غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

ومجمعا لمصلحتين مختلفين في اقتضاء الإيجاب والاستحباب ، أحدهما مصلحة النّهي عن الفحشاء مثلا الّتي تكون في جميع أفراد الصّلاة ، والاخرى مصلحة إيقاع الفعل في أوّل الوقت مثلا ، فلا محاله يصير أفضل الأفراد بهذا المعنى كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثّاني : فالكلام فيه تارة في مقام الثّبوت واخرى في مقام الإثبات.

أمّا الأوّل : فلا شبهة في أن الواجب الموقت يمكن أن يكون تقييده بالوقت تقييدا لبعض مراتب طلبه بحيث يكون وجوبه في الوقت من قبيل تعدّد المطلوب بأن يكون أصل فعله مطلوبا مطلقا في الوقت وخارجه ، كما في الصّلاة مثلا حيث ورد إنّها لا تترك على كلّ حال ، ولكن يكون مرتبة تمام المطلوب منه مقيدة بوجوده في الوقت الذي عين له ، فإن فات ذلك المؤقت في وقته عذرا أو فوته عليه عصيانا لزم عليه فعله في خارجه ، لأنّه قضيّة أصل مطلوبيته ، ويمكن أن يكون تقييده بالوقت تقييدا لتمام مرتبة طلبه بحيث يكون وجوبه في الوقت من قبيل وحدة المطلوب بأن يكون أصل مطلوبيته وتمام مرتبته مقيدا بفعله في الوقت ، فإذا فات في وقته اضطرارا أو فوته عليه اختيارا لا يلزم فعله في خارجه ، فالموقت بحسب الواقع ومقام الثّبوت يتصور فيه القسمان.

أمّا الثّاني : فالتّحقيق فيه أنه لا دلالة لدليل المؤقت على وجوب فعله في خارج الوقت بشيء من الدّلالات ، أمّا المطابقة فواضح وكذا الالتزام ، إذ عرفت إن المؤقت في مقام الثّبوت يتصور فيه القسمان ، وأمّا التّضمن فلأنّه يتوقف على دلالة مثل قوله : «أقم الصّلاة» في وقت كذا ، على إيجاب فعلها مطلقا بأن يكون أصل وجودها مطلقا مطلوبا ، وعلى إيجاب فعلها في الوقت خصوصا بأن يكون وجودها فيه مرتبة تمام المطلوب منها للأصل المطلوب وتمام مرتبته ومن الواضح أنّه لا دلالة له

٢٨١

على ذلك ، نعم إذا كان التّقييد بالوقت ثابتا بدليل منفصل بأن كان دليلان تكفل أحدهما لبيان أصل وجوب الفعل ، وثانيهما لبيان وجوبه في وقت معين كقوله تعالى (أَقِيمُوا الصَّلاةَ ...) وقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) أمكن إيجاب القضاء حينئذ بدليل المؤقت بشرطين :

أحدهما : أن يكون له إطلاق بحسب الأحوال إذ لو كان له إهمال أو إجمال يكون الدّليل المقيد رافعا لإبهامه ومبينا لإجماله.

وثانيهما : أن يكون الدّليل المقيد إمّا نصا في أن وجود الفعل في الوقت تمام المطلوب بمعنى أن يكون هذا المعنى لا أزيد تمام مدلوله أو مهملا أو مجملا من هذه الجهة فيقيد هذا المعنى أيضا من باب أنّه القدر المتيقن من مدلوله لوضوح أنّه عند حصول الشّرطين لا مانع من التّمسك لإثبات وجوب القضاء بإطلاق دليل الأداء أي الدّليل الأوّل كما لا يخفى.

فإذن تحقق ممّا ذكرنا أن وجوب القضاء إنما يثبت بأمر جديد وليس تابعا للأداء ، إلّا في بعض الفروض هذا بحسب الدّليل.

