دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

التي تقتضي المنة رفعها ، كما أن ما يكون (١) بلحاظه الإسناد إليها مجازا هو هذا ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

الفاعل بالإضرار بالغير. هذا تمام الكلام في الوجه الأول.

الوجه الثاني : هو اقتضاء إطلاق الرفع لجميع الآثار.

(١) يعني : إذا التزمنا في حديث الرفع بالمجاز في الإسناد ؛ بأن يكون إسناد الرفع إلى كل واحد من التسعة مجازا ، نظير إسناد الإنبات إلى الربيع في قولك «أنبت الربيع البقل» كان هذا الإسناد المجازي في الحديث بلحاظ الأثر الظاهر أو جميع الآثار ، وليس الإسناد المجازي بلحاظ رفع خصوص المؤاخذة ، فالمشار إليه بقوله : «هذا» هو قوله : «غيرها» الشامل لتمام الآثار وللأثر الظاهر ، فكأنه قيل : كما أنه ما يكون الإسناد إلى التسعة بلحاظه مجازا هو هذا أي : جميع الآثار أو الأثر الظاهر.

وكيف كان ؛ فالمرفوع بحديث الرفع ليس خصوص المؤاخذة ، كما استظهره الشيخ «قدس‌سره» ؛ بل هو إما الأثر الظاهر في كل منها ، وإما جميع الآثار على تقدير كون المراد من الموصول في «ما يعلمون» ما اشتبه حاله من الفعل.

ويظهر من المصنف «قدس‌سره» : ترجيح كون المقدر جميع الآثار على كونه الأثر الظاهر لوجهين :

الأول : كون حديث الرفع في مقام الامتنان ، فالمناسب للامتنان هو رفع جميع الآثار.

الثاني : استشهاد الإمام بما هو المروي عن المحاسن عن أبيه عن صفوان بن يحيى والبزنطي جميعا عن أبي الحسن «عليه‌السلام» : في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أيلزمه ذلك؟ فقال «عليه‌السلام» : «لا ، قال رسول الله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «رفع عن أمتي ما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون ، وما أخطئوا» (١) ، وتمسك الإمام بالحديث على بطلان الطلاق ، وعدم ترتب الصحة التي هي حكم وضعي يكشف عن أن المرفوع أعم من المؤاخذة والحكم التكليفي والوضعي.

قال الشيخ (٢) : «فإن الحلف بالطلاق والعتاق والصدقة ـ وإن كان باطلا عندنا مع الاختيار أيضا ـ إلا إن استشهاد الإمام «عليه‌السلام» على عدم لزومها مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع شاهد على عدم اختصاصه برفع خصوص المؤاخذة». «دروس في الرسائل ، ج ٢ ، ص ٢٣٨».

__________________

(١) المحاسن ٢ : ٣٣٩ / ١٢٤ ، نوادر الأشعري : ٧٥ / ٦٦٠ ، الوسائل ٢٣ : ٢٢٦ / ٢٩٤٣٦.

(٢) فرائد الأصول ٢ : ٣٠.

١٤١

فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منّة (١) على الأمة ، كما استشهد الإمام «عليه‌السلام» بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق والصدقة والعتاق.

ثم لا يذهب عليك : أن المرفوع (٢) فيما اضطر إليه وغيره مما أخذ بعنوانه الثانوي :

______________________________________________________

فالمتحصل : أن استشهاد الإمام «عليه‌السلام» على عدم الأمور المذكورة مع الإكراه على الحلف بها بحديث الرفع أقوى شاهد على كون المرفوع به هو جميع الآثار ؛ لا خصوص المؤاخذة. هذا ما أشار إليه بقوله : «فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي».

(١) بخلاف ما إذا لم يكن في رفعه منّة عليهم ؛ بأن كان رفعه بالنسبة إلى بعضهم مخالفا للامتنان على الآخرين ؛ كما إذا استلزم جريان البراءة بالنسبة إلى شخص ضررا على الغير ، فإن الحديث لا يرفع هذا الأثر الموجب رفعه ضررا على الغير ؛ لمنافاته للامتنان على الغير.

وقوله : «بمثل هذا الخبر» إشارة إلى الحديث المتقدم المروي عن المحاسن ، فإن شهادته بعدم اختصاص المرفوع بالمؤاخذة مما لا يقبل إنكاره ، ولا يقدح في ذلك : اختصاص النبوي المحكي في كلام الإمام «عليه‌السلام» بثلاثة من التسعة بعد وحدة السياق ، وكذا لا يقدح فيه اختلافهما في بعض الكلمات ، فإن المذكور في النبوي المعروف : «ما استكرهوا عليه» ، وفي المروي عن المحاسن «ما أكرهوا» ، فإن مثل هذا الاختلاف لا يضر بما نحن بصدده كما هو واضح.

(٢) الغرض من هذا الكلام : بيان ما هو المرفوع بحديث الرفع.

يقول المصنف : إن المرفوع بحديث الرفع هو : الأثر الشرعي المترتب على الفعل بعنوانه الأولي الذي يقتضيه دليله ؛ لو لا حديث الرفع.

وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي أن التسعة المرفوعة في الحديث على قسمين :

القسم الأول : ما هو معنون بعنوانه الأولي كالحسد ، والطيرة ، والتفكر في الخلق.

القسم الثاني ما هو معنون بعنوانه الثانوي مثل ما لا يعلمون ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه والخطأ والنسيان ونحوها ، فإن هذه العناوين من العناوين الثانوية ولها آثار.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه إذا بنينا على كون المرفوع بحديث الرفع جميع الآثار ، كما صرح به المصنف بقوله : «فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي» فلا شك في أن المرفوع في القسم الأول آثار هذه الأمور بعناوينها الأولية ، فالمعنى : أنه لا أثر

١٤٢

.................................................................................................

______________________________________________________

شرعي للحسد وللطيرة وللتفكر ، ولا عقاب عليها إذا لم تظهر بيد أو لسان ؛ كما في الحديث.

وأما القسم الثاني : أعني : ما هو معنون بعنوانه الثانوي ؛ كعدم العلم والاضطرار والإكراه والخطأ والنسيان : فالمرفوع هي الآثار المترتبة على الفعل بما هو هو وبعنوانه الأوّلي ؛ بحيث كان طرو واحد من العناوين الثانوية كالخطأ والنسيان وأخواتهما رافعا للآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الأوّلي ؛ لا الآثار المترتبة على نفس تلك العناوين الثانوية ؛ كوجوب الدية المترتب على الخطأ في القتل ، ووجوب سجدتي السهو المترتب على النسيان في بعض أجزاء الصلاة ونحوهما ، فإن العنوان الثانوي موضوع للآثار ، فكيف يعقل أن يكون هو سببا في رفعه؟ كما أشار إليه المصنف بقوله : «والموضوع للأثر مستدع لوضعه ، فكيف يكون موجبا لرفعه؟».

