلاف غيرها من الأحكام غير العقلية ، حيث يصح أن يقال : إن شرب الخمر حرام شرعا إلا إذا كان لأجل التداوي. وكل فاعل مرفوع إلا الفاعل في «وكفى بالله شهيدا».

الثاني : استقلال العقل بكون الظن في حال الانسداد كالعلم ـ في حال الانفتاح ـ مناطا للإطاعة والمعصية.

الثالث : أن القياس مفيد للظن بالحكم.

الرابع : منع الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس.

٤١

بتقرير الحكومة ، وتقريره (١) على ما في الرسائل (٢) : أنه كيف يجامع حكم العقل

______________________________________________________

الخامس : أنه لو جاز المنع عن العمل بالظن القياسي لجاز المنع عن العمل بسائر الظنون ؛ لما هو المعروف من : أن حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز واحد. فلا يستقل العقل حينئذ بالعمل بالظن أصلا ؛ لاحتمال النهي عن غير الظن القياسي من الظنون أيضا.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فاعلم : أنه يمكن أن يقال في توضيح الإشكال : إنه مع استقلال العقل بكون مطلق الظن حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح مناطا للإطاعة والعصيان ـ كما هو مقتضى الأمر الثاني ـ كيف يمكن منع الشارع عن بعض أفراد الظن ـ وهو القياس ـ مع أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص ـ كما هو مقتضى الأمر الأول؟ إذ لو صح هذا المنع لزم أحد محذورين :

الأول : التخصيص في حكم العقل وهو باطل.

الثاني : الخلف بتقريب : أنه لو صح منع الشارع عن الظن القياسي لصح منعه عن غيره من الظنون أيضا ؛ بمقتضى وحدة حكم الأمثال في الجواز والمنع ، ومع قيام احتمال المنع عن غير الظن القياسي لا يستقل العقل بحجية الظن أصلا وهو الخلف ؛ لأنه على خلاف ما فرضناه من استقلال العقل باعتبار الظن حال الانسداد.

وكيف كان ؛ فالحاصل : أن خروج القياس عن عموم نتيجة مقدمات الانسداد ينافي استقلال العقل بحجية الظن مطلقا حال الانسداد ، وقد فرضنا استقلاله بها كذلك.

هذا غاية ما يمكن أن يقال : في توضيح إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «بالقطع» متعلق بالإشكال ، والباء للسببية ، يعني : أن الإشكال ينشأ من القطع بخروج القياس عن عموم النتيجة.

(١) أي : تقرير الإشكال ، والمستفاد من هذا التقرير : أمور تقدم ذكرها في المقدمة لتوضيح الإشكال.

(٢) للشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، وهذا الإشكال إنما هو على تقرير الحكومة.

فحاصل ما أفاده الشيخ في تقرير الإشكال : أنه كيف يخرج عن تحت عمومه؟ مع أن حكم العقل مما لا يقبل التخصيص ورفع حكمه عن موضوعه مما لا يمكن إلا إذا

٤٢

بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية ، ويقبح على الآمر والمأمور التعدي عنه ، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من القياس ، ولا يجوّز (١) الشارع العمل به؟ فإن المنع (٢) عن العمل بما يقتضيه العقل من الظن أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا جرى (٣) في غير القياس ، فلا يكون (٤) العقل مستقلا (٥) ؛ إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس واختفى علينا ، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك (١)

______________________________________________________

انتفى الموضوع ، فينتفى الحكم بانتفائه ، والسر في عدم جواز تخصيص حكم العقل هو لزوم التناقض ؛ بتقريب : أن العقل إذا حكم حكما عاما بنحو يشمل هذا الفرد بعينه ، ثم خصصنا حكمه ورفعناه عن هذا الفرد لزم التناقض بين حكمه وبين التخصيص.

وهذا بخلاف التخصيص في العمومات اللفظية ، فإن التناقض فيها صوري لا جدي ، وحكم العقل ليس من قبيل اللفظ كي يعقل فيه التناقض.

قوله : «حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية» إشارة إلى الأمر الثاني من الأمور المذكورة في المقدمة. وضمير «عنه» راجع على الظن. يعني : فلا يجوز للآمر ـ وهو الشارع ـ مطالبة العبد بأكثر من الإطاعة الظنية ، كما لا يجوز للمأمور الاقتصار بما دونها من الإطاعة الشكية والوهمية.

قوله : «ومع ذلك» إشارة إلى الأمر الثالث. أي ومع كون الظن مناطا للإطاعة والمعصية «يحصل الظن من القياس ...».

(١) إشارة إلى الأمر الرابع ، وهذه الجملة في موضع المفعول لقوله : «كيف يجامع» فالأولى أن يقال : «كيف يجتمع حكم العقل ... مع نهي الشارع عن العمل به ...؟».

(٢) إشارة إلى الأمر الخامس. وتعليل للإنكار المستفاد من قوله : «كيف يجامع حكم العقل؟» وبيان للمحذور المترتب على نهي الشارع ، يعني : لا يجتمع حكم العقل بكون الظن مناطا للإطاعة والمعصية مع نهي الشارع عنه.

(٣) جواب «لو فرض» ، وجملة الشرط وجوابها خبر لقوله : «فإن المنع» أي : فإن المنع عن العمل بالقياس لو فرض ممكنا لجرى في غير القياس أيضا ، ومقتضى جريانه : عدم استقلال العقل بحجية الظن ، وهو خلاف الفرض.

(٤) هذا نتيجة جواز المنع عن العمل بظن خاص كالقياس.

(٥) تعليل لعدم استقلال العقل بحجية الظن مطلقا فيما إذا جاز النهي عن العمل ببعض أفراده كالقياس ، وضمير «لعله» راجع على الشارع. والضمير في «اختفى» راجع على النهي عن أمارة.

٤٣

على الشارع ؛ إذ (٢) احتمال صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه ، وهذا (٣) من أفراد ما اشتهر من أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص (*). انتهى موضع الحاجة من كلامه «زيد في علو مقامه».

وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال (٤) بعد وضوح كون حكم العقل بذلك

______________________________________________________

(١) هذا إشارة إلى النهي يعني : ولا دفع لاحتمال نهي الشارع عن أمارة مثل ما نهى عن القياس إلا قبح النهي عليه الموجب لامتناعه حال الانسداد فإن احتمال صدور أمر ممكن ذاتا عن الحكيم من قبيل مؤاخذة من لا ذنب له ونحوه ؛ مما لا يرتفع إلا بقبحه عليه ، فيستحيل صدوره منه ووقوعه في الخارج.

(٢) تعليل لانحصار دافع احتمال النهي في قبحه على الشارع ؛ لأنه الموجب لامتناعه.

