غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

«الوجه الأوّل»

أنّه لو لم يجز اجتماع الوجوب والحرمة عقلا لما وقع نظيره شرعا ، وقد وقع كالصّوم في السّفر والصّلاة في الحمّام ومواضع التّهمة ونحوهما من العبادات المكروهة ، بيان الملازمة أنّه لو لم يكن تعدّد الجهة مجديا في جواز الاجتماع الوجوب مع الحرام لما جاز اجتماع حكمين آخرين كالوجوب أو الاستحباب مع الكراهة مع تعدّد الجهة لعدم اختصاص الوجوب والحرام من بين الأحكام بما يوجب امتناع اجتماعهما من التّضاد بداهة أن الأحكام بأسرها في مرتبة فعليّتها ومقام البعث أو الزّجر والتّرخيص متضادّة ، والتّالي باطل لوقوع اجتماع الإيجاب أو الاستحباب مع الكراهة في مثل الصّلاة في الحمام ومواضع التّهمة والصّيام في السّفر وفي بعض الأيّام كيوم عاشورا مطلقا واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب في مثل الصّلاة في الدّار وفي المسجد.

والجواب : عنه إمّا إجمالا فوجهين :

أحدهما : أنّ ما وقع شرعا في تلك الموارد ونحوهما ممّا يوهم وقوع ما امتنع عقلا في الشّريعة ليس إلّا ظهورات مستفادة من ظواهر الخطابات ، وبعد قيام البرهان على عدم الجواز يستكشف إجمالا كونها مؤولات وإن لم نعلمها تفصيلا فإنّهما غير قابلة لمصادقة البرهان ، نعم لو لم تكن بظهورات بل علم أن الاجتماع في تلك الموارد بالمعنى الّذي يكون محلّ النّزاع في المسألة ولكن هذا ممنوع.

وثانيهما : أنّ ما هو قضيّة ما وقع شرعا في تلك الموارد إشكال مشترك الورود ، لأنّها ليست من موضوعات المسألة لتعلّق النّهي فيها بنفس ما تعلّق به الأمر من

٣٤١

العنوان كعنواني في الصّوم والصّلاة مع عدم المندوحة في بعضها كالصّوم في السّفر والنّوافل المبتدئة في بعض الأوقات ، فتكون من صغريات مسألة النّهي من العبادات والقائلون بالجواز فيها لا يقولون به مطلقا حتّى مع اتّحاد العنوان وعدم المندوحة ، ولذا قالوا باقتضاء النّهي للفساد في المسألة الآتية ، ومن قال منهم بعدم الاقتضاء فيها كالمحقّق القمّي «قدس‌سره» أرجعها إلى المسألة بدعوى أن الموضوع المسألة الآتية لا يتحقّق إلّا إذا كانت النّسبة بين متعلّق الأمر والنّهي العموم المطلق ، واختلافهما كذلك يكفي في تعدّد العنوان والجهة ممّا يعتبر في موضوع المسألة فالإشكال الجائي من قبل ما وقع شرعا في تلك الموارد مشترك الورود ، ولو فرض التّأويل منها بإرجاعها إلى ما في المسألة من تعدّد العنوان ، كما صنعه المحقّق القمّي «قدس‌سره» في المسألة الآتية كان الاستدلال بها على الجواز هنا مصادرة ، إذ لم يعلم أن اجتماع الحكمين فيها بالمعنى الّذي يكون محل النّزاع هنا لاحتمال غيره ، ومجرّد الاحتمال يبطل الاستدلال ، وبالجملة وقوع اجتماع الحكمين في تلك الموارد ولأجل اتّحاد العنوان والجهة إشكال مشترك الورود فلا بدّ من الجواب عنه على كلا القولين ، وأمّا تفصيلا فبوجوه يوجب ذكرها بما فيها من النّقض والإبرام طول الكلام بما لا يسعه المقام فالأولى الاقتصار على ما يقضيه التّحقيق في حلّ الإشكال ، فنقول وعلى الله الاتّكال في جميع الأحوال :

إنّ العبادات المكروهة على أقسام ، لأنّ ما تعلّق به النّهى قد لا يكون له بدل مع تعلّقه به بذاك العنوان الّذي تعلّق به الأمر في ظاهر الخطاب كصوم يوم عاشوراء والنّوافل المبتدئة في بعض الأوقات لعدم البدل لهما مع فرض تعلّق النّهي فيهما بعنوانين الصّوم والصّلاة ، وقد يكون له مع تعلّق النّهي به كذلك كالصّلاة في الحمّام

٣٤٢

ومواضع التّهمة ، وقد يكون له بدل مع تعلّقه به بعنوان آخر متّحد ومجامع مع عنوان متعلّق الأمر في بعض المصاديق وجودا أو ملازم معه خارجا كالمثال الأخير بناء على أنّ النّهي فيه وإن كان في ظاهر الخطاب متعلّقا بعنوان الصّلاة في مواضع التّهمة ، إلّا إنا نعلم أن متعلّقه حقيقة هو الكون فيها المتّحد مع عنوان الصّلاة فيها وجودا كصوم يوم العاشوراء بناء على أن متعلّق فيه في ظاهر الخطاب وإن كان عنوان الصّوم ، إلّا أنه حقيقة عنوان التّشبّه ببني أميّة عليهم اللّعنة الملازم خارجا مع عنوان الصّوم فيه حيث أنّهم تبرّكوا به ، فالأقسام ثلاثة.