وإن شئت قلت : إن المرفوع هو الآثار المترتبة على الشيء بعنوانه الأولي وذلك بوجهين :

الأول : إن هذه العناوين إذا كانت موجبة لطرو أحكام خاصة ؛ كوجوب الدية في القتل خطأ ، وسجدتي السهو عند نيسان بعض الأجزاء في الصلاة : فلا معنى لأن تكون موجبة لرفعها ؛ إذ ما يوجب وضع أثر خاص لا يكون رافعا له ؛ لاستلزامه التناقض ، فلا بد من الالتزام بأن المرفوع بالحديث هي الآثار المترتبة على الشيء بعنوانه الأوّلي ، مثلا : الآثار المترتبة على نسيان السورة على قسمين : قسم يترتب على نفس السورة كبطلان الصلاة بتركها. وقسم يترتب عليها بما أنها متعلقة للنسيان ؛ كسجدتي السهو ، والمقصود من الآثار المرفوعة بحديث الرفع : إنما هو القسم الأول لا الثاني ؛ وإلا يلزم التناقض في كلام الشارع ؛ لأن المفروض : كون السهو كالسبب لتشريع سجدتي السهو ، فكيف يكون رافعا لهما؟

الثاني : أن المتبادر من العناوين التالية : الخطأ والنسيان وأخواتهما كونها مأخوذة على وجه الطريقية إلى متعلقاتها ، فحينئذ : يكون المرفوع نفس آثار المتعلق عند عروض هذه العناوين.

وأما الآثار المترتبة على نفس هذه العناوين عند أخذها على وجه الموضوعية : فخارجة عن حريم الحديث قطعا.

فالمرفوع ما للمعنون من الآثار لا ما للعنوان منها.

١٤٣

إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي ، ضرورة (١) : أن الظاهر أن هذه العناوين صارت موجبة للرفع ، والموضوع (٢) للأثر مستدع لوضعه (٣) ، فكيف يكون موجبا لرفعه؟

______________________________________________________

نعم ؛ الحسد والطيرة والتفكر في الخلق عناوين نفسية ، فالمرفوع آثار أنفسها.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح كلام المصنف «قدس‌سره».

(١) تعليل لقوله : «إن المرفوع ...» الخ.

قوله : «إنما هو الآثار ...» الخ. خبر «أن المرفوع» ، وضمير «عليه» راجع على ما اضطروا إليه وغيره.

والمراد من العناوين في «هذه العناوين» هي : العناوين الثانوية ؛ كالخطأ والنسيان والاضطرار وغيرها.

(٢) مبتدأ وخبره «مستدع» ، توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢١٢» ـ أن المرفوع بهذا الحديث هو الأثر المترتب على الفعل بعنوانه الأولي لا بعنوانه الثانوي ؛ لأن الظاهر أن العنوان الثانوي هو الذي أوجب رفع الأثر المترتب عليه ، فلو فرض ترتب أثر على الفعل بعنوانه الثانوي ؛ كترتب وجوب الدية على العاقلة على القتل الخطأ ، ووجوب سجدتي السهو على نسيان بعض أجزاء الصلاة أو على التكلم فيها سهوا ، لم يكن هذا العنوان الثانوي موجبا لرفعه ؛ لأن هذا العنوان هو الذي صار موضوعا للأثر ، والموضوع يستدعي وضع الأثر وثبوته ، فلا يكون رافعا له ؛ وإلا لزم كون الشيء رافعا لما يقتضي وضعه ، وهو محال.

وبعبارة أخرى : أن حديث الرفع إنما يرفع الآثار المترتبة على الموضوع قبل طروّ هذه العناوين المذكورة فيه ، وأما الآثار المترتبة على الموضوع بعد طرو هذه العناوين عليه ، فلا ترتفع بهذا الحديث ؛ لأن هذه العناوين حينئذ موضوعات لتلك الآثار ومقتضية لثبوتها ، فيستحيل أن تكون رافعة لها.

(٣) أي : لثبوته ، وضميره وكذا ضمير «لرفعه» راجع على الأثر ، واسم «يكون» ضمير مستتر راجع على الموضوع ، أي : فكيف يكون الموضوع ـ وهو أحد العناوين الثانوية ـ موجبا لرفع الحكم المترتب على ذلك الموضوع؟

فالمتحصل : أن آثار العنوان الثانوي يجب أن يكون العنوان الثانوي علة لثبوتها لا علة لرفعها.

١٤٤

لا يقال (١) : كيف؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها (٢)؟

فإنه يقال (٣) : بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها ، ضرورة : أن الاهتمام به يوجب إيجابهما ؛ لئلا يفوت على المكلف ، كما لا يخفى.

______________________________________________________

(١) لا يقال : إن ما ذكرتم من كون حديث الرفع يرفع آثار الواقع بعنوانه الأولي ؛ لا بعنوانه الثانوي يقتضي أن لا يرفع الاحتياط ـ بأن يجب الاحتياط فيما لا يعلمون ـ إذ الاحتياط ليس من آثار الواقع حتى يرفع بحديث الرفع ، بل هو من آثار الجهل بالواقع ، وهذا خلاف البداهة ، فإن حديث الرفع يرفع الاحتياط ، وعلى هذا : فلا يخص حديث الرفع برفع آثار الواقع بعنوانه الأولي ؛ بل يرفع آثار العنوان الثانوي أيضا كالجهل ونحوه.

وكيف كان ؛ فغرض المصنف من هذا الإشكال : أن حديث الرفع يدل على رفع آثار نفس هذه العناوين الثانوية وهي الجهل والخطأ والنسيان ؛ لا رفع آثار ذوات المعنونات أعني : الموضوعات بما هي هي ، يعني : بعناوينها الأولية كما المدعى.

بتقريب : أن إيجاب الاحتياط من آثار الجهل بالتكليف ولا يعقل تشريعه حال العلم به ، وكذا إيجاب التحفظ ، فإنه من آثار الخطأ والنسيان دون التذكر ، ومقتضى ما ذكر : ثبوت إيجاب الاحتياط والتحفظ لهذه العناوين ، مع أن حديث الرفع ينفي الإيجاب الذي هو من آثار الجهل والخطأ والنسيان ، وهذا خلاف المقصود.

(٢) أي : نفس العناوين الثانوية لا أثرا لها بعناوينها الأوّلية وضميرا «بعينها ، نفسها» راجعان على العناوين.

وحاصل الإشكال : كان حديث الرفع خاصا برفع الأثر على العناوين الأولية فقط لم يرفع به الاحتياط والتحفظ ، اللذان هما أثران للعناوين الثانوية.

(٣) هذا جواب عن الإشكال المذكور : وحاصله : إن إيجاب الاحتياط فيما لا يعلمون ، وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان ليسا من الآثار المترتبة على نفس عنوان ما لا يعلم أو عنوان الخطأ والنسيان ؛ بل هما من آثار الواقع المجهول أو الواقع الصادر خطأ أو نسيانا ، فليسا من العناوين الثانوية «بل إنما تكون» هذه الأمور أعني : الاحتياط في مورد الجهل ، والتحفظ في مورد الخطأ والنسيان «باقتضاء» الحكم الثابت في «الواقع في موردها» أي : في مورد الجهل والخطأ والنسيان ، ففي موردها إشارة إلى ظرفية الجهل والخطأ والنسيان لإيجاب الاحتياط والتحفظ.

١٤٥

.................................................................................................

