دروس في الكفاية - ج ٥

الشيخ محمّدي البامياني

دروس في الكفاية - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمّدي البامياني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٤

وجود الواجب بالأصل ، كذلك يحرز ترك الحرام به.

والفرد (١) المشتبه وإن كان مقتضى البراءة جواز الاقتحام فيه ؛ إلا (٢) إن قضية لزوم إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه ، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا.

فتفطن.

______________________________________________________

(١) إشارة إلى ما أفاده الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في المقام بالنسبة إلى الفرد المشتبه.

وحاصله : أن الفرد المشتبه من المنهي عنه وإن جاز ارتكابه بمقتضى أصالة البراءة مع الغض عن العلم بحرمة صرف الطبيعة كما أفاده «قدس‌سره» بقوله : «فلا فرق بعد فرض عدم العلم بحرمته ، ولا بتحريم خمر يتوقف العلم باجتنابه على اجتنابه بين هذا الفرد المشتبه وبين الموضوع الكلي المشتبه حكمه ؛ كشرب التتن في قبح العقاب عليه» ؛ إلا إنه نظرا إلى العلم بحرمة صرف الطبيعة لا مورد لأصالة البراءة هنا ؛ بل المقام مجرى قاعدة الاشتغال ؛ لما عرفت مفصلا من أن تعلق النهي بالطبيعة إن كان بنحو الأول ـ وهو أن يكون المطلوب طلب ترك صرف الطبيعة ـ كان مقتضى ذلك وجوب الاجتناب عما احتمل فرديته لها كوجوب الاجتناب عن الأفراد المعلومة ، ضرورة : أن العلم بتعلق التكليف بالطبيعة ـ دون الأفراد ـ بيان وارد على أصالة البراءة ، ورافع لموضوعها ، فالشك في انطباق الطبيعة على الفرد المشتبه ليس مجرى لها ؛ لتوقف العلم بتحقق هذا الترك الواجب على الاحتراز عن المشتبه.

نعم ؛ لا بأس بإجراء البراءة في المصداق المشكوك إذا كان تعلق النهي بالأفراد نحو : «لا تكرم الفساق». وقد عرفت توضيح ذلك.

(٢) هذا رد لما أفاده الشيخ «قدس‌سره» ، يعني : «إلا إن قضية لزوم إحراز الترك» فيما كان النهي متعلقا بالطبيعة أي : ترك الطبيعة ، «اللازم وجوب التحرز عنه لا يكاد يحرز» الترك مطلقا «إلا بترك المشتبه أيضا» ، أي : كما يترك المتيقن.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في أمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا الأمر الثالث : هو دفع توهم لزوم الاحتياط في الشبهات التحريمية الموضوعية.

توضيح التوهم : أن أدلة البراءة الشرعية والعقلية لا تجري في الشبهات الموضوعية كالمائع المردد بين الخل والخمر ؛ لأن وظيفة الشارع هو بيان الكبريات مثل : الماء حلال

٢٨١

.................................................................................................

______________________________________________________

والخمر حرام ونحوهما ، وقد بينها ووصلت إلى المكلف حسب الفرض وإنما الشك في الصغرى وهي : كون هذا المائع الخارجي مما ينطبق عليه متعلق الحرمة وهو الخمر أم لا؟ ومن المعلوم : أن المرجع في إزالة هذه الشبهة التي هي من الشبهات الموضوعية ليس هو الشارع ، وحينئذ : فلا يحكم العقل بقبح المؤاخذة على تقدير مصادفة الحرام ؛ بأن كان ما شربه من المائع المردد خمرا ؛ إذ لا تجري فيه قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ لانتقاض عدم البيان بالبيان بعد صدور الحكم الكلي من الشارع ، وعلم المكلف به.

٢ ـ جواب الشيخ الأنصاري عن هذا التوهم : وقد أفاد الشيخ في الجواب ما حاصله : أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان لم يكن مطلقا ؛ بل يتوقف على عدم البيان الواصل إلى المكلف ولو لأجل عدم العلم بالصغرى ، وموضوع الحكم والمقام من هذا القبيل ؛ إذ المفروض : أن المكلف لم يعلم بالموضوع ، ومع الجهل بالموضوع يكون موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان محققا بلا إشكال ، فتجري البراءة. هذا خلاصة دفع التوهم المزبور.

٣ ـ ظاهر كلام الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» : هو جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا ، والمصنف منع هذا الإطلاق ، وقال بالتفصيل بين تعلق الحكم بالطبيعة نحو : «لا تشرب الخمر» ، وبين تعلق الحكم بالأفراد نحو : «لا تكرم الفساق» ، فلا تجري البراءة فيما إذا شك في فرد أنه خمر أم لا؟ بل يجب الاجتناب عنه حيث إن المطلوب ترك الطبيعة ، ولا يحصل العلم بالترك إلا بترك محتمل الخمرية.

وتجري البراءة في الثاني فيما لو شك في فرد أنه فاسق أم لا ، وهناك احتمال عدم الجريان مطلقا كما هو مفاد التوهم المذكور.

وقد تحصل مما ذكرناه : أن الفرد المشتبه بالشبهة الموضوعية على ثلاثة أقسام :

١ ـ المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بلحاظ أفرادها.

٢ ـ المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بما هي ، مع كونها مسبوقة بالترك.

٣ ـ المشكوك كونه فردا للطبيعة التي تعلق بها النهي بما هي مع عدم كونها مسبوقة بالترك.

وتجري البراءة في الأولين دون الأخير. فما أفاده الشيخ من جريان البراءة في الأفراد المشتبهة مطلقا وفي جميع أقسامها ممنوع.

٢٨٢

الرابع (١) : أنه قد عرفت (٢) حسن الاحتياط عقلا ونقلا ، ولا يخفى أنه (٣) مطلقا كذلك حتى (٤) فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة ، أو ......

______________________________________________________

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو التفصيل بين تعلق الحكم بالطبيعة ، وبين تعلقه بالأفراد ، فتجري البراءة في الثاني دون الأول.

التبعيض في الاحتياط المخل بالنظام

(١) الغرض من عقد هذا الأمر : بيان جهات ثلاث متعلقه بالاحتياط.

إحداها : حسنه حتى مع قيام الدليل على نفي التكليف.

ثانيتها : كون حسنه محدودا بما لم يستلزم اختلال النظام.

ثالثتها : كيفية التبعيض في الاحتياط إذا كان الاحتياط التام مستلزما لاختلال النظام. وتعرض الشيخ لهذه الجهات الثلاث في ثالث تنبيهات الشبهة الموضوعية التحريمية.

(٢) يعني : في صدر التنبيه الثاني ، حيث قال : «إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية أو التحريمية ...».

(٣) أي : الاحتياط «مطلقا» يعني في جميع الموارد «كذلك» ، أي : حسن عقلا وشرعا.

