غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

القول بامتناع الاجتماع فلإمكان أن يكون لأجل تغليب جانب الأمر في المجمع حسبما عرفت سابقا من أنّه يمكن أن يكون متّصفا بكلّ واحد من الأحكام الخمسة ، أو لأجل إلزام العقل بترجيح أقلّ المحذورين والقبيحين عند التّزاحم مع بقائه على ما هو عليه من المبغوضيّة وإن سقط النّهي أي الخطاب والزّجر والرّدع عنه لأجل الاضطرار الحاصل بسوء الاختيار.

وبالجملة : الصّلاة حال الخروج كالصّلاة حال الدّخول عند سعة الوقت وضيقه ، وصحّتها في إحدى الحالين لا يلازم كون الدّخول أو الخروج مأمورا به (١) ، فالإشكال ساقط ، لا يقال : سلّمنا أن الوجوب لا يترشّح من ذي المقدّمة الواجب إليها في صورة عدم الانحصار فيها مطلقا ، وفيها أيضا مع عدم كون الواجب أهمّ من ترك المقدّمة ، لأنّ الممتنع شرعا كالممتنع عقلا ، فكما أنّه لو انحصرت المقدّمة فيما كان ممتنعا عقلا سقط التّكليف عن ذي المقدّمة ، فكذلك لو انحصرت فيما كان ممتنعا شرعا ، إذ لا يعقل بقاء حرمتها فعلا مع بقاء وجوب ذيها كذلك ، وأمّا لو كان الواجب أهمّ من ترك المقدّمة المنحصرة فكيف لا يترشّح الوجوب إليها؟ إذ لا يعقل بقاء فعليّة كلا التّكليفين ، فمع فرض فعليّة وجوب ذي المقدّمة ، لا بدّ من سقوط حرمة المقدّمة ، ومع سقوطها لا مانع من ترشّح الوجوب إليها ، وما نحن فيه كذلك ، فإنّ المفروض أنّ ترك الغضب الزّائد على مقدار الخروج واجب قطعا وإجماعا ، فكيف لا يترشح الوجوب منه إلى مقدّمته المنحصرة ولو اتّفاقا أعني الخروج؟

لأنّه يقال : نعم الأمر كذلك في المقدّمة الّتي لم يحصل الاضطرار إليها بسوء

__________________

(١) وأقول إن أمكن صحّة الصّلاة مع عدم الأمر بمثل الخروج مع الإلزام بسقوط النّهي عنه وبقاء مبغوضيّة فلا تبقى ثمرة عمليّة للنّزاع في المسأله كما لا يخفى ، لمحرّره.

٣٦١

الاختيار ، وأمّا فيما حصل الاضطرار إليها بسوء الاختيار فحيث أنّ انقلاب حرمتها إلى الوجوب يستلزم المحذور المتقدّم من كون حرمتها ثبوتا وسقوطا معلّقة على إرادة المكلّف واختياره لغيرها ولها وهذا غير معقول ، فلا بدّ مع الالتزام بسقوط النّهي أي الخطاب والزّجر والرّدع عنه ، إمّا من الالتزام بعدم ترشّح الوجوب إليها من ذي المقدّمة ، وإمّا من الالتزام بعدم وجوبه حينئذ ، أي بسقوط الخطاب والبعث إليه كالمقدّمة مع بقاء ملاك الوجوب فيه؟ ولا محذور في هذا ، إذ لما يرى العقل ملاك الوجوب فيه وملاك الحرمة في مقدّمته مع فرض سقوط التّكليف أي الخطاب كليهما ، ويرى أنّ ملاك الوجوب أهمّ حسب الفرض فهو يلزمنا باختيار المقدّمة ترجيحا لما هو أقل قبحا ومحذورا ، ولا يقتضي هذا إيجابا مولويّا شرعيّا لها ، بل لو أوجبها الشّارع أيضا كان إرشاديّا وتقريرا لما استقلّ به العقل.

وأقول : حيث أنّ المفروض إن المحرّم هو التّصرّف في الأرض المغصوبة زائدا على مقدار الخروج كالسّاعة الثّانية مثلا ، فالواجب حقيقة ليس إلّا ترك تلك الزّيادة من التّصرّف فيها وهذا متأخّر عن الخروج ومسبّب عنه كما أن البقاء فيها أيضا مقدّمة لتحقّق تلك الزّيادة وعلّة لها ، فإنكار المقدّميّة لا يخلو من إشكال ، إلّا أن يقال : أنّ البقاء فيها نفس تلك الزّيادة لا أنّه مقدّمة لتحققها فيما بعد السّاعة ، فلو اختار البقاء استحقّ العقاب عليه من جهة أنّه نفس فعل المحرّم لا من حيث أنّه مقدّمة سببيّة له ، إذ على هذا يمكن إنكار مقدّميّة الخروج لما هو اللازم قطعا ، فإنّ ترك تلك الزّيادة ملازم للاختيار الخروج لا أنّه متأخّر ومترتّب عليه ، ولا يخفى أنّ الوجه الّذي ذكر لعدم ترشّح الوجوب إلى المقدّمة الّتي أتى بها بسوء الاختيار من أنّ انقلاب حرمتها إلى الإيجاب يستلزم كون حرمتها معلّقة على اختيار المكلّف

٣٦٢

وإرادته لغيرها محلّ نظر ، إذ لا مانع عقلا من ارتفاع الحرمة عن بعض أفراد الطّبيعة الّتي تعلّقت به الحرمة باختيار فرد آخر ، فانّه حينئذ من قبيل انقلاب الموضوع وما نحن فيه من هذا القبيل ، فإنّه باختيار الدّخول في الأرض المغصوبة وهو فرد من أفراد الغصب يرتفع حكم فرد آخر ، أعني الخروج بناء على ثبوت الحرمة له أيضا قبل اختيار الدّخول فيها ، ولا محذور عقلا في هذا النّحو من الانقلاب ، نعم ارتفاع حكم فرد من متعلّق الحرمة بإيجاد نفس ذلك الفرد بسوء الاختيار غير معقول ، إلّا أنّ ما نحن فيه ليس كذلك كما يظهر بالتّأمّل.