أمّا القسم الأوّل : هو أشكلها لعدم البدل فيه مع اتّحاد العنوان والجهة ، فالنّهي فيه إن كان لأجل حزازة ومنقصة في الفعل فهو لا يجامع صحّته وصلاحيّته لأن يتقرّب به حتّى على القول بجواز الاجتماع ، إذ مع الحزازة والمنقصة فيه لا أمر به أصلا ، فلا يمكن أن يؤتى به بقصد القربة ، وإن قلنا بأنّه يكفي في الصحّة وقصد القربة وجود ملاك الأمر من الحسن والرجحان الذّاتي والمحبوبيّة ، ومحل الاستشهاد ما يمكن أن يقع صحيحا مع فرض تعلّق النّهي به تنزيها ، فهذا النّحو من النّهي النّحو في النّهي خارج عن محلّ الكلام لا في خصوص هذا القسم ، بل في جميع الأقسام ، فإنّه يقتضي الفساد حتّى على القول بالجواز وإن كان لأجل كون التّرك موافقا للغرض الأهمّ ممّا في الفعل ، أي ذا مصلحة غالبة على مصلحة الفعل بأن فرض في كلّ منهما مصلحة ولكن مصلحة التّرك أقوى وأهمّ من مصلحة الفعل ، ولذا نهي عنه ، ويكشف عن ذلك مداومة الأئمّة عليهم‌السلام على التّرك ، فلا بأس حينئذ بأن يلتزم بثبوت النّهي فعلا دون الأمر لامتناع اجتماعهما في مقام الفعليّة مع اتّحاد العنوان والجهة حتّى على القول بالجواز مع الالتزام بصحّة الفعل أيضا كما هو المفروض ، و

٣٤٣

ذلك لأنّ الفعل لم تطرأ عليه جهة حزازة ومنقصة مع كونه ذا مصلحة راجحة ، فيمكن أن يقع صحيحا ومتقرّبا به بأن يؤتى به بداعي الأمر الشّأني إن قلنا بثبوته وكفايته في مقام النّيّة ، وإلّا فبداعي ملاك الأمر الفعلي وما يقتضيه من المصلحة والرجحان الذّاتي ومحبوبيّته ، وإن لم يكن بمؤثّر فعلا في إثبات الوجوب ، وهذا كاف في الصّحة والإجزاء ، ولذا صحّحنا الضّد الغير الأهمّ مع تزاحمه بالأهمّ سواء كانا واجبين أو مستحبّين ، ويكون حال المتناقضين حينئذ حال الضّدّين إذ لا فرق بينهما من هذا الجهة ، فكما أنّ فعل الأهمّ من الضّدّين أو الواجبين أو المستحبّين المتزاحمين بداعي الأمر الشّأني أو ملاك الأمر الشّأني كاف في صحّته ، وإلّا لزم أنّ لا يقع مستحب صحيحا غالبا ، بل دائما لوقوع التّزاحم بين المستحبّات كذلك ، فلا بدّ أن يؤتى إلّا بما هو الأهمّ منها ، إذ لا لو أتى بغيره لم يكن بصحيح وهذا ممّا يبعد الالتزام به ، فكذلك اختيار غير الأهمّ من المتناقضين ، أي الفعل في المقام بداعي الأمر الشّأني أو ملاك الأمر الفعلي كاف في صحّته فإنّ النّهي الفعلي عنه لا يقتضي إلّا سقوط الأمر به كذلك لا انتفاء ما خيّر من الرّجحان والمصلحة والمحبوبيّة ، فلو أتى به بهذا الدّاعي كان صحيحا مسقطا للأمر ، والحاصل أنّه إن أمكن فرض مصلحة في الفعل بعنوانه ومصلحة في التّرك أيضا بعنوانه كان حكم المتناقضين حينئذ حكم الضّدين المتزاحمين ، فيحكم بالتّخيير بينهما إن لم تكن أهميّة في البين ، وإلّا فيؤثر منهما ما هو الأهمّ ويكون الحكم الفعلي تابعا له ، فإذا فرض كون التّرك أرجح وأهمّ وأكثر مصلحة من الفعل فلا جرم يكون الحكم الفعلي حينئذ هو النّهي دون الأمر ، وتلتزم بهذا ، ولا ينافيه وجود الدّليل من إجماع ونحوه على وقوع الفعل صحيحا وعبادة لكفاية وجود الرّجحان فيه في ذلك حسبما عرفت ، و

٣٤٤

إن لم يكن هذا الفرض فلا بدّ عند فرض وجود الدّليل على الصّحة مع تعلّق النّهى بالفعل من الالتزام بأحد أمرين ، إمّا بأن التّرك ممّا ينطبق عليه وجودا عنوان آخر أرجح ممّا في نفس الفعل من المصلحة ، وإمّا بأنّه ممّا يلازمه خارجا عنوان آخر كذلك من دون أن ينطبق ويتّحد معه وجودا ، كما لو فرض أن العنوان المطلوب في نفسه هو ترك التّشبّه ببني أميّة عليهم اللّعنة ، وإن هذا العنوان يلازم خارجا ترك الصّوم يوم عاشوراء ، ومرجّع التّزاحم بين الفعل والتّرك في هذا الفرض حقيقة إلى التّزاحم بين الضّدّين ، بخلاف الفرض الأوّل فإنّه يشبهه ، لأنّ التّرك فيه ليس مطلوبا في نفسه وبعنوانه بل لأجل انطباق عنوان مطلوب كذلك عليه ، فكأنّ التّزاحم بينه وبين عنوان الفعل وكلاهما وجوديان ، فيشبه التّزاحم بينهما بالتّزاحم بين الضّدّين ، وكيف كان لا أمر فعلا بالفعل لأنّ النّهي الفعلي من ذلك العنوان المتّحد معه وجودا أو الملازم له خارجا مانع عن فعليّة الأمر به ، إلّا أنّه مع هذا يمكن أن يقع صحيحا ومتقرّبا به لأنّه باق على ما هو عليه من المصلحة ، ولا يقتضي النّهي حزازة ومنقصة فيه كي لا يصحّ ولا يصلح لأنّ يتقرّب به ، كما يوجبهما لو كانت فيه مفسدة غالبة على مصلحة التّرك ، ولذا نقول بفساد العبادة المأتي بها ولو مع الجهل عن تقصير بناء على ترجيح جانب النّهي ، فإنّ وجود جهة المفسدة في الفعل مانع عن صلاحيّته لأن يتقرّب به كي يكون صحيحا ومجزيا ، وهذا هو الفارق بين المقامين حيث أنّ النّهي في مقامنا هذا لم يكن لأجل مفسدة في الفعل حسب الفرض ، فيمكن أن يقع صحيحا بأن يؤتى به بداعي الأمر ، وفي مقام اجتماع الأمر والنّهي لا يكون إلّا لأجل مفسدة فيه ، فلا يمكن أن يقع صحيحا ، لعدم وجود ملاك الأمر فيه ، فإنّه بعد التّزاحم وحصول الكسر والانكسار يبقى ذا مفسدة ، ولذا