(٤) بيان للإطلاق. وهذا إشارة إلى الجهة الأولى وحاصلها : أن الاحتياط حسن مطلقا حتى في صورة قيام حجة على عدم التكليف الإلزامي في الشبهات الحكمية ؛ كما إذا فرض قيام دليل على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، أو عدم وجوب السورة في الصلاة ، أو قيام بينة مثلا على عدم كون المشتبه بالخمر بحكم الخمر حتى يحرم شربه ، فإنه لا ريب في حسن الاحتياط في هذه الصورة أيضا ؛ كحسنه في صورة عدم قيام حجة على عدم التكليف ؛ إذ الاحتياط ـ لكونه محرزا للواقع عملا ـ حسن عقلا ، فإنه مع قيام الحجة على عدم التكليف الإلزامي لا ينتفي موضوع حسنه وهو احتمال وجود التكليف واقعا.

ومن المعلوم : أن حسنه مبني على رجاء تحصيل الواقع وإدراك المصلحة النفس الأمرية ؛ لا على خصوص تحصيل المؤمّن من العقاب حتى يتوهم عدم بقاء الموضوع للحسن العقلي عند قيام حجة على نفي التكليف واقعا ؛ لعدم العقاب على مخالفته حينئذ ، لتوسعة الشارع على المكلف عند اشتباه التكليف.

قال الشيخ الأعظم «قدس‌سره» : «الثالث : أنه لا شك في حكم العقل والنقل

٢٨٣

أمارة (١) معتبرة على أنه (٢) ليس فردا للواجب (٣) أو الحرام (٤) ما لم يخل (٥) بالنظام فعلا.

______________________________________________________

برجحان الاحتياط مطلقا حتى فيما كان هناك أمارة على الحل مغنية عن أصالة الإباحة ...». «منتهى الدراية ، ج ٥ ، ص ٥٥٥».

توضيح بعض العبارات طبقا لما في «منتهى الدراية».

(١) عطف على قوله : «حجة على ...». وهذا في الشبهة الموضوعية.

(٢) الضمير راجع على الموصول في «فيما» ، المراد به : المورد الذي يحتمل التكليف الإلزامي فيه.

(٣) كقيام البينة على عدم عالمية زيد مثلا مع وجوب إكرام العالم ، فإن إكرام زيد ـ لكونه مما يحتمل مطلوبيته ـ حسن بلا إشكال.

(٤) كقيام البينة على عدم خمرية هذا المائع المشتبه ، فإن ترك شربه ترك لما يحتمل مبغوضيته ، وهو أيضا حسن عقلا.

(٥) ظرف لقوله : «مطلقا كذلك» ، وإشارة إلى الجهة الثانية.

يعني : أن حسن الاحتياط مطلقا عقلا ونقلا منوط بعدم إخلاله بالنظام ، فإذا بلغ حد الإخلال به لم يكن حسنا ولا راجحا شرعا.

أما عدم حسنه العقلي : فلأن ما يوجب اختلال النظام قبيح عند العقلاء ؛ لأنه من مصاديق الظلم الذي هو التجاوز عن حدود العدل والإنصاف وأما عدم رجحانه الشرعي : فلأن المانع عن رجحانه في هذا الحال موجود ، وهو كون الإخلال بنظام النوع مبغوضا للشارع.

وعليه : فالمستفاد من ظاهر العبارة هو : عدم حسن الاحتياط عند لزوم اختلال النظام ؛ لا عدم تحققه وصدقه.

وبعبارة أخرى : لزوم اختلال النظام رافع لحسن الاحتياط لا مانع عن نفس الاحتياط ، فالسالبة حينئذ تكون بانتفاء المحمول ، يعني : أن قولنا : «الاحتياط حسن» يؤول ـ عند اختلال النظام ـ إلى قولنا : «الاحتياط لا يحسن» ؛ لا إلى قولنا : «الاحتياط لا يمكن».

والوجه فيه واضح فإن المناط في صدق الاحتياط ـ وهو الجمع بين المحتملات لغرض إدراك المصلحة الواقعية وإحراز الواقع المحتمل ـ موجود عند إخلاله بالنظام أيضا ، فالاحتياط متحقق عند الإخلال ؛ لكنه غير حسن ؛ لمزاحمة حسنه العقلي بالقبح الطاري عليه من جهة استلزامه اختلال النظام ، ولكن هذا العنوان العارض لا يوجب تبدل

٢٨٤

فالاحتياط قبل ذلك (١) مطلقا يقع حسنا ، كان (٢) في الأمور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها ، وكان (٣) احتمال التكليف قويا أو ضعيفا ، كانت (٤) الحجة على

______________________________________________________

المصلحة الواقعية حتى لا يكون إحرازها احتياطا.

قوله : «فعلا» قيد للاختلال ، يعني : أن الرافع لنفس الاحتياط أو حسنه هو الاختلال الفعلي دون الشأني ، فهو قبل وصوله إلى حد الإخلال بالنظام حسن.

(١) أي : قبل الإخلال الفعلي بالنظام ، والمراد بحسنه مطلقا : هو حسنه من ثلاث جهات إحداها : الاحتمال ، ثانيتها : المحتمل يعني : المورد ، ثالثتها : وجود الحجة على عدم التكليف أو وجودها كما سيتضح.

(٢) هذا بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث المحتمل ، يعني : أن الاحتياط غير المخل بالنظام حسن ، سواء كان مورده الأمور المهمة كالدماء والأعراض ، أم الأمور غير المهمة كسائر التكاليف الشرعية.

(٣) عطف على «كان» ، وهو بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث الاحتمال ، يعني : أن موضوع حكم العقل بحسن الاحتياط وحكم الشرع برجحانه هو احتمال التكليف ، سواء كان هذا الاحتمال ظنا أم شكا أم وهما ، فالإتيان بالفعل المظنون وجوبه ـ بظن غير معتبر ـ إطاعة حكمية للمولى ، فهو حسن عقلا وراجح شرعا ، كما أن الإتيان بالفعل المشكوك أو الموهوم وجوبه إطاعة حكمية أيضا.

وكذا الكلام في ترك الحرام المظنون أو المشكوك أو الموهوم ، فإنه حسن عقلا وراجح شرعا ، ولا ترجيح للاحتمال القوي على الضعيف في مراعاة الاحتياط فيه دونه ؛ لأن الظن بالتكليف لما لم يكن معتبرا ـ كما هو المفروض في المقام ـ كان مساويا للشك والوهم ، فلا يكون قوة الاحتمال فيه مرجحا له على أخويه حتى يراعى الاحتياط فيه دونهما بعد اشتراك الجميع في عدم الاعتبار.

(٤) هذا بيان لإطلاق حسن الاحتياط من حيث وجود الحجة على عدم التكليف أو عدم وجودها ، يعني : أن نفس رعاية احتمال التكليف أمر مرغوب فيه ، سواء كان هناك حجة معتبرة على عدم التكليف الإلزامي في البين ، أم لم يكن دليل معتبر على نفيه ، فيبقى نفس احتمال التكليف الواقعي غير المعارض بشيء ، وهو الموضوع لحكم العقل والنقل بمطلوبية الاحتياط.