وممّا ذكرنا ، ظهر فساد قياس الخروج عن الأرض المغصوبة بمثل شرب الخمر المتوقّف عليه حفظ النّفس من الهلاك في أنّه يتّصف بالوجوب وإن أوقع نفسه فيما يؤدّي إلى شربه بسوء الاختيار لوجهين :

أحدهما : كون مثل شرب الخمر حينئذ مقدّمة لما هو اللازم قطعا من حفظ النّفس المحترمة بخلاف الخروج ، فإنّه حسب التّحقيق ليس مقدّمة لما هو اللازم عقلا وشرعا في التخلّص عن الحرام ، أعني ترك الغصب زائدا على مقدار الخروج بل ملازما له.

وثانيهما : تبدل الموضوع في مثل الشّرب الخمر للتّداوي ، فإنّه من العناوين الطّارية لمثل الشّرب من المحرّمات المقتضية لانقلاب أحكامها ، سواء كان سوء اختيار المكلّف هو الوجه والسّبب في ذلك أم غيره ، سلّمنا أن تمريض النّفس حرام ، لكن بعد حدوث المرض الّذي ينحصر رفعه بمثل شرب الخمر يتبدّل الموضوع والمكلّف ، فيدخل في عنوان آخر ، أعني ممن يجب عليه التّداوي بمثل شرب الخمر حفظا للنّفس ، وليس حال هذا الشّخص إلّا حال المرأة الّتي تشرب

٣٦٣

دواء تصير لأجله حائضا ليسقط عنها الصّوم والصّلاة ، فإنّ تركهما وإن كان محرّما إلّا أنّه لما أدخل المكلّف ولو عصيانا نفسه في عنوان من لا يجبان عليه ، فينقلب حكمه ويسقطان عنه ، وشراب الخمر للتّداوي كذلك ، فإنّ حرمته ليس من الأحكام المتعلّقة به بجميع ما يطرأ عليه من العناوين ، فبعد طرو عنوان التّداوي عليه لا مانع من تبدلها وانقلابها إلى الجواز ، بل إلى الوجوب ، ولا فرق في ذلك بين كون المكلّف هو السّبب في تبدّل عنوانه أم لا ، فلا بدّ في كلّ مورد من أن تلاحظ أنّ موضوع الحرمة هل اخذ على وجه لا تختلف حكمه باختلاف العناوين الطّارية عليه مثل شرب الخمر للتّداوي مثلا أم لا؟ وإن فرض اختلافه باختلافها فلا فرق فيه بين كونه هو السّبب والوجه في تبدّل الموضوع والعنوان المقتضي لانقلاب الحكم أم لا ، وإن فعل محرّما في الصّورة الأولى في بعض الأحيان ولا يتبدّل موضوع الخروج بناء على حرمته بعد الدّخول ، إذ لا ينطبق عليه عنوان التّخلّص عن الحرام أبدا ، فإنّه حقيقة ليس إلّا ترك الغصب زائدا على مقدار الخروج ، فهو غصب ، فكيف ينطبق عليه؟ تركه وليس مقدّمة حسبما عرفت آنفا من أنّ النّسبة بينه وبين ما هو المحرّم وهو التّصرّف الزّائد هي المضادّة ، فيكون الخروج ملازما لنقيض الآخر كما هو قضيّة المضادّة بين كلّ شيء ، مضافا إلى أنّه ليس متعلّق الوجوب في المقدّمة عنوان المقدميّة ، بل ذات المقدّمة ، ومقدّميّة الخروج على تقدير ثبوتها لما هو الواجب ثابتة له مطلقا أزلا وأبدا ، وإن لم يتحقّق الدّخول فبعده لا يمكن انقلاب حكمه من الحرمة إلى الوجوب لأجل عدم طرو عنوان عليه يقتضيه من التّخلّص أو المقدّميّة.

ومن هنا انقدح وجه القول بوجوبه مع عدم جريان حكم المعصية عليه ، و

٣٦٤

تقريبه أن مقدّميّة الخروج لما هو الواجب ثابت له أزلا وأبدا غير مختص بحال دون حال ، بل هو نظير شرب الخمر دفعا للضّرر واجب على كلّ حال ، ولا يتعلّق النّهي به سابقا على الدّخول لأنّه غير مقدور قبله ، فلا يتّصف إلّا بالوجوب خاصّة بناء على وجوب المقدّمة.

ويضعّف بما عرفت من أنه مقدور بالواسطة كالبقاء ، فكما أنّ تفرّع البقاء وترتّبه عليه لا يوجب عدم صحّة النّهي عنه ، كذلك تفرّع الخروج وترتّبه عليه لا يوجب عدم صحّة النّهى عنه ، فلا مانع من تعلّق النّهي السّابق به.

وقد عرفت أيضا عدم انقلاب حكمه بالدّخول لأنّه متوقّف على مقدّميّته لما هو الواجب ، وهي حسبما يقتضيه التّحقيق غير ثابتة ، وعلى تقدير تسليمها لم يطرأ عليه عنوان آخر يقتضي إيجابه من التّخلّص عن الحرام أو المقدّميّة ، فلا بدّ من الالتزام بجريان حكم المعصية عليه مع سقوط النّهي عنه لأجل الاضطرار ، مع تعلّق الأمر به فعلا ، كيف ولو تعلّق الأمر به كذلك مع جريان حكم المعصية عليه لزم كونه في زمان واحد طاعة ومعصية ، ولا يعقل اتّصاف فعل واحد في زمان واحد بهما ، ولا يكفي في دفع الاستحالة اختلاف زماني الإيجاب والتّحريم ، حيث أن زمان الإيجاب بعد الدّخول وزمان التّحريم قبله ، فإن اختلافهما مع اتّحاد زمان الوجوب والحرمة ، وهو بعد الدّخول لا يوجب ارتفاع غائلة اجتماع الضّدّين من الطّاعة والمعصية. نعم لو عكس الأمر بإن كان زمانا الوجوب والحرمة مختلفين مع اتّحاد زماني الإيجاب والتّحريم ، كما لو اختلف الوليان في زمان الواحد في إيجاب فعل وتحريمه على المولّى عليه مع اختلاف زماني الوجوب والحرمة ، وكما لو وكّل المولى في ذلك شخصين وكلّ منهما في زمان واحد اختار أحدهما المعيّن ، فهذا

٣٦٥

معقول ، بخلاف ما نحن فيه فإنّ زماني الوجوب والحرمة وهو ما بعد الدّخول واحد ، فكيف يتّصف الخروج حينئذ بهما ، وإن سلّمنا سقوط الخطاب التّحريمي حينئذ لكونه سفيها؟ لأنّ اتصافه بالمحبوبيّة والمبغوضيّة والطّاعة والمعصية محال.

