غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

الرّابع : قد عرفت أن مفهوم المشتق أمر بسيط وجداني ينتزع من الذّات بملاحظة اتصافها وتلبسها بالمبدإ ، فلا بدّ في صدقه وجريه عليها من المغايرة بينها وبين المبدأ إلّا أنه لا يلزم وجودها بينها خارجا ومصداقا بأن يكون قيامه بها من قبيل قيام العرض أو العرضي بالجوهر بل تكفي المغايرة بينها مفهوما وإن كان قيامه بها وتلبسها به بنحو من الاتّحاد والعينيّة بإن لا يكون بينهما في الخارج اثنينيّة وما بحذائه منه غير الذّات ، بل يكون ما بحذائه عين الذات كعلمه تبارك وتعالى وقدرته وكرمه ووجوده ونحوها من مبادي صفاته الكماليّة والجلاليّة فإنها بناء على ما عليه أهل الحقّ من عينيتها مع ذاته المقدّسة ، ولذا كان كمال توحيد الذات نفي الصفات عنه بمعنى الالزام بانها ليست أمورا زائدة على ذاته المقدّسة خارجا ليست إلّا مغايرة مع ذاته تعالى مفهوما إلّا أن هذا المقدار من المغايرة بحسب المفهوميّة يكفي في صحة الاتصاف والتّلبس بها وإن كان من الامور الخفيّة عند أهل العرف بحسب أنظارهم القاصرة فإنهم لا يرون بها صحة التّلبس والاتصاف إلّا فيما إذا كان بين الموصوف والصّفة تغاير واثنينيّة ، وإما بأن تكون الصّفة عرضا أو عرضيّا قائما بالذّات بل تلبس ذاته المقدسة بمبادي صفاته الجلاليّة والكماليّة أقوى وأعلى من تلبس غيره الممكن بها فإن تلبسه تعالى بها بالعينيّة فهي واجبة بنفسها كذاته تعالى ، بخلاف تلبس غيره بها فإنه بالاثنينيّة ومن قبيل تلبس الممكن بالعرض أو العرضي الممكن ، أي قيام الواجب بالواجب بالعينيّة من قيام العرض أو العرضي الممكن بالممكن مع الاثنينيّة ولا يقدح في هذا عدم إدراك العرف مثل هذه الامور الخفيّة ، فإن نظرهم إنما يكون مرجعا ومتبعا في تعيين المفاهيم لا في تطبيقها على مصاديقها ، وعلى هذا يتضح أن ينتزع من ذاته الأقدس بملاحظة

١٤١

اتصافه وتلبسه بمفاهيم مثل العلم والقدرة والكرم والرّحمة ونحوها مفاهيم صفاته كالعالم والقادر والكريم والرّحيم ونحوها على نحو يصحّ انتزاعها من ساير الذّوات عند اتصافها وتلبسها بمثل العلم والقدرة ، فاطلاق العالم والقادر والكريم ونحوها وجريها عليه تعالى وعلى غيره بنحو الحقيقة من دون لزوم التزام بالنّقل أو التّجوز عند حملها عليه سبحانه كما توهّم صاحب الفصول «ره» بزعم أنه قضية المغايرة المعتبرة بين المبدأ وذي المبدأ اتفاقا لعدمها بناء على عينية ذاته وصفاته المقدّسة ، وذلك لأن المغايرة الّتي لا بدّ منها في صدق المشتق اتفاقا إنما هي المغايرة المفهومية لا المصداقيّة لعدم توقف صدقه عليها وعدم اتفاق على اعتبارها إن لم يكن اتفاق على عدم اعتبارها ، ومن الواضح أن مفهوم العلم مثلا غير ذاته المقدّسة وإن كان مصداقه فيه سبحانه عين ذاته بمعنى أنه ليس بحذائه شيء غير ذاته ، فالفرق بين مصداقه فيه سبحانه وبينه في غيره هو الفرق بين الواجب والممكن إلّا أن هذا الفرق غير فارق في صحّة انتزاع مفهوم المشتق أي العالم والقادر ونحوهما وجريه وحمله عليهما بلا تجوز أصلا ، ولما اشتبه عليه في هذه الصفات مفاهيم مباديها بمصاديقها ، ورأى أنّها في حقّه تعالى عين ذاته على العينيّة ، فلذا التزم بالنّقل أو التّجوز في إطلاقها عليه سبحانه فما في الفصول لا يخلو عن غفلة وذهول.