وفي هذا إشارة إلى رد ما احتمله الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» في حسن الاحتياط ؛ من الفرق بين وجود أمارة على الإباحة وعدمه. قال «قدس‌سره» : ويحتمل التبعيض بين

٢٨٥

خلافه أو لا ، كما أن الاحتياط الموجب لذلك (١) لا يكون حسنا كذلك (٢) ؛ وإن كان (٣) الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الأمر ترجيح بعض ...

______________________________________________________

موارد الأمارة على الإباحة ، وموارد لا يوجد إلا أصالة الإباحة ، فيحمل ما ورد من الاجتناب عن الشبهات على الثاني دون الأول ؛ لعدم صدق الشبهة بعد الأمارة الشرعية على الإباحة.

(١) أي : لاختلال النظام فعلا.

(٢) يعني : لا يكون حسنا مطلقا ، سواء كان الاحتمال قويا أم ضعيفا ، وسواء كان المحتمل مهما أم لا ، وسواء وجدت الحجة على خلافه أم لا.

(٣) هذا إشارة إلى الجهة الثالثة أعني : بيان كيفية التبعيض في الاحتياط المستحب إذا استلزم الاختلال بالنظام.

وتوضيحه : أن المكلف إذا التفت من أول الأمر إلى أن الاحتياط التام يؤدي إلى اختلال النظام كان الراجح له التبعيض في الاحتياط ، بمعنى : ترجيح بعض الاحتياطات على بعض ، والتبعيض في الاحتياط يكون بأحد وجهين ـ الأول : ترجيح بعض الأطراف بحسب المحتمل ، فإن كان المورد مما اهتم به الشارع كالدماء والأموال قدمه على غيره ، سواء كان احتمال التكليف قويا أم ضعيفا ، فالموارد المهمة على هذا الوجه أولى بالاحتياط من غيرها ، ولا عبرة بقوة الاحتمال وضعفه حينئذ.

قال الشيخ «قدس‌سره» : «ويحتمل التبعيض بحسب المحتملات ، فالحرام المحتمل إذا كان من الأمور المهمة في نظر الشارع كالدماء والفروج ؛ بل مطلق حقوق الناس بالنسبة إلى حقوق الله تعالى يحتاط فيه ، وإلا فلا ...» (١) الخ.

الثاني : ترجيح بعض الأطراف بحسب الاحتمال ، فإذا كان هناك تكاليف متعددة محتملة ، بعضها مظنون وبعضها مشكوك أو موهوم أخذ بالمظنون وترك الاحتياط في غيره ، فقويّ الاحتمال على هذا الوجه أولى بالاحتياط من ضعيفه ، ولا عبرة بالمحتمل حينئذ ، سواء كان من الأمور المهمة أم لا. قال الشيخ «قدس‌سره» : «... فيحتمل التبعيض بحسب الاحتمالات ، فيحتاط في المظنونات ، وأما المشكوكات فضلا عن انضمام الموهومات إليها ، فالاحتياط فيها حرج مخل بالنظام ...» (٢) الخ. والمشار إليه في قوله : «ذلك» هو الاحتياط ، أي إلى أن الاحتياط المطلق موجب للاختلال «من أول الأمر» ؛ بأن أراد الاحتياط في الأبواب كلها.

__________________

(١ ـ ٢) فرائد الأصول ٢ : ١٣٧.

٢٨٦

الاحتياطات (١) احتمالا أو محتملا (٢). فافهم.

______________________________________________________

(١) على بعض كترجيح احتياطات باب الدماء والفروج على احتياطات بابي الطهارة والنجاسة ، أو ترجيح الاحتياطات التي يكون احتمال التكليف في مواردها قويا «احتمالا» هذا للثاني ، «أو محتملا» هذا للأول إذ في باب الفروج المحتمل أقوى من باب الطهارة.

(٢) قيدان ل «بعض الاحتياطات» ، فإذا احتمل وجوب فعل احتمالا ضعيفا ، وكان المحتمل من الأمور المهمة ؛ بحيث لو كان وجوبه معلوما لاهتم به الشارع ترجحت مراعاة المحتمل ، فيحتاط فيه نظرا إلى أهميته كما أنه لو احتمل وجوب فعل احتمالا قويا ولم يكن المحتمل من الأمور المهمة ترجحت مراعاة الاحتمال ، فيحتاط فيه بالإتيان به نظرا إلى أهمية الاحتمال. وهناك تطويل في الكلام تركناه رعاية للاختصار.

قوله : «فافهم» لعله إشارة إلى أن حسن الاحتياط قبل الإخلال وعدم حسنه حينه إنما هو بالإضافة إلى الجمع بين الاحتياطات بالنسبة إلى تكاليف متعددة ، وأما بالإضافة إلى الجمع بين محتملات تكليف واحد : فهو مبني على إمكان الانفكاك بين الموافقة القطعية ، وترك المخالفة القطعية. فتدبر.

أو إشارة إلى وجوب الاحتياط في الأمور المهمة كالدماء والأعراض.

خلاصة البحث مع رأي المصنف «قدس‌سره»

يتلخص البحث في الأمور :

١ ـ الغرض من عقد هذا الأمر الرابع : بيان جهات ثلاث متعلقة بالاحتياط.

إحداها : حسنه حتى مع قيام الدليل على نفي التكليف.

ثانيتها : كون حسنه محدودا بما لم يستلزم اختلال النظام.

ثالثتها : كيفية التبعيض في الاحتياط إذا كان الاحتياط التام مستلزما لاختلال النظام.

٢ ـ وحاصل الجهة الأولى : أن الاحتياط حسن مطلقا أي : حتى مع قيام حجة على عدم التكليف الإلزامي في الشبهة الحكمية ، كما إذا فرض قيام دليل على عدم وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فلا شك في حسن الدعاء احتياطا من باب إحراز الواقع ؛ إذ موضوع الاحتياط ـ وهو احتمال التكليف واقعا ـ ثابت ، فيكون حسنا عقلا وراجحا شرعا.

وحاصل الكلام في الجهة الثانية : أن حسن الاحتياط مطلقا مشروط بعدم إخلاله للنظام ، فإذا بلغ حد الإخلال به لم يكن حسنا عقلا ولا راجحا شرعا. وأما الأول : فلأنه

٢٨٧

.................................................................................................

______________________________________________________

من مصاديق الظلم الذي هو التجاوز عن حدود العدل والإنصاف.

وما الثاني : فلأن المانع عن رجحانه في هذا الحال موجود ، وهو مبغوضية الإخلال بالنظام عند الشارع.

٣ ـ وأما حاصل الكلام في الجهة الثالثة : فلأن المكلف إذا التفت من أول الأمر إلى كون الاحتياط التام مؤديا إلى اختلال النظام ، كان الراجح له التبعيض في الاحتياط بأحد وجهين :

أحدهما : ترجيح بعض الأطراف بحسب المحتمل ، بمعنى : أنه إذا كان المورد مما اهتم به الشارع كالدماء والأعراض قدمه على غيره ، سواء كان احتمال التكليف قويا أم ضعيفا ، فلا عبرة بقوة الاحتمال وضعفه.