(٣) إشارة إلى الأمر الأول من الأمور المذكورة في المقدمة ، يعني : وحكم العقل بحجية الظن في حال الانسداد على الحكومة من أفراد القاعدة الكلية وهي : أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص.

(٤) هذا إشارة إلى جواب إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة الانسداد.

توضيح ما أفاده المصنف في الجواب عن الإشكال المذكور بتقرير الحكومة : يتوقف على مقدمة وهي إن للعقل حكمين : أحدهما : تنجيزي والآخر تعليقي ، وهو ما يكون حكم العقل معلقا على عدم نهي الشارع عن ظن بالخصوص ، فلو نهى الشارع عن العمل به لم يبق موضوع الحكم العقل بحجية مطلق الظن ، فينتفي حكمه حينئذ من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فيكون خروج ما نهى عنه الشارع من باب التخصص لا من باب التخصيص ، بمعنى : بقاء موضوع حكمه مع ارتفاع حكمه حتى يقال : إن حكم العقل غير قابل للتخصيص.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن خروج الظن القياسي شرعا لا ينافي استقلال العقل بالحكم بحجية الظن ؛ لأن حكمه هذا يكون تعليقيا لا تنجيزيا ، والمنافاة إنما تكون في الحكم التنجيزي دون التعليقي ؛ لأن حكم العقل في كيفية الإطاعة لما كان لأجل تحصيل الأمن من تبعات تكاليف الشارع فهو معلق على عدم حكم الشارع نصبا وردعا ، فإذا أمر بالعمل بطريق لا يفيد الظن فلا إشكال في عدم حكم العقل بقبح الأخذ به مع حكمه بالقبح في صورة عدم أمر الشارع به ، فكما يكون حكم العقل معلقا على عدم

__________________

(*) فرائد الأصول ١ : ٥١٦ ـ ٥١٧.

٤٤

معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا ، وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا.

بداهة (١) : أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي ، فلا موضع لحكمه مع أحدهما (٢) ، والنهي (٣) عن ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شيء ؛ بل

______________________________________________________

نصب الشارع فكذلك يكون معلقا على عدم ردعه عن ظن ، فلا منافاة بين خروج بعض الظنون ـ لنهي الشارع عنه ـ وبين استقلال العقل باعتبار الظن في حال الانسداد.

فالمتحصل : أن خلاصة القول في جواب الإشكال أن يقال : إن حكم العقل بلزوم اتباع الظن في حال الانسداد ليس إلا على نحو التعليق بعدم المنع عنه شرعا ، فلا مجال له مع المنع.

والمشار إليه في قوله : «بذلك» هو : اعتبار الظن بدليل الانسداد ، فمعنى العبارة : أن حكم العقل «بذلك» أي : باعتبار الظن بدليل الانسداد يكون «معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا».

وضمير «حكمه» راجع على العقل ، وضمير «به» إلى اعتبار الظن.

و «كان» في قوله : «فيما كان» تامة بمعنى : وجد ، يعني : وبعد وضوح عدم حكم العقل باعتبار الظن في صورة نصب الشارع طريقا ؛ ولو كان ذلك الطريق أصلا.

(١) تعليل لكون حكم العقل باعتبار الظن حال الانسداد تعليقيا.

(٢) أي : فلا موضع لحكم العقل بحجية الظن مع وجود العلم أو العلمي.

(٣) يعني : أن حكم العقل معلق على عدم الردع كتعليقه على عدم النصب.

وهذا الكلام إشارة إلى وهم ودفعه ، فلا بد من توضيح الوهم قبل الدفع.

وتوضيحه : أن تعليق حكم العقل بحجية الظن على عدم نصب الشارع طريقا في محله ، حيث إن النصب يهدم انسداد باب العلمي الذي هو من مقدمات دليل الانسداد ، ويوجب انفتاحه.

وأما تعليقه على عدم نهي الشارع عن العمل بظن كالقياس : فلا مجال له ؛ لأنه ليس كنصب الطريق موجبا لانفتاح باب العلمي حتى يصح تعليق حكم العقل عليه.

وحاصل الدفع : الذي أشار إليه بقوله : ـ «ليس إلا ...» الخ ـ أن النهي عن ظن ناش عن سبب خاص كالقياس ليس إلا كنصب طريق ، حيث إنه بعد النهي عنه لا يصلح لأن يقع به الامتثال ، فلا يكون مؤمّنا ؛ بل يمكن أن يقال : إن النهي عن ظن يستلزم نصب طريق لامتثال الحكم الواقعي حتى لا تفوت مصلحته ، فعليه : يكون النهي عن

٤٥

هو (١) يستلزمه فيما كان في مورده (٢) أصل شرعي ، فلا يكون (٣) نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه ؛ بل به (٤) يرتفع موضوعه. وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا كالأمر (٥) بما لا يفيده ، وكما لا حكومة معه (٦) للعقل لا حكومة له معه ، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الإشكال فيه ، لا يصح الإشكال فيه بلحاظه.

______________________________________________________

نصب طريق في إناطة حكم العقل بحجية الظن بعدمه.

(١) أي : بل النهي عن ظن يستلزم نصب طريق.

(٢) الضمير راجع على الموصول في «فيما» المراد به الواقعة التي ليست من دوران الأمر بين المحذورين ، وأما فيه فلا أصل شرعي ؛ لأنه فاعل تكوينا أو تارك كذلك.

(٣) هذا نتيجة ما أفاده من أن حكم العقل بحجية الظن تعليقي ، يعني : بعد ما كان حكمه معلقا على ما ذكر ، فلو نهى الشارع عن بعض الظنون لم يكن ذاك رافعا لحكم العقل عن موضوعه حتى يستشكل فيه بعدم تعقّل التخصيص في الأحكام العقلية ؛ بل يكون رافعا لموضوع حكمه ، فضمير «نهيه» راجع على الشارع ، وضمير «عنه» إلى الظن الحاصل من القياس مثلا ، وضمير «لحكمه» راجع على العقل ، وضمير «موضوعه» إلى «حكمه».

(٤) أي بل بالنهي الشرعي يرتفع موضوع حكم العقل ، فيكون تخصصا لا تخصيصا حتى يكون محالا.

(٥) خبر «وليس» والضمير البارز في «لا يفيده» راجع على الظن ، والمستتر راجع على الموصول في «بما» المراد به السبب والطريق ، يعني : أنه لا فرق في عدم استقلال في الحكم ـ لعدم بقاء موضوع حكمه ـ بين الأمر بشيء لا يفيد الظن ؛ كالأمر باتّباع خبر العادل غير المفيد للظن فضلا عن الاطمئنان ، وبين النهي عما يفيد الظن كالقياس ؛ لما عرفت من : كون حكم العقل في باب الإطاعة معلقا على عدم نهي الشارع عن طريق مخصوص إلى الإطاعة ؛ وإلا سقط ذلك الطريق عن الحجية العقلية.