وممّا ذكرنا ظهر فساد القول بكونه مأمورا به ومنهيّا عنه على القول بجواز الاجتماع لأنّه ليس من صغريات موضوعه ، إذ يعتبر فيه كونه ذا عنوانين تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النّهي ، ولا تعدّد في الخروج كما عرفت من أن عنوان التّخلّص عن الحرام لا ينطبق عليه ، بل هو ملازم له خارجا ، وعنوان المقدّميّة ليس متعلّق الوجوب في المقدّمة بل ذاتها ، فلو اجتمع الوجوب والحرمة فيه يلزم اجتماعهما في موضوع واحد بعنوان واحد ، وهذا ممّا لا يلتزم به القائل بجواز الاجتماع ، مع أنّ عنوان التّخلّص عن الحرام أو المقدّميّة لو فرض انطباقه على الخروج لم يكن له مورد يمكن أن ينفك عن عنوان كونه حراما ، أعني كونه غصبا.

وبعبارة الاخرى ، ليس هنا مندوحة ، فلو اجتمع الحكمان فيه لزم التّكليف بالمحال ، وهو محال على أي حال وإن كان بسوء الاختيار.

ثمرة الخلاف

ثمّ أنّه تظهر ثمرة الخلاف في المسألة فيما لو صلّى حال الخروج عن الأرض المغصوبة ولم نقل باختلاف الأكوان الصّلاتيّة مع الأكوان الغصبيّة ، بدعوى أن الصّلاة تتحقّق بالتّصرّفات بالأعضاء والجوارح ، بالتّكلّم باللّسان والإيماء بالرّأس ونحو ذلك ، وهي ليست تصرّفا في الأرض ، إذ على هذا لا شبهة في صحّة الصّلاة على جميع الأقوال ، وإن قلنا باتّحاد الأكوان إذ على هذا يتفاوت حكم

٣٦٦

الصّلاة باعتبار الأقوال ، على القول بجواز الاجتماع لا شبهة أيضا في صحّتها ، لأنّ قضيّة صحّتها مطلقا ، كما في مثل المقام ، وكذا على القول بالامتناع مع تغليب جانب الأمر ، أمّا في صورة ضيق الوقت فلكونها مأمورا بها ، إذ لا يتمكّن المكلّف من فعل فرد آخر ، فلا محالة يكون ذلك الفرد المأتي به في هذا الحال صحيحا ، وأمّا في صورة سعة الوقت فلاشتمال الفرد والمأتي به من الصّلاة فيها على ملاك الأمر من المصلحة والرّجحان الملزم بعد حصول التّزاحم بين جهتي الأمر والنّهي ووقوع الكسر والانكسار أولا لم يبق بعد ذلك ما يقتضي الإيجاب ، لم يكن وجه لتغليب جهة الأمر ، ولكن مع هذا لا يصحّ تعلّق الأمر به ، إذ لا يكون على حدّ سائر الأفراد ، فإنّها خاليّة عن ما فيه من جهة النّهي من الحزازة المنقصة الّتي تقتضي النّهي لو لا المزاحمة بجهة الأمر من المصلحة ، فيكون أهمّ وأكمل وواجدة لمقدار من المصلحة يكون واجب الرّعاية بخلافه ، إلّا أنّه لما كان أيضا مشتملا على مقدار من المصلحة كفى في الإيجاب وإن كان أقلّ درجاتها ، ولا يمكن تدارك الجزء الفائت من المصلحة الموجودة في غيره بالإعادة أو القضاء في خارج الأرض المغصوبة حسب الفرض ، فلا جرم يكون مسقطا للامر ومجزيا وصحيحا بهذا المعنى. وبالجملة حيث لا يكون إلّا وجوب واحد دوّار بين تعلقه بهذا الفرد من الصّلاة الفاقدة لتلك الزّيادة من المصلحة اللازمة السّاقطة لأجل المزاحمة بجهة النّهي من المفسدة ، أو سائر الأفراد منها الواجدة لتمام المصلحة ، فلا جرم يتعلق الأمر الفعلي بها تحصيلا لتلك الزّيادة من المصلحة ، كما هو الحال في كلّ مورد وقع التّزاحم فيه بين الواجبين المختلفين في الأهميّة ، فيكون حال هذا الفرد من الصّلاة حال الإتيان بالضّد الغير

٣٦٧

الأهم عند التّراحم بينه وبين الأهم ، لأنّه من جزئيات مسألة الضّد ، فعلى القول باقتضاء الأمر بالشّيء النّهي عن الضّد تكون الصّلاة في سعة الوقت فاسدة ، وحيث انّا قد صححناه فنحكم (١) بصحتها حينئذ ، وإن لم يتعلّق بها الأمر فعلا ، وبهذا الوجه أيضا صححنا الصّلاة في موارد دلّ الدّليل على صحّتها مع فرض مخالفتها لما هو المأمور به واقعا ، كالصّلاة في مواضع القصر والإتمام والجهر والإخفات ونحوها ، وأمّا على القول بالامتناع وتغليب جانب النّهي فلا تقع إلّا فاسدة كما لا يخفى وكذا على القول بجريان حكم المعصية عليه مع سقوط النّهي عنه حتّى على القول بكونه مأمورا به ، فإنّه يقع مبغوضا عليه وعصيانا للنّهي السّابق السّاقط لأجل الاضطرار ، فلا يصلح لأنّ يتقرّب به فلا تقع الصّلاة في ضمنه صحيحة مطلقا حتّى في صورة ضيق الوقت ، لعدم اجتماع المبغوضيّة المطلقة مع الصّحة ، فلو فرض عموم يقتضي الصحّة في صورة ضيق الوقت نظير لا تترك الصّلاة بحال ، فلا بدّ من تخصيصه ، لأنّ المخصّص عقلي غير قابل لأن يخصّص ، ولو فرض كون العموم على وجه لا يقبل التّخصيص ، كما لو كان صريحا في وجوب مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة في آخر الوقت فلا بدّ من الالتزام بغلبة جهة الأمر بها حينئذ ، وإن لم يكن كذلك في أوّل الوقت.