ثانيهما : ترجيح بعض الأطراف بحسب الاحتمال ، بمعنى : إنه إذا كان هناك تكاليف متعددة محتملة بعضها مظنون وبعضها مشكوك أو موهوم ، أخذ بالمظنون دون المشكوك والموهوم ، فلا عبرة بالمحتمل حينئذ ، سواء كان من الأمور المهمة أم غيرها.

٤ ـ رأي المصنف «قدس‌سره» :

هو : حسن الاحتياط ؛ ما لم يكن مستلزما لاختلال النظام ، فإذا كان موجبا له : فلا حسن عقلا ، ولا رجحان شرعا.

٢٨٨

فصل

إذا دار الأمر (١) بين وجوب شيء وحرمته ؛ ...

______________________________________________________

دوران الأمر بين المحذورين أو يقال : «أصالة التخيير»

(١) وقبل الخوض في البحث لا بد من تحرير ما هو محل النزاع في هذه المسألة فنقول : إن محل النزاع فيها يتضح بعد تقديم مقدمة وهي : بيان أمور :

١ ـ أن مورد النزاع : ما إذا دار الأمر بين وجوب شيء وحرمته ولم يحتمل غيرهما ؛ وإلا فلو احتمل الإباحة مثلا لا شك في جريان البراءة بالنسبة إلى كل من الوجوب والحرمة ، ويحكم بالإباحة ظاهرا

٢ ـ أن محل البحث ما لم يكن أحد الحكمين بخصوصه مسبوقا بالوجود وموردا للاستصحاب ؛ إذ عليه يجري الاستصحاب فيه وفي عدم الحكم الآخر ، وبه ينحل العلم الإجمالي.

٣ ـ مثال الشبهة الحكمية : من كان مقطوع الذكر ومتعذرا عليه الدخول إذا تزوّج وساحق زوجته ثم طلقها ، فإن كانت المساحقة في حكم الدخول ، فطلاقها رجعي ، وحينئذ : فلو طلب الزوج منها الاستمتاع في العدة وجبت الإجابة عليها وإن لم تكن في حكم الدخول كان الطلاق بائنا ، وليس له الاستمتاع بها بالرجوع ؛ بل بالعقد الجديد ، فلو طلب منها الاستمتاع حرم عليها الإجابة ، وعليه : فيدور حكم إجابة الزوجة بين الحرمة والوجوب.

ومثال الشبهة الموضوعية : كما إذا علم الزوج أنه حلف إمّا على وطء زوجته هذه الليلة ، أو على ترك وطئها في الليلة نفسها ، فيدور حكم الوطء بين الحرمة والوجوب. هذا هو الدوران بين المحذورين في الشبهتين.

٤ ـ أن محل النزاع ما لو كان كل من الوجوب والتحريم توصليا ، أو كان أحدهما غير المعين تعبديا.

وأما لو كان كلاهما ما تعبديا أو أحدهما المعين كذلك : كان خارجا عن محل

٢٨٩

لعدم (١) نهوض حجة على أحدهما تفضيلا ، بعد نهوضها عليه إجمالا ففيه وجوه (٢) :

______________________________________________________

النزاع أولا ؛ لعدم جريان جميع الأقوال فيه ، وثانيا : لإمكان المخالفة القطعية ، ومحل النزاع ما إذا كان كل من المخالفة القطعية والموافقة القطعية متعذرة.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن محل النزاع ما إذا كان كلا الحكمين توصليا ، أو أحدهما غير المعين تعبديا. هذا بخلاف ما يظهر من كلام الشيخ «قدس‌سره» ، حيث اعتبر التوصيلة في كلا الحكمين.

(١) تعليل لقوله : «دار» ، وضمير «عليه» راجع على أحدهما ، وقوله : «ففيه» جواب «إذا».

(٢) يعني ففي دوران الأمر بين الوجوب والحرمة وجوه ؛ بل أقوال في وجوه المسألة وبيان المختار منها.

الأول : الحكم بالبراءة شرعا وعقلا ، نظير الشبهات البدوية عينا ؛ وذلك لعموم أدلة الإباحة الشرعية ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على كل من الفعل والترك جميعا. وقد أشار إليه المصنف «قدس‌سره» بقوله : «الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ...» الخ.

والعلم بأصل الإلزام ليس باعثا ولا زاجرا كما هو واضح ، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان بلا مانع. وأما البراءة النقلية : فلأن مثل حديثي الرفع والحجب لا يختص بما إذا كان أحد طرفي الشك في حرمة شيء هو الإباحة كشرب التتن ، حتى يختص بالشبهة البدوية ؛ بل يعم ما إذا علم جنس الإلزام ولم يعلم النوع الخاص منه ، فالوجوب المشكوك فيه مرفوع كحرمة الحرمة المحتملة.

الثاني : وجوب الأخذ بجانب الحرمة تعيينا لوجوه :

أولها : لقاعدة الاحتياط ، حيث يدور الأمر فيه بين التعيين والتخيير ، فإن مقتضاها : تقديم احتمال التحريم والبناء عليه في مرحلة الظاهر ، والمقام من موارد الدوران المذكور ، فيقدم احتمال التحريم.

ثانيها : الأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة ، بناء على كون المراد منه عدم الدخول في الشبهة والسكون عندها ، فتدل على وجوب ترك الحركة نحو الشبهة ، وهو معنى تقديم احتمال الحرمة.

ثالثها : حكم العقل والعقلاء بتقديم دفع المفسدة على جلب المنفعة عند دوران الأمر بينهما ، فاللازم رعاية جانب المفسدة الملزمة وترك الفعل المشكوك حكمه ؛ وإن استلزم فوت المصلحة الملزمة الواقعية.

٢٩٠

الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل ، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل (١) به ، ...

______________________________________________________

رابعا : إفضاء الحرمة إلى المقصود منها أتم من إفضاء الوجوب إلى المقصود منه ، فإن المقصود من الحرمة ترك الحرام ، والترك يجتمع مع كل فعل ، بخلاف الوجوب ، فإن المقصود منه وهو فعل الواجب لا يتأتى غالبا مع كل فعل ، مضافا إلى حصول الترك حالة الغفلة عنه أيضا إذا لم يكن الحرام المحتمل تعبديا كما هو الغالب ، فلذا كان رعاية جانب الحرمة أرجح عند العقلاء ؛ لأنها أبلغ في المقصود.

الثالث : وجوب الأخذ بأحدهما تخييرا أي : تخييرا شرعيا قياسا لما نحن فيه بتعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية وقد أشار إليه بقوله «أو تخييرا ... الخ».

الرابع : التخيير بين الفعل والترك عقلا مع التوقف عن الحكم بشيء رأسا لا ظاهرا ولا واقعا ، وقد أشار إليه بقوله : «والتخيير بين الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم رأسا».