(٦) أي : مع الأمر «للعقل» بمعنى : أنه كما ليس للعقل أن يقول : حيث لم يحدث الظن فلا تكليف ، فكذلك لا حكومة للعقل مع النهي عن ظن خاص ، فليس له أن يقول : حيث حدث الظن وجب الاتّباع.

والحاصل : كما أنه ليس للعقل الحكم بعدم حجية ما لا يفيد الظن إذا أمر الشارع باتّباعه كذلك ليس له الحكم بحجية ما يفيد الظن إذا نهى الشارع عن اتّباعه.

٤٦

نعم (١) ؛ لا بأس بالإشكال فيه في نفسه ، كما أشكل فيه برأسه ، بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير تقدم الكلام في تقريرها ما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق ، غاية الأمر : تلك المحاذير ـ التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب ـ كانت (٢) في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة ؛ ولكن من الواضح ، أنه لا دخل

______________________________________________________

(١) استدراك على قوله : «وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال».

وغرضه : أن الإشكال في النهي عن القياس يكون من جهتين :

الأولى : من جهة حكم العقل بالإطاعة الظنية ، وقد تقدم دفعه.

الثانية : من جهة نفس نهي الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس ؛ إذ لو فرض إصابته للواقع لم يصح النهي عنه ؛ لأنه موجب لفوات الواقع.

توضيح ذلك ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٦٠» ـ أنه إذا قام ظن قياسي على وجوب شيء أو حرمته ، وكان مصيبا للواقع ، فالنهي عن العمل به يستلزم المحذور الملاكي من فوات المصلحة أو الوقوع في المفسدة والمحذور الخطابي ، لكونه واجبا بحسب الواقع ، وحراما بسبب النهي عنه ، فكما أن الأمر بالطريق غير المصيب مستلزم لترتب المحاذير المذكورة عليه فكذلك النهي عن الطريق المصيب ـ وهو هنا القياس ـ مستلزم لترتب تلك المحاذير ، نعم ؛ لا يترتب شيء منها على القياس المخطئ ، كما إذا أفاد القياس الظن بوجوب صلاة الجمعة مثلا وكان مخطئا ، فإن مقتضى النهي عن القياس هو حرمة البناء على وجوب صلاة الجمعة ، والمفروض : عدم وجوبها أيضا. هذا كله فيما عدا اجتماع المثلين من المحاذير الخطابية ، وأما هو ففي الأمر بالطرق مترتب على الطريق المصيب ، وهنا مترتب على القياس المخطئ ، كما إذا أدى القياس إلى جواز تناول العصير العنبي مع حرمته واقعا ، فإنه يجتمع فيه الحرمة الواقعية مع حرمة العمل بالقياس.

وبالجملة : فدفع إشكال النهي عن القياس من الجهة الأولى ـ كما تقدم ـ لا يغني عن دفعه من الجهة الثانية.

وضمير «فيه» و «نفسه» راجعان على النهي ، والضمير في «فيه» و «برأسه» راجعان على الأمر.

وغرضه : أن إشكال المحاذير المتقدمة في كلام ابن قبة. وارد في النهي عن القياس ؛ كوروده في الأمر بالطريق ، وقد عرفت توضيح ذلك. والمراد بالمحاذير في قوله : «لمحاذيره هي المحاذير الخطابيّة والملاكية كما عرفت.

(٢) خبر «تلك المحاذير» ، والجملة خبر «غاية الأمر» ، و «في مورد الإصابة» خبر

٤٧

لذلك (١) في الإشكال على دليل الانسداد ...

______________________________________________________

«كانت» ، والأولى سوق العبارة هكذا : «غاية الأمر : أن تلك المحاذير التي كانت في صورة خطأ الطريق المنصوب تكون في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة مثلا : إذا أدى القياس إلى وجوب شيء ، وهو واجب واقعا ، فإنه يجتمع مصلحة الواقع مع المفسدة المفروضة في العمل بالقياس.

وكيف كان ؛ فحاصل الإشكال ـ على ما في «الوصول إلى كفاية الأصول ، ج ٤ ، ص ١٨٢» ـ أن يقال : كيف يصح للشارع النهي عن الظن ، والحال أن الظن قد يصادف الواقع؟ فلو صادف الظن القياسي بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال الواقع ـ بأن كان الدعاء واجبا واقعا ـ كان نهي الشارع عن العمل بهذا الظن تفويتا للواقع. وهذا الإشكال لا يرتبط بالظن القياسي فقط ؛ بل هو جار في مطلق المنع عن الظن سواء كان قياسا أم لا.

وهذا الإشكال في باب النهي عن الظن يشبه إشكال ابن قبة في باب جعل الحجية للطرق الظنية مثل خبر الواحد بأنه كيف يمكن للشارع أن يجعل الطريق الظني حجة ، مع أنه قد يخالف الواقع؟ فلو قال الشارع بحجية خبر الواحد ، وأدى الخبر إلى عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ـ وكان الدعاء واجبا واقعا ـ كان جعل الحجية لخبر الواحد مفوتا للواقع ، فكما أن نصب الطريق موجب للإشكال في صورة المخالفة للواقع ، كذلك النهي عن الظن موجب للإشكال في صورة الموافقة للواقع.

والحاصل : أن إشكال الأمر يختص بصورة الخطأ ، وإشكال النهي يختص بصورة الإصابة. هذا حاصل الإشكال في المنع عن الظن ، «ولكن من الواضح : أنه لا دخل لذلك» الإشكال المتقدم في الطرق ـ وهو المحذور الخطابي والملاكي ـ في إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة ؛ بل هو إشكال عام متوجه على منع الشارع عن العمل بالظن.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) يعني : لا دخل للإشكال المتقدم في الطرق ـ وهو المحذور الخطابي والملاكي ـ في إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بناء على الحكومة ؛ وذلك لأن إشكال خروج القياس إشكال في صحة النهي عنه من ناحية حكم العقل المنافي لهذا النهي ؛ لا من ناحية صحة النهي في نفسه ؛ ومن المعلوم : أن اختلاف الجهتين واضح ، فلا يرتبط إحداهما بالأخرى ؛ لأن تصحيح النهي من الجهة الأولى ـ وهي حكم العقل

٤٨

بخروج (١) القياس ، ضرورة : أنه (٢) بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة (٣) قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل (٤) ، وقد عرفت (٥) : أنه بمكان من الفساد.