الخامس : وقع الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار المغايرة بين المبدأ وما يجري عليه المشتق في اعتبار قيام المبدأ بما يجري عليه وعدم اعتباره في صدق المشتق حقيقة على قولين ، واستدل للقول بعدم الاعتبار لصدق الضّارب والمؤلم مع عدم قيام الضّرب والألم إلّا بالمضروب والمؤلم بالفتح ، ولا يخفى ما في هذا الكلام من الذّهول عما هو المرام من قيام المبدأ بما يجري عليه المشتق في المقام ، ضرورة أن

١٤٢

قيامه به ممّا لا ينبغي الإشكال في اعتباره في صدق المشتق عليه ، إلّا أنه في كلّ مورد بحسبه لاختلاف أنحاء التّلبس بالمبدإ وقيامه بما يجري عليه المشتق بحسب مواد الصّيغ حيث أنّها قد تؤخذ على وجه الفعليّة والإنشائيّة أو الملكة أو الصّيغة ، وبحسب هيئاتها حيث أن التّلبس فيها قد يكون بنحو الصّدور منه كالضّارب والمؤلم وقد يكون بنحو الحلول فيه كالقائم والعالم ، وقد يكون بنحو الوقوع عليه كالمضروب والمؤلم وقد يكون بنحو الوقوع فيه زمانا أو مكانا كالمولد والمسجد وقد يكون بنحو اتخاذه آلة كالمقراض والمقياس ، وقد يكون بانتزاعه عن ما يجري عليه المشتق من الذّات مع اتّحاده معه خارجا كما في صفاته تعالى بناء على العينيّة كما تقدم ، وقد يكون بانتزاعه عنه مع عدم تحقق إلّا للمنتزع عنه كالابوة والفوقيّة والمالكيّة ونحوها من الإضافات والاعتبارات الّتي لا تكون بحذائها شيء في الخارج ولا تحقق لها إلّا بتحقق منشأ انتزاعها ، ويكون مفهوم المشتق المنتزع منها من قبيل الخارج المحمول ولا المحمول بالضّميمة ، والمراد بالقيام المعتبر في المقام ما يعمّ جميع هذه الأقسام فصدق المشتق فيها على نحو الحقيقة حتى صفات الله تعالى بناء على العينيّة لصدق التّلبس بالمبدإ وقيامه بما يجري عليه المشتق في الجميع على السّوية إذ لا موجب للالتزام بالنقل أو التّجوز في إطلاقها عليه سبحانه سوى ما تقدم عن صاحب الفصول «ره» من أن قضية اعتبار المغايرة بين المبدأ وما يجري عليه المشتق أن لا يكون جريها عليه تعالى على نحو الحقيقة لعدم المغايرة المعتبرة بينهما بناء على العينيّة ، وقد عرفت أنّه اشتبه عليه مصاديق مبادي الصّفات الجارية عليه تعالى بمفاهيمها إذ لا اتّحاد على القول به إلّا بين مصاديقها وبين ذاته الأقدس ضرورة المغايرة بينه تعالى وبين مفاهيمها ، وأن المغايرة المفهوميّة كافية وأنها

١٤٣

حاصلة لصحّة انتزاع مفاهيم مبادي الصّفات الجارية عليه تعالى كالواجب والعالم والقادر والموجود ونحوها من ذاته المقدّسة ، بل قد عرفت أن صدق التّلبس والقيام فيها فيه تعالى أعلى وأقوى ، وإن لم يكن كذلك بحسب أنظار العرف القاصرة عن إدراك أمثال هذه الامور الخفيّة لعدم العبرة بها إلّا في مقام تعيين المفاهيم لا في مقام تطبيقها على مصاديقها ، فيصح انتزاع مفاهيم مثل العالم والموجود والقادر ونحوها من صفاته المقدّسة على نحو انتزاعها من غيره عند تلبسه بمبادئها بمفاهيمها العامة ، ويكون إطلاقها عليه وعلى غيره بمفهوم فارد ومعنى واحد وإن اختلفا في ما يعتبر في صحّة الإطلاق والجري من الاتّحاد وكيفيّة التّلبس بالمبدإ وقيامه بما يجري عليه حيث أنه فيه تعالى بنحو العينيّة وفي غيره بنحو الحلول أو الصدور لأن هذا الاختلاف لا يصير منشأ لأن يكون المراد عند إطلاقها عليه تعالى غير مفاهيمها العامة كي يلزم الالتزام بما التزم به صاحب الفصول (قدس) من النقل أو التجوز فيها ، كيف ولو كان المراد بها غيرها لزم التعطيل في صفاته تعالى بمعنى ، عدم إرادة معنى وكون ذكر مثل يا عالم ويا قادر ونحوهما مجرد لقلقة اللّسان لأن غير تلك المفاهيم العامة الجارية على غيره سبحانه غير مفهوم ولا معلوم إلّا بما يقابلها فإذا قيل الله تعالى عالم إمّا أن يراد به أنه من ينكشف لديه الأشياء ، فهو ذلك المعنى العام ، ولو كان انكشافها لديه انكشافا حقيقيا عينيّا واجبا بخلاف انكشافها عند غيره فإنه ممكن عرضي قائم بالممكن إلّا أن هذا الاختلاف إنما هو بحسب الوجود الخارجي والمصداق لا بحسب المفهوم العام واختلاف مصاديقه بحسب علمه تعالى وعلم الملائكة والمرسلين وغيرهم لا يقتضي أن يكون المراد في كلّ مورد معنى ، وإمّا أن يراد به ما يقابله.