الخامس : التخيير بين الفعل والترك عقلا والحكم بالإباحة شرعا.

السادس : الاستقراء الذي يستفاد منه أن مذاق الشرع هو تقديم جانب الحرمة في موارد اشتباه الواجب بالحرام ، وهذا يقتضي تقديم احتمال الحرمة على احتمال الوجوب أيضا. وقد أشار المصنف إلى بعض هذه الوجوه.

ومختار المصنف من هذه الوجوه : هو الوجه الخامس ، حيث قال «أوجهها الأخير ...» الخ ، وهذا الوجه مركب من جزءين :

١ ـ التخيير بين الفعل والترك عقلا.

٢ ـ الحكم بالإباحة شرعا.

فقوله : «لعدم الترجح بين الفعل والترك» دليل للجزء الأول ، وقوله : «وشمول مثل كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام له .. الخ ، دليل للجزء الثاني.

توضيح بعض العبارات :

قوله : «لعموم النقل» إشارة إلى حديثي الرفع والحجب.

(١) أي متعلق «قبح» ، وضمير «به» راجع على «خصوص» ، وهذا تقريب جريان البراءة العقلية ، يعني : أن الجهل بخصوصية الإلزام ونوعه موجب لصدق عدم البيان ، الذي أخذ موضوعا لقاعدة القبح.

٢٩١

ووجوب (١) الأخذ بأحدهما تعيينا (٢) أو تخييرا (٣) ، والتخيير بين (٤) الترك والفعل عقلا مع التوقف عن الحكم به رأسا ، أو مع (٥) الحكم عليه بالإباحة شرعا ، أوجهها الأخير (٦) ؛ لعدم الترجيح بين الفعل والترك ، وشمول مثل : «كل شيء لك حلال حتى

______________________________________________________

(١) عطف على «الحكم» ، وإشارة إلى الوجه الثاني الذي استدل عليه بالوجوه المذكورة.

(٢) أي : ترجيح جانب الحرمة معينا.

(٣) إشارة إلى الوجه الخامس.

(٤) إشارة إلى الوجه السادس.

(٥) إشارة إلى الوجه السابع.

(٦) أي الأخير المذكور في المتن هو الوجه السابع ، فدعوى المصنف «قدس‌سره» مؤلفة من أمرين :

أحدهما : الحكم بالتخيير العقلي لا الشرعي.

ثانيهما : الحكم شرعا على المورد بالإباحة الظاهرية ، واستدل على الأول بقوله : «لعدم الترجيح» بمعنى : أن المكلف لا يخلو من الفعل أو الترك فلو اختار الفعل احتمل الموافقة على تقدير وجوبه واقعا ، والمخالفة على تقدير حرمته كذلك ، وكذا لو اختار الترك ، فإنه يحتمل الموافقة والمخالفة أيضا ، حيث لا مرجح لأحدهما على الآخر ـ كما هو المفروض ـ فترجيح أحدهما على الآخر ترجيح بلا مرجح ، وهو قبيح ، فيتساويان وهو معنى التخيير العقلي.

واستدل على الثاني ـ وهو الحلية الظاهرية ـ بقوله : «وشمول مثل» ، وقبل توضيح الاستدلال به ينبغي التنبيه على أمر وهو : أن مراد المصنف بقوله : «مثل» هو سائر الروايات التي تصلح لإثبات قاعدة الحل ، وليس غرضه منه أخبار البراءة ؛ كحديثي الرفع والحجب ونحوهما ؛ وذلك لأن مدلول حديثي الرفع مطابقة نفي التكليف الإلزامي على ما اختاره المصنف في أول البراءة بقوله : «فالإلزام المجهول مرفوع فعلا» ، فليس الحل الظاهري مدلوله المطابقي ؛ بل ولا مدلوله الالتزامي أيضا ؛ إذ مدلوله الالتزامي ليس إلا الترخيص الذي هو أعم من الإباحة بالمعنى الأخص التي هي المطلوبة ، فأخبار البراءة تثبت التزاما ما هو أعم من الإباحة المقصودة.

وبالجملة : ففرق بين أصالتي البراءة والحل ؛ إذ مدلول الأولى : نفي التكليف الإلزامي في مرحلة الظاهر المستلزم للترخيص عقلا ، ومدلول الثانية : حكم شرعي

٢٩٢

.................................................................................................

______________________________________________________

ظاهري. والشاهد على ما ذكرناه من الفرق بينهما هو : أن المصنف جعل الوجوه والأقوال في المسألة خمسة ـ لا أربعة كما صنعه الشيخ «قدس‌سره» ـ وعد أولها الحكم بالبراءة عقلا ونقلا ؛ ولكنه لم يرتض ذلك ، واختار الوجه الخامس من الوجوه المذكورة في كلامه ، ولو كان مفاد أصالتي البراءة الشرعية والحل واحدا لم يكن وجه لعدّهما قولين.

نعم ؛ جمع الشيخ الأنصاري «قدس‌سره» بينهما كما يظهر من الجمع في الاستدلال على الإباحة الظاهرية بين أخبار البراءة والحل ، حيث قال : «فقد يقال في المقام بالإباحة ظاهرا لعموم أدلة الإباحة الظاهرية ، مثل قولهم : «كل شيء لك حلال» ، وقولهم : «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم» ، فإن كلا من الوجوب والحرمة قد حجب علمه من العباد ، وغير ذلك من أدلته» (١).

وكيف كان ؛ فالاستدلال بحديث الحل على إباحة ما دار أمره بين الوجوب والحرمة يستدعي البحث في مقامين : الأول في وجود المقتضي ، والثاني : في عدم المانع.

أما المقام الأول ـ وهو الذي أشار إليه بقوله : «وشمول».

توضيحه : ـ على ما في «منتهى الدراية» ج ٥ ، ص ٥٦٩» ـ أن الحديث يدل على حلية المشكوك حرمته ظاهرا ، وإنها باقية إلى أن يحصل العلم بخصوص الحرمة ، فموضوع حكم الشارع بالحلية الظاهرية هو ما شك في حرمته وغيرها ، سواء كان ذلك الغير المقابل للحرمة هو الوجوب أم الإباحة بالمعنى الأخص ، أم الاستحباب ، أم الكراهة ، وبهذا يندرج مورد الدوران بين المحذورين في موضوع الحديث لعدم العلم فيه بخصوص الحرمة المأخوذ غاية للحل ، فإذا دار الأمر بين حرمة شيء ووجوبه صدق عليه عدم العلم بحرمته فهو حلال ظاهرا ، ولا مفسدة في الاقتحام فيه حتى يعلم أنه حرام.

وأما الثاني ـ وهو الذي أشار إليه بقوله : «ولا مانع عنه عقلا ولا نقلا» ـ فتوضيحه : أن العلم بالمانع يتوقف على بيان ما يمكن أن يكون مانعا شرعا أو عقلا والنظر فيه ، وحيث لم يبين ذلك فمقتضى الأصل عدمه ، فيكون مثل : «كل شيء لك حلال» شاملا للمورد ، وهكذا تشمله أدلة الرفع والحجب والسعة وما شابهها ، ولا اختصاص لهذه

__________________

(١) فرائد الأصول ٢ : ١٧٩.