وبعبارة الاخرى ، يستكشف حينئذ كون الصّلاة في آخر الوقت مأمورا بها مع عدم تعلّق النّهي بها أصلا أو بغلبة جهة الأمر بها مطلقا أو بجواز الاجتماع ،

__________________

(١) وأقول لا بدّ من تخصيص ذلك بما لو اضطرّ إلى البقاء في الأرض المغصوبة أو بما لا يعتبر فيه لاستقرار كالنّافلة وإلّا يشكل صحّة الصّلاة في حال الخروج من جهة فقد شرط آخر أعني الاستقرار لمعتبر في حال الصّلاة كما لا يخفى ، لمحرّره.

٣٦٨

وبالجملة ، حيث أن الصّحّة لا تجامع غلبة جهة النّهي فلا بدّ من الالتزام بأحد هذه الوجوه.

نعم لو كان الاضطرار لا بسوء الاختيار فالصّلاة في ضيق الوقت صحيحة على جميع الاقوال ، لأنّ جهات القبح لا تكون مؤثرة إلّا في حال الاختيار ، فإذا لم يكن مختارا في الدّخول في الدّار والبقاء فيها فصلّي فيها كذلك ، أو كان مختارا في الخروج ولكن لم يكن مختارا في أصل الدّخول فصلّي فيها في حال الخروج كانت صلاته صحيحة ، إذ لا تقع عنه إلّا ذات حسن ومصلحة لعدم ما يرى جهة القبح والمفسدة فيها بالمرّة.

وأمّا في سعة الوقت فحكمها صحّة وفسادا مبني على القولين في مسألة الضّد ، لأنّها حينئذ من جزئيّاتها حسبما عرفت ، وحيث أن المختار صحّة الضّد ، فنحكم بصحّة الصّلاة حينئذ وإن لم تكن بمأمور بها فعلا لأجل مزاحمتها بما هو أهمّ وأكمل من سائر أفراد الصّلاة الواحدة لتمام المصلحة من غير طرو ما يوجب نقيصة فيها.

«الأمر الثّاني»

قد تقدّم أنّ مسألة الاجتماع على القول بالامتناع غير مسألة التّعارض بين الأدلّة ، حيث أنّه لا تكاد تتحقّق مسألة الاجتماع إلّا فيما أحرز المقتضي لكلّ من الحكمين في مورد الاجتماع ، كما لو فرض أن مقتضي حرمة الغصب موجودة فيه حتّى في صورة اجتماعه مع الصّلاة ، وكذلك مقتضي وجوبها موجود فيها مطلقا حتّى في صورة اجتماعها مع الغصب ، فيقدّم على القول بالامتناع ما هو الغالب منهما في المجمع وإن كان دليل الآخر أقوى دلالة أو سندا ، بخلاف مسألة التّعارض بين الأدلّة فإنّها إنّما يتحقّق فيما إذا علم إجمالا بكذب أحدهما لأجل عدم المقتضي

٣٦٩

لإثبات ما يفيده من الحكم ، ولو قدم أحد المتعارضين بواحد من مرجّحات الرّوايات خرج مورد التّعارض عن تحت الآخر رأسا وعدم تعلّق الإرادة الجدّية به أصلا ، كما هو قضيّة التّخصيص والتقييد مطلقا ، فلو حصل العلم الإجمالي المذكور بين النّهي والأمر وقدم النّهي على الأمر بالمرجحات لم يقع المجمع إلّا فاسدا في جميع الأحوال حتّى على القول بجواز الاجتماع لاستكشاف عدم ملاك الأمر فيه أصلا ، فلا يمكن أن يقع صحيحا ، بخلاف ما لو وقع التّنافي بينهما لا لذلك ، بل لأجل امتناع الاجتماع على القول به ، بأن كانت جهتا الأمر والنّهي موجودتين فيه وفرض غلبة جهة النّهي على جهة الأمر ، إذ على هذا يمكن فرض صحّة له لما عرفت من أنّ جهات الأمر والنّهي ، أعني جهات الحسن والقبح لا تكون مؤثّرة فعلا إلّا في حال الفعل والاختيار ، بأن وقع الفعل اختياريا مع كون جهاته ملتفتا إليها ، فلو وقع اضطرارا أو جهلا بالموضوع أو بالحكم لكن عن قصور أو نسيان لم تكن جهة النّهي فيه حينئذ مؤثّرة ، فتبقى جهة الأمر فيه مؤثّرة لعدم وجود ما يزاحمها حينئذ من جهة النّهي ، فيقع صحيحا.

وهذا هو الوجه لما حكم به الأصحاب من صحّة الصّلاة الواقعة في الدّار المغصوبة في صورة الجهل في الجملة أو النسيان أو الاضطرار ، فلا يتوجّه الإشكال الّذي أورد عليهم من أنّه إذا قدم خطاب لا تغصب على خطاب أقم الصّلاة ، فلا وجه للحكم بصحّة الصّلاة في الصّور المذكورة كما إذا كان بين الخطابين من أوّل الأمر التّعارض ولم يكونا من باب الاجتماع ، وذلك لأنّه على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة يكون تخصيص خطاب «أقم الصّلاة» بخطاب «لا تغصب» عند إحراز ما هو شرط باب الاجتماع عقليّا ، فيقتصر فيه على مقدار يحكم العقل

٣٧٠

فيه ، وهو مستقل بعدم تأثير جهة النّهي في أمثال الصّور المذكورة ، والمفروض أنّ جهة الأمر فيها موجودة ، وإلّا لم يتحقّق باب الاجتماع ، فتبقى مؤثّرة في إثبات الإيجاب لعدم ابتلائها بمزاحمة الأقوى ، أعني جهة النّهي ، فلا جرم تقع الصّلاة فيها صحيحة ، وهذا بخلاف تخصيص أحد الخطابين أو تقييده بالآخر في باب التّعارض ، فإنّه من قبيل التخصيص أو التقييد بالمخصّص أو المقيّد المتّصل يستكشف فيه كون مورد التّنافي خارجا عن تحت الآخر واقعا رأسا ، ولذا لا يتصوّر فيه فرض صحّة له أصلا.