١٤٤

وبعبارة أخرى : ما يرادف الجهل فتعالى الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وإمّا أن لا يراد به شيء أصلا فيكون كما قلنا من كون ذكره مجرد لقلقة اللّسان ، والعجب أنه جعل ذلك علة لعدم صدقها في حق غيره وهو كما ترى (١) ضرورة صدقها على غيره بنحو الحقيقة.

فقد تحصل مما ذكرناه أن التّلبس بالمبدإ بجميع انحائه المتقدمة على حسب اختلاف الصّيغ والهيئات ممّا لا ينبغي الإشكال في اعتباره في صدق المشتق وهو المراد بقيام المبدأ بما يجري عليه المشتق ، ولا شبهة في حصوله بهذا المعنى في مثل الضارب والمؤلم قطعا ، ولو كان المراد به معنى آخر كما تخيله المستدل فلا ينبغي الإشكال في عدم اعتباره ، فانقدح لك مما ذكرناه ما في استدلال الجانبين على القولين من الخلل عصمنا الله تعالى من الزّلل في القول والعمل.

السّادس : قد عرفت أن تلبس الذّات بالمبدإ وقيامه بها مما لا ينبغي الإشكال في اعتباره في صدق المشتق وجريه عليها بنحو الحقيقة ، وهل يعتبر في صدقه عليها أيضا تلبسها به حقيقة وقيامها به من دون واسطة في العروض بأن يكون إسناده إليها إسنادا حقيقيا كاسناد الجري إلى الماء وإنبات البقل إلى الله تعالى فيلزم أن يكون إطلاق الجري وحمله على الميزاب مجازا ، وكذا المنبت على الرّبيع كما هو ظاهر الفصول ، بل صريحه ، أو يكفي التّلبس به مطلقا ولو مع الواسطة بأن يكون إسناده إليها إسنادا إلى غير ما هو له ومجازا عقليا ، الظّاهر هو الثّاني فإن محل الكلام في المقام هو المجاز في الكلمة أعني في مدلول هيئة المشتق لا في إسناد مبدئه إلى غير ما هو له ، والمشتق في مثل المثالين لم يستعمل بحسب مدلوله الهيئي إلّا في

__________________

(١) أقول غرضه أنه بذلك المعنى الخاص الجاري عليه تعالى لا يصدق في حق غيره لا بالمعنى العام فإنه ينكره. لمحرره.

١٤٥

معناه الحقيقي وإن كان مبدؤه مسندا إلى غير ما هو له بالاسناد والمجازي ، ولا ملازمة بين التّجوز من الجهة الثّانية وبينه من الجهة الاولى ، يمكن أن يكون الامر كذلك إلّا أن الظّاهر خلافه ، لعدم ما يلزم الواضع عليه في مقام الوضع إن هو إلّا من قبيل استعمال ضرب بمعنى قتل مثلا ، فإنه لا يوجب التّجوز في مدلوله الهيئي لعدم خروجه بذلك عن الماضوية ، وبالجملة التّجوز في إسناد المبدأ إلى الذّات الجاري عليها المشتق كالجريان والإنبات إلى الميزاب والرّبيع لا يستلزم التّجوز في إطلاق المشتق بما هو مشتق كالجاري والمنبت عليها لعدم خروجه حينئذ عن ما هو الموضوع له بحسب الهيئة ، وإن أمكن تقييده عند الوضع بعدم كون إسناد المبدأ إلى الذّات مجازيا إلّا أنه خلاف الظّاهر لعدم ملزم على التّقييد في البين ، ولا ملازمة بين التّجوزين يمكن التّفكيك بينهما كما لا يخفى ، وما وقع في الفصول فهو ناشئ عن الخلط بين المجاز في الإسناد وبينه في الكلمة ، وقد عرفت أن الثّاني هو محل الكلام في المقام دون الأوّل.