٢٩٣

تعرف أنه حرام له» ، ولا مانع عنه عقلا (١) ولا نقلا (٢).

______________________________________________________

الروايات بما يدور أمره بين الحرمة وغير الوجوب أو الوجوب وغير الحرمة ؛ بل هي عامة تشمل جميع الصور ، «ولا مانع منه» أي من شمول مثل «كل شيء» الخ. «عقلا» أي : ليس من أطراف الشبهة المحصورة التي كانت خارجة عن هذا العموم لدليل عقلي ، «ولا نقلا» كما في الشبهة البدوية قبل الفحص أو بعده ؛ بناء على مذهب الأخباري من شمول أخبار الاحتياط له.

(١) ومثال ما يوجد فيه المانع العقلي عن جريان قاعدة الحل هو الشبهة المحصورة ، فإن العقل يمنع عن جريان القاعدة في الأطراف ، ويوجب الاجتناب عن جميعها مقدمة للعلم بفراغ الذمة عن التكليف المعلوم بالإجمال ، غير أن في المقام لا يتصور مانع عقلي إلا توهم لزوم المخالفة العملية ، حيث إن جريان القاعدة يوجب الترخيص في المعصية ، ومن المعلوم : أن الترخيص في المعصية غير معقول ، فلا بد من تخصيص دليل أصالة الحل بغير المقام كالشبهة البدوية.

لكن في هذا التوهم : أن المفروض هنا : عدم حصول العلم بالمخالفة العملية ؛ لتعذر كل من الموافقة والمخالفة القطعيتين ، والموافقة الاحتمالية حاصلة قهرا كالمخالفة الاحتمالية ؛ لعدم خلوّ المكلف من الفعل الموافق لاحتمال الوجوب أو الترك الموافق لاحتمال الحرمة.

وعليه : فلا يلزم من الحكم بإباحة كل من الفعل والترك ظاهرا بالترخيص في المعصية كما يلزم من جريانها في أطراف الشبهة المحصورة.

(٢) مثال ما يوجد فيه المانع الشرعي عن جريان أصالة الحل هو الشبهة البدوية ـ بناء على تقديم أخبار الاحتياط ـ فإن الشرع يمنع عن جريانها فيها كل قيل بوجوده في المقام بتوهم : رجحان جانب التحريم تمسكا بأخبار الوقوف ، وتقديما لها على أدلة الإباحة ؛ بل المحكي عن شرح الوافية : الاستدلال عليه بأخبار الاحتياط ، كما يستدل بها على حرمة الاقتحام في الشبهة البدوية.

لكن في هذا التوهم : أن التوقف بالنظر إلى التعليل الوارد في أخباره ظاهر في ما لا يحتمل الضرر على ترك الشبهة. وفي المقام حيث يلزم فوات المصلحة الملزمة على تقدير وجوب الفعل واقعا ، فلا يكون مشمولا للأخبار الآمرة به ، كما لا مجال للتمسك بأدلة وجوب الاحتياط لفرض تعذّره هنا ، مضافا إلى عدم كون الوارد به مولويا ؛ بل هو إرشاد إلى حسنه العقلي.

٢٩٤

وقد عرفت (١) : أنه لا يجب موافقة الأحكام التزاما ، ...

______________________________________________________

(١) يعني : قد عرفت في الأمر الخامس من مباحث القطع : عدم وجوب الموافقة الالتزامية ، حيث قال : «هل تنجّز التكليف بالقطع كما يقتضي موافقته عملا يقتضي موافقته التزاما أو لا يقتضي ... الحق هو الثاني».

وغرضه من هذا الكلام هنا : بيان توهم وجود مانع عقلي عن جريان أصالة الحل في دوران الأمر بين المحذورين. والجواب عنه.

فلا بد أولا من توضيح هذا التوهم حتى يتضح جواب المصنف عنه.

وتوضيح التوهم يتوقف على مقدمة وهي : أن للتكليف موافقة ومخالفة ، وكل منهما على قسمين : موافقة عملية ، وموافقة التزامية ، بمعنى الالتزام بالحكم الشرعي من الوجوب والحرمة وغيرهما.

وكذلك المخالفة على قسمين : مخالفة عملية ، وموافقة التزامية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن العقل كما يستقل بوجوب إطاعة الشارع عملا يعني : يستقل بوجوب الموافقة العملية ؛ كذلك يحكم بوجوب إطاعته التزاما يعني يحكم بوجوب الموافقة الالتزامية ، بمعنى لزوم التدين والالتزام القلبي بأحكامه ، ويحرم الالتزام بما يخالف الحكم الشرعي ، ومن المعلوم : أن علم المكلف بعدم خلوّ الواقع عن أحد الحكمين الإلزاميين ينافي البناء على إباحة كل من الفعل والترك ظاهرا ؛ لاقتضاء هذه الإباحة الظاهرية جواز الالتزام بخلاف ما هو معلوم عنده من الحكم الواقعي الدائر بين الوجوب والحرمة ، وهذا مما يمنع عنه العقل ، فلا تجري أصالة الحل في المقام لمانع عقلي.

وقد أجاب المصنف «قدس‌سره» عن هذا التوهم بوجهين :

أحدهما : ما أشار إليه بقوله : «لا يجب موافقة الأحكام التزاما».

ثانيهما : ما أشار إليه بقوله : «ولو وجب لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا».

وحاصل الوجه الأول : أن وجوب إطاعة أوامر الشارع ونواهيه عملا مما لا ريب في استقلال العقل به. وأما وجوب موافقتهما التزاما بعقد القلب عليها حتى يكون لكل حكم نحوان من الإطاعة ، فلا دليل عليه ؛ لأن العقل الحاكم بلزوم الامتثال العملي ـ حذرا عن عصيانه المتتبع لعقوبته ـ لا يحكم بلزوم الموافقة الالتزامية ، وعليه : فلا دلالة من العقل على وجوبها.

وأما النقل : فليس فيه أيضا ما يقتضي ذلك بالطلب المولوي اللزومي ؛ إذ لو كان دليل

٢٩٥

ولو وجب (١) لكان الالتزام إجمالا بما هو الواقع معه (٢) ممكنا. والالتزام التفصيلي (٣) بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما نهض على وجوبه دليل قطعا.

______________________________________________________

في البين لكان إما نفس أدلة التكليف مثل : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) وإما ما ورد من وجوب التصديق بما جاء به النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله» ، وشيء منهما لا يصلح لإثبات ذلك.