واستلزام (٦) إمكان المنع عنه لاحتمال المنع عن أمارة أخرى قد اختفى علينا ، وإن

______________________________________________________

بحجية الظن مطلقا أو معلقا على عدم نهي الشارع ـ لا يغني عن تصحيحه بلحاظ الجهة الثانية وهي نهي الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس.

(١) متعلق بالإشكال.

(٢) الضمير للشأن ، وهذا تعليل لعدم دخل إشكال النهي في نفسه في الإشكال على دليل الانسداد بخروج القياس ؛ لأن هذا الإشكال إنما يكون بعد الفراغ عن صحة النهي في نفسه.

(٣) يعني : مع قطع النظر عن حكم العقل بحجية الظن ، وضمير «عنه» راجع على القياس.

(٤) بما تقدم تقريره عن «الرسائل» ، و «بملاحظة» متعلق ب «أشكل».

(٥) في قوله : «وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الإشكال».

(٦) غرضه من هذا الكلام : دفع ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» في تقرير الإشكال بقوله : «فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل ...».

وتوضيح الدفع : أن احتمال المنع عن أمارة أخرى لا دافع له إذا كان غيرها من سائر الأمارات كافيا ، ومع كفايتها لا يحكم العقل باعتبار تلك الأمارة المحتمل منعها كالأولوية الظنية ؛ لعدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة ، وعدم حاجة إلى اعتبارها لوفاء غيرها من الأمارات التي لا يحتمل المنع عنها بمعظم الفقه ؛ بل يحكم العقل حينئذ باعتبار غير تلك الأمارة من سائر الأمارات الوافية بالفقه.

وأما إذا لم تكن تلك الأمارات وافية : فباب احتمال النهي عنها منسد ؛ لما تقدم من اهتمام الشارع بالأحكام ، وقبح تفويتها بلا تدارك ، وعدم الترخيص في مخالفة الظن حينئذ.

وبالجملة : ففي الصورة الأولى وإن كان احتمال النهي عن بعض الأمارات موجودا ؛ لكنه لا يضر بحكم العقل بحجية غيرها ، وفي الصورة الثانية باب الاحتمال منسد ؛ لما عرفت من اهتمام الشارع بالأحكام.

والمتحصل : أن احتمال منع الشارع عن بعض الظنون غير قادح في استقلال العقل

٤٩

كان (١) موجبا لعدم استقلال العقل إلا إنه يكون (٢) بالإضافة إلى تلك الأمارة (٣) لو كان غيرها (٤) مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية ؛ وإلا (٥) فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض (٦) استقلال العقل ، ضرورة (٧) : عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة ، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع.

وقياس (٨) حكم العقل بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح : لا يكاد يخفى على أحد فساده ؛ لوضوح : أنه مع

______________________________________________________

بحجية الظن ، إما للوفاء بالفقه ، وإما لاهتمام الشارع بها.

قوله : «لاحتمال المنع» متعلق ب «واستلزام».

(١) خبر «واستلزام» يعني : وإن كان الاستلزام موجبا لعدم استقلال العقل ، وضمير «اختفى» راجع على المنع.

(٢) الضمير المستتر فيه وضمير «أنه» راجعان على عدم استقلال العقل بحجية الظن.

(٣) أي : التي احتمل المنع عنها كالأولوية الظنية.

(٤) أي : غير تلك الأمارة التي يحتمل المنع عنها ، فكلمة «غيرها» اسم «كان» و «بمقدار الكفاية» خبره ، و «مما» بيان ل «غيرها» ، يعني : لو كان غير الأمارة التي يحتمل المنع عنها وافيا بالأحكام ؛ كخبر الواحد والإجماع المنقول والشهرة الفتوائية ، فإنه لا يستقل العقل حينئذ باعتبار مثل الأولوية الظنية مما يحتمل المنع عنه ، ولا مانع من عدم استقلال العقل بحجيته حينئذ مع وفاء غيرها مما لا يحتمل المنع عنها بمعظم الفقه.

(٥) يعني : وإن لم يكن غير تلك الأمارة المحتمل فيها المنع كافيا : فلا مجال لاحتمال المنع في تلك الأمارة التي يحتمل النهي عنها ؛ وذلك للاهتمام.

(٦) متعلق ب «لا مجال» ، ووجه استقلال العقل هو : أن اهتمام الشارع بالأحكام ، وعدم كفاية سائر الظنون مما لا يحتمل المنع عنه يوجبان استقلال العقل بحجية الظن المحتمل منعه.

(٧) تعليل لقوله : «فلا مجال» يعني : أن احتمال المنع مناف لاستقلال العقل ؛ لوضوح : أنه مع احتمال المنع لا يحرز جميع ما له دخل في موضوع حكمه ، ومن المعلوم : أن عدم المانع مما له دخل في ذلك ، فلا يحكم العقل إلا بعد إحرازه ، كما هو واضح.

(٨) الغرض منه : دفع ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» ، في تقرير إشكال خروج القياس بقوله : «كيف يجامع حكم العقل». وحاصل ما ذكره : قياس حجية الظن في حال الانسداد على حجية العلم في حال الانفتاح ، فكما إن حكم العقل باعتبار العلم حال

٥٠

الفارق ، ضرورة (١) : أن حكمه في العلم على نحو التنجز ، وفيه على نحو التعليق.

ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الإشكال (٢) بالنهي عن القياس ، مع جريانه في الأمر بطريق غير مفيد للظن ، بداهة (٣) : انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا ، مع

______________________________________________________

الانفتاح لا يقبل التخصيص ببعض أفراده دون بعض ، فكذا حجية الظن حال الانسداد غير قابل للتخصيص ؛ لمنافاته لما استقل به العقل.

وقد دفعه المصنف بما حاصله : أن هذا القياس مع الفارق ؛ لأن حكم العقل في العلم تنجيزي ، وفي الظن تعليقي بالتقريب المتقدم.

قوله : «على حكمه» متعلق ب «وقياس» ، وضمير «حكمه» راجع على العقل. والمراد ب «هذا الحال» : حال الانسداد أي : انسداد باب العلم والعلمي ، وضمير «لها» راجع على الإطاعة.

قوله : «لا يكاد» خبر «وقياس» ودفع له ، وضمير «فساده» راجع على القياس.

قوله : «لوضوح» تعليل لفساد قياس الظن على العلم ، وضمير أنه راجع على القياس ، يعني : أن قياس الظن حال الانسداد على العلم حال الانفتاح قياس مع الفارق.

(١) تعليل لكون هذا القياس مع الفارق ، وضمير «حكمه» راجع على العقل ، وضمير «فيه» إلى الظن.