والحمد لله أولا وآخرا والصّلاة والسّلام على محمّد وآله ظاهرا وباطنا

أبدا دائما سرمدا.

* * *

١٤٦

أما المقاصد

ففي

بيان فصول

١٤٧
١٤٨

المقصد الأوّل

في الأوامر

وفيه فصول

١٤٩
١٥٠

الفصل الأوّل

فيما يتعلق بمادة الأمر والبحث فيه من جهات.

«الجهة الأوّل»

اعلم أنه لا شبهة في أن من معاني لفظ الأمر طلب الفعل كما يقال أمره بكذا أي طلبه منه ، ولكن ربما يذكر بمعان أخر

منها : الشأن كما يقال شغله أمر كذا.

ومنها : الفعل كما في قوله تعالى (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ.)

ومنها : الفعل العجيب كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا.)

ومنها : الشّيء كما تقول رأيت اليوم أمرا عجيبا.

ومنها : الحادثة.

ومنها : الغرض كما تقول جاء زيد لأمر كذا ، إلى غير ذلك ، من المعاني الّتي ذكروها له.

ولا يخفى إن عد كثير من هذه من معانيه اشتباه نشأ من اشتباه المصداق بالمفهوم ، لوضوح أن لفظ الامر في مثل جاء زيد لأمر كذا لم يستعمل في الغرض بل استعمل في مفهوم وهو صار غرضا الأمر آخر كالمجيء في المثال ، واستفادة الغرضية من اللام الظّاهرة في العليّة لمفهوم الأمر جعل مصداقا للغرض لا أنه مستعمل فيه ،

١٥١

وكذا لفظ الامر في مثل : فلمّا جاء أمرنا ، لم يستعمل في مفهوم الفعل العجيب بل استعمل في مفهوم وهو صار مصداقا للفعل العجيب خارجا ، وهكذا الحادثة والشّأن والمستعمل فيه في الجميع مفهوم الشّيء إلّا أن مصاديقه مختلفة بحسب الموارد وهذا الاختلاف لا يوجب تعدّد معانيه بحسبها.

وكيف كان لا شبهة في استعماله في الكتاب والسّنة في غير واحد من المعاني ولا أظن أنه يمكن إثبات كونه مشتركا بينها لفظا أو معنا أو حقيقة في بعضها ومجازا في غيره عرفا ولغة ، لأنه متوقف على اعتبار المرجحات الّتي ذكروها عند تعارض هذه الأحوال وسلامة ما أريد التّرجيح به من المعارضة بالمثل في المجال ، وقد تقدم في باب تعارض الأحوال أن المرجحات المذكورة فيه لا دليل على اعتبارها ما لم يوجب ظهورا للفظ بحيث يصحّ استناده إليه ولو بمعونة القرينة الحاليّة أو المقاليّة ، ولا يخفى أن كلّ ما أريد التّرجيح به في المقام لو سلم عدم معارضته بمثله لا يوجب هذا النّحو من الظّهور للكلام ، فلا بدّ في مقام العمل من الرّجوع إلى الاصول العمليّة. نعم لو علم ظهور لفظ الامر في أحد المعاني وإن لم يعلم كونه وضعيا ، بل احتمل كونه إطلاقيا تعين حمله عليه عند الإطلاق ولا يبعد أن يكون كذلك في المعنى الأوّل.

«الجهة الثّانية»

الظّاهر أنه يعتبر في صدق الامر بجميع ما يشتق منه صدور الطّلب من العالي ولا يعتبر فيه أن يكون مستعليا في طلبه فإن الظّاهر بل المقطوع به أنه في اللغة العربيّة مرادف ل (فرمودن) بجميع مشتقاته في اللغة الفارسيّة ، والظّاهر فيه اعتبار العلو فيه دون الاستعلاء.

١٥٢

نعم قد يستعمل هذا اللّفظ في الفارسيّة في مقام التّعارف والتّأدب ولا يكون فيه علو ، بل ولا طلب واستعلاء ، ولذا يستعمل في مقام الإخبار دون الإنشاء ، ولكن الظّاهر أنه على خلاف معناه الحقيقي ، فكذلك في لفظة الامر بجميع ما يشتق منه ، فلا يكون الطّلب من السّافل والمساوي ، وإن كان مستعليا في خطابه وطلبه أمرا بل التماس أو دعاء ولو أطلق عليه الأمر كان من باب المجاز والعناية في الإسناد أو في الكلمة لانّه بعد الاستعلاء يكون طلبه شبيها بالامر ، فيصح أن يطلق عليه بعلاقة المشابهة ، كما أن الطّلب من العالي يصدق عليه أنّه أمر ، وعليه أنّه أمر وإن كان مستخفضا بجناحه ، ولو أطلق عليه الالتماس أو الدّعاء حينئذ كان مجازا في الإسناد أو في الكلمة نظير ما لو كان الدّاني أو المساوي مستعليا في طلبه.