٣٤٥

يرجّح جانب النّهي ، ولو لا هذا الفرق بين المقامين لزم الحكم بالصّحة في كليهما كما لا يخفى ، والفرق بين الفرضين أن النّهي عن العبادة في الأوّل على نحو الحقيقة لانطباق العنوان النّهى عليها وجودا فيكون حقيقيّا مولويّا ، كما في سائر المكروهات ، إلّا أنّه فيه لأجل أرجحيّة عنوان التّرك على الفعل مع اشتماله على المصلحة الرّاجحة ، ولذا لا يقتضي الفساد ، وفيها لأجل منقصة ومفسدة في الفعل ولا يقتضي الفساد فيها ، وفي الفرض الثّاني على نحو المسامحة وبالعرض والواسطة لعدم انطباق العنوان المنهي عنه عليها ، بل على ما يلازمها ، فهو متعلّق النّهي حقيقة دونها ، ولأجل الملازمة تعلّق النّهي بها تجوّزا وبالعرض والواسطة ، ويمكن حمل النّهي في كلا الفرضين على الإرشاد إلى ما في التّرك من انطباق عنوان عليه أو على ما يلازمه أقوى وأرجح ممّا في نفس الفعل ، إلّا أنّه على هذا يكون النّهي فيهما على سبيل الحقيقة لا المجاز والمسامحة ، فإنّ اختلاف دواعي الإنشاء لا يوجب تجوّزا في لفظه ، أمرا كان أو نهيا ، لا بمادّته ولا بهيئته حسبما عرفت آنفا في بيان مدلولهما.

وأمّا القسم الثّاني : وهو ما يكون له بدل مع اتّحاد العنوان والجهة فالنّهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما تقدّم في القسم الأوّل ، فيكون مولويّا أو إرشاديّا على حذو ما تقدّم فيه ، ويمكن أن يكون لأجل منقصة في متعلّقه بالنّسبة إلى سائر الأفراد قياسها إلى ما في أصل الطّبيعة المأمور بها في حدّ نفسها من المصلحة اللازمة ، فيكون النّهي حينئذ إرشادا ، عليها حيث أنها واجدة تمام ما في أصل الطّبيعة من المصلحة ، بل ربّما يكون لأجل مشخّصاتها أكثر مصلحة منها بخلافه لما فيه من مشخّص يوجب نقصانا فيها لا حزازة ومنقصة فيه ، وإلّا لم يمكن أن يقع صحيحا ، وهذا خلاف الفرض فيكون أقلّ ثوابا ومصلحة منها.

٣٤٦

توضيح ذلك : أنّ الطّبيعة المأمور بها لا بدّ من أن يكون في نفسها ومع قطع النّظر عن ما في أفرادها من المشخّصات الملاءمة أو غير الملاءمة لها ذات مصلحة ومزيّة لازمة ، وتلك المصلحة والمزيّة في بعض الأفراد لا تتفاوت لعدم تشخّصها فيه بمشخّص يوجب زيادة أو نقيصة فيها كالصّلاة في الدّار مثلا ، فيجتمع فيه الوجوب والإباحة ، وفي بعضها تزيد لما فيه من مشخّص يلائمها كالصّلاة في المساجد أو الأمكنة الشّريفة ، مثلا فيجتمع فيه الوجوب والاستحباب ، وفي بعضها تنقص ، لكن على وجه يبقى منها ما يقتضي الإيجاب فعلا لما فيه من مشخّص غير ملائم لها كالصّلاة في الحمّام مثلا ، فإنّه معدّ للتّنظيف والتّغسيل فلا يناسب ما في الصّلاة من كونها معراج المؤمن وقربان كلّ تقى ، إلّا أنّه لا يوجب إلّا نقصانا فيها مع بقاء ما يقتضي الإيجاب فيه ، لا حزازة بحيث تزول المصلحة ويصير ذلك البعض ذا مفسدة وإلّا لم يقع صحيحا ، وهذا خلاف الفرض ، ولو تعلّق النّهي بهذا الفرد فلا محاله يكون إرشادا إلى سائر الأفراد حيث أنّها أكثر ثوابا ومصلحة منه ، وإن كانت بأنفسها مختلفة بحسب ما فيها من التّشخّصات الملاءمة شدّة وضعفا وغيرها لما في أصل الطّبيعة من المصلحة مع اشتراك الكلّ في الاشتمال عليها ، ولا يمكن أن يكون النّهى فيه مولويّا ، فإنّه كذلك ينافي وجوبه فعلا حسب الفرض ، وليكن هذا مراد من فسّر الكراهة في العبادة بكونها أقلّ ثوابا بأن يكون المراد أقلّ ثوابا من سائر الأفراد بالقياس إلى ما في أصل الطّبيعة لا مطلقا ، فلا يتوجّه عليه ما أورد من لزوم اتّصاف العبادة الّتي تكون أقلّ ثوابا من الأخرى بالكراهة واتّصاف ما لا مزية ولا نقيصة فيه كالصّلاة في الدّار مثلا بالاستحباب ، لأنّه أكثر مصلحة وثوابا ممّا فيه المنقصة كالصّلاة في الحمّام مثلا.

٣٤٧

فتلخّص ممّا ذكرنا أن النّهي في هذا القسم لا يكون إلّا إرشاديّا بخلاف القسم الأوّل ، فإنّه يمكن أن تكون كذلك ويمكن أن تكون مولويّا كما عرفت.