(٢) غرضه : أنه لا وجه لتخصيص الإشكال على دليل الانسداد ـ بناء على الحكومة ـ بالنهي عن القياس ، المفروض إفادته للظن مع وحدة الملاك فيه وفي الأمر بما لا يفيد الظن كاليد والسوق ؛ إذ كما يكون النهي منافيا لحكم العقل وموجبا لارتفاعه ، كذلك الأمر ، فإن العقل حاكم بقبح الاكتفاء بما دون الظن ؛ لكنه فيما إذا لم يأمر الشارع بالعمل بما لا يفيد الظن ، فلو أمر بالعمل بما لا يفيده : لم يحكم العقل بقبحه ، فلا فرق في انتفاء حكم العقل بين النصب والردع ، لأن حكمه معلق على عدم النصب والردع.

والحاصل : أن نصب الطريق والنهي عنه من واد واحد في أن حكم العقل معلق على عدم تصرف الشارع ، فلا مجال لتقرير الإشكال بالنسبة إلى خصوص النهي عن القياس كما عرفت.

(٣) بيان لوجه اشتراك الإشكال بين الأمر بطريق غير مفيد للظن كاليد والسوق ، وبين النهي عن مثل القياس ، فيقال في تقريب الإشكال : كيف يأمر الشارع بالعمل بما يفيد الظن كاليد والسوق ، فإنهما أمارتان اعتبرهما الشارع وإن لم يفيدا الظن مع حكم العقل باعتبار الظن فقد وقبح العمل بما لا يفيده؟ وحكم العقل غير قابل للتخصيص.

٥١

أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك (١) ، وليس (٢) إلا لأجل أن حكمه به معلق على عدم النصب (٣) ، ومعه لا حكم له ، كما هو كذلك (٤) مع النهي عن بعض أفراد الظن. فتدبر جيدا.

وقد انقدح بذلك (٥) : أنه لا وقع للجواب عن الإشكال تارة : بأن (٦) المنع عن

______________________________________________________

(١) أي : بالأمر بطريق لا يفيد الظن ، بأن يقول : كيف يأمر الشارع بطريق لا يفيد الظن ، مع استقلال العقل بعدم كفاية الإطاعة بما دون الظن؟

(٢) أي : وليس عدم الإشكال في مورد الأمر بالطريق إلا لأجل أن حكم العقل بالظن معلق على عدم نصب الشارع طريقا خاصا ولو لم يفد الظن ، وعليه : فليكن حكمه باعتبار مطلق الظن حال الانسداد معلقا أيضا على عدم نهي الشارع عن طريق مخصوص كالقياس في المقام ، وضمير «معه» راجع على النصب و «له» العقل.

(٣) أي : عدم نصب الشارع ، فإذا نصب الشارع لم يكن للعقل حكم أصلا ؛ لانتفاء موضوعه ، إذ موضوعه فيما لم يكن هناك علم ولا علمي ، ومن المعلوم : أن مع النصب يوجد العلمي.

(٤) أي : كما أن حكم العقل معلق مع النهي عن بعض الظنون.

هذا تمام الكلام في جواب المصنف عن إشكال خروج القياس ، وقد أجاب الشيخ «قدس‌سره» عن الإشكال بجوابين آخرين ، جعلهما سادس الأجوبة وسابعها ، وقد أشار المصنف إليهما وإلى غيرهما من الوجوه المذكورة لدفع الإشكال ثم ناقش فيها الوجوه المذكورة لدفع الإشكال والمناقشة فيها.

(٥) أي : بما ذكرناه من أن إشكال القياس إنما هو بعد الفراغ عن صحة النهي في نفسه ، فتصحيح النهي بأحد الوجوه الآتية لا يرفع إشكال خروجه عن نتيجة دليل الانسداد بملاحظة حكم العقل ، فإن هذين الجوابين اللذين ذكرهما الشيخ «قدس‌سره» يدفعان الإشكال من الجهة الأولى دون الثانية ، وهي بملاحظة حكم العقل ، وعلى هذا فلا ربط لهما بالإشكال من الجهة التي نحن فيها.

(٦) هذا هو الوجه السابع الذي اختاره الشيخ «قدس‌سره» في دفع الإشكال حيث قال : «الوجه السابع هو : أن خصوصية القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفتها للواقع ، كما يشهد به قوله «أن السنة إذا قيست محق الدين» (١) ، وقوله : «كان ما يفسده

__________________

(١) المحاسن ١ : ٣١٤ / ذيل ح ٩٧ ، الكافي ١ : ٥٧ / ذيل ح ١٥ ، الفقيه ٤ : ١١٨ / ذيل ح ٥٢١٩ ، الوسائل ٢٧ : ٤١ / ذيل ح ٣٣١٦٠.

٥٢

القياس لأجل كونه غالب المخالفة ، وأخرى (١) : بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة ؛ وذلك (٢) لبداهة : أنه إنما يشكل بخروجه

______________________________________________________

أكثر مما يصلحه» (١) وقوله : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من دين الله» (٢) ، وغير ذلك (٣).

وهذا المعنى لما خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنية عند فقد العلم ، فهو إنما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيات المجهولة ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس ، وتبين عند العقل حال القياس ، فيحكم حكما إجماليا بعدم جواز الركون إليه ...» الخ.

(١) وهو الوجه السادس الذي أفاده الشيخ ، ولكن أورد عليه بعد ذلك حيث قال : «إن النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعية المدركة على تقدير العمل به ، فالنهي عن الظنون الخاصة في مقابلة حكم العقل بوجوب العمل بالظن مع الانفتاح ...» (٤) الخ.

وحاصل هذين الوجهين : أن العقل إنما يحكم بلزوم اتباع الظن لكونه أقرب إلى الواقع ، وعدم مزاحمته بالمفسدة الغالبة ، وكونه غالب الإيصال إليه ؛ لأجل استيفاء مصلحته ، فإذا كشف نهي الشارع عن أن الظن الحاصل من القياس غير مصيب للواقع غالبا ، أو أن المفسدة المترتبة على الأخذ به أكثر من مصلحته : فلا محالة يحكم العقل بعدم جواز الركون إليه تخصيصا لحكمه بلزوم مراعاة الظن.

(٢) أي : وذلك الذي ذكرنا من أنه لا وقع لهذين الجوابين ، «لبداهة» أن الجوابين يفيدان صحة النهي عن القياس ، وأنه إنما نهي عنه ـ مع أن النهي مفوت لمصلحة الواقع ـ لكونه كثير المخالفة ، أو لكون مفسدته مزاحمة لمصلحة الواقع المحرزة بسببه.

أما الجواب عن إشكال أنه كيف يمنع عنه في حال الانسداد الذي يحكم العقل بحجية مطلق الظن فيه؟ فليس هذان الجوابان دافعين عنه.