أمّا بحسب الأصل فهل يمكن إثبات القضاء باستصحاب الوجوب بعد خروج الوقت أم لا؟

التّحقيق أن يقال : أن اريد استصحاب نفس الوجوب الخاص الثّابت في الوقت في خارجه كاستصحاب وجوب صلاة الظّهر مثلا بعد الغروب فهو لا يصحّ إلّا بتسامح العرف وعدّهم الصّلاة في خارج الوقت عين الصّلاة المؤقتة به بحيث يكون وجوبها وعدمه في خارجه في نظرهم بقاء لوجوبها الثّابت سابقا فيه وارتفاعا له ، وهذا مشكل جدا ، وليس هذا نظير استصحاب الظّهر مثلا في وقته إذا

٢٨٢

شك فيه ، كما لو شكّ يوم الجمعة في أن الواجب فيه هل هو الظّهر أو الجمعة ، فإن الصّلاة في وقتها لا تختلف عرفا بحسب الأيّام فلا مانع من استصحاب وجوب الظّهر الثّابت في سائر الأيّام يوم الجمعة ، بخلاف المقام لاختلاف الموضوع والقضية فيه ، ومعه لا مجال لجريان الاستصحاب كما هو واضح ، وإن اريد استصحاب مطلق بالوجوب لا الوجوب الخاص فالظّاهر أنّه من قبيل القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي ، وهو ما لو أحتمل حدوث فرد من كلّي مقارنا لارتفاع فرد آخر منه ، لأنّ الوجوب الخاص الثّابت في الوقت بعد خروجه قطعي الارتفاع ، ولكن يحتمل حدوث فرد آخر من مطلق الوجوب مقارنا لارتفاع ذلك الفرد الخاص منه ، فيكون من قبيل القسم الثّالث من استصحاب الكلّي ، وقد حققنا في بابه أنه لا مجال لجريانه فيه إلّا في بعض الصّور الّتي لا يكون المقام منها.

وربّما يتوهّم : أن استصحاب الكلّي في المقام من قبيل القسم الثّاني منه ، وهو ما لو تردّد الفرد الموجود في ضمنه الكلّي سابقا بين ما هو باق في زمان الشكّ قطعا وبين ما هو مرتفع فيه كذلك ، بدعوى أن كلّي الوجوب له فردان ، الوجوب الخاص أي الموقت بالوقت وهو قطعي الارتفاع بعد خروجه ، والوجوب المطلق الذي يبقى بعد خروج الوقت ، وكلّ من الوجوبين محتمل في المقام ، فيكون استصحاب كلّي الوجوب فيه من قبيل القسم الثّاني من استصحاب الكلّي ، والحقّ جريان الأصل فيه.

ويضعّف : بإن المتيقن السّابق ليس إلّا الوجوب الخاص أي المؤقت بالوقت ، لأن الوجوب فيه وإن كان من قبيل تعدّد المطلوب إلّا أن الموجود من مطلق الوجوب فيه فعلا ليس إلّا فرد واحد لامتناع اجتماع المثلين كالضّدين ، وليس هو

٢٨٣

إلّا الوجوب الخاص قطعا ، فلو شك في الوجوب بعد خروج الوقت كان من قبيل الشكّ في حدوث فرد من الوجوب مقارنا لارتفاع فرد آخر منه ، فيكون استصحاب مطلق الوجوب حينئذ من قبيل القسم الثّالث من استصحاب الكلّي.