______________________________________________________

«ضرورة : أن الاهتمام به» أي : بالواقع «يوجب إيجابهما» أي : الاحتياط والتحفظ ؛ «لئلا يفوت على المكلف» الواقع ، ومن هنا تبين : أن حديث الرفع إنما يرفعهما لكونهما من آثار العناوين الأولية.

وكيف كان ؛ فإيجاب الاحتياط ليس أثرا ل «ما لا يعلمون» بهذا العنوان ؛ بل من آثار التكليف الواقعي الناشئ عن الملاك الذي اهتم به الشارع ولم يرض بتركه حتى في حال الجهل به كما في النفوس والأعراض ؛ إذ لو لم يهتم به لم يوجب الاحتياط ، فوجوب الاحتياط ليس أثرا للفعل المجهول بما هو مجهول حتى يقال أنه أثر للفعل بعنوانه الثانوي ، فلا يصح رفعه به ؛ لأن المقتضى للشيء لا يكون رافعا له ؛ بل هو في الحقيقة من آثار العناوين الأولية التي هي موضوعات الأحكام الواقعية ، الناشئة من المصالح الداعية إلى تشريعها.

نعم ؛ لما لم يعقل إيجاب الاحتياط في حال العلم بالواقع ؛ لتقوّم مفهوم الاحتياط بالجهل به اختص تشريعه بصورة الجهل ، وأما المقتضي لتشريعه فهو مصلحة الحكم الواقعي المجعول للعنوان الأوّلي ، وكذا الحال في وجوب التحفظ. فحينئذ لا مجال له إلا في حال الخطأ ومورده.

وأما المقتضي له : فهو مصلحة الحكم الواقعي الثابت للعناوين الأولية.

هذا تمام الكلام في البحث حول الاستدلال بحديث الرفع على البراءة. بقي ما لا يخلو ذكره عن فائدة :

١ ـ توضيح بعض العناوين المذكورة في ذيل الحديث وهي : الحسد والطيرة والوسوسة في التفكر في الخلق.

٢ ـ نسبة حديث الرفع إلى أدلة الأحكام الأولية.

وأما توضيح الأمور الثلاثة وإن كان خارجا عن موضوع البراءة فيقال : إنه لا إشكال في أن المراد من الحسد هي الحالة النفسانية التي توجب عدم تحمل الإنسان نعمة أعطاها الله تعالى أخاه المؤمن قبل إظهارها عملا ، وأما إذا أقدم بعمل في سبيل زوالها : فلا إشكال أيضا في كونه معصية ، ولا يكون حينئذ مشمولا للحديث الشريف.

وأما الطيرة : فهي من مادة الطير ، بمعنى : التشأم وقراءة الطالع بالطيور ، ثم توسع في

١٤٦

.................................................................................................

______________________________________________________

ذلك حتى عمت سائر طرق التشأم ، فإن العرب في الجاهلية كانت تلتزم وتعتني بما يتشأم بالطيور وغيرها ، وكانت الطيور تصدهم عن مقاصدهم ، فللشارع المقدس أن يمضي تلك الالتزامات ؛ ولكنه ردع عنها امتنانا حتى لا تتعطل حياتهم لأمور لا واقع لها.

وأما الوسوسة في التفكر في الخلق ، أو التفكير في الوسوسة في الخلق : فالمراد من الخلق في هذه الجملة يمكن أن يكون أحد معنيين :

الأول : أن يكون بمعنى الخالق أي : خالق الباري ، فيتفكر في أنه من خلق الباري تعالى؟

وهو سؤال يشكل جوابه على العوام وإن كان واضحا عند المحققين ؛ لأن الحاجة إلى الخالق تتصور بالنسبة إلى كل حادث أو ممكن الوجود ، والله «تبارك وتعالى» لا يكون حادثا أو ممكنا ، ومع ذلك كان أمرا شايعا في عصر صدور الحديث ، وكانوا يتوهمون حصول الكفر به ، فرفع الشارع أثره المتوهم امتنانا.

الثاني : أن يكون في مقابل الخالق ، والمراد منه حينئذ : الوسوسة في التفكر في البلايا والشرور ، وتكرار القول ب «لم» بالنسبة إليها أي : القول بأن الله تعالى لم خلق الشيء الفلاني ، ولم خلق العالم كذا وكذا ، فرفع الشارع حرمة هذه الوساوس امتنانا ؛ كما في بعض الكتب المبسوطة.

وأما نسبة هذا الحديث إلى أدلة الأحكام الأولية : فهي حكومة على المشهور ، فحديث الرفع حاكم على أدلة الأحكام الأولية ؛ كأدلة نفي الضرر والحرج.

توضيح ذلك : أن أدلة الأجزاء والشرائط والموانع مثلا تدل على أصل الجزئية والشرطية والمانعية ، ولا تدل على كيفية دخلها ، وحديث الرفع يتعرض لكيفية الدخل ، وأن جزئيتها أو شرطيتها أو مانعيتها مختصة بغير حال النسيان مثلا ، فضابط الحكومة ـ وهو تعرض أحد الدليلين لما لا يتكفله الآخر ـ ينطبق على حديث الرفع.

وبعبارة أخرى : لا شك أن إطلاق الأدلة الأولية يعم كثيرا من الأحوال الثانوية ؛ ككون الحكم ضرريا أو حرجيا أو مجهولا أو منسيا ، وغير ذلك من العناوين الثانوية ، وكون المكلف مضطرا أو مكرها ، فإذا ورد قوله : «رفع عن أمتي تسعة : الخطأ والنسيان

١٤٧

.................................................................................................

______________________________________________________

وما لا يعلمون ...» الخ. يفهم منه العرف أن الثاني ناظر إلى تحديد دلالة الأدلة الأولية ، وتضييقها بغير هذه الصور والحالات. وهذا ما نعبر عنه بالحكومة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تقريب الاستدلال بحديث الرفع على البراءة :

إن المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو : مطلق الإلزام المجهول ، سواء في الشبهة الحكمية ؛ كحرمة شرب التتن ، أو وجوب الدعاء عند رؤية الهلال. أو الشبهة الموضوعية ؛ كحرمة المائع الخارجي المشكوك كونه خمرا ، فالاستدلال بالحديث على رفع الحكم الشرعي إنما يتم إذا كان الموصول في «ما لا يعلمون» شاملا للحكم الشرعي ، ولا يكون ظاهرا في خصوص الموضوع المجهول الحال من كونه خلا أو خمرا ؛ وإلا لسقط الاستدلال به في مورد البحث.

٢ ـ الإشكال : بأن أصالة البراءة التي هي من الأصول العملية لا تنفي إلا الآثار الشرعية ، فلا ترفع المؤاخذة ؛ لأنها ليست من الآثار الشرعية بل نفسها من الأمور التكوينية واستحقاقها من الأحكام العقلية ، وعلى كلا التقديرين : لا ترتفع بإجراء البراءة ؛ مدفوع : بأنها وإن كانت من الأحكام العقلية ؛ إلا إن حكم العقل هذا سبب عن حكم الشرع بوجوب الاحتياط ، وهو ناش من الحكم الواقعي المجعول شرعا ، فيمكن للشارع أن يرفعها برفع ما هو السبب أعني : وجوب الاحتياط ، يعني : لما كان إيجاب الاحتياط علة للمؤاخذة فنفيه علة لعدمها.