وأمّا القسم الثّالث : وهو ما يكون له بدل مع تعدّد العنوان والجهة بأن يكون متعلّق النّهي عنوانا مجامعا ومتّحدا وجودا مع عنوان متعلّق الأمر أو ملازما له خارجا ، سواء علم ذلك من ظاهر الخطاب أو من دليل الآخر مع تعلّق النّهي في ظاهره بعنوان متعلّق الأمر ، فالنّهى فيه يختلف حاله مولويّة وإرشاديّة بحسب القول بجواز الاجتماع وعدمه ، وحيث عرفت أن الإشكال مشترك الورود لأنّ النّهي في تلك الموارد من قبيل النّهى عن العبادة المقتضي للفساد على كلا القولين ، فلا بدّ في مقام التقصّي عند من أن يقرّر الجواب على كل منهما بجسب ما يطابقه.

فنقول : أمّا على القول بالجواز فلا مانع من اجتماع الوجوب والكراهة في هذا القسم في كلتا الصّورتين ، إذ ليس اجتماعهما فيه أسوأ حالا من اجتماع الوجوب والحرمة مع تعدّد العنوان والجهة ، إلّا أنّ النّهي عن العبادة حينئذ مولوي بالعرض والمسامحة ، فإنّ متعلّقه حقيقة هو ذلك العنوان الآخر المتّحد معها أو الملازم لها ، ويمكن أن يكون على وجه الحقيقة إرشادا إلى سائر الأفراد أو ممّا لا يكون متّحدا معه أو ملازما له ، حيث أنّها واجدة لتمام ما في الطّبيعة المأمور بها من المصلحة مع عدم ابتلائها بمزاحمة ذلك العنوان بخلافه ، وأمّا على القول بالامتناع فكذلك في صورة الملازمة لتعدّد متعلّق كلّ من الوجوب والكراهة حقيقة ، وعدم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم إنّما يؤثّر في انتفاء الحكم الفعلي عن غير الأهمّ منهما ، لا انتفاء ملاكه ومقتضيه أيضا ، فلو فرض ولو محالا ترجيح جانب الكراهة لأهمّيّته لا يقتضي فساده العبادة الّتي تعلّق بها النّهي ، لأنّ ملاك الأمر فيها موجود

٣٤٨

وهو كاف في الصّحّة كما عرفت غير مرّة ، وأمّا في صورة الاتّحاد وترجيح جانب الأمر كما هو المفروض فإنّه صحّة العبادة ، فلا محيص من الالتزام بكون النّهى منها إرشاديّا بالمعنى الّذي تقدّم في الصّورة الأولى ، لأنّ الاتّحاد مع العنوان الآخر ليس إلّا من المشخّصات الّتي تختلف الطّبيعة المأمور بها بحسب المزيّة والمصلحة زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة شدّه وضعفا وعدمها ، وأمّا مع ترجيح جانب النّهي فلا يتصوّر فيها الصّحة مع فرض النّهي إلّا فيها تقدّم في القسم الأوّل بأن يكون ترك ما تعلّق النّهي من العبادة أكثر مصلحة وأرجح بالقياس إلى فعله لا بالقياس إلى سائر الأفراد ، وقد عرفت الإشكال فيه.

هذا حال الأقسام المتصوّرة للنّهي عن العبادة المجامع مع صحّتها في مقام الثّبوت والواقع ، ففي كلّ مورد تعلّق الأمر بعبادة وقام الدّليل من إجماع ونحوه على صحّتها مع هذا يمكن أن يكون النّهي فيه من قبيل تلك الأقسام ، فلا يصحّ به الاستدلال على جواز الاجتماع إذ مع الاحتمال يبطل الاستدلال.

وأمّا في مقام الإثبات والدّلالة : فيما إذا تعلّق نهى بعبادة تكون صحيحة إجماعا ، فهل هو ظاهر في أي واحد من الأقسام الثّلاثة ، لا يبعد ظهوره في القسم الأوّل ، لأنّ النّهي فيه مولوي وفيما عداه إرشادي ، والنّهي ظاهر في المولوي دون الإرشادي.

وكيف كان انقدح ممّا ذكرنا أنّه لا معنى لتفسير الكراهة في العبادة بأقليّة الثّواب في القسم الأوّل على كلا القولين ، إذ لا بدل له كي يكون أقلّ ثوابا منه ، وفي هذا القسم الأخير على القول بالجواز خاصّة لعدم الكسر والانكسار بين جهتي تعلّق الأمر والنّهي في المجمع عليه كي يكون أقلّ ثوابا ممّا عداه من الأفراد.

٣٤٩

وقد انقدح أيضا حال اجتماع الوجوب مع الاستحباب في العبادة فإنّه يقابل اجتماع الوجوب مع الكراهة فيها ، وقد عرفت أن المراد بتفسير الكراهة في العبادة بكونها أقلّ ثوابا كونها أقلّ ثوابا بالقياس ما في أصل الطّبيعة لا بالقياس إلى سائر الأفراد بخصوصيّاتها فمعنى استحبابها أيضا كونها أكثر ثوابا بالقياس إلى ما في أصل الطّبيعة ، فلا يتصوّر الاستحباب في العبادة الواجبة بهذا المعنى كالكراهة في القسم الأوّل ، إذ لا بدل له كي يكون أكثر ثوابا أو أقلّ ثوابا منه ، وأمّا في القسمين الأخيرين فالأمر الاستحبابي بالعبادة الواجبة على القول بجواز الاجتماع يمكن أن يكون إرشادا إلى أفضل الأفراد مطلقا على نحو الحقيقة ومولويّا اقتضائيّا كذلك ، ومولويّا فعليّا حقيقيّا في صورة الاتّحاد والانطباق وبالعرض والمجاز في صورة الملازمة ، فإن متعلّقه حينئذ حقيقة هو الملازم ، فلو تعلّق أمر أيضا بالعبادة لأجل الملازم يكون بالعرض والواسطة ، وأمّا على القول بالامتناع فيمكن جميع ما ذكر في الأمر سوى المولوي الفعلي الحقيقي في صورة الاتّحاد ، وأقول : وكذلك سوى المولوي الفعلي بالعرض والمجاز في صورة الملازمة بناء على عدم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي ، إذ على هذا لا يبقى الأمر الاستحبابي بالملازم فعليّا ، لرجحان جهة الوجوب على جهة الاستحباب عند المزاحمة إلّا في فرض بعيد يأتي نظيره ، فكيف يترشّح منه أمر آخر استحبابي إلى الواجب لأجل الملازمة؟ وهل يمكن فعليّة الأمر الاستحبابي دون الوجوبي في القسم الأوّل نظير فعليّة النّهي التّنزيهى فيه دون الأمر الوجوبي؟ الظّاهر لا ، فإنّ انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الّذى لا بدل له إنّما يؤكّد إيجابه لا أنّه يوجب استحبابه أصلا ولو بالعرض والمجاز ، فإنّ جهة الاستحباب بالنّسبة إلى المنع من التّرك من قبيل اللااقتضاء