وأقول : سلّمنا أنّه لو كان الوجوب في الوقت من قبيل تعدّد المطلوب كان مرجعه إلى اجتماع وجوبين في موردين لا مورد واحد ، لأن وجود الفعل في الوقت وإن كان واحدا إلّا أنّه بحسب التّحليل العقلي يكون مركبا من أصل وجوده وخصوصيّة فيه ، وهو كونه في الوقت الخاص وكلّ منهما متعلق طلب على حده وإن أجمعا في الوقت ، ولذا لو لم يأت به في الوقت وأتى فى خارجه لم يستحق إلّا عقوبة مخالفة تركه في الوقت لا أصل تركه ، إلّا أنا نقول : مع هذا لا يكون إلّا قسم آخر من قسيمي الثّالث من استصحاب الكلّي ، وهو ما لو أحتمل وجود فرد من كلّي مقارنا لوجود فرد آخر منه علم بارتفاعه ، يبقى ذلك الفرد بعد ارتفاع الآخر ، وذلك لأن أحد الفردين من كلّي الوجوب الذي كان قطعي الوجود في الوقت وهو الوجوب الخاص قطعي الارتفاع بعد خروج الوقت والفرد الآخر منه في الوقت وهو وجوب مطلق الفعل وإن كان لو فرض حدوثه فيه كان قطعي البقاء في زمان الشك إلّا أنّه مشكوك الحدوث سابقا والأصل عدمه ، ولذا قلنا بعدم جريان استصحاب الكلّي في القسمين من استصحاب الكلّي في القسم الثّالث.

وبالجملة إن لم يكن الأصل فيما نحن فيه من قبيل القسم الأوّل كان من قبيل الثّاني ، والحقّ عدم جريان الأصل في كليهما لأنّهما من القسم الثّالث من استصحاب الكلّي ، والحقّ عدم الأصل فيه أصلا إلّا في بعض الصّور الّتي لا يكون المقام منها كما لا يخفى.

* * *

٢٨٤

الفصل الثّاني عشر

هل الأمر بشيء أمر بذلك الشّيء

هل الأمر بالأمر بشيء كقوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وكقوله (ع) خطابا لأولياء الصّبيان : «مروهم بالصّلاة وهم أبناء سبع» أمر بذلك الشّيء فيجب على المأمور الثّاني قبل ذلك الشّيء لو اطلع على ذلك الأمر وإن لم يامر به المأمور الأوّل لأنّه مأمور به من قبل الآمر الأوّل ، وقد اطلع على أمره فيجب عليه فعله ، ولو أمره به المأمور الأوّل وعصاه كان هذا عصيانا للآمر الأوّل ابتداء لا من حيث رجوع عصيان الأمر الثّاني إلى الأوّل ، إذ ليس بأمر بذلك الشّيء ، فلا يجب فعله على المأمور الثّاني ما لم يأمر به المأمور الأوّل ، ولو أمره به وعصاه لم يكن عصيانا للأمر الأوّل ، إلّا من جهة رجوع عصيان الأمر الثّاني إلى الأوّل ، فيه خلاف ، ولا يخفى أنّه في مقام الثّبوت يتصوّر فيه وجهان ، قد يتعلق غرض الآمر الأوّل بصدور ذلك الفعل من المأمور الثّاني ، فيكون الأمر به حينئذ من المأمور الأوّل توسيطا وتبليغا للأمر الأوّل كما هو المتعارف في أمر الله سبحانه وتعالى أنبيائه ورسله بأمر أممهم ونهيهم لا بتبليغ أمره تعالى إليهم ، إذ لا شبهة في أن الأمر ، تبليغ الأمر إلى أحد أمر عليه ، وهذا خارج عن محلّ النّزاع. وأمر الأمراء

٢٨٥

وزرائهم بأمر رعاياهم ونهيهم ، فيكون على هذا التّقدير مثل قوله تعالى : (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أمر منه تعالى حقيقة بالمعروف ونهيا عن المنكر ، والحكمة في إنشاء الأمر هكذا وعدم توجيهه الى المأمورين ابتداء ، إمّا عدم لياقتهم المخاطبة الآمر الأوّل ، أو قصور أفهامهم عن إدراك أحكامهم ابتداء وبدون توسيط الأمر من المأمور الثّاني ، وقد يتعلق الغرض بنفس صدور الأمر من المأمور به لأنّه من أفعاله ، كما أنه يمكن تعلق الغرض بسائر أفعاله يمكن تعلق الغرض بهذا الفعل بنفسه منه سواء لم يتعلق غرض بصدور الفعل المأمور به أصلا أو تعلق به أيضا لكن لا مطلقا ، بل بعد صدور الأمر به من المأمور به ، ومن الواضح أن الأمر بالأمر بشيء أمر به في الفرض الأوّل دون الثّاني.