٣ ـ الإشكال : بأن إيجاب الاحتياط ، وإن كان أثرا شرعيا للتكليف المجهول وهو قابل للرفع ؛ إلا إنه ليس سببا لاستحقاق العقاب على مخالفة التكليف المجهول ؛ بل على مخالفة نفسه ؛ مدفوع : بأن إيجاب الاحتياط ليس نفسيا كي يكون العقاب على مخالفة نفسه ؛ بل يكون طريقيا قد شرّع لأجل حفظ الواقع في المشتبهات ، فيوجب استحقاق العقاب على الواقع المجهول في المشتبهات ؛ إذ لا عقاب على مخالفة ما يكون وجوبه طريقيا.

٤ ـ أن رفع التكليف المجهول إنما هو من باب الامتنان على الأمة ، فلا يجوز رفع ما ليس في رفعه امتنان عليهم ؛ بأن يكون ضررا على البعض.

١٤٨

.................................................................................................

______________________________________________________

«فافهم» ، لعله إشارة إلى الفرق بين الاحتياط وبين سائر الأوامر الطريقية ، فإن في ترك الاحتياط تجريا عقاب وإن أتى بالتكليف الواقعي ؛ كما لو صلى إلى جهة واحدة فيما اشتبهت القبلة ، وصادفت تلك الجهة الواقع ، فإنه يعاقب للتجري كما هو مختار المصنف «قدس‌سره» ، وهذا بخلاف سائر الأوامر الطريقية التي لا عقاب لها قطعا.

٥ ـ إشكال المصنف على الشيخ : حيث قال بلزوم التقدير استنادا إلى دلالة الاقتضاء. وحاصل ما أورده عليه المصنف : أنه لا حاجة في «ما لا يعلمون» بعد إمكان إرادة نفس الحكم الشرعي من الموصول إلى التقدير ؛ لأن الحكم بنفسه قابل للرفع ، فيكون حديث الرفع دليلا على أصل البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية ؛ بلا تكلف تقدير شيء أصلا.

نعم ؛ دلالة الاقتضاء في غير «ما لا يعلمون» توجب إما تقدير جميع الآثار ، أو الأثر الظاهر ، أو المؤاخذة ، وإما الالتزام بالمجاز في الإسناد بلا تقدير شيء أصلا ؛ لاستلزام رفع تلك العناوين للكذب لتحققها خارجا قطعا ، فلا بد من الالتزام بالتقدير أو المجاز في الإسناد حفظا لكلام الحكيم عن الكذب.

٦ ـ الإشكال الآخر على الشيخ : حيث قال بتقدير خصوص المؤاخذة ، بناء على كون المراد من الموصول هو : ما اشتبه حاله من الفعل ، فأورد عليه المصنف : بأنه لا وجه لتقدير خصوص المؤاخذة ، بعد أن المقدر في غير واحد من العناوين المذكورة ؛ كالإكراه وعدم الطاقة والخطأ غير المؤاخذة بقرينة رواية المحاسن ، التي أشار إليها في المتن ، حيث إن المقدر فيها هو الحكم الوضعي من صحة الطلاق والانعتاق وملكية الأموال.

٧ ـ إن المرفوع بحديث الرفع هي : الآثار المترتبة على الفعل بما هو هو ، وبعنوانه الأوّلي ؛ لا الآثار المترتبة على الفعل بعنوانه الثانوي ، فإن العنوان الثانوي موضوع للآثار المترتبة عليه ، فكيف يعقل أن يكون هو سببا لرفعها؟

٨ ـ الإشكال : بأن ما ذكرتم من كون حديث الرفع يرفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي يقتضي أن لا يرفع وجوب الاحتياط ـ بأن يجب الاحتياط فيما لا يعلمون ـ إذ الاحتياط ليس من آثار الواقع حتى يرفع بحديث الرفع ؛ بل هو من آثار الجهل بالواقع.

وهذا خلاف البداهة ، فإن حديث الرفع يرفع الاحتياط.

ومن المعلوم : أن وجوب الاحتياط من آثار الفعل بعنوانه الثانوي لا بعنوانه الأوّلي ، فلا يخص حديث الرفع برفع آثار الواقع بعنوانه الأوّلي ؛ مدفوع : بأن إيجاب الاحتياط فيما

١٤٩

ومنها (١) : حديث الحجب ، وقد انقدح تقريب الاستدلال به (٢) مما ذكر في حديث الرفع.

______________________________________________________

لا يعلمون ، وإيجاب التحفظ في الخطأ والنسيان ليسا من الآثار المترتبة على نفس عنوان ما لم يعلم أو عنوان الخطأ والنسيان ؛ بل هما من آثار الواقع المجهول أو الواقع الصادر خطأ أو نسيانا بعنوانه الأوّلي ، فالجهل والخطأ والنسيان ظرف لإيجاب الاحتياط والتحفظ ، بمعنى : أنه لما لم يعقل إيجاب الاحتياط في حال العلم بالواقع لتقوّم مفهوم الاحتياط بالجهل به اختص تشريعه بصورة الجهل. وأما المقتضي لتشريعه : فهو مصلحة الحكم الواقعي المجعول للعنوان الأولي ، وكذا الحال في وجوب التحفظ ، فإنه لا مجال له إلا في الخطأ ومورده.

وأما المقتضي له : فهو مصلحة الحكم الواقعي الثابت للعناوين الأولية.

فالحاصل : أن حديث الرفع إنما يرفعهما لكونهما من آثار العناوين الأولية.

٩ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

١ ـ إن المراد من الموصول في «ما لا يعلمون» هو : الحكم الإلزامي لا الموضوع الخارجي.

٢ ـ دلالة الحديث على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعية.

٣ ـ والمقدر هو جميع الآثار لا خصوص المؤاخذة في «ما لا يعلمون» على فرض تقدير شيء فيه.

في الاستدلال بحديث الحجب على البراءة

(١) ومن الروايات التي استدل بها على البراءة : حديث الحجب ، وهو قوله «عليه‌السلام» : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» (١) ، وهو من حيث السند تام ، حيث إن رجاله معروفون.

وأما الدلالة : فتقريب الاستدلال به : أن الإلزام المجهول وجوبيا كان أو تحريميا حكميا كان أو موضوعيا تكليفيا كان أو وضعيا محجوب عن العباد ، فهو مرفوع عنهم ، فشرب التتن محجوب عن العباد حكمه التحريمي مثلا ، فلا تحريم. ودعاء الرؤية حكمه الإيجابي محجوب عنهم ، فلا وجوب.

(٢) أي : بحديث الحجب ، يعني : وقد ظهر تقريب الاستدلال بحديث الحجب مما

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٨٦٤ ، التوحيد : ٤٣ / ٩ ، الوسائل ٢٥ : ١٦٣ / ٣٣٤٩٦.

١٥٠

.................................................................................................