وأمّا احتمال اعتبار أحد الأمرين من كون الطّالب عاليا أو مستعليا إن لم يكن كذلك في صدق الامر على طلبه فضعيف جدا ، لصحة سلب الامر عن طلب الدّاني ، وإن كان مستعليا فيه وتقبيحه وتوبيخه بمثل أنك لم تأمره إنّما هو على استعلائه عليه حقيقة لا على أمره بعد استعلائه وإطلاق الأمر على طلبه بحسب ما هو قضية استعلائه لأنه بواسطته يصير شبيها بالأمر ، فهو بنحو العلاية لا على وجه الحقيقة.

«الجهة الثّالثة»

الظّاهر كون لفظ الأمر حقيقة في خصوص الطّلب الإيجابي لا مشترك بينه وبين الاستحبابي لفظا أو معنا لانسباقه عنه عند إطلاقه وصحة احتجاج المولى على عبده ومؤاخذته إياه وتوبيخه العقلاء على مخالفته مطلق أمر المولى كما في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ،) ويؤيده بل يدلّ عليه قوله تعالى

١٥٣

(فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) حيث أن ظاهره أن مخالفة مطلق أمره لا خصوص قسم منه علّة لوجوب التّحذر عن إصابة الفتنة فيكشف عن كون مطلق الأمر أي ما لم يكن محفوفا بقرينة حقيقة في الوجوب ، ضرورة أنه لو كان مشتركا فيه وبين غيره لفظا أو معنا لم يكن مخالفة مطلقة ـ كما هو قضية إطلاق الآية الشريفة ـ علّة لوجوب التّحذر عن الفتنة كما لا يخفى وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسّواك» فإن ظاهره أن عدم الأمر إنّما كان لمجيء المشقة ولزوم الكلفة فيكشف عن أن الأمر كلّما يوجد يستلزم المشقة ، وهذا معنى الوجوب. وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبريرة بعد أن اراد منها الرّجوع إلى زوجها وقالت له : أتأمرني يا رسول الله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا بل إنّما أنا شافع» حيث أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل الشّفاعة قسيما للأمر فيكشف عن كون مدلول الأمر معنا ليس في الشّفاعة وليس إلّا الوجوب. الى غير ذلك من الأخبار الّتي استدل بها في المقام فكلّما ورد لفظ الأمر مطلقا في الكلام يحمل على الطّلب الحتمي والالزام.

«الجهة الرّابعة»

لا يخفى أن لفظ الطّلب يطلق على أمرين :

أحدهما : ما يكون من مقولة الكيف في حقّ أمثالنا وعين الذّات في حقّه تعالى وهو الطلب الحقيقي الواقعي القائم بالنّفس الذي يحمل عليه الطّلب بالحمل الشّائع الصّناعي.