وممّا ذكرنا انقدح : الفرق بين مسألة الاجتماع على القول بالامتناع وتقديم جانب الحرمة وبين التّعارض بين الأدلّة ، فإن كان كلّ من الخطابين متكفّلا لبيان الحكم الاقتضائي كان من باب الاجتماع لا التّعارض إلّا على تقدير العلم الإجمالي المذكور ، فلا إشكال في تقديم ما هو الغالب من المقتضيين المتزاحمين إن كان ، وإلّا فيتساقطان بالمرّة ، ولذا يمكن أن يتّصف المجمع بكلّ واحد من الأحكام الخمسة باختلاف المقامات ، وإن كان أحدهما متكفّلا لبيان الاقتضائي والآخر لبيان الفعلي يقدّم الثّاني ولا يكونان من باب الاجتماع ولا التّعارض ، وإن كانا متكفّلين لبيان الحكم الفعلي مطلقا حتّى في المجمع بأن كان كلّ منهما يشمله عموما أو إطلاقا ، فإن لم يحرز المقتضي لكلّ منهما فيه كانا من باب التّعارض ، وإن احرز المقتضي لهما فيه ولم يكن الأقوى منهما مخالفا لما تقتضيه مرجّحات الرّوايات ، فلا إشكال أيضا ، وإن كانا مختلفين بأن كان المقتضي لأحدهما أقوى وكان التّرجيح بحسب الرّوايات مع الآخر ، فهل التّرجيح حينئذ بأي المرجّحين؟

التّحقيق يقتضي الأوّل ، لأنّ إحراز الأقوائيّة إن كان بالقطع يكون واردا على

٣٧١

مرجحات الرّوايات ، لأنّه يوجب القطع التّفصيلي بكذب ما يخالفه ، وإن كان بالقطعي يكون حاكما عليها كما لا يخفى ، وعلى أي تقدير يرتفع التّعارض بين الخطابين ، ولذا قلنا بأنّه يقدّم الأقوى وإن كان أضعف دليلا دلالة أو سندا.

وممّا ذكرنا انقدح ، أنّ تنافي بين الدّليلين في باب التّعارض إنّما يكون بينهما في مقام الإثبات والدّلالة ، لأجل العلم الإجمالي بكذب شمول أحدهما عموما أو إطلاقا لمورد الاجتماع ، فيعمل فيه على حسب ما يقتضيه الأخبار العلاجيّة ، وفي باب الاجتماع إنّما يكون في مقام الثبوت والواقع ، أي بين مدلوليهما لأجل حراز المقتضي لكلّ منهما في مورد الاجتماع ، ولذا يجمع بينهما فيه على القول بجواز الاجتماع ، فالتّنافي بينهما فيه على القول بالامتناع ليس لقصور في دلالة أحد الدّليلين ، بل لأجل عدم إمكان الجمع بين مدلوليهما فيه.

وكيف كان ، لا بدّ من ترجيح أحد الحكمين على الآخر من مرجّح ، وقد ذكروا لترجيح الحرمة وجوها ، وهي مختلفة ، بعضها يكون مرجّحا لها في مقام الإثبات والدّلالة بأن يكون مرجعه إلى إثبات أقوائيّة دلالة النّهي عن الأمر بحسب الشّمول ، لمورد الاجتماع ، وعليه يكون مورد الاجتماع خارجا عن ما تعلّق به الأمر من باب التّخصيص ، وبعضها يكون مرجّحا لها في مقام الثّبوت والواقع وإن لم يكن خطاب لفظي في البين.

أحدها : وهو من قبيل القسم الأوّل أنّ النّهي أقوى دلالة من الأمر ، فإن شموله لجميع أفراد ما تعلّق به من الطّبيعة المنهي عنها بحسب العموم لأنّ الانتهاء عنها يستلزم الانتهاء عن جميع أفرادها ، كما أن انتفاءها يستلزم انتفاء جميع أفرادها ، بخلاف الأمر فإنّ شموله لجميع أفراد ما تعلّق به وجواز الإجتزاء بأي واحدا منها

٣٧٢

إنّما هو بحسب الإطلاق وقرينة الحكمة ، لأنّ إيجاد الطّبيعة يتحقّق بإيجاد أي فرد وشمول العام لأفراده غالبا أقوى من شمول المطلق لأفراده ، فيبقى مورد الاجتماع داخلا تحت متعلّق النّهي خاصّة تقديما لظهور النّهي على الأمر.

واورد عليه : بأنّ دلالة النّهي على العموم أيضا بحسب إطلاق ما تعلّق به أي المادّة ، وهي الطّبيعة المنهي عنها وإن اختلف مع الأمر في كيفيّة العموم ، حيث أنّه في النّهي جمعي استيعابي وفي الأمر بدلي ، لكن هذا الاختلاف إنّما ينشأ من جهة وقوع الطّبيعة المطلقة المرسلة في حيز السّلب أو الإيجاب ، لأنّ النّهي يقتضي سلبها والأمر إيجادها ، فإذا وقعت في مقام الإطلاق ولم تكن مقيّدة بقيد ولم يرى العقل تفاوتا بين أفرادها ، فيحكم عند الأمر بها بالتخيير بين أفرادها ، وعند النّهي عنها بالانتهاء عن جميع أفرادها ، لأنّ إيجادها يتحقّق بإيجاد أي فرد ، بخلاف الانتهاء عنها كما هو واضح.

ونوقش فيه : بأنّ دلالة النّهي على العموم لو كانت بحسب إطلاق المادة أيضا لكان استعمال مثل «لا تغصب» في بعض أفراد الغصب حقيقة ، وهذا واضح الفساد.