______________________________________________________

ذكر في تقريب الاستدلال بحديث الرفع ، بمعنى : أن المراد من الموصول في «ما حجب الله» عاما يعم كل محجوب ، سواء كان حكما أو هوية الموضوع ، وليس حديث الحجب مقرونا بشيء يوهم اختصاصه بالشبهة الموضوعية ، بخلاف حديث الرفع فإن قرينة السياق كانت موجبة للشك في عموميته.

نعم ؛ يمكن أن يقال : إن حديث الحجب على عكس حديث الرفع ، بمعنى : أن حديث الرفع بقرينة وحدة السياق ظاهر في الشبهة الموضوعية. وحديث الحجب بقرينة إسناد الحجب إلى الله تعالى ظاهر في الشبهة الحكمية ، فإنه يتناسب مع إرادة الحكم الكلي المجهول من الموصول كما لا يخفى.

هذا مجمل الكلام في الاستدلال بحديث الحجب على البراءة.

وأما تفصيل الكلام في توضيح الاستدلال به على البراءة فيتوقف على مقدمة وهي : شرح مفردات الحديث ، وهي الحجب ، والعلم ، والوضع.

أما الحجب : فهو لغة بمعنى : الشر ، والمحجوب هنا هو الحكم الشرعي المجهول لا الملاكات والمقتضيات ، حيث إن وظيفة الشارع من حيث إنه شارع بيان الأحكام ، وحجب الحكم يتحقق تارة : بأمره حجبه بعدم تبليغه إلى العباد ، وأخرى باختفائه عنهم بعد تبليغه لمعصية العصاة المانعة عن وصوله إلى المكلفين.

وأما العلم : فالمراد به حيث يطلق في الروايات وغيرها هو : الاعتقاد الجازم المطابق للواقع ؛ لا كل اعتقاد جازم وإن كان مخطئا.

وأما كلمة «وضع» : فإن تعدت بحرف الاستعلاء : دلت على جعل شيء على شيء وإثباته عليه ، وإن تعدت بحرف المجاوزة : دلت على معنى الإسقاط ؛ كقوله تعالى : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ)(١) أي : أسقطها عنهم ، ومن المعلوم : أن إسقاط شيء كالحق عن الذمة فرع استقراره فيها.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن تقريب الاستدلال بالحديث على البراءة من الوضوح على حد لا يخفى على أحد ، حيث إنه يدل على أن الحكم الواقعي المجهول قد وضعه الشارع عن العباد ورفعه عنهم فعلا ، فيكون المراد بحجبه : عدم وصوله ، سواء كان بعدم بيانه أم بإخفاء الظالمين له ، ومن الواضح : إن المرفوع ليس نفس الحكم الواقعي المجهول ؛ لاستلزامه التصويب ، فلا بد أن يكون الموضوع عن العباد إيجاب الاحتياط ،

__________________

(١) الأعراف : ١٥٧.

١٥١

إلا إنه ربما يشكل (١) بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من (٢) التكليف ؛ بدعوى : ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه (٣) ، ويمكن شموله

______________________________________________________

وبهذا التقريب تتم دلالة الحديث على البراءة ؛ بحيث يصلح للمعارضة مع أدلة الأخباريين على الاحتياط المقتضية لاشتغال الذمة بالتكاليف الواقعية المجهولة ؛ بل هذا أظهر في الدلالة على البراءة من حديث الرفع ؛ لما عرفت من أن المراد بالموصول : هو الحكم قطعا بخلاف حديث الرفع.

(١) أي : إلا إن الاستدلال يشكل ، والمستشكل هو الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» ، حيث قال بعد تقريب الاستدلال : «وفيه أن الظاهر ...» الخ.

وتوضيح الإشكال يتوقف على مقدمة وهي : أن «ما حجب الله علمه عن العباد» لا يخلو عن أحد احتمالين :

الأول : هو أن يكون المراد منه : ما لم يبينه للعباد من الأول وسكت عنه ، ولم يأمر رسوله.

الثاني : أن يكون المراد منه : ما بيّنه ، وأمر رسوله بتبليغه ، فبلغه الرسول للعباد ؛ ولكن اختفى عليهم لأجل الحوادث الخارجية ؛ كإخفاء الظالمين والعاصين إياه عنهم.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع بين الأخباريين والأصوليين ـ حيث يقول الأول : بوجوب الاحتياط والثاني : بالبراءة ـ هو الاحتمال الثاني ، أي : ما بيّنه وحجب علمه عن العباد بواسطة إخفاء الظالمين ، وأما ما لم يبيّنه من الأول : فهو مرفوع عنهم بالاتفاق ، والظاهر من الرواية : هذا الاحتمال أعني : الاحتمال الأول بقرينة نسبة الحجب إلى الله تعالى ، فحديث الحجب أجنبي عن المقام ؛ لأنه مساوق لما ورد عن أمير المؤمنين «عليه‌السلام» : «إن الله حدّ حدودا ، فلا تعتدوها ، وفرض فرائض ، فلا تعصوها ، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا لها ، فلا تتكلفوها رحمة من الله لكم» (١).

(٢) كما هو المطلوب في البراءة ، «وبدعوى» متعلق ب «يشكل» وبيان له ، وضمير «ظهوره» في الموضعين راجع على حديث الحجب.

(٣) أي : على ما لا يعلم من التكليف ، وضمير «بتبليغه» راجع على الموصول في «ما تعلقت» المراد به الحكم الذي منع اطلاع العباد عليه ، وضمير «بدونه» راجع على منعه تعالى اطلاع العباد عليه.

وحاصل الإشكال : إن حجب الله تعالى لا يصدق إلا في صورة عدم أمره تعالى

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٧٥ / ٥١٤٩ ، الوسائل ٢٧ : ١٧٥ / ٣٣٥٣١.

١٥٢

للشبهة الموضوعية أيضا بأن المراد من الموصول هو : خصوص الحكم المحجوب علمه مطلقا ولو كان منشأ الحجب اشتباه الأمور الخارجية.

ومنها (١) : قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام

______________________________________________________

رسله بالتبليغ ؛ إذ الحكم الذي أمر رسله بتبليغه لا يصدق عليه أنه تعالى حجبه عن العباد كما هو واضح ، فهذا الحديث الشريف لا يصلح لأن يكون مستندا لأصل البراءة.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

فكما يقال في تقريب الاستدلال بحديث الرفع : أن الإلزام المجهول مما لا يعلمون فهو مرفوع ظاهرا وإن كان ثابتا واقعا ، فكذلك يقال في تقريب الاستدلال بحديث الحجب : إن الإلزام المجهول مما حجب الله علمه عن العباد ، فيكون موضوعا عنهم.

وملخص الإشكال على هذا الاستدلال :

أن الحديث أسند الحجب إلى الله تعالى ، وهو حينئذ ظاهر فيما سكت الله عنه ولم يأمر نبيه بالإبلاغ ، لا ما بيّنه واختفى عنهم بعروض الحوادث ؛ الذي هو المبحوث عنه في المقام.

رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو عدم دلالة هذا الحديث على البراءة ؛ لأنه لم يجب عن الإشكال ، فعدم جوابه عن الإشكال كاشف عن صحة الإشكال على الاستدلال بحديث الحجب.

ونظرا إلى الإشكال المذكور لا يصلح أن يكون حديث الحجب دليلا على البراءة.