وثانيهما ، ما يكون من مقولة الفعل وهو الطّلب الإنشائي الايقاعي الذي لا

١٥٤

يكون بالحمل الشّائع الصّناعي طلبا مطلقا بل طلبا إنشائيّا وإنشاء طلب ، وربّما يكون الأوّل داعيا ومحركا على الثّاني إلّا أنه لا تلازم بينهما ، فقد يوجد الأوّل خاصّة ، وهذا ممّا لا إشكال فيه ، وقد يوجد الثّاني كذلك كما في الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة إذ ليس فيها طلب جدّي حقيقي وحب نفساني. والظّاهر أن الطّلب الذي يتبادر من لفظ الأمر وصفا أو انصرافا على احتمال تقدمه هو المعنى الثّاني ، إذ مع وجود الاوّل دونه لا يصدق الأمر ، وعلى من وجد فيه الطّلب النّفسي الواقعي أنه أمر ، بل يصحّ سلبهما عنهما ، ولكن مع وجود الثّاني أعني الطّلب الانشائي يصدق الأمر وعلى المنشئ أنه آمر ، وإن لم يكن فيه طلب حقيقي جدي وحبّ نفساني. نعم لا فرق في صدقه على الطّلب الانشائي بين كونه منشأ بصيغة افعل وما في معناه من اسم الفعل أو بمادة الطّلب أو بمادة الأمر كلفظ أطلب أو آمر ونحوهما ممّا يشتق منهما إذا صدرت في مقام الطّلب والإنشاء لا في مقام الأخبار وكذا غيرها كذلك ، والظّاهر أن لفظ الطّلب أيضا كذلك فإنه كثيرا ما يستعمل في الطّلب الانشائي بحيث ينصرف إليه عند إطلاقه ، ولكن لفظ الارادة على عكس ذلك فإنها أيضا تطلق على الطّلب الحقيقي وعلى الطّلب الانشائي إلّا أنها ظاهرة في المعنى الأوّل لكثرة استعمالها في الطّلب الحقيقي بحيث تنصرف إليه عند إطلاقها ، ولعل هذا الاختلاف بين لفظي الطّلب والإرادة النّاشئ من انصراف كلّ منهما إلى أحد المعنيين دعا بعض أصحابنا وألجأه إلى الميل إلى ما ذهب إليه الاشاعرة من المغايرة بينهما خلافا لما عليه أهل الحقّ قاطبة والمعتزلة من اتّحادهما ، ولمّا انجر الكلام إلى هذا المقام فلا بأس بتحقيق القول فيه على وجه ترتفع به غواشي الاوهام.

فنقول : اختلفوا في أن الطّلب هل هو عين الإرادة أو غيرها؟ ذهب أصحابنا

١٥٥

وجمهور المعتزلة إلى الاوّل والاشاعرة إلى الثّاني ، والحقّ هو الاوّل. ولا يخفى أنه ليس المراد باتّحادهما أن لفظيهما موضوعان لمفهومين يوجدان بوجود واحد ، بمعنى أن مصداقهما متّحد ، بل المراد به أن لفظيهما موضوعان بازاء مفهوم واحد كلّي وله وجودان تارة يقوم بالنّفس وأخرى ينشأ باللّفظ وإن لم يكن مسبوقا بوجود له في النّفس كما في الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة. وكلّ من هذين الوجودين من مراتب وجود ذلك المعنى العام الذي لو تصوره العقل بعمومه يحمل عليه الطّلب بالحمل الذّاتي الاولي ، فإنه بلحاظ تصوره الذّهني وإن كان يصير جزئيّا ذهنيّا ، ضرورة أنه بهذا اللّحاظ لا يصدق على سائر الصور الذّهنية ، إلّا أنه مع هذا لا يخرج عن عمومه أيضا ، فهو ذلك المعنى العام البرزخ بين المرتبتين ، الطّلب الانشائي أي اللّفظ الذي قصد به انشاء الطّلب وإيقاعه خارجا فإنه ليس بطلب حقيقة وجزئيّا من ذلك المعنى العام بل منشأ له خارجا ، فالمنشأ به جزئي منه لا هو نفسه ، ولذا قلنا في صدر المسألة إن الطّلب لا يصح أن يحمل عليه بالحمل الشّائع الصّناعي إلّا مقيدا بالانشائي بأن يقال : أن هذا اللّفظ طلب إنشائي وانشاء طلب وله أثار تختص به قد يكون سببا لاستحقاق العقاب أو الثّواب على مخالفته أو موافقته ، كما إذا صدر من المولى إلى عبده فإنه يوجب استحقاقهما عليهما وقد يكون سببا لآثار أخر ، كما إذا صدر من غير المولى فإنه لا يؤثر حينئذ وجوبا على المطلوب منه يترتب عليه آثار الدّعاء أو الالتماس ، كما أن للطّلب الحقيقي أيضا آثار تختص به قد يكون سببا لوجود الطّلب الانشائي وداعيا عليه ، وكيف كان ليس المراد بالاتحاد والعينيّة أن هذا الطلب الانشائي الذي عرفت أن لفظ الطّلب ينصرف إليه متّحد مع الارادة الحقيقية الّتي عرفت أيضا أن لفظ الارادة تنصرف