٣٥٠

بخلاف جهة الإيجاب حيث إنّها بالنّسبة إليه من قبيل الاقتضاء ، فإذا اجتمعتا في فعل فلا محالة تؤثّر جهة الاقتضاء فيصير واجبا إلّا أنّ اجتماع ملاك الاستحباب يصير منشأ لتأكد الوجوب فيه ، نعم يمكن فرض العكس بأن تكون جهة الاستحباب من قبيل الاقتضاء أي العلّة التّامّة دون جهة الإيجاب ، فلا محالة حينئذ تؤثّر جهة الاستحباب دون جهة الوجوب ، وبنحو هذا المعنى قد تصوّرنا معنى الشّرط المحرّم للحلال الّذي لا يكون فرعا نافذا حيث كلّ شرط لأجل نفوذه ولزومه يوجب تحريم الحلال ، فإنّه لا بدّ وأن يكون قبله حلالا جائز الطّرفين وبعد اشتراطه في ضمن العقد لا بدّ أن لا يجوز تركه بمقتضى لزومه ونفوذه ، فأين الشّرط الّذي لا يكون بمحرم الحلال؟ وهذا إشكال ربّما يورد في مقام ذكر الشّروط السّائغة وحلّه كما ذكرناه في ذلك المقام ، أنّ الحلّيّة قد تكون لأجل عدم ما يقتضي الإيجاب أو التحريم ، فهذه قابلة لأن ترجع بالشّرط في ضمن العقد ، كلّ الشّروط النافذة كذلك ، وقد تكون لأجل ما يقتضيه بأن يكون الفعل بجميع عناوينه وما يطرأ عليه من الطّوارئ فيه جهة مقتضية كليّته ، فهذه الحلّية غير قابلة لأن ترفع بالشّرط ، فإنّ نفوذه حينئذ يستلزم تحريم الحلال ، وهذا معنى قولهم كلّ شرط سائغ إلا ما حرّم حلالا. إلّا أنّ هذا الفرض بعيد جدّا ، (١) ولذا لم نتعرّض له ، وكذا في صورة الملازمة ، فإنّها بين الواجب والمستحب لو لم تؤكّد الإيجاب لا تؤثّر الاستحباب إلّا اقتضائيّا بالعرض والواسطة. (٢) هذا على القول بالامتناع.

__________________

(١) أقول ويمكن فرض آخر وهو كون ترك هذا الواجب الّذي لا بدل له ممّا ينطبق عليه أو يلازمه عنوان آخر يكون أكثر مصلحة ممّا في نفس فعل منها على حذو ما تقدّم في تصوير تقديم النّهي التّنزيهي على الأمر في القسم الأوّل طابق النّعل بالنّعل فتأمّل جيّدا ، لمحرّره.

(٢) وأقول هذا بناء على إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم وإلّا فعلى القول بالامتناع لا تؤثّر الملازمة إلّا تأكّد الإيجاب لا استحباب بالعرض والواسطة فعليّة جهة الإيجاب على جهة الاستحباب ، لمحرّره.

٣٥١

وأمّا على القول بالجواز فلا مانع من اجتماع الوجوب والاستحباب في كلتا الصّورتين لتعدّد ما يقتضيهما من العنوانين ، نعم الاستحباب مولوي على نحو الحقيقة ، وفي صورة الملازمة مولوي بالعرض والمجاز ، لأنّ جهته ليس إلّا في الملازم لا في الواجب ، فلو صار أيضا مستحبّا لكان بالعرض وبتبعه لأجل الملازمة ، وأقول : الفرض البعيد الجاري في القسم الأوّل جار في القسمين الأخيرين أيضا ، فيمكن فيهما أيضا فرض فعليّة الاستحباب دون الوجوب كما لا يخفى.

«الوجه الثّاني»

أنّ أهل العرف يعدّون المأتي بالمأمور به في ضمن الفرد المحرّم مطيعا وعاصيا ومستحقّا للمدح واللّوم من جهتين ، ومثل ذلك الحاجبي والعضدي بما إذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان معيّن فخاطه في ذلك المكان ، فإنّه عرفا يعدّ مطيعا للأمر بالخياطة وعاصيا للنّهي عن الكون في ذلك المكان.

والجواب عنه : مضافا إلى المناقشة في المثال بأنّه ليس من باب الاجتماع ، ضرورة أن الكون المحرّم غير متّحد وجودا مع الخياطة المأمور بها أصلا ، كما هو واضح ، تارة على وجه الإجمال ، وأخرى على وجه التّفصيل.

أمّا على الأوّل : فبنحو ما تقدّم في الجواب على الاستدلال الأوّل من أنّه بعد قيام البرهان على الامتناع لا يعبأ ، مثل فهم العرف جواز الاجتماع ، فإنّه من قبيل الظّهورات في الألفاظ لا يصادم البرهان ، فلا بدّ من التّأويل إجمالا وإن لم نعلمه تفصيلا.