وأقول : أمّا دلالة الأمر والنّهي على العموم وإن اختلفا في كيفيّته فممّا لا ينكر ، ولا ينبغي الإشكال فيه ، إنّما الإشكال في أن العموم المستفاد منهما هل هو في كليهما بحسب ظهور الهيئة وضعا في إرادة تمام ما هو مدلول المادّة وضعا وهو الطّبيعة المطلقة المرسلة ، فتكون هيئة كلّ منهما قرينة على أرادتها ، فلو ورد مخصّص وإن كان على وجه الحكومة بأن يفسّر ما هو المراد من الطّبيعة كان منافيّا لظهور الهيئة وتصرفا وتجوّزا فيها كما يدّعى ذلك في مثل «كلّ رجل» أو بحسب ظهور الهيئة وضعا في إرادة تمام أفراد ما هو المراد من المادّة ، وإن كان هو الطّبيعة الخاصّة

٣٧٣

المقيّدة ، فلا تكون ظاهرة في استيعاب جميع أفراد الطّبيعة إلّا بالإطلاق وقرينة الحكمة ، فلو ورد مخصّص يكون منافيا لإطلاق المادّة وتقييدا لها ، وأمّا ظهور الهيئة في العموم فيبقى بحاله من غير تصرّف وتجوز فيه أصلا ، فيكون مرجع التّخصيص إلى التّقييد مطلقا ، أو هو في النّهي من قبيل القسم الأوّل وفي الأمر من قبيل القسم الثّاني ، ولعلّ المتبادر والأظهر هو الثّاني ، فيكونان متساويين في أن العموم المستفاد منها إنّما كان بحسب الإطلاق وقرينة الحكمة.

والوجهان المذكوران جاريان في جميع صيغ العموم ، ومحصّلهما أن صيغ العموم بقسميه حتّى مثل «كلّ رجل» سواء وقعت في حيز الإثبات أو النّفي ، هل هي ظاهرة وضعا في استيعاب جميع ما هو مدلول مدخولها وضعا ، فيكون التّخصيص مطلقا قرينة على التّصرّف والتّجوز فيها ، أو استيعاب تمام ما هو المراد من المدخول وإن كان معنى مجازيا له؟ فيكون التّخصيص مطلقا مرجعه إلى التّقييد في مدخولها وعلى هذا فلا تدلّ على استيعاب جميع أفراد الطّبيعة المطلقة إلّا عند استظهار إرادتها ، أمّا بالقرينة الخاصة أو بمقدّمات الحكمة ، ولا ينافي هذا دلالتها على استيعاب أفراد ما هو المراد من مدخولها ، إذ الفرض عدم الدّلالة على أنّه المطلق أو المقيّد ، وليست هكذا قضيّة الوجه الأوّل كما لا يخفى ، ولعلّ الوجهين ممّا ينتفع به في بعض المباحث الآتية في العام والخاص كحجّيّة العام المخصّص فيما بقي وعدمها إذ قضيّة الوجه الثّاني كونه حجّة فيه بخلاف الأوّل.

وكيف كان : الّذي يسهل الخطب هو أنّ موارد استفادة العموم من الأمر أو النّهي جلا أو كلا محفوفة بالقرائن ، فلا بدّ في مقام التّرجيح من تقديم ما هو الأظهر منهما ، وإلّا فلو سلّم اختلافهما ، في إفادة العموم بأن يكون وضعيّا في النّهي

٣٧٤

وإطلاقيّا في الأمر لا يكون هذا إلّا إمارة نوعيّة ، إذ ربّما يكون شمول المطلق لأفراده أظهر من شمول العام لأفراده ، وفي مقام التّرجيح لا يجدي سوي الإمارات الخاصّة المكتنفة بالكلام.

وثانيها : وهو من المرجّحات من مقام الثّبوت والواقع ، إن في فعل الحرام مفسدة وفي فعل الواجب منفعة ، ودفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

وأورد عليه في القوانين بأنّه مطلقا ممنوع ، لأنّ في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين فيكون الدّوران حينئذ بين المفسدتين لا بين ترك المفسدة وجلب المنفعة. (١)

ويندفع : بأنّه على مذهب العدلية القائلين بتبعيّة الأحكام للمصالح والمفاسد لا يكون وجوب الواجب ، وإن تعين إلّا لأجل مصلحة لازمة الاستيفاء في فعله من دون أن تكون في تركه مفسدة ، كما أن تحريم الحرام أيضا لا يكون إلّا لأجل مفسدة في فعله لازمة التّحرز من دون أن تكون في تركه مصلحة ، وليس ترك المصلحة إلّا تركها لا أنه مفسدة ، كما أن ترك المفسدة ليس إلّا تركها لا أنّه مصلحة وإلّا لكان كلّ منهما نقيض الاخرى ، وهذا كما ترى ولا يكشف استحقاق العقاب على ترك الواجب من كون تركه مفسدة بدعوى أنه لا يصح إلّا باختيار ما فيه المفسدة فعلا ، أو تركا ، لبداهة أنّ المصلحة قد تبلغ مرتبة توجب استحقاق العقوبة على تفويتها اختيارا ، وإن لم يكن فى تفويتها مفسدة ، وهذه المرتبة هي المستتبعة للإيجاب ، فلا يكشف استحقاق العقوبة على ترك الواجب عن كونه مفسدة.

__________________

(١) أقول وقد يتوهّم أنّ مرجع هذا الوجه على تقدير تماميّته إلى إخراج مورد الاجتماع عن كونه كذلك ، فيلزم عدم فرض صحّة له أصلا وهذا ممّا لا يلزم به القائل بالامتناع ، ويندفع بأنّه لما اعتبر في باب الاجتماع إحراز المقتضي لكلا الحكمين في الجمع فيقع المتعارض بينهما فيه في مقام الفعلية ، فإذا قدم النّهي على الأمر لم يوجب إلّا إخراج المجمع عن كونه ممّا تعلّق به الأمر فعلا لا عن ما فيه ملاك الأمر ومع فرض بقاء ملاك الأمر فيه يمكن فرض صحّة له في حال الاضطرار ونحوه كما لا يخفى.