الاستدلال بحديث الحل

(١) أي : ومن الروايات التي استدل بها على البراءة : قوله «عليه‌السلام» : «كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه».

تقريب الاستدلال به على البراءة : أن يقال : أن قوله «عليه‌السلام» : «حتى تعرف» قيد للموضوع ـ وهو شيء ـ ومعناه : أن كل شيء مشكوك الحل والحرمة حلال ، سواء كان منشأ الشك فقد النص أم إجماله أم تعارضه أم اشتباه الأمور الخارجية ، وعليه : فشرب التتن المشكوك حكمه من حيث الحل والحرمة حلال ، وكذا شرب المائع المردد بين الخل والخمر.

هذا خلاصة الكلام في تقريب الاستدلال بهذا الحديث على البراءة.

ولما كان ظاهره بقرينة قوله «بعينه» الذي هو قيد احترازي عن معرفة الحرام لا بعينه ـ

١٥٣

بعينه» (*) الحديث. حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ؛ ولو كان (١) من جهة عدم الدليل على حرمته ، وبعدم (٢) الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط

______________________________________________________

اختصاصه بالشبهات الموضوعية لأن كلمة «بعينه» تكون بمعنى : التشخص والتعين الخارجي فكان أصل الحرمة معلوما ، وأن الإمام «عليه‌السلام» كان بصدد بيان حكم الحرام الذي علم حرمته ؛ لكنه لم يعلم هو معينا ـ كما هو شأن الشبهة الموضوعية ـ لا بيان حكم نفس الحرمة إذا كانت مشكوكة ، فلا يشمل الحديث الشبهات الحكمية ؛ إذ الشك في حرمة شرب التتن مثلا ليس من أفراد الشك في الحرمة بعينها ، وإنما هو شك في أصل الحرمة.

كما أن ظاهر الحديث أيضا بقرينة قوله : «حتى تعرف الحرام» اختصاصه بالشبهات التحريمية ؛ وأن الحكم بحلية الشيء مختص بما إذا تردد حكمه بين الحرمة وغير الوجوب ، فالحاصل : أنه لما كان ظاهر الحديث اختصاصه بالشبهات الموضوعية التحريمية : تصدى المصنف لتعميمه أولا للشبهات الحكمية التحريمية ، ثم للشبهات الوجوبية.

وأما التعميم الأول : فهو الذي أشار إليه بقوله : «مطلقا ولو كان ...» الخ.

توضيحه : أن الحديث يدل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا ، يعني : سواء كان عدم العلم بحرمته ناشئا من عدم العلم بعنوانه ، وأنه من أفراد المحلل ، أو من أفراد المحرم مع العلم بأصل الحرمة ؛ كالمائع المردد بين الخل والخمر مع العلم بأصل حرمة الخمر ، أم ناشئا من عدم الدليل على الحرمة ، أم من تعارض ما دل على حرمته مع ما دل على حليته ، أم غير ذلك ، ويجمع الكل عدم العلم مهما كان منشؤه. هذا تمام الكلام في التعميم الأول ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٤١».

وأما التعميم الثاني : فهو ما أشار إليه بقوله : «وبعدم الفصل قطعا».

(١) بيان للإطلاق ، يعني : ولو كان عدم العلم بحرمته من جهة عدم الدليل عليها.

هذا ملخص الكلام في التعميم الأول. وهناك كلام طويل تركناه رعاية للاختصار.

(٢) متعلق بقوله : «يتم المطلوب» ، وهذا إشارة إلى التعميم الثاني للشبهات الوجوبية.

وقد افاد المصنف هذا التعميم بوجهين :

أولهما : وحاصله : دعوى عدم الفصل بين الشبهات التحريمية والشبهات الوجوبية في الحكم ، بمعنى : أن كل من قال بجريان البراءة وعدم وجوب الاحتياط في الشبهات

__________________

(*) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٣٩ ، الفقيه ٣ : ٣٤١ / ٤٢٠٨ ، تهذيب الأحكام ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨ ، الوسائل ١٧ : ٨٦ / ٢٢٠٥٠.

١٥٤

فيه (١) ، وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية يتم المطلوب (٢).

مع (٣) إمكان أن يقال : ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته فهو حلال ، تأمل.

______________________________________________________

التحريمية قال بجريانها وعدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية أيضا ، فبضميمة عدم الفصل المعبر عنه بالإجماع المركب أيضا إلى حديث الحل ـ الدال على البراءة في الشبهات التحريمية ـ يتم المطلوب ، وهو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات ؛ وذلك لأن المحدّثين إنما قالوا بوجوب الاحتياط في خصوص الشبهات التحريمية ، دون الوجوبية ؛ لذهابهم إلى عدم وجوب الاحتياط فيها ، فإذا ثبت بأدلة البراءة عدم وجوبه في الشبهات التحريمية أيضا تم المطلوب ، وهو عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مطلقا ، أما التحريمية : فبأدلة البراءة ، وأما الوجوبية : فباعتراف المحدثين أنفسهم به. واحتمال العكس ـ وهو وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبية دون التحريمية ـ لا قائل به حتى نحتاج في إبطاله إلى إقامة الدليل أيضا.

وبالجملة : فحديث الحل بضميمة عدم الفصل كاف في إثبات عدم وجوب الاحتياط في الشبهات مطلقا ؛ كما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٥٤».

(١) هذا الضمير وضمير «إباحته» راجعان على ما يعلم حرمته ، وقوله : «وعدم» عطف تفسير ل «إباحته».

(٢) وهو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات.

(٣) هذا إشارة إلى الوجه الثاني للتعميم للشبهات الوجوبية ، وحاصله : إدراج الشبهة الوجوبية تحت مدلول الحديث ، من دون حاجة إلى دعوى عدم الفصل.

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٢٥٥» ـ أن الشيء إذا كان فعله واجبا قطعا : كان تركه حراما قطعا ، وإذا كان فعله محتمل الوجوب : كان تركه محتمل الحرمة لا معلوم الحرمة ؛ كما قد يتوهم أنه مقتضى أدلة الاحتياط حتى يجب فعله كما هو قول بعض المحدثين ، وحينئذ : فالشيء المحتمل الوجوب يكون تركه محتمل الحرمة ، يعني : مرددا بين الحرمة وغير الوجوب ، فيدخل تحت حديث الحل ، وبهذه العناية يشمل الحديث الشبهة الوجوبية أيضا ، وبه يثبت حل تركه ويتم المطلوب.

قوله : «تأمل» إشارة إلى ضعف الوجه الأخير ؛ لعدم وجود جامع بين الفعل والترك أولا ، وعدم انحلال كل حكم إلى حكمين ثانيا ؛ فإن الفعل إذا كان واجبا لم يكن تركه حراما شرعا ، بحيث يكون وجوبه منحلا إلى حكمين ؛ لبطلان الانحلال.

١٥٥

ومنها (١) : قوله «عليه‌السلام» : «الناس في سعة ما لا يعلمون» (*) فهم في ...