وأمّا في مقام الأثبات والدّلالة : فحيث أن الغالب هو القسم الأوّل فلا يبعد القول بأن الأمر بالأمر بشيء أمر به ، ولو منع من الغلبة فاستفادة أحد القسمين محتاجة إلى قرينة اخرى.

* * *

٢٨٦

الفصل الثّالث عشر

الأمر بالشّيء أوّلا

قبل امتثاله وبلا قرينة

هل يقتضي تكرار ذلك الشّيء ووجوبه ثانيا

إذا أمر بما أمر به أوّلا قبل امتثاله ولم يكن معه قرينة ، فهل يقتضي تكرار ذلك الشّيء ووجوبه ثانيا ، أو تأكيد الأمر الأوّل والبعث الحاصل ، فيه خلاف وإشكال ، منشؤه أن تأسيس الطّلب المقتضي للتّكرار متوقف على تصرف في مادة الطّلب أعني متعلق الأمر ، ضرورة أن الطّبيعة الواحدة المرسلة المبهمة لا يمكن أن يتعلق بها إيجابان فعليان بحيث يكون كلّ واحد منهما بعثا إليها على حدّه ، لاستحالة اجتماع المثلين كالضّدين ، فلا بدّ في ذلك من تقييد مادة الطّلب بمثل مرّة اخرى كي يقتضي إيجابها ثانيا ويكون بعثا إلى فعلها مكررا ، وإن تأكيد الطّلب وإن كان لا يتوقف على تصرف وتجوز في الأمر الثّاني لا بمادته ولا بهيئته ، إلّا أنّه أيضا خلاف إطلاق الهيئة ، لأن الطّلب الإنشائي حيث ما يطلق ظاهر في أنه إنّما أنشئ بداعي

٢٨٧

البعث إلى الفعل لا التّأكيد ، ولا يبعد أن يقال أن الأمر إذا كان مسبوقا بمثله ولم يذكر هناك سبب ، أو ذكر سبب واحد كان ظاهرا في أن الدّاعي على إنشائه هو التّأكيد دون التّأسيس.

* * *

٢٨٨

المقصد الثّاني

في النّواهي

وفيه فصول

٢٨٩
٢٩٠

الفصل الاوّل

النّهي بمادته وصيغته كالأمر

الظّاهر بل المقطوع به إن النّهي بمادته وصيغته كالأمر كذلك وإن كان متعلق الطّلب في الثّاني هو الوجود وفي الأوّل العدم ، فكل خلاف وقع في مادة الأمر من الجهات الّتي تقدم فيها أتت في مادة النّهي أيضا ، والمختار المختار ، فيعتبر فيها علو النّاهي لا مع استعلائه ، ولا يكفي مجرّده إن لم يكن عاليا على حذو ما تقدم في مادة الأمر ، ويكون المنسبق منها وضعا أو انصرافا طلب التّرك على وجه الحتم واللّزوم نظير طلب الفعل المنسبق من مادة الأمر وطلب التّرك المنسبق منها هو الطّلب الإنشائي مطلقا سواء ، أنشئ بها أو بمادة اخرى أو بصيغة النّهي لا الطّلب الحقيقي ، بل هو بالنّسبة إلى معناها الحقيقي من قبيل الدّاعي ، وسائر الدّواعي على إنشائه من السّخريّة والتّهديد ونحوهما ممّا عد نظائرها في مادة الأمر من معانيها من قبيل الدّواعي لا المعاني المستعملة فيها ، فاستعمالها في تلك المقامات لا يوجب تجوزا فيها وإن كان على خلاف ما هو المنسبق منها.

٢٩١

وهذا كلّه تعين ما تقدم في مادة الأمر ، وكذلك كلّ خلاف وقع في صيغة الأمر من المباحث المتقدمة فيها جار في صيغة النّهي أيضا ، والمختار هنا المختار هناك ، فتكون ظاهرة وصفا أو انصرافا في خصوص طلب التّرك على وجه الحتم واللّزوم من غير دلالة لها على أزيد من هذا المعنى من المرة والتّكرار والفور والتّراخي على حذو صيغة الأمر وإن كانت قضية النّهي عقلا ، الدّوام والاستمرار فيما فرض مطلقا ، حيث أن متعلقه ترك الطّبيعة ، وهو لا يتحقق إلّا بترك جميع أفرادها دفعيّة كانت أو تدريجيّة إن لم تكن الطّبيعة مقيدة بحال أو زمان ، بخلاف الأمر فإن متعلقه إيجاد الطّبيعة ، وهو يحصل بإيجاد فرد واحد ، وسيأتي توضيح هذا إن شاء الله.

ويعتبر في النّاهي علو المرتبة خاصة لا مع استعلائه ، ولا يكفي مجرّد استعلائه ، وإن الدّواعي على إنشاء معناها وهو الطّلب الإنشائي من التّعجب أو التّهديد أو السّخرية ونحوها ، ممّا عد نظائرها من المعاني لصيغة الأمر من قبيل الدّواعي لا المعاني ، فاستعمالها في تلك المقامات على نحو الحقيقة لا التّوسع والمجاز ، وهكذا الكلام في سائر ما تقدم من المباحث في صيغة الأمر ممّا يمكن جريانها في صيغة النّهي بعين ما تقدّم هناك.

نعم في النّهي خلاف يختص به وهو أن المطلوب بالنّهي هل هو التّرك ومجرّد أن لا يفعل كما هو الظّاهر والأقوى ، أو خصوص الكفّ؟ ربّما يتوهّم الثّاني استنادا إلى أن التّرك ومجرّد عدم الفعل ليس اختياريا ومقدورا للمكلّف ، بل العدم أزلي مسبوق لوجود الفاعل ، فطلبه منه يكون من قبيل طلب الحاصل بخلاف طلب الكفّ منه فإنه من أفعاله الاختيارية وتحت قدرته ، فهو لا بدّ من أن يكون متعلق النّهي إذ ليس في مورده من الأفعال الاختياريّة ما يحتمل تعلقه به سواه.

٢٩٢

يكون تركه أيضا اختياريّا ومقدورا لاستواء نسبة الاختيار والقدرة إلى طرفي النّقيض وإلّا لكان الفعل واجبا أو ممتنعا ، لأن الاختياري والمقدور ليس إلّا ما كان كلّ من طرفي وجوده وعدمه باختيار المكلّف وإرادته على حدّ سواء بحيث لو شاء فعله ولو شاء تركه ، فإن كان وجوده اختياريّا ومقدورا فلا جرم يكون تركه كذلك ، وليس المطلوب بالنّهي العدم الأزلي كي يكون طلبه من قبيل طلب الحاصل ، بل العدم الحادث ، فإن إبقاءه واستمراره باختياره ، له أن يطرده ويقلبه إلى الوجود حسب الفرض فله أن يبقيه على حاله ، وهذا هو متعلق النّهي ، إذ لا يكون إلّا اختياريّا ومقدورا ، فيصحّ أن يتعلق به الطّلب والبعث.

نعم التّرك ومجرّد أن لا يفعل خفيف المئونة ، فإنّه أمر عدمي ، وعدم الشّيء يكفي فيه عدم كلّ واحدة من مقدّمات وجوده ، فإن عدم وجود العلّة لوجود الشّيء علّة لعدمه ، بخلاف الكفّ ، فإنّه وجودي وإن كان من أفعال النّفس ، والفعل الوجودي مطلقا يتوقف على المقدّمات الوجوديّة من تصوّر الشّيء ، ثمّ هيجان الرّغبة إليه ثمّ الجزم به ، وهذا هو الذي يسمى بالحكم ، ثمّ العزم والإرادة ، وهذا هو الذي يعبر عنه بالشّوق المؤكد ، والمقدّمة الأولى وإن كانت مشتركة بين الوجود والعدم ، إلّا أن سائرها مختصّة بالوجود ، فمع انتفاء كلّ واحدة منها يتحقق العدم ، مثلا إذا تصوّر الزّنى وما هاجت رغبته إليه لا يتحقق عنه الزّنى ولو هاجت رغبته إليه ولكن ما جزم به ولم يتحقق له مرتبة الحكم والتّصديق لا يتحقق عنه أيضا ، ولو حصلت هذه ولكن لم يشأ ولم يتحقق له العزم والإرادة والشّوق المؤكد لا يتحقق عنه أيضا ، ولو حصلت جميع هذه المقدّمات ولكن بدا له وانفسخ عزمه لا يتحقق منه أيضا ، فعند عدم كلّ واحدة من هذه المقدّمات يتحقق التّرك بخلاف الكفّ ، إذ لا بدّ له من

٢٩٣

ولو حصلت جميع هذه المقدّمات ولكن بدا له وانفسخ عزمه لا يتحقق منه أيضا ، فعند عدم كلّ واحدة من هذه المقدّمات يتحقق التّرك بخلاف الكفّ ، إذ لا بدّ له من تحققها بالنّسبة إلى نفس الكفّ ومن تحقق الاشتياق إلى نفس الفعل الحرام كي يمكن صدور الكفّ اختيارا ، فمجرّد التّرك خفيف المئونة دون الكفّ ، ولو اريد به ما يتحقق بعد عدم كلّ واحدة من المقدّمات الوجوديّة فهو حقّ ، لكنه ليس بكفّ حقيقة فالنّزاع على هذا يصير لفظيّا.

وكيف كان : النّهي وإن كان كالأمر في أنّه لا يدلّ بمدلوله الهيئي أو المادي على الفور أو التّراخي والمرّة أو التّكرار ، إلّا أن قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة تعلقهما بأن فرضت طبيعة واحدة مطلقة أو مقيدة بحال أو زمان تعلق بها النّهي مرّة والأمر اخرى ، لوضوح أن المطلوب بالنّهي تركها وهو لا يكاد يحصل إلّا بترك جميع أفرادها ، تدريجيّة كانت أو دفعيّة ، فلا محالة يقتضي عقلا الدّوام والاستمرار مطلقا إن لم يقيد بزمان أو الحال بخلاف الأمر فإن المطلوب به وجودها وهو يحصل بوجود فرد واحد منها ، فلا يقتضي الدّوام والاستمرار وإن فرضت الطّبيعة المأمور بها مطلقة ، وإن قيد بزمان أو حال فلا يقتضي النّهي عقلا إلّا ترك جميع أفرادها في ذلك الزّمان أو الحال بخلاف الأمر كما لا يخفى.

* * *

٢٩٤

الفصل الثّاني

جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه

اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنّهي في شيء واحد وامتناعه على أقوال ، ثالثها التّفصيل بين الفصل والعرف ، فاجيز عند الأوّل ومنع عند الثّاني ، وتنقيح المسألة يستدعي تقديم أمور :

«الأمر الأوّل»

في تعين موضوعها :

أعلم أنّه ليس المراد بالواحد فيه خصوص الواحد بالشّخص بأن يكون فعل واحد خارجي بما له من التّشخصات وإن تعدّدت فيه الجهات والاعتبارات والعناوين والإضافات متعلقا للأمر والنّهي ، فإن الجمع فيهما فيه يستلزم التّكليف بما لا يطاق ، وهو غير جائز حتّى عند المجوزين ، وإن كانت قضية قولهم ولازم مذهبهم جوازه ، إلّا أنهم لا يلتزمون به ، وكيف كان هذا خارج عن محل النّزاع لما

٢٩٥

ذكر ، ولأن المجوزين جلّهم بل كلّهم على ما قيل اعتبروا في موضوع النّزاع المندوحة بأن كان المكلّف متمكنا من امتثال كلا التّكليفين بإتيان الواجب في ضمن غير المحرم ولكنه لسوء اختياره جمع بينهما في واحد بأن أتى به في ضمن المحرم ، كما لو تمكن من فعل الصّلاة في غير المكان المغصوب ولكنه بسوء اختياره فعلها فيه ، ومن الواضح أنّه في الواحد الشّخصي لا مندوحة ، إذ لا بدّ فيه من مخالفة أحد التّكلفين ، ولا الواحد بالجنس والنّوع إذا لم يفصل ولم يقسم بأن أخذ واحد كذلك مطلقا أو مقيدا ببعض القيود متعلقا للأمر والنّهي بحيث يكون كلّ واحد منهما متعلقا بتمام ما تعلق به الآخر من ذلك الجنس أو النّوع وإن تعدّدت فيه الجهات والعناوين لعين ما تقدم في الواحد بالشّخص من لزوم التّكليف بما لا يطاق وعدم مندوحة ، مع اعتبارها عند جلّ المجوزين في موضوع النّزاع ، لا الواحد بالجنس أو النّوع إذا فصل ووزع على الأمر والنّهي بأن تعلق أحد منهما ببعض مصاديق ذلك الجنس أو النّوع والآخر ببعضها الآخر كالسّجود لله تعالى وللصّنم مثلا ، فإنهما مندرجان تحت كلّي السّجود وهو طبيعي واحد ، ويصحّ أن يقال أنّه اجتمع فيه الأمر والنّهي ، إلّا أنّه لا إشكال ولا خلاف في جواز اجتماعهما فيه لأن متعلق كلّ منهما غير متعلق الآخر وجودا ، ضرورة إن نسبة الطّبيعي إلى أفراده نسبة الآباء إلى الأبناء لا نسبة الأب الواحد إلى الأبناء ، ولذا تجتمع فيه الأضداد فهذا أيضا خارج عن محل النّزاع ، بل المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين وعنوانين تعلق بأحدهما الأمر وبالآخر النّهي وتمكن المكلّف من امتثال كليهما ولكنه بسوء اختياره جمع بينهما في موجود واحد وإن فرض ذلك الواحد كليا مقولا على كثيرين على القول بتعلق الأحكام بالطّبائع كالصّلاة في الدّار المغصوبة ،

٢٩٦

فذكر الواحد في العنوان إنما هو لإخراج الواحد الجنسي أو النّوعي إذا فصل وقسم كالسّجود لله تعالى وللصّنم ، إذ قد عرفت أن متعلق الأمر والنّهي فيه متعدّد وجودا وإن جمعهما واحد مفهوما ، لا لإخراج الواحد الجنسي أو النّوعي الذي يكون هو متعلق التّكليف على القول بتعلق الأحكام بالطّبائع كالحركة والسّكون الكلّيين المعنويين بالصّلاتيّة والغصبيّة.

ومحصل النّزاع في جواز اجتماع الأمر والنّهي وامتناعه ، هو أنّه بعد الفراغ عن كون الأحكام الشّرعيّة بأسرها متضادة ممتنعة الاجتماع في موضوع واحد لم يتعدّد فيه الوجه والعنوان وقع النّزاع في أن هذا النّحو من التعدّد أي بحسب الجهات والعناوين هل يجدي في تعدّد الموضوع كي يلزم جواز اجتماع الحكمين في موجود واحد ذي وجهين وعنوانين أو لا يجدي ذلك ، فيلزم عدم جواز اجتماعهما فيه؟ وبعبارة اخرى