وأمّا على الثّاني : فبأنّه أن أريد بالإطاعة حصول الامتثال للأمر فحصولها مع

٣٥٢

حصول العصيان ممنوع ، بل الحاصل أحدهما إمّا الإطاعة بهذا المعنى عند تغليب جانب الأمر أو العصيان عند تغليب جانب النّهي ، وإن اريد بها ما يعمّ سقوط الأمر وحصول الغرض منه ، فهذا مسلّم في التّوصّليّات ، إذ بعد الإتيان بها ولو على وجه محرّم يحصل الغرض من الأمر ، فلذا يسقط إذ لا يعقل بقاؤه مع انتفائه ، وقد عرفت مرارا أن دائرة الغرض من الأمر قد تكون أوسع من متعلّقه والميزة في سقوط الأمر بذلك لا بخصوص المتعلّق ، والأمر في الواجبات التّوصليّة كذلك ، ولذا لو أتى بواحد منها غير من كلّف به وإن لم يكن بمكلّف أصلا سقط عنه التّكليف ، وأمّا في التّعبّديّات فلا ، إذ لا بدّ في سقوط الأمر بها إمّا من كون المأتي به مأمور بها فعلا ، وإمّا من اشتماله على ملاك الأمر من الرّجحان الذّاتي والمحبوبيّة والمصلحة ، ومع فرض كونه محرّما ومبغوضا عليه فعلا لا يكون فيه إلّا المفسدة ، فكيف يكون مسقطا للأمر ، إذ لا ملاك له حينئذ ، فلا يكاد تحصيل الغرض من الأمر بالعبادة إلّا فيما صدر عن المكلّف غير محرم وغير مبغوض عليه فعلا كما تقدّم.

«الوجه الثّالث»

بقي الكلام فيما نقل عن بعض الأعلام في المقام من القول بالجواز عقلا في الامتناع عرفا ، وقد تقدّمت الإشارة في بعض المقدّمات إلى ضعفه ملخّصه : أن نظر المفصّل لا يخلو من أن يكون إلى أحد وجهين :

أحدهما : أنّ المجمع لما كان بالنّظر العقلي الدّقيق اثنين لا بالنّظر المسامحي العرفي ، فإنّه واحد بحسبه ، فلذا جاز الاجتماع عقلا لا عرفا.

وثانيهما : أنّ المجمع لما كان اثنين في نظر العقل ، فإنّه يراه ذا وجهين وعنوانين

٣٥٣

تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النّهي ، فلذا جاز الاجتماع عقلا ، ولكن لما كان كلّ واحد من الأمر والنّهي يدلّ بمدلوله اللّفظي على عدم اجتماعه مع الآخر عرفا ، فلذا امتنع الاجتماع عرفا ، وكلا الوجهين فاسد :

أمّا الأوّل : لأنّ الحاكم في باب الجواز والامتناع هو العقل ، وليس للعرف حكم في مقابله فلو فرض استقلاله بالجواز لأنّه يرى المجمع متعدّد بالنّظر الدّقيق ، فلا عبرة يؤدّي إلى خلافه من النّظر العرفي غير المبني على التّدقيق.

وأمّا الثّاني : وهو الّذي صار منشأ التّوهّم ، اختصاص النّزاع في المسألة بالألفاظ على ما تقدّم ، فلأنّ مرجعه حقيقة إلى وقوع الإجماع عرفا بعد اختيار جوازه عقلا ، فليس هذا القول تفصيلا في المسألة ، بل هو قول بالجواز كما لا يخفى.

* * *

٣٥٤

وينبغي التّنبيه على أمور :

«الأمر الأوّل»

لو اضطرّ الى ارتكاب الحرام فإن لم يكن بسوء الاختيار فلا شبهة ولا إشكال في أنّه يسقط التّكليف بأثره وتبعته ، أعني استحقاق العقوبة على مخالفته لأنّ الخطاب به والزّجر والرّدع عنه حينئذ لغو ، والعقوبة عليه عقوبة على غير المقدور ، وصدورهما بحقّ الحكيم قبيح ، وإن كان بسوء الاختيار ، فإن لم يكن ارتكابه مقدّمة ، لتخلّص عن حرام فكذلك يسقط الخطاب ، لكونه حينئذ لغوا ، إلّا أنّه يصدر عنه مبغوضا عليه ومستحقّا عليه العقاب لأنّه عصيان لذلك الخطاب السّابق لأجل الاضطرار ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار بهذا المعنى ، ولذا لا يصلح لأن يتعلّق به الإيجاب ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ولا إشكال في الجملة ، إنّما الإشكال فيما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار وكان ما اضطرّ إليه ممّا انحصر التّخلص عن الحرام به ، كما إذا توسّط الأرض المغصوبة كذلك ، فإنّه بعد الدخول فيها يضطرّ إلى ارتكاب الحرام ، أعني التصرف فيها بقاء أو خروجا ، وكلّ منهما غصب وعدوان ، لكونه غير مأذون من قبل المالك ، إلّا أنّه بالخروج عنها يتخلّص عن محذور ارتكاب الحرام ، أعني البقاء فيها ، فاختلفوا في حكم الخروج على أقوال ، قيل بأنّه منهي عنه فقط ، وقيل بأنّه مأمور به كذلك مع جريان حكم

٣٥٥

المعصية ، أعني استحقاق عقوبة عليه ، وقيل بأنّه مأمور به كذلك مع عدم جريان حكم المعصية عليه. هذا على القول بعدم جواز الاجتماع.