______________________________________________________

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ تقريب الاستدلال به على البراءة : ان قوله : «حتى تعرف» قيد للموضوع ، ومعناه حينئذ : أن كل شيء مشكوك الحل والحرمة حلال ، سواء كان منشأ الشك فقدان النص أم إجماله أم تعارضه أم اشتباه الأمور الخارجية ، فيشمل الشبهات الحكمية والموضوعية.

٢ ـ جواب المصنف : عن إشكال اختصاص الحديث بالشبهات التحريمية الموضوعية. وحاصل الجواب : أنه تصدى لتعميمه للشبهات الحكمية والوجوبية.

وأما تعميمه للشبهات الحكمية : فإن الحديث يدل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا أي : سواء كان عدم العلم بالحرمة ناشئا من عدم العلم بعنوانه ، وإنه من أفراد المحل أو المحرم ؛ مع العلم بأصل الحرمة ، أم ناشئا من عدم الدليل على الحرمة.

٣ ـ وأما التعميم للشبهات الوجوبية : فلأحد وجهين :

الأول : عدم الفصل بين الشبهات التحريمية والوجوبية ، بمعنى : كل من قال بجريان البراءة في الشبهات التحريمية قال كذلك في الشبهات الوجوبية ، فضميمة عدم الفصل إلى حديث الحل الدال على البراءة في الشبهات التحريمية يتم المطلوب ، وهو عدم وجوب الاحتياط في مطلق الشبهات.

الثاني : إرجاع الشبهات الوجوبية إلى التحريمية ، بمعنى : كل محتمل الوجوب تركه محتمل الحرمة ؛ ومحتمل الحرمة من الشبهات التحريمية ، فيندرج تحت حديث الحل.

«تأمل» إشارة إلى عدم صحة إرجاع الشبهات الوجوبية إلى التحريمية أولا ؛ لأنه خلاف ظاهر الحديث ، وثانيا : لعدم صحة انحلال كل حكم إلى حكمين.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

الظاهر منه تمامية هذا الحديث المذكور في المتن ـ على البراءة من حيث الدلالة ؛ لو لم يكن ضعيفا من حيث السند.

في الاستدلال بحديث السعة

(١) أي : ومن الروايات التي استدل بها على البراءة قوله «عليه‌السلام» : «الناس في

__________________

(*) النوادر للراوندي ٢١٩ ، عن علي «عليه‌السلام» ، عوالي اللآلي ١ : ٤٢٤ / ١٠٩ ، وفيهما «ما لم يعلموا» ، بحار الأنوار ٧٧ : ٧٨ / ٧ ، وفيه «هم في سعة عن أكلها ما لم يعلموا».

١٥٦

سعة (١) ما لم يعلم ، أو ما دام لم يعلم (٢) وجوبه أو حرمته ، ومن الواضح (٣) : أنه لو

______________________________________________________

سعة ما لا يعلمون».

تقريب الاستدلال بحديث السعة يتوقف على مقدمة وهي : إن كلمة «ما» في «ما لا يعلمون» إما موصولة قد أضيفت إليها كلمة «سعة» ، أو مصدرية زمانية بمعنى : ما دام ، و «سعة» حينئذ : مقطوعة عن الإضافة ، فتكون مع التنوين.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الرواية تدل على البراءة على التقديرين ، أي : سواء كانت كلمة «ما» موصولة أو مصدرية زمانية وظرفا للسعة.

أما على الأول : فيكون مفادها : الناس في سعة الحكم الواقعي الذي لا يعلمونه ، فالضيق الناشئ من التكليف الواقعي المجهول ؛ ولو كان لأجل وجوب الاحتياط منفي. فيكون حديث السعة حينئذ : معارضا لأدلة وجوب الاحتياط ، فوزانه وزان حديث الرفع المتقدم في نفيه لإيجاب الاحتياط ، فيقع التعارض بينه وبين أدلة الأخباريين على وجوب الاحتياط ؛ للتنافي بين ما ينفي الضيق حال الجهل ، وبين ما يثبته كذلك ، ولا تقدم لأدلته على هذا الحديث.

وأما على الثاني : ـ أي : جعل «ما» مصدرية ـ فدلالة الحديث على البراءة تامة أيضا ؛ إذ يكون حديث السعة دالا على أن المكلف في سعة عن الحكم الواقعي المجهول مطلقا ، سواء كان وجوبا أو حرمة ، وسواء كان منشأ عدم العلم فقد النص أو إجماله أو تعارضه أو اشتباه الأمور الخارجية ما دام جاهلا به.

فالمتحصل : تمامية الاستدلال به على البراءة ؛ ما دام الشك باقيا مهما كان منشؤه ، فيثبت المطلوب على التقديرين ، ومن هنا : يعلم فساد ما قيل : من أن الاستدلال به مبني على تقدير أن تكون كلمة «ما» موصولة.

وأما إذا كانت مصدرية زمانية : فلا يصح الاستدلال به على المقام ؛ لأن المعنى حينئذ : أن الناس في سعة ما داموا لم يعلموا ، فمفاد الحديث هو مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فتكون أدلة وجوب الاحتياط حاكمة عليه ؛ لأنها بيان. وقد عرفت تمامية دلالة الحديث على البراءة على التقديرين.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) بالإضافة إلى الموصول. هذا إشارة إلى كون «ما» موصولة.

(٢) هذا إشارة إلى جعل «ما» ظرفية زمانية ، بناء على قراءة «سعة» بالتنوين.

(٣) هذا تتميم للاستدلال بالحديث على المدعى ، يعني : أن حديث السعة ينفي

١٥٧

كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا ، فيعارض به (١) ما دل على وجوبه ، كما لا يخفى.

لا يقال : قد علم به (٢) وجوب الاحتياط.

فإنه يقال (٣) : لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد ، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من

______________________________________________________

وجوب الاحتياط المدلول عليه بمثل قوله «عليه‌السلام» : «أخوك دينك فاحتط لدينك» (١) ؛ لظهوره في الترخيص من ناحية الإلزام المجهول ، فهو معارض لأدلة الاحتياط ، ولا وجه لتقديم أدلته على هذا الحديث ورودا أو حكومة كما سيأتي.

(١) أي : فيعارض بحديث السعة : ما دل على وجوب الاحتياط ، فلا ورود ولا حكومة له على حديث السعة ؛ إذ لا تعارض بين الوارد والمورود ، وبين الحاكم والمحكوم كما هو مبيّن في محله.

(٢) أي : قد علم بما دل على وجوب الاحتياط «وجوب الاحتياط» ، فيكون دليل الاحتياط واردا على «الناس في سعة» ، وهذا هو إشكال الشيخ «قدس‌سره» على الاستدلال بهذا الحديث.

توضيح الإشكال : أنه لا سعة مع العلم بالوظيفة الفعلية ؛ وإن كانت هي حكما ظاهريا ؛ كوجوب الاحتياط ، فإذا لم يعلم المكلف بشيء من الحكم الواقعي والظاهري فهو في سعة ، فموضوع السعة هو الجهل بمطلق الوظيفة ، وأما إذا علم بالوظيفة الفعلية ـ وإن كانت هي وجوب الاحتياط ـ فلا سعة له ؛ لأن العلم بها قاطع لعذره الجهلي ؛ وإن كان نفس الحكم الواقعي باقيا على المجهولية.