وإن شئت قلت : إن الإشكال في صحة النهي عن القياس من جهتين من حيث نفسه ، ومن حيث منافاته لحكم العقل بحجية الظن في حال الانسداد ، وهذان الجوابان

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ٦ / ٢٢ ، مستدرك الوسائل ١٧ : ٢٤٨ / ٢١٢٤٧.

(٢) الوارد في كتب الحديث : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» : المحاسن ٢ : ٣٠٠ / ذيل ح ٥ ، الوسائل ٢٧ : ١٩٢ / ذيل ح ٣٣٥٧٢. أو «ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه» : تفسير العياشي ١ : ١١ / ٢ ، الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ / ٣٣٦٠٥.

(٣) فرائد الاصول ١ : ٥٢٩.

(٤) فرائد الأصول ١ : ٥٢٨.

٥٣

بعد الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه بملاحظة (١) حكم العقل بحجية الظن ، ولا يكاد يجدي صحته كذلك (٢) في الذّب عن الإشكال في صحته (٣) بهذا اللحاظ ، فافهم (٤) فإنه لا يخلو عن دقة.

______________________________________________________

إنما يدفعان الإشكال من الجهة الأولى ، أما الجهة الثانية : فلا ربط لهذين الجوابين بها.

وكيف كان ؛ فقوله : «لبداهة» تعليل لقوله : «لا وقع للجواب».

وتوضيح ذلك بعد مقدمة وهي : أن إشكال النهي عن العمل بالقياس يقع في جهتين :

الأولى : في صحة النهي عنه في نفسه مع الغض عن دليل الانسداد.

الثانية : في صحة النهي عنه بملاحظة الانسداد بناء على الحكومة ، وأنه كيف يصح تخصيص الشارع حكم العقل بلزوم مراعاة الظن ، مع فرض استقلاله في حكمه؟

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : إنه من المعلوم : أن الوجهين المتقدمين عن الشيخ «قدس‌سره» يصححان النهي عنه باعتبار الجهة الأولى ، ولا يصححانه باعتبار الجهة الثانية ، يعني : حتى مع استقلال العقل بحجية الظن حال الانسداد.

(١) متعلق ب «يشكل» أي : يشكل خروج القياس «بملاحظة حكم العقل ...» الخ. وضمير «أنه» للشأن ، وضميرا «بخروجه ، عنه» راجعان على القياس.

(٢) أي : في نفسه يعني : لا يجدي صحة المنع عن القياس «كذلك» أي في نفسه بلحاظ كونه غالب المخالفة للواقع ، أو لأن في العمل به مفسدة غالبة على مصلحة الواقع عند الإصابة في دفع الإشكال عن صحة المنع عنه بلحاظ حكم العقل بحجية مطلق الظن ، والظرف متعلق ب «يجدي» ، وقد مر غير مرة : أن الصواب في ذب الإشكال هو : كون حكم العقل بحجة الظن الانسدادي معلق على عدم نهي الشارع عن ظن خاص كالقياس.

(٣) أي : صحة المنع «بهذا اللحاظ» ، أي : لحاظ حكم العقل في حال الانسداد.

(٤) لعله إشارة إلى أن الجوابين صحيحان حتى بالنسبة إلى إشكال خروج الظن القياسي عن حكم العقل في حال الانسداد ؛ لأن العقل إنما يحكم بحجية الظن في حال الانسداد ؛ لما يرى من قربه إلى الواقع بدون مفسدة ، فإذا استكشف ـ من نهي الشارع عن القياس بقول مطلق ـ عدم قرب القياس إلى الواقع ؛ لكثرة الخطأ ، أو استكشف وجود مفسدة فيه تزاحم مصلحة الواقع لم يحكم بحجيته ، وليس ذلك تخصيصا ؛ بل تخصصا.

٥٤

وأما ما قيل في جوابه ، من منع عموم المنع عنه (١) بحال الانسداد ، أو منع (٢) حصول الظن منه بعد انكشاف حاله ، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه ففي غاية الفساد (٣) ، فإنه ـ مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد ؛ ...

______________________________________________________

وقد ذكر الشيخ «قدس‌سره» في الرسائل جوابين آخرين عن إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد ، وفي كلا الجوابين نظر أشار إليه المصنف بقوله : «وأما ما قيل في جوابه ...» الخ. وقد جعلهما الشيخ الأمرين الأولين من الأمور السبعة.

(١) أي : عن القياس.

وحاصل الأمر الأول في الجواب : أنه لا مجال لإشكال المنافاة بين نهي الشارع عن العمل بالقياس ، وبين حكم العقل بحجية مطلق الظن ؛ وذلك لاختصاص الأخبار الناهية عن العلم بالقياس بحال الانفتاح ، وعدم شمولها لحال الانسداد ؛ إذ من المعلوم : أن بعض تلك الأخبار كان في مقابل معاصري الأئمة «عليهم‌السلام» من العامة التاركين للثقلين ، حيث تركوا الثقل الأصغر الذي عنده علم الثقل الأكبر ، ورجعوا إلى اجتهاداتهم وآرائهم ، فقاسوا واستحسنوا ، وضلوا وأضلوا. وعليه : فحكم العقل باعتبار مطلق الظن حال الانسداد باق على عمومه ؛ وإن حصل من القياس.

(٢) هذا هو الأمر الثاني في الجواب وحاصله : أن خروج القياس عن عموم النتيجة تخصصي لا تخصيص في حكم العقل حتى يتوجه الإشكال ؛ إذ بعد ملاحظة الأخبار الناهية عن العمل به لا يحصل الظن منه حتى يشمله حكم العموم بعموم حجية الظن ليشكل خروجه بنهي الشارع عنه.

ومن المعلوم : عدم وقوع التنافي حينئذ بين نهي الشارع وبين حكم العقل ؛ إذ موضوع حكمه هو الطريق المفيد للظن بحكم الله لا نفس القياس ، وإن لم يفد الظن ، ومن المسلم : عدم حصول الظن من القياس مع ملاحظة المنع الشرعي.

وهذا تمام الكلام في بعض الأمور السبعة في الجواب عن إشكال خروج القياس عن عموم نتيجة الانسداد. ولم يتعرض المصنف جميع الوجوه السبعة.

(٣) هذا جواب قوله : «وأما ما قيل ...» الخ ، وهذا شروع في الرد على الأمرين ـ أي : المنعين ـ وهذا الرد على وجهين :

أحدهما : ما يكون جوابا عن كل منهما على حدة.

وثانيهما : ما يشتركان فيه.

أما الوجه الأول : فمحصل الجواب عن الأمر الأول : عدم صحة منع عموم الأخبار

٥٥

لدعوى (١) : الإجماع على عموم المنع (٢) ، مع إطلاق أدلته (٣) ، وعموم علته (٤) وشهادة (٥) الوجدان بحصول الظن منه في بعض الأحيان ـ ...