هذا مضافا إلى : أنه لو دل دليل من الشرع على وجوب الموافقة الالتزامية لكان مانعا شرعيا عن شمول أصالة الحل للمقام ، لا مانعا عقليا كما هو مفروض الكلام ، هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

وحاصل الوجه الثاني : أنه ـ بناء على تسليم وجوب الموافقة الالتزامية ـ لا منافاة بينه وبين جريان أصالة الحل ، لإمكان الانقياد القلبي الإجمالي ، بأن يلتزم إجمالا بالحكم الواقعي على ما هو عليه وإن لم يعلم بشخصه فعلا ، فيتدين المكلف بما هو الواقع سواء كان وجوبا أم حرمة.

فالمتحصل : أن وجوب موافقة الأحكام التزاما لا يمنع من جريان أصالة الحل في مسألة الدوران بين المحذورين.

(١) الأولى «وجبت» «وتجب».

(٢) أي : مع الشمول ، يعني : أن الالتزام بالحكم الواقعي على إجماله مع شمول دليل أصالة الحل للمورد ممكن يعني : لتمكن المكلف من الالتزام بما هو الثابت واقعا.

(٣) هذا دفع ما ربما يتوهم من عدم صحة الوجه الثاني من الجواب.

توضيح التوهم : أنه ـ مع تسليم وجوب الموافقة الالتزامية ـ لا يكون الالتزام بالواقع على ما هو عليه كافيا في امتثال هذا الحكم ـ أعني : وجوب الموافقة الالتزامية ـ بل يجب الالتزام التفصيلي بالوجوب فقط ، أو بالحرمة كذلك ، ضرورة : أن متعلق لزوم الموافقة الالتزامية هو الحكم بعنوان الخاص من الإيجاب أو التحريم ، وليس المطلوب نفس الواقع على ما هو عليه حتى تكفي الإشارة الإجمالية إليه.

ومن المعلوم : استقلال العقل بلزوم إطاعة كل حكم بما يوجب القطع بفراغ الذمة عنه ، ومع تعذر ذلك تصل النوبة إلى الموافقة الاحتمالية ، وفي المقام حيث دار الأمر بين الوجوب والحرمة فقد تعذرت موافقته القطعية الالتزامية كتعذر موافقته القطعية العملية ، وتعينت موافقته الاحتمالية ، وهي الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة لكونها ممكنة ، ولا تصل النوبة إلى الالتزام الإجمالي بالواقع حتى لا يكون منافيا للالتزام بالإباحة الظاهرية والبناء عليها.

٢٩٦

وقياسه (١) بتعارض الخبرين الدال أحدهما على الحرمة ، والآخر على الوجوب باطل ، فإن التخيير بينهما ـ على تقدير كون الأخبار حجة من باب السببيّة ـ يكون

______________________________________________________

وقد أجاب المصنف عن هذا التوهم أيضا بوجهين :

توضيح الوجه الأول : يتوقف على مقدمة قصيرة وهي : أن التشريع ـ وهو بمعنى إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين ـ محرم شرعا.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن الالتزام بأحدهما المعين مع فرض عدم العلم به تشريع محرم ، مثلا لو التزم بالوجوب معينا ، مع فرض احتمال الحرمة كان تشريعا وإن كان الحكم الواقعي هو الوجوب ، ومن المعلوم : أن مفسدة التشريع لو لم تكن أعظم من مصلحة وجوب الالتزام فلا أقل من مساواتها لها ، فتسقطان بالتزاحم ، فلا يبقى ملاك للقول بوجوب الموافقة الالتزامية التفصيلية. هذا تمام الكلام في الوجه الأول من الجواب.

أما الوجه الثاني فحاصله : أنه ـ مع الغض عن محذور لزوم التشريع فيما إذا التزم بأحدهما معينا ـ لا دليل على وجوب هذا الالتزام التفصيلي مطلقا حتى فيما تمكن المكلف منه ؛ لابتنائه على مقدمة وهي : كون متعلق وجوب الموافقة الالتزامية خصوص العناوين الخاصة من الإيجاب والتحريم ، وعدم كفاية الالتزام بما هو الواقع.

ولكن هذه المقدمة ممنوعة ؛ لعدم مساعدة دليل عليها.

وببطلان الالتزام التفصيلي ظهر بطلان القول بلزوم البناء على الوجوب أو الحرمة.

(١) أي : قياس دور الأمر بين المحذورين «بتعارض الخبرين» ... الخ ، هذا الكلام من المصنف ردّ للوجه الثالث من الوجوه الخمسة المذكورة في المتن ، فلا بد أولا من بيان قياس الوجه الثالث «بتعارض الخبرين» ... الخ ، ثم بيان بطلان هذا القياس ثانيا.

وأما تقريب القياس فيمكن بوجوه :

١ ـ دعوى : أن الملاك في الحكم بالتخيير في مورد تعارض الخبرين هو مجرد إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ، وهذا الملاك موجود فيما نحن فيه ، فيسوى الحكم بالتخيير إلى ما نحن فيه.

٢ ـ دعوى : أن الملاك في التخيير بين الخبرين المتعارضين هو نفي الثالث ، وما نحن فيه كذلك.

٣ ـ أن رعاية الحكم الظاهري ـ وهو الحجية ـ يدل بالفحوى على رعاية الحكم الواقعي ، فإذا ثبت التخيير بين الحجتين وعدم طرحهما فثبوت التخيير بين الحكمين الواقعيين أولى.

٢٩٧

.................................................................................................

______________________________________________________

٤ ـ كون الملاك في التخيير بين الخبرين اهتمام الشارع بالعمل بالأحكام الشرعية وعدم إهمالها. ومن المعلوم : أن المقام أولى بالرعاية من الخبرين للعلم هنا بعدم خلوّ الواقع عن الوجوب أو الحرمة. وهذا بخلاف الخبرين ؛ لاحتمال كذبهما ، وكون الحكم الواقعي غير مؤداهما. هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب المقايسة من ناحية وحدة المناط في بعضها ، والأولوية في بعضه الآخر.

ولكن جميع هذه الوجوه ممنوعة :

أما الأول : فلأنه تخرّص وتحكّم على الغيب ، بل بناء على السببيّة لا مجال له كما ستعرف لأن التخيير يكون من باب التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وأي ربط لذلك بما نحن فيه.

وأما الثاني : فهو كالأوّل ، مع أن نفي الثالث قد لا يقول به الكل ، لا بهما ـ كما يراها الشيخ ـ لتبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية كتبعيتها لها في أصل الثبوت. ولا بأحدهما ـ كما يراه صاحب الكفاية ـ لعدم تصور ما أفاده في تقريبه في محله فراجع. مع أن الكل يرى التخيير ولو لم يتكفل الخبران نفي الثالث.

وأما الوجه الثالث : فلأن الأولوية إنما تتم لو فرض ثبوت الموضوع لكل من الحكمين الواقعيين كثبوته للحكمين الظاهريين ، وليس الأمر كذلك بل هو حكم واقعي مردد بين الحكمين ، بخلاف الحكمين الظاهريين ، فإن كلا منهما واجد لموضوعه وهو الخبر التام الشرائط.

وكيف كان ؛ فقد أجاب المصنف «قدس‌سره» عن هذه المقايسة بأنها مع الفارق ، والقياس إذا كان مع الفارق كان باطلا ، فهذا القياس باطل.