١٥٦

إليه ، ضرورة أنّهما متغايران أي اللّفظ المنشأ للطّلب خارجا من معنى الطّلب القائم بالنّفس ليست هذه المغايرة بينهما إلّا عين المغايرة بين كلّ مرتبة من مرتبتين الارادة والطّلب مع مرتبته الاخرى كما لا يخفى ، فلو اريد قياس الطّلب إلى الارادة وإثبات نسبة أحدهما إلى الآخر بالمغايرة أو العينيّة فلا بدّ من حفظ مرتبة واحدة في كلّ منهما ، ثمّ يقاس أحدهما إلى الآخر ، ونحن نقول : إذا لوحظا كذلك فهما متحدان مفهوما وإن ما بحذاء أحدهما في الخارج وهو الطّلب الحقيقي القائم بالنّفس عين ما بحذاء الآخر أي الارادة الحقيقية ، وإن الطّلب المنشأ بلفظه أو بغيره عين الارادة الانشائيّة ، فالمدعى إنّهما متّحدان مفهوما ومصداقا وإنشاء ، والدّليل على ما ذكرناه الوجدان عند طلب شيء ، والأمر به حقيقة من دون حاجة إلى مزيد تبيان وإقامة برهان ، فإن الانسان إذا راجع إلى نفسه عند ذلك لا يجد فيها ما وراء الارادة القائمة بها ومباديها من الصّفات المعروفة الّتي تكون مبادي لكلّ فعل اختياري وهي تصور الشّيء وفائدته ، ثمّ التّصديق وهو الجزم بدفع ما يوجب توقفه عن طلبه لأجلها ، ثمّ الميل إليه ، ثمّ هيجان الرّغبة إليه صفة أخرى قائمة بها كي يقال أنها الطّلب ، فلا بد من الالتزام بأن تلك الإرادة وحقيقتها عبارة عن الشّوق المؤكد النّاشئ عن الصّفات المعروفة المستتبع لتحريك العضلات نحو المطلوب ، إن كان من أفعال نفسه أو لأمر عبده به وبعثه وتحريكه نحوه ، إن كان من أفعاله عين الطّلب وحقيقته ، فذلك الشّوق مسمى بهما يعبر عنه بالطّلب تارة وبالإرادة أخرى.

وكذا الحال في سائر الصّيغ الانشائيّة والجمل الجزئيّة ، فإن الإنسان بعد مراجعة وجدانه فيها لا يرى في نفسه غير حقائق معانيها من التّمني والتّرجي والاستفهام والعلم بثبوت النّسبة بين طرفها أو بينها صفة أخرى قائمة بها تكون مدلولا عليها

١٥٧

بالكلام اللّفظي ، كي يقال أنّها هي الكلام المعني. ،

وممّا ذكرناه : يتبين لك فساد استدلال الأشاعرة على المغايرة بالأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة حيث أنّها مشتملة على الطّلب دون الارادة ، فتكشف عن كونها غير الطّلب وإلّا كيف تتخلف عنه؟! توضيح الفساد أن الطّلب الذي نلتزم بوجوده فيها إنّما هو الطّلب الإنشائي الإيقاعي الذي هو مدلول الصّيغة أو المادة ، والإرادة الّتي نلتزم بعدم وجودها فيه إنّما هي الارادة الحقيقية ، وكما أنه لا إرادة حقيقية فيها ، كذلك لا طلب حقيقيا فيها ، وكما أن فيها طلبا إنشائيّا كذلك فيها إرادة إنشائيّة ، فإن أراد المستدل إثبات المغايرة بين الحقيقتين منهما بدعواه وجود الطّلب الحقيقي منها دون الارادة الحقيقية فهو ممنوع.

وإن أراد إثبات المغايرة بين الطّلب الانشائي وبين الإرادة الحقيقية فقد عرفت إنّها غير قابلة للإنكار وأظهر من الشّمس في رابعة النّهار ، وكما أنّها ثابتة بينهما ، كذلك ثابتة بين كلّ مرتبة من مرتبتي الإرادة والطلب مع مرتبة الاخرى وبين الطّلب الحقيقي والإرادة الإنشائيّة ، وإن ما هو كلّ الإنكار من المغايرة إنما هو فما إذا أخذت مرتبة واحدة من المفهوم أو المصداق أو الإنشاء ، ثمّ يقاس أحدهما إلى الآخر بتلك المرتبة ، وليس في الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة ولا في غيرها ما يدّل على المغايرة بينهما مفهوما أو مصداقا أو إنشاء ، نعم لو كان مراد الأشاعرة باستدلالهم إثبات المغايرة بين الطّلب الإنشائي وبين الإرادة الحقيقية لا مطلقا ، ويؤيده انصراف لفظ الطّلب إلى الأوّل والإرادة إلى الثّانية كما تقدم آنفا ، فالحقّ معهم ، كما أن مدعي الاصحاب والمعتزلة لو كان ما ذكرناه من الاتّحاد والعينيّة مفهوما ومصداقا وإنشاء كما هو صريح بعض كلماتهم واستدلالاتهم ، ويؤيده بل يدل