______________________________________________________

الناهية عن العمل بالقياس لحال الانسداد ، ومحصل الجواب عن الأمر الثاني : عدم صحة منع حصول الظن من القياس.

وأما عدم صحة منع العموم ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٧١» ـ فلجهات ثلاث :

الأولى : دعوى الإجماع على عموم المنع عن العمل بالقياس لحال الانسداد.

الثانية : إطلاق دليل المنع الشامل لحال الانسداد على ما هو شأن كل إطلاق أحوالي.

قال الشيخ «قدس‌سره» في رد الوجه الأول : «لكن الإنصاف أن إطلاق بعض الأخبار وجميع معاقد الاجماعات يوجب الظن المتاخم بالعلم ؛ بل العلم بأنه ليس مما يركن إليه في الدين ، مع وجود الأمارات السمعية» (١).

الثالثة : عموم علة المنع لحال الانسداد أيضا ، مثل قولهم : «عليهم‌السلام» في مقام تعليل النهي عن القياس : ب «أن السنة إذا قيست محق الدين» ، و «أن ما يفسده أكثر مما يصلحه» ، حيث إن ظاهر التعليل اقتضاء ذات القياس لمحق الدين ومحوه ، ومن المعلوم : أن ما كان من مقتضيات الذات لا يتخلف عنه في حال دون حال كما هو واضح.

وأما عدم صحة منع حصول الظن : فلما سيأتي. فانتظر.

(١) هذا شروع في الجواب عن الأمر الأول المختص به ، وهذا إشارة إلى أول وجوهه الثلاثة.

(٢) يعني : لحال الانسداد.

(٣) أي : أدلة المنع عن القياس ، وهذا إشارة إلى ثاني وجوهه.

(٤) أي : علة المنع ، مثل : «إن السنة إذا قيست محق الدين» ، وهذا إشارة إلى ثالث وجوهه.

(٥) عطف على «دعوى» ، وهذا شروع في الجواب عن الأمر الثاني المختص به الذي أشرنا إليه بقولنا : «وأما عدم صحة منع حصول الظن من القياس : فلما سيأتي».

وتوضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٧٢» ـ أنا نمنع عدم حصول الظن من القياس ؛ بل ربما يحصل منه القطع في بعض الأحيان ، فكيف يقال بعدم حصول الظن منه بعد ملاحظة نهي الشارع؟

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣٠.

٥٦

لا يكاد (١) يكون في دفع الإشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه بمفيد ، غاية

______________________________________________________

وعليه : فيعود الإشكال بعدم قابلية حكم العقل للتخصيص.

وهذا الجواب أورده الشيخ الأعظم أيضا على الأمر الثاني ، فقال : «وفيه : أن منع حصول الظن من القياس في بعض الأحيان مكابرة مع الوجدان ... إلى أن قال : وأما منعه عن ذلك دائما فلا ، وكيف وقد يحصل من القياس القطع؟» (١).

وقد تحصل من كلمات المصنف في الجواب الأول عن الأمرين : أنّا نمنع الأمر الأول بعدم اختصاص بحال الانفتاح ؛ للإجماع وإطلاق الأدلة وعموم العلة ، كما نمنع الأمر الثاني بأنه قد يحصل الظن في بعض الموارد من القياس ، فيعود الإشكال. هذا كله في الجواب الأول المختص بكل واحد من الأمرين.

وأما الجواب الثاني المشترك بينهما فسيأتي.

(١) خبر «فإنه» واسم «يكون» ضمير راجع على الموصول في «ما قيل» المراد به كلا المنعين ، و «بمفيد» خبره ، أي : لا يكون المنع عن عموم الأدلة الناهية ، وكذا المنع عن حصول الظن من القياس بمفيد. وهذا هو الجواب الثاني المشترك لكلا الأمرين ـ أعني : المنعين ـ.

وحاصله : أن هذين الأمرين لا يدفعان إشكال خروج القياس والتنافي بين حكمي العقل والشرع ، ضرورة : أن الإشكال بخروجه إنما هو على فرض حصول الظن منه. فمنع هذا الإشكال تارة : بأن القياس لا يفيده بعد منع الشارع عن العمل به ، وأخرى : بجواز العمل بالظن الحاصل من القياس حال الانسداد خروج عن الفرض ، وهدم لموضوع الإشكال ، فهو في الحقيقة تسليم للإشكال لا دفع له مع بقاء موضوعه ، والجواب بهذا النحو عن الإشكال نظير الجواب عن الإشكال على عدم إكرام زيد ، المفروض أنه من العلماء بأنه ليس بعالم ، فإن هذا الجواب لا مساس له بالإشكال ـ بعد فرض أنه من العلماء ـ فهو فرار عن الإشكال إن لم يكن تسليما له ، لا أنه جواب عنه كما لا يخفى.

وبالجملة : فلا بد من علاج محذور لزوم تخصيص الحكم العقلي بحجية مطلق الظن ، ولا يرتفع هذا المحذور بدعوى : أن نهي الشارع عن العمل بالقياس مانع عن حصول الظن به ، أو أن نهيه عنه كاشف عن كونه غالب المفسدة ؛ إذ من المعلوم : أن جميع النواهي الشرعية كاشفة عن وجود المفاسد الكامنة في متعلقاتها ـ بناء على مذهب

__________________

(١) فرائد الأصول ١ : ٥٣١.

٥٧

الأمر (١) : أنه لا إشكال (٢) مع فرض أحد المنعين ؛ لكنه (٣) غير فرض الإشكال ، فتدبر جيدا.

______________________________________________________

العدلية ـ وهذا لا مساس له بإشكال عدم قابلية حكم العقل للتخصيص في شيء من الحالات.

قوله : «بالقطع» متعلق ب «الإشكال» ، وضمير «منه» راجع على القياس.

(١) لعل الأولى تبديله بما يفيد التعليل فيقال : «لأنه لا إشكال».

(٢) لعدم بقاء موضوع الإشكال مع أحد المنعين ، وهما عدم إفادة القياس للظن ، أو عدم شمول دليل النهي له أصلا.

(٣) أي : لكن فرض ثبوت أحد المنعين غير فرض الإشكال ، مع فرض عدمهما ؛ لأن فرض ثبوت المنعين دفع للإشكال برفع موضوعه ، وهو خلاف فرض دفع الإشكال ، مع فرض بقاء موضوعه كما هو المطلوب.