وتوضيح الفرق يتوقف على مقدمة وهي : أن الأخبار إما أن تكون حجة من باب السببيّة ، وإما من باب الطريقية.

إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أنه على الأول يكون التخيير بين الخبرين المتعارضين على القاعدة ؛ لفرض حدوث مصلحة ملزمة في المؤدى بسبب قيام خبر على الوجوب ، وحدوث مفسدة ملزمة فيه بقيام خبر آخر على حرمة نفس ذلك المتعلق. ولما كان كل منهما مستجمعا لشرائط الحجية وجب العمل بكل منهما ؛ لكن استيفاء المصلحة والاحتراز عن المفسدة غير مقدور من جهة وحدة المتعلق ، فيقع التزاحم بين تكليفين تتعذر موافقتهما ، ويستقل العقل بالتخيير حينئذ مع التكافؤ ، لما تقرر في محله من أن

٢٩٨

على القاعدة ، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين ، وعلى (١) تقدير أنها من باب الطريقية : فإنه (٢) وإن كان على خلاف القاعدة ؛ إلا إن أحدهما ـ تعيينا أو (٣) تخييرا ـ حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من (٤) احتمال الإصابة مع اجتماع سائر

______________________________________________________

التزاحم المأموري يوجب صرف القدرة في الأهم إن كان ، وإلا فالتخيير كما في إنقاذ غريقين مؤمنين ، وليس مناط التخيير ـ وهو الحجية ـ في الاحتمالين المتعارضين موجودا حتى يحكم بالتخيير فيهما أيضا ؛ إذ ليس في احتمالي الوجوب والحرمة صفة الكشف والطريقية حتى يصح قياسهما بتعارض الحجتين وهما الخبران المتعارضان ، وعليه : فتزاحم الاحتمالين في المقام ليس لتزاحم الخبرين على السببيّة كي يصح قياس المقام بتعارض الخبرين.

وأما على الثاني ـ وهو حجية الأخبار من باب الطريقية ـ فالقياس يكون مع الفارق أيضا ، ضرورة : أن مقتضى القاعدة الأولية في تعارض الطرق وإن كان هو التساقط لا التخيير ، إلا إنه لما كان كل منهما واجدا لشرائط الحجية ولمناط الطريقية ـ من الكشف نوعا عن الواقع ، واحتمال الإصابة في خصوص كل واحد من المتعارضين ـ ولم يمكن الجمع بينهما في الحجيّة الفعلية لمكان التعارض ، فقد جعل الشارع أحدهما حجة تخييرا مع التكافؤ وتعيينا مع المزية ، وهذا بخلاف المقام ؛ إذ ليس في شيء من الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين اقتضاء الحجية كالخبرين حتى يجري حديث التخيير بين الخبرين في الاحتمالين المتعارضين ، فلا مانع من طرح كلا الاحتمالين وإجراء الإباحة الظاهرية.

توضيح بعض العبارات :

قوله : «باطل» خبر «وقياسه» وجواب عنه.

قوله : «فإن التخيير» .. الخ ، تعليل للبطلان ، وضمير «بينهما» راجع على الخبرين المتعارضين.

(١) عطف على «على تقدير كون» ، وضمير «أنها» راجع على الحجية المستفادة من العبارة.

(٢) يعني : فإن التخيير «وإن كان على خلاف القاعدة» ؛ لاقتضاء القاعدة الأولية في تعارض الطرق للتساقط ، فالتخيير بين الخبرين تعبد شرعي على خلاف القاعدة.

(٣) يعني : أحد الخبرين تعيينا في صورة وجود المرجح ؛ كموافقة الكتاب ومخالفة العامة وغيرهما ، «أو تخييرا» مع عدم المرجح.

(٤) بيان للوصول في «لما هو» ، واسم «كان» ضمير راجع على أحدهما.

٢٩٩

الشرائط صار (١) حجة في هذه الصورة (٢) بأدلة الترجيح تعيينا (٣) ، أو التخيير تخييرا ، وأين ذلك (٤) مما إذا لم يكن المطلوب إلا الأخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ وهو (٥) حاصل ، والأخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه (٦) بموصل.

نعم (٧) ؛ لو كان التخيير بين الخبرين لأجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة ،

______________________________________________________

(١) جواب حيث المفيد للشرط ، وجملة الشرط والجواب خبر «أن أحدهما».

(٢) يعني : في صورة التعارض بناء على الطريقية.

(٣) يعني : مع المزية ، والتخيير مع عدمها و «بأدلة» متعلق ب «صار حجة».

(٤) أي : وأين حجية أحدهما تعيينا أو تخييرا «مما إذا .....» ، يعني : أن ما تقدم من حجية أحد الخبرين تعيينا أو تخييرا مغاير لما إذا لم يكن المطلوب إلا الالتزام بما هو حكم الله واقعا ، فإن الالتزام به على ما هو عليه ممكن بخلاف الخبرين.

(٥) الضمير راجع على الأخذ ، ويحتمل فيه أمران :

أحدهما : الالتزام الإجمالي بخصوص ما صدر واقعا ، وليس غرضه الالتزام التفصيلي بالواقع ؛ لتعذره مع الجهل بخصوصية الإلزام ، مضافا إلى منافاته لقوله : «والأخذ بخصوص» ... الخ ، إذ مع احتمال المخالفة كيف يجزم بأن ما التزم به هو الواقع؟

ثانيهما : أن يراد بالأخذ العمل كما هو المطلوب في حجية أحد الخبرين ، فيكون المراد في أن العمل بالواقع حاصل ، لكن بالقدر الممكن وهو الموافقة الاحتمالية.

(٦) أي : إلى خصوص ما صدر واقعا يعني : ربما لا يكون الأخذ بخصوص أحدهما موصلا إلى الحكم الواقعي ؛ لاحتمال كون الواقع غير ما أخذ به ، فكيف يتعين على المكلف الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا؟

(٧) استدراك على قوله : «وقياسه باطل».

وغرضه : تصحيح القياس بعدم الفارق بين المقام وبين الخبرين المتعارضين ، بتقريب : أن مناط وجوب الأخذ بأحد الخبرين المتعارضين إنما هو إبداؤهما احتمال الوجوب والحرمة دون غيره من السببيّة أو مناط الطريقية ، ومن المعلوم : أن هذا الاحتمال موجود في المقام ، فلا بد من التخيير ، ويبطل القول بالإباحة.

وحاصل الاستدراك : أنه على الاحتمال الأول المذكور في وجه المقايسة ـ وهو كون الملاك في حكم الشارع بالتخيير بين الخبرين إحداثهما وإبداؤهما احتمال الوجوب والحرمة لا السببيّة ، ولا غلبة الإصابة نوعا ـ يصح القياس المذكور ، واللازم حينئذ البناء على خصوص احتمال الحرمة أو خصوص احتمال الوجوب ؛ إذ موضوع حكم الشارع

٣٠٠