١٥٨

عليه قرينة المقابلة فإنها ظاهرة في إرادة مرتبة واحدة وحفظها في محلّ النّزاع والمخاصمة ، فالحقّ أيضا معهم ، وبهذا النّحو يمكن إيقاع الصّلح بين الطّرفين ورفع النّزاع من البين لتوارد النّفي والإثبات على موردين فيكون النّزاع لفظيا بين الفرقتين ، إلّا أن الظّاهر أن هذا مجرد إمكان عقلي والواقع خلافه لأن المسألة من جزئيات مسألة الكلام النّفسي وهو عند الأشاعرة القائلين بثبوته معنى قائم بالنّفس مدلول عليه باللّفظ مطلقا في جميع الجمل الأخبارية والإنشائيّة حتّى ما كان منها من قبيل الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة وأمر وراء علم المتكلّم بمضمون القضيّة اللفظيّة في الجمل الاخبارية ووراء الارادة الحقيقية في الجمل الانشائيّة مطلقا ، وهو المسمى عندهم فيها بالطّلب واقتضاء الفعل ، ولذا التزموا بوجود فيهما دون الارادة في الأوامر الامتحانيّة والاعتذاريّة ، ومن الواضح أنه لو صحّحنا كلامهم في المسألة بحمله على ما ذكرنا صارت أجنبيّة عن مسألة الكلام النّفسي وخرجت عن كونها من جزئياتها ، ومع الالتزام بذلك ننقل الكلام معهم في تلك المسألة.

إشكال ودفع

أمّا الإشكال : فهو أن الطّلب إذا كان عين الارادة لزم أن لا يتخلف طلبه سبحانه وتعالى عن مراده لاستحالة التّفكيك بين إرادته ومراده لأنّه إذا أراد أن شيئا ويقول له كن فيكون ، والتّالي فاسد لأنا نرى كثيرا بالوجدان صدور الكفر والعصيان مع أن المطلوب ليس إلّا الاطاعة والايمان ، وبعبارة أخرى لو كان الطّلب عين الإرادة لزم عدم صدور معصية مطلقا عن المكلّفين لأنّها خلاف المطلوب

١٥٩

منهم مع أنا نجدهم كثير ما عاصين بالجوانح والجنان أو بالجوارح والأركان ، فلا بدّ من الالتزام إمّا بنفي التّكليف بالمرّة عن العاصين مطلقا ، وهذا خلاف المفروض ، أو ببقائه بمعنى الطّلب في حقّهم دون الإرادة وهذا مذهب الأشاعرة.

وأمّا الدفع : فهو أن هذه مغالطة قد أشرنا إلى فسادها فيما تقدم ، وتوضيحه أنه ليس المراد بالاتّحاد اتحاد الطّلب الحقيقي مع الإرادة الحقيقية الّتي يستحيل تخلفها عن المراد ، بل المراد اتحاده مع الإرادة الحقيقية الّتي يمكن تخلفها عن المراد ، وذلك لأن الإرادة على قسمين : إرادة تكوينيّة ، وهي عبارة عن علمه تعالى بالصّلاح العام والنّظام الكلّي الاحسن السّاري في جميع الكائنات على الوجه الكامل التّام الذي لا يتصور منه أحسن النّظام ، وهذا غير قابل للتّخلف عن المراد مطلقا ، وإن تعلق بمثل الكفر أو الايمان أو بالاطاعة أو العصيان. وإرادة تشريعيّة ، وهي عبارة عن علمه تعالى بالمصلحة في فعل المكلف أو نفس التّكليف أو أحدهما بناء على تبعيّة التّكليف لها على الخلاف في تلك المسألة ، فإن القائل بالتّبعيّة مختلفون في أنه هل يعتبر وجود المصلحة في فعل المكلف أو في نفس التّكليف أو يكفي وجودها في أحدهما ، ولسنا هنا بصدد تحقيقها ، وعلى أي تقدير الارادة الّتي لا بد منها في التّكليف ونقول بأنها على الطّلب هي الثّانية دون الاولى.

ولا يتوهّم : أنّه لو كانت الإرادة التّشريعية عبارة عن العلم بالمصلحة والإرادة التّكوينيّة عبارة عن العلم بالنّظام الأحسن وكلّ منهما نحو من العلم ، فيلزم أن يكون في حقّه تعالى علمان ولا يتصور التّعدد في علمه لانّه عين ذاته المقدّسة ، وذلك لأن تعدّد العلوم في حقّه إنّما هو في طرف المعلوم وباعتباره لا في طرف العلم في نفسه باعتبار وجوده في الخارج ، فإنه باعتباره عين وجوده خارجا ، وهو بسيط

١٦٠