وأمّا على القول بجوازه ، فعن أبي هاشم أنّه مأمور به ومنهى عنه ، واختاره الفاضل القمّي «قدس‌سره» ناسبا له إلى أكثر المتأخّرين ، وظاهر الفقهاء ومقتضي التّحقيق أنّه منهيّ عنه لكن لا بالنّهي حال الاضطرار ، لأنّه حينئذ لغو مطلقا وإن كان بسوء الاختيار ، بل بالنّهي السّابق عليه السّاقط بحدوثه وعصيان له بسوء الاختيار ولا يكون بمأمور به أصلا ، أما أنه منهي عنه بالنّهي السّابق على الاضطرار ، فلأنّه يصدق عليه أنّه غصب وتصرّف في ملك الغير بدون إذنه وعدوان وتعدّ عليه مع كونه مقدورا له ، وإن كان وجوده متوقّفا ومتفرّعا على الدّخول المحرم فعلا ، ويكفي في صحّة التّكليف كون المكلّف به معذورا ولو بالواسطة ، والخروج عن الأرض المغصوبة كالبقاء فيها مقدور بواسطة اختيار الدّخول فيها ، فيصحّ تعلّق النّهي به ، لأنّه كان قادرا على تركه بأن لا يختار الدّخول.

وبعبارة الاخرى : النّهي الوارد في الأدلّة عن التّصرّف في ملك الغير بدون إذنه مطلق يشمل أنحاء التّصرف فيه دخولا وبقاء وخروجا حركة وسكونا ، وإن كان بعضها متفرّعا على بعض آخر ، كالبقاء والخروج على الدّخول فيه ، ولا يقتضي هذا خروج ذلك البعض عن الإطلاق ، لأن الجميع مقدور ، وإن كان بعضها مقدورا بالواسطة ، ويكفي في صحّة التّكليف مطلق المقدوريّة ، فلا مانع من إبقاء النّهي على إطلاقه وعدم إخراج بعض أنحاء التّصرف كالخروج عنه ، ويشهد لهذا أنّه لو انعكس الفرض بأن تعلّق غرض بإيجاد الخروج صحّ وتعلّق الأمر المطلق به ، غاية الأمر أنه يجب حينئذ عقلا إيجاد مقدّمته وهي الدّخول كي يتمكّن في إيجاده ،

٣٥٦

فلو صحّ تعلّق الأمر به صحّ تعلّق النّهي به أيضا على حدّ سواء ، وبالجملة ، لا يعتبر في صحّة تعلّق النّهي بالأفعال التّوليديّة والمسببات كالأمر بها أزيد من كون أسبابها بيد المكلّف وتحت إرادته واختياره ، ولذا لو تعلق الأمر المطلق بالطّهارة مثلا لزم تحصيل الماء بقدرها ولو بإذابة الثّلج أو خلط غيره به وجه لا يسلبه الإطلاق مع وجوده ، وعدم كفايته لها ، والخروج عن الارض المغصوبة كالبقاء فيها كذلك ، فصحّ تعلق النّهي به ، والمفروض أنّ ما دلّ على أنّه لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغير إلّا بإذنه ولا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه عام ، يشمل جميع أنحاء التّصرّف ، فلا مقتضي لإخراج مثل الخروج عنه ، نعم بعد الدّخول في الأرض المنصوبة بسوء الاختيار يسقط النّهي أي الخطاب والزّجر والرّدع عنه ، لكونه حينئذ لغوا ، إلّا أنّه مع هذا يقع الفعل أي الخروج مبغوضا عليه ومستحقّا عليه العقاب ، لأنّه عصيان لذلك الخطاب وإن أوجبه العقل ، حيث أنّه أقلّ القبحين وأخفّ المحذورين إرشادا إلى ذلك ، وأمّا أنّه ليس بمأمور به فلأنّه لا وجه لصيرورته كذلك عدا ما يتخيّل من كونه مقدّمة منحصرة للتّخلّص عن الحرام ، أعني البقاء في الأرض المغصوبة والتّخلّص عن الحرام ، أعني ترك البقاء فيها واجب بنحو الإطلاق عقلا وشرعا ، ومقدّمة الواجب المطلق واجبة ، فيجب الخروج لذلك.

ويضعّف : بمنع المقدّميّة أوّلا : حتّى في صورة انحصار التّخلّص عن الحرام بالدّخول ، بأن لا يحتمل رفع المنع بمثل الاشتراء أو الانتقال بالإرث ونحو ذلك. ومنع ترشّح الوجوب إلى خصوص مثل هذه المقدّمة ، ثانيا ، توضيح ذلك : إنّ مقدار الخروج عن الأرض المغصوبة من التّصرّف فيه غير قابل لتعلّق التّكليف به أصلا ،

٣٥٧

إيجابا أو تحريما لأنّه ممّا لا بدّ منه ، وما زاد على ذلك المقدار مقدور لمن توسّطها ولو بسوء الاختيار ، لذا لا شبهة في كونه محرّما عليه قطعا عقلا وشرعا ، هب أن مقدار الخروج ساعة ، فاللازم هو ترك الغصب فيما زاد عليها ، ولذا لو علم أنّ المنع يزول بعد السّاعة بإذن من المالك واشتراء منه أو انتقال منه بارث ونحو ذلك ، لم يلزم الخروج على من دخلها ، فإن التّصرّف فيها بمقدار السّاعة حيث أنّه قهري ومضطرّ إليه غير قابل لتعلّق التّكليف به ، وبما زاد عليه غير محرّم حسب الفرض لأجل زوال المنع حينه ، فلا مقتضي لوجوب الخروج حينئذ ، وبالجملة ، الواجب في المقام ليس إلّا ترك الغضب زائدا على مقدار الخروج فإنّه مقدور إيجادا وإعداما بعد الدّخول وتصرّف عدواني ، وهو مطلقا محرّم ، لعموم ما دلّ على ، أنّه : «لا يجوز لأحد أنّ يتصرّف في ملك الغير إلّا بإذنه ولا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» وهذا المقدار من ترك الغصب وهو المعبّر عنه في كلماتهم بالتّخلّص عن عن الحرام وإن لم يسمّ بالواجب اصطلاحا ، إلّا أنّه لازم قطعا وإجماعا ، فلو كان الخروج مقدّمة له يجب تحصيله ، ضرورة أنّه لا اختصاص لوجوب المقدّمة بمقدّمة الواجب الاصطلاحي ، بل كلّ ما كان لازم شرعا وجوديّا كان أو عدميّا إن توقّف على مقدّمة يترشّح منه اللّزوم إليها ، إلّا إنّا نمنع المقدّميّة ، فإن الكون الخروجي مع الكون البقائي في الأرض المغضوبة متضادان ، وقضيّة التّضاد بين الشيئين كون نقيض أحدهما ملازما لعين الآخر حسبما بيّنا في مسألة الضّد ، فالكون البقائي وهو التّصرّف في الأرض المغصوبة زائدا على مقدار السّاعة ضدّ للخروج منها ، لن اختار الخروج يلزم وجودا عدم ذلك التّصرّف ، وإن اختار ذلك التّصرّف يلزم وجودا عدم الخروج عنها ، ولا مقدّميّة ولا ترتّب في البين في شىء من الطّرفين ،