٣٧٥

هذا ولكن يرد على أصل الاستدلال أن الاولويّة المذكورة فيه إطلاقها ممنوع ، بل ربّما يكون الأمر بالعكس ، لوضوح أنّ مراتب المصلحة من أوّلها إلى آخرها ممّا يقتضي الاستحباب إلى آخر مرتبة الإيجاب متفاوتة ضعفا وشدّة قد تبلغ حد مصلحة الصّلاة الّتي تكون «عمود الدّين ، أو حفظ نبي مرسل ، أو بيضة الإسلام» فيوجب تأكد الإيجاب على نحو لا يكون فوقه حد ، وكذلك مراتب المفسدة ممّا يقتضي الكراهة إلى التّحريم متفاوتة ضعفا وشدّة إلى أن تبلغ حدا لا يكون أعظم منه ولا يصحّ لأحد أن يقول بقول مطلق أن المفسدة أقوى تأثيرا في إثبات الحرمة من المصلحة في إثبات الوجوب عند الدّوران ، وكذا العكس وإلّا لزم أن يكون أوّل مراتب ما يقتضي التحريم من المفسدة أقوى تأثيرا من آخر مراتب ما يقتضي الإيجاب من المصلحة أو العكس ، وهذا بديهي البطلان ، هل يصحّ أن يقال مثلا إذا دار الأمر بين حفظ نبي مرسل وبين التّصرّف في مال الغير بدون إذنه ولو بمثل حبله أو لوحه لإنقاذ النّبي عند غرقة تكون مفسدة التّصرّف في مال الغير حينئذ ، أقوى في مصلحة حفظ النّبي ، وكذا العكس في سائر الموارد ، فلا يصحّ تقديم المفسدة أو المصلحة على الاخرى بقول مطلق في جميع الموارد كما هو مدّعي الخصم ، بل لا بدّ في كلّ مورد من ملاحظة مرتبة كلّ منهما ، قد تكونان في عرض واحد فيكون المجمع حينئذ مباحا ، وقد تكون مرتبة أحدهما غالبة على الاخرى مكروها أو حراما أو مستحبا أو واجبا على اختلاف الموارد ، فالتأثير الفعلي لأحدهما عند الدّوران بينهما متوقف على غلبتها على الاخرى ، فلا بدّ في كلّ مورد من إحراز الغلبة كي يمكن التّرجيح بها ، كما هو الحال في أفعال العقلاء ، فربّما يقدمون بعض المصالح أو المفاسد على الآخر فلا يكون التّقديم لإحدهما في جميع

٣٧٦

الموارد ، بل يختلف باختلافها ، ولو سلّمنا ما ذكر من غلبة المفسدة مطلقا على المصلحة ، لكن نقول : إن هذا إنّما يكون فيما إذا كان الدوران بينهما بالنّسبة إلى المكلّف بالفتح بأن لم يكن له بدّ من ارتكاب الحرام أو ترك الواجب لا بالنّسبة إلى المكلّف بالكسر ، بأن دار أمره بين تحريم فعل واحد أو إيجابه ، كما فيما نحن فيه إذ اجتمعت جهة الحسن والقبح.

وبعبارة الاخرى ، المصلحة والمفسدة في فعل واحد فلا محالة يقع التّزاحم والكسر والانكسار بينهما ، وبعد ذلك إمّا أنّ يبقى حسنا فيكون متعلّق الأمر فقط ، أو قبيحا فيكون متعلّق النّهي كذلك ، فالتّأثير الفعلي إنّما يكون للجهة الغالبة ، وهذا بخلاف ما لو دار الأمر بين ارتكاب الحرام أو ترك واجب لعدم وقوع الكسر والانكسار بين جهتي الأمر والنّهي في الفعلين ، بل كلّ منهما باق على ما هو عليه من المصلحة أو المفسدة ، فيصحّ أن يقال : أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة ، وأمّا إذا دار فعل واحد بين تأثير جهة الأمر فيه أو جهة النّهي ، فلا تبقى فيه إلّا إحدى الجهتين بعد الكسر والانكسار ، ولذا قلنا بامتناع الاجتماع فتكون هي المؤثّرة فعلا دون الاخرى ، فلا دوران بينهما حقيقيّة كي يقال أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة.

ولو سلّمنا هذا أيضا نقول : أنه إنّما يصحّ فيما إذا دار فعل المكلّف بين الايجاب والتّحريم التّعيينيين ، إذ لا مجال لاجراء أصالة البراءة حينئذ ، وأمّا إذا دار بين الإيجاب تخييرا أو التّحريم تعيينا ، كما في المجمع بناء على اعتبار المندوحة في مورد الاجتماع فلا ، إذ مانع حينئذ من إجراء أصالة البراءة عن تحريمه التّعييني ، بخلاف الإيجاب التّخييري ، وإن شكّ في شمول متعلقه له فإنّه قطعي ، فيحكم بصحته وإن

٣٧٧

قلنا بالاشتغال عند الشّك في الأجزاء والشّرائط والموانع الشّرعيّة الّتي تكون في قبيل القيود للمكلّف به واقعا ، لأنّ المانع عن الصحّة ليست إلا فعليّة النّهي ، ولذا لو ارتفعت باضطرار أو نسيان يقع الفعل صحيحا.

وبالجملة ، فرق بين سائر الموانع الّتي تكون من قبيل القيود للمكلّف به واقعا ، ولذا قيل بأن المرجع فيها قاعدة الاشتغال ، وبين المانع في المقام فإنّه عقلي ناشئ من عدم اجتماع الصحّة مع وقوع الفعل مبغوضا عنه ومعاقبا عليه ، فلا بدّ من الاقتصار في مانعيّته على مقدار يحكم العقل به ، وهو لا يحكم بالفساد ، ومانعيّة النّهي عن الصّحة إلّا فيما علم فعلا ، إذ مع فعليته لا يصلح الفعل لأن يتقرّب به مع عدم تأتي قصد القربة به حال الالتفات ، ولذا يحكم بفساده مع الجهل عن تقصير ، فإذا ارتفعت فعليّة النّهي عنه بأدلّة البراءة عقلا وشرعا ، فلا مانع من تأثير جهة الأمر فيه ، كما لو ارتفعت بالاضطرار أو النّسيان ونحو ذلك من الأعذار العقليّة الرّافعة لها ، أي فرق بين رفع الفعليّة بالاضطرار أو النّسيان مثلا ، وبين رفعها بأدلّة البراءة العقلية والشّرعيّة ، فيحكم بصحّة الصّلاة في الدار مغصوبة مثلا.