وبعبارة أخرى ـ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٧٤» ـ : لو سلمنا المنعين المذكورين لزم الخروج عن مورد الكلام ، وهو فرض إشكال خروج القياس مع إفادته الظن وحرمة العمل به حال الانسداد أيضا ، فقوله : «لكنه غير فرض الإشكال» معناه : أن فرض ثبوت أحد المنعين غير فرض إشكال خروج القياس ، مع إفادته الظن وحرمة العمل به حال الانسداد أيضا.

فالمتحصل : أنه لو سلمنا المنعين فإشكال خروج القياس والتهافت بين حكمي العقل والشرع ـ فيما إذا فرض إفادته الظن وعدم ثبوت جواز العمل به حال الانسداد ـ بعد باق. وفي المقام أجوبة أخرى لا داعي إلى نقلها.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ مورد الإشكال : هو خروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد بتقرير الحكومة.

وأما بناء على الكشف : فلا إشكال في خروجه عن عموم دليل الانسداد.

أما توضيح الإشكال : فيتوقف على تقديم أمور :

١ ـ أن حكم العقل غير قابل للتخصيص.

٢ ـ استقلال العقل بكون الظن مناطا للإطاعة والمعصية حال الانسداد ، كما أن العلم يكون مناطا لهما حال الانفتاح.

٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

٣ ـ أن القياس مفيد للظن بالحكم.

٤ ـ منع الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس.

٥ ـ أنه لو جاز المنع عن العمل بالظن القياسي لجاز المنع عن العمل بغيره من سائر الظنون ، فلا يستقل العقل حينئذ بالعمل بالظن أصلا ؛ لاحتمال النهي عن غير الظن القياسي أيضا.

إذا عرفت هذه الأمور من باب المقدمة فنقول في توضيح الإشكال : إنه مع استقلال العقل بكون مطلق الظن حال الانسداد كالعلم حال الانفتاح مناطا للإطاعة والمعصية ؛ كيف يمكن منع الشارع عن بعض أفراد الظن كالظن القياسي؟ مع أن الحكم العقلي غير قابل للتخصيص. ولو صيح هذا المنع لزم التخصيص في حكم العقل ، وقد عرفت أنه غير قابل له.

والسر في عدم جواز تخصيص حكم العقل : هو لزوم التناقض من التخصيص ، بتقريب : أن الحكم إذا كان عاما ؛ بحيث يشمل هذا الفرد المعيّن ، ثم خصصنا حكم العقل ورفعناه عن هذا الفرد لزم التناقض بين حكمه وبين التخصيص.

٢ ـ خلاصة جواب المصنف عن هذا الإشكال : إن حكم العقل على قسمين :

أحدهما : تنجيزي ، والآخر تعليقي ، وهو ما يكون حكم العقل معلقا على عدم نهي الشارع عن ظن بالخصوص ، فلو نهى عن العمل به لم يبق موضوع لحكم العقل بحجية مطلق الظن ، فيكون خروج ما نهى عنه الشارع من باب التخصص لا من باب التخصيص حتى يقال : إن حكم العقل غير قابل للتخصيص ، فخروج الظن القياسي حينئذ شرعا لا ينافي استقلال العقل بالحكم بحجية الظن ؛ لأن حكمه هذا يكون تعليقيا ، والمنافاة إنما تكون في الحكم التنجيزي دون التعليقي.

٣ ـ توهم : أن تعليق حكم العقل بحجية الظن على عدم نصب الشارع طريقا وإن كان في محله ، حيث إن النصب يهدم انسداد باب العلمي الذي هو من مقدمات دليل الانسداد ويوجب انفتاحه ؛ إلا إن تعليقه على عدم نهي الشارع عن العمل بظن خاص كالقياس لا مجال له ؛ لأنه ليس كنصب الطريق موجبا لانفتاح باب العلمي حتى يصح تعليق حكم العقل عليه ؛ مدفوع بأن النهي عن ظن ناشئ عن سبب خاص كالقياس ليس لا كنصب طريق ، حيث إنه بعد النهي عنه لا يصلح لأن يقع به الامتثال فلا يكون مؤمّنا.

٥٩

.................................................................................................

______________________________________________________

٤ ـ «نعم لا بأس بالإشكال فيه في نفسه» : استدراك على قوله : «وأنت خبير ...» الخ ، وغرضه : أن الإشكال عن القياس يكون من جهتين :

الأولى : من جهة حكم العقل بالإطاعة الظنية ، وهو محل الكلام ، وقد تقدم دفعه.

الثانية : من جهة نفس نهي الشارع عن العمل بالظن الحاصل من القياس ، وتقريب الإشكال من الجهة الثانية : أنه لو فرض إصابة الظن الحاصل من القياس للواقع لم يصح النهي عنه ، لأنه موجب لفوات الواقع.

ثم دفع الإشكال من الجهة الأولى لا يغني عن دفعه من الجهة الثانية ؛ إذ النهي عن الظن القياسي كالنهي عن مطلق الأمارة مستلزم للمحاذير المتقدمة في كلام ابن قبة فراجع.

وكيف كان ؛ فهذا الإشكال يشبه إشكال ابن قبة في باب جعل الحجية للطرق الظنية كخبر الواحد مثلا.

٥ ـ قوله : «واستلزام إمكان المنع عنه لاحتمال المنع عن أمارة أخرى» دفع لما ذكره الشيخ «قدس‌سره» في تقرير الإشكال بقوله : «فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل ...» الخ.

وحاصل الدفع : أن احتمال المنع عن أمارة أخرى لا دافع له إذا كان غيرها من الأمارات كافيا بالفقه ، ومع كفايتها لا يحكم العقل باعتبار تلك الأمارة المحتمل منعها كالأولوية الظنية ؛ لعدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعة ، وعدم حاجة إلى اعتبارها لوفاء غيرها من الأمارات التي لا يحتمل المنع عنها بمعظم الفقه ؛ بل يحكم العقل حينئذ باعتبار غير تلك الأمارة لأنها وافية بالفقه.

وأما إذا لم تكن تلك الأمارات وافية بالفقه ؛ فباب احتمال المنع منسد ؛ لاهتمام الشارع بالأحكام.

فالمتحصل : أن احتمال منع الشارع عن بعض الظنون غير قادح في استقلال العقل بحجية الظن ؛ إما للوفاء بالفقه ، وإما الاهتمام الشارع بها.

٦ ـ قوله : «وقياس حكم العقل ...» الخ ، دفع لما ذكره الشيخ في تقرير إشكال خروج القياس بقوله : «كيف يجامع حكم العقل؟».

وحاصل ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» : عبارة عن قياس حجية الظن في حال الانسداد على حجية العلم في حال الانفتاح ، فكما أن حكم العقل باعتبار العمل حال الانفتاح لا يقبل التخصيص فكذلك حجية الظن حال الانسداد غير قابل للتخصيص ؛

٦٠