ومن المعلوم : أن المحدثين يدعون العلم بوجوب الاحتياط الذي هو وظيفة الجاهل بالحكم الواقعي ، فيخرج العلم بوجوبه عن الجهل وعدم البيان اللذين هما موضوعان للبراءة العقلية والشرعية ، حيث إن ما دل على وجوب الاحتياط بيان رافع لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وموجب للعلم بالوظيفة الفعلية الرافع للسعة والرخصة ؛ وإن كان الحكم الواقعي مجهولا بعد ؛ لما عرفت من : كفاية العلم بالحكم الظاهري كوجوب الاحتياط في رفع السعة ، وعليه : فلا يصح الاستدلال على البراءة بمثل حديث السعة لمعارضة أدلة الاحتياط ؛ بل هي واردة عليه.

هذا غاية ما يمكن أن يقال في توضيح الإشكال على الاستدلال به على البراءة.

(٣) هذا جواب عن إشكال الشيخ «قدس‌سره».

__________________

(١) أمالي المفيد : ٢٨٣ / ٩ ، أمالي الطوسي : ١١٠ / ١٦٨ ، الوسائل ٢٧ : ١٦٧ / ٣٣٥٠٩.

١٥٨

.................................................................................................

______________________________________________________

توضيح هذا الجواب يتوقف على مقدمة وهي : إن وجوب الاحتياط إما طريقي وإما نفسي ، والفرق بينهما : أن الوجوب الطريقي معناه أنه يجب الاحتياط ؛ لأنه طريق إلى الحكم الواقعي المجهول من الوجوب أو الحرمة ، فلا ثواب على موافقة أمر هذا الاحتياط ، ولا عقاب على مخالفته ؛ لأن الملاك الداعي إلى إيجاب الشارع للاحتياط هو : مجرد حفظ الواقع في ظرف الجهل به.

وأما كون وجوب الاحتياط نفسيا : فمعناه ـ أنه في ظرف الجهل بالواقع ـ يجب الاحتياط في نفسه بفعل محتمل الوجوب وترك محتمل الحرمة ، فيترتب الثواب والعقاب حينئذ على موافقة أمر هذا الاحتياط ومخالفته ، وليس الملاك في هذا النحو من الاحتياط النظر إلى الواقع والتحفظ عليه ؛ بل الملاك فيه جعل المكلف أشد مواظبة وأقوى عزما على فعل الواجبات وترك المحرمات.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الإشكال المذكور إنما يتم لو كان إيجاب الاحتياط نفسيا وهو غير ثابت ، ولا يتم لو كان إيجابه طريقيا.

وأما وجه عدم تماميته على فرض الطريقية : فلأن العلم بوجوب الاحتياط حينئذ لا يستلزم العلم بالوجوب أو الحرمة الواقعيين ؛ حتى يقع المكلف في ضيق منهما.

وبعبارة أخرى : أن إيجاب الاحتياط ـ بناء على طريقيته ـ وإن كان وظيفة فعلية ، لكنه لا يوجب العلم بالواقع حتى يرفع موضوع حديث السعة ـ وهو الجهل بالحكم الواقعي ـ بل الحكم الواقعي باق على مجهوليته ، فلا يكون إيجاب الاحتياط رافعا لموضوع حديث السعة ليقدم دليله عليه ورودا أو حكومة ـ كما يقول الشيخ «قدس‌سره» ـ بل هما متعارضان ؛ لظهور حديث السعة في الترخيص من ناحية الإلزام المجهول ، فالمكلف في سعة منه ، وظهور دليل الاحتياط الطريقي في أن إيجابه إنما هو لأجل التحفظ على الإلزام المجهول ، فالمكلف في ضيق منه فهما متعارضان ، والمرجع فيهما قواعد التعارض.

وأما وجه تمامية الإشكال : ـ على فرض كون إيجاب الاحتياط نفسيا ـ فلأن المكلف بعد العلم بوجوب الاحتياط يقع في ضيق لأجله ؛ لكونه حينئذ مما يعلم ، فيكون رافعا لموضوع حديث السعة فيقدم عليه ، ولا يقع في الضيق من أجل الحكم الواقعي المجهول حتى يعارض الحديث ؛ لأن وجوب الاحتياط ـ حسب الفرض ـ حكم نفسي ناش من ملاكه ، وليس ناشئا من الواقع المجهول ، وحينئذ : فمع العلم بالوظيفة الفعلية لا يبقى

١٥٩

أجله (١)؟ نعم (٢) ؛ لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان (٣) وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه ؛ لكنه عرفت (٤) : أن وجوبه كان طريقيا ، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا ، فافهم.

______________________________________________________

موضوع لحديث السعة ، فيتم ما ذكره الشيخ «قدس‌سره» من تقدم الاحتياط عليه من باب الورود أو الحكومة.

ولكن وجوبه النفسي غير ثابت ؛ بل الثابت أن وجوب الاحتياط طريقي ، شرع لأجل التحفظ على الواقع المجهول وعدم وقوع المكلف في مخالفة الواجب أو الحرام أحيانا.

وعليه : فلا يبقى مجال لدعوى تقدم أدلته على الحديث ورودا أو حكومة ؛ بل يقع بينهما التعارض ، فلا بد من الرجوع إلى قواعد باب التعارض.

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

قوله : «بعد» أي : بعد وجوب الاحتياط طريقيا ، يعني : أنه مع فرض وجوب الاحتياط طريقيا لا يصير المكلف عالما بالواقع حتى يقع في ضيقه ، ولا يكون في سعة منه ؛ إذ لا يوجب الاحتياط العلم بالواقع ولا يكشف عنه أصلا.

(١) أي : من أجل الوجوب أو الحرمة المجهولين.

غرضه : أن غاية السعة هي العلم بالتكليف المجهول لا العلم بإيجاب الاحتياط ، وأنه لا يوجب العلم بالحكم المجهول حتى يرفع السعة ويوقع المكلف في الضيق.

(٢) استدراك على قوله : «فكيف يقع؟» وقد عرفت توضيحه بقولنا : «وإن كان إيجابه نفسيا ثم ما ذكره ...» الخ.

(٣) أي : ثبت وتحقق ، وضمير «وقوعهم» راجع على المكلفين المستفاد من سياق الكلام.

(٤) يعني : عرفت في الاستدلال بحديث الرفع ، حيث قال هناك : «هذا إذا لم يكن إيجابه ـ يعني : الاحتياط ـ طريقيا ، وإلا فهو موجب لاستحقاق العقوبة على المجهول ...» الخ.

قوله : «بعد العلم بوجوبه» إشارة إلى أن لوجوب الاحتياط كالأحكام الأولية مراتب ، والمجدي منها هنا هو مرتبة التنجز ؛ إذ لا يترتب المقصود ـ وهو وقوع المكلف في الضيق ـ على مجرد تشريع إيجاب الاحتياط ؛ بل على وصوله إلى العبد كما هو ظاهر.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى أن الغرض من إيجاب الاحتياط طريقيا تنجيز الواقع ، وهو كاف في تحقق الضيق وارتفاع السعة ؛ وإن لم يوجب العلم بالتكليف المجهول.

١٦٠