٣٥٨

وإلّا يلزم الدّور على ما بيّناه في مسألة الضّد ، نعم ، الخروج عن الأرض المغصوبة مقدّمة للدّخول في غيرها ، وهو ضدّ للبقاء فيها ، وقد أثبتنا في مسألة الضّد أنّ وجود أحد الضّدين ليس مقدّمة لعدم الآخر ، فضلا عن مقدّماته ، وإلّا لزم الدّور المحقّق ، لأنّ مقدّمية ترك أحد الضّدّين لوجود الآخر مسلّم عند القائلين بحرمة الضّد من باب المقدّميّة ، فلو كان وجود الضّد أيضا مقدّمة لترك الآخر أيضا لزم الدّور ، والأمر في المقام هكذا ، فإنّ الدّخول في خارج الأرض المغصوبة إن كان مقدّمة لما هو اللازم أعني ترك الغصب زائدا على مقدار السّاعة مثلا وهو أيضا مقدّمة للدّخول في خارجها بناء على أنّ ترك أحد الضّدّين مقدّمة لوجود الآخر لزم الدّور ، أو لا بدّ من الالتزام بعدم لزوم ذلك التّصرّف ، أي الزّائد على السّاعة ، وهذا خلف.

وبالجملة ، ليس بين الخروج وبين ما هو متعلّق النّهي إلّا التّضاد ، وقد حققناه في مسألة الضّد أن النّسبة بين عين أحد الضدّين ونقيض الآخر ليس إلّا التلازم لا تقدّم ولا ترتّب في البين في شىء من الطّرفين ، ولذا أبطلنا القول باقتضاء الأمر بالشّىء النّهي عن ضدّه من باب المقدّميّة ، مع أنه لو سلّم المقدّميّة في طرف العدم بأن يكون عدم أحد الضّدين مقدّمة لفعل الآخر على ما ادعاه القائل بالاقتضاء من باب المقدّمية في مسألة الضّد لم يكن ما نحن فيه من هذا القبيل ، بل عكسه ، حيث أنّ المقدميّة المدّعاة فيه في طرف الوجود ، والالتزام بالمقدّميّة في كلا الطّرفين يستلزم الدّور ، وامتناع اختلاف المتلازمين في الحكم لا يقتضي أزيد من سقوط التّكليف الفعلي عن غير الأهمّ منهما لا ثبوت حكم الأهمّ لغيره أيضا ، وكما أنّ العقل عند تزاحم الواجبين المختلفين يلزمنا إلى تقديم الأهمّ ، كذلك يلزمنا عند

٣٥٩

تزاحم القبيحين والمحذورين إلى ما هو أهون وأخف وأقلّ ، مع عدم خروجه عمّا هو عليه من القبح والمحذوريّة ، إذ لا اختصاص للإلزام العقلي عند التّزاحم بين الأمرين بترجيح ما هو أكثر مصلحة من الآخر ، بل كما يلزم بذلك كذلك يلزم بترجيح ما هو أقلّ قبحا ومحذورا مع بقائه على ما هو عليه لو لا التّزاحم ، فيقع مبغوضا عليه ومستحقّا عليه العقاب إن كان بسوء الاختيار مع الزام العقل باختياره أيضا ، إرشادا إلى ذلك ، ولو ألزم الشّرع به أيضا كان إرشاديّا وتقريرا لما حكم به العقل لا مولويّا كما هو المدّعى. هذا على تقدير كون الخروج ملازما لما هو اللازم عقلا وشرعا ، أعني التّخلّص عن الحرام. وبعبارة الاخرى ، ترك الغصب زائدا على مقدار الخروج ، وهذا هو الحقّ والواقع ، وقد عرفت إنّه لا يقتضي إيجابه كما هو الحال في كلّ أمرين متلازمين يكون أحدهما واجبا فعلا ، ولو أغمضنا عن ما هو الحقّ وسلّمنا المقدّميّة نمنع ترشّح الوجوب إلى مثل هذه المقدّمة الّتي اختارها بسوء الاختيار ، إذ لو انقلبت حرمتها حينئذ لزم كونها معلّقة على إرادة المكلّف واختياره لغيرها وحرمته مع عدم اختياره لها ، وهذا واضح البطلان.

وربّما يستشكل بأنّه لو لم يكن الخروج واجبا لزم عدم صحّة الصّلاة حاله عند ضيق الوقت ، وهذا ممّا لا يلتزم به أحد.

ويضعف أوّلا : بالنّقض بما لو صلّى حال الدّخول في الدّار المغصوبة عند ضيق الوقت فإنّه مسلّم الحرمة مع أنّ الصّلاة فيها في ضيق الوقت صحيحة قطعا وبلا خلاف.

ثانيا : بأنّ الصّحة لا تلازم جواز الدّخول أو الخروج ، أمّا على القول بجواز الاجتماع أو لعدم اتّحاد الاكوان الغصبيّة مع الاكوان الصّلاتيّة فواضح ، وأمّا على

٣٦٠