لا يقال : أنّ مراتب النّهي وإن كانت كثيرة إلّا أن كلّ واحدة منها إذا علمت تصير الحرمة منجّزة ، وفيما نحن فيه مرتبة الاقتضاء معلومة لوجود مقتضي الحرمة في المجمع حسب الفرض ، فكيف يحكم بارتفاع فعليّتها بأصالة البراءة؟

لأنّه يقال : كذلك في طرف الأمر كلّ مرتبة من مراتب الإيجاب علمت توجب تنجّزه ، والمفروض أيضا العلم بوجود مرتبة الاقتضاء للوجوب في المجمع ، فيكون منجّزا فيه ، وتنجز التّكليفين لمّا كان ممتنعا على القول بالامتناع فلا محالة يحصل الشّك في أنّ المؤثّر من المقتضيين أيّهما؟ وحيث أنّ تأثير المقتضي للإيجاب قطعي

٣٧٨

لأنه يقتضيه تخييرا ، ومن الواضح عدم سقوط الأمر بالصّلاة مثلا مع التمكّن من فعلها في غير المكان المغصوب ، فلا مجال لإجراء البراءة عن فعليّته ، بخلاف تأثير مقتضي التّحريم فإنّه يقتضيه تعيينا ، فإذا شكّ فيه يحكم بارتفاعه بأدلّة البراءة ، فيبقى مقتضي الإيجاب مؤثرا فيه بلا مزاحم وإن لم يعلم بدخوله تحت متعلّق الأمر ، لأنّ ملاك الأمر فيه كان في صحّته وإمكان أن يؤتى به بداعي الأمر وقصد القربة.

نعم ، لو قيل بأن مقتضي التّحريم الواقعي أي المفسدة الواقعيّة الغالبة مؤثرة في المبغوضيّة وإن لم تكن بمحرزة فأصالة البراءة عن الحرمة حينئذ غير مجدية ، لأنّها لا تفيد عدم المبغوضيّة الواقعيّة ، فالحكم حينئذ أصالة الاشتغال بالواجب إن كان عبادة وإن قلنا بأصالة البراءة عند الشّك في الأجزاء والشّرائط لعدم تأتّي قصد القربة مع الشّك في المبغوضيّة.

فتحصل ممّا ذكرنا ، إنّا نمنع كليّة القاعدة المذكورة أوّلا ، ثمّ نمنع جريانها فيما إذا كان الدّوران بين فعل المكلّف كما في المقام ثانيا ، ثمّ نمنع جريانها فيما إذا كان فيه مجال لجريان البراءة ثالثا ، ولو فرض الشّك في ذلك أو في مرجحيّة أمر آخر فالمرجع عند الدّوران بين التّعيين والتّخيير ، وإن كان هو الأوّل ، إلّا أنّه في مثل المقام بدوي ، لأنّه بإجراء أصالة البراءة عن الحرمة يزول الدّوران ، لما تقدّم من أنّ المقام عن الصّحّة ليس إلّا صدور الفعل عن المكلّف مبغوضا عنه ومعاقبا عليه ، فإذا فرض جريان الأصل فيه فلا يصدر عنه كذلك ، والمفروض وجود ملاك الأمر فيه ، وهو كاف في الصّحّة والإتيان به بقصد القربة ، أي بداعي الأمر كما عرفت مرارا.

وثالثها : وهو أيضا من المرجحات في مقام الثّبوت : الاستقراء ، فإنّ الشّارع قد رجّح احتمال الحرمة على احتمال الوجوب في موارد كايجاب ترك الصّلاة المردّدة بين

٣٧٩

الوجوب والحرمة في أيّام الاستظهار وإيجاب أهراق الماءين المشتبهين والأمر بالتيمّم لدوران الأمر حينئذ بين الوضوء بالماء الطّاهر وهو واجب والماء النّجس وهو حرام.

وفيه أوّلا : منع اعتبار الاستقراء ما لم يفد العلم وهو لا يحصل بملاحظة موردين كالمثالين ، بل ولا الظّن لا يحصل بهما أيضا لو قيل باعتباره أيضا ، وكأن المستدل لم يجد غير المثالين ، ولذا اقتصر عليهما.

وثانيا : أنّ الحرمة الصّلاة والوضوء في المثالين ممّا لا دخل له بمحل الكلام ، لأنّه ما إذا دار الأمر بين الوجوب والحرمة الذّاتيّة ، وحرمة العبادات مطلقا ليست بذاتية بل تشريعيّة ، وموضوع التّشريع يرتفع بالاحتياط ، فلا دوران في المثال بين الوجوب والحرمة لتمكن المرأة في أيام الاستظهار من فعل الصّلاة احتياطا ، وتمكّن من اشتبه عليه الإناء النجس بالطّاهر من الطّهارة بكلّ منها على وجه يحصل القطع بتحصيلها كما سيأتي بيانه إنشاء الله ، ولذا لو كان ما في الإنائين طاهرين ولكن كان أحدهما الغير المعيّن مائعا آخر غير الماء وجب الوضوء بكلّ منهما احتياطا قطعا بلا خلاف وإشكال ، فتحريمهما عليهما في المثالين لا يكون لأجل تغليب جانب الحرمة الذّاتية على الوجوب عند الدّوران بينهما.

وثالثا : على تقدير كون حرمة العبادات ذاتيّة نمنع كون جهة تحريم الصّلاة والوضوء في المثالين تغليب جانب الحرمة على الوجوب مطلقا ، لإمكان كونها جهة اخرى ، لعلّها في المثال الأوّل قاعدة الإمكان أو استصحاب حدث الحيض الّذي لا يرتفع بالغسل حاله حيث أنهما يثبتان كون الدم أو النّقاء بعده في أيّام الاستظهار ، وهي يوم أو يومان أو ثلاثة على الخلاف فيها حيضا فتترتّب عليه أحكامه ، ومنها

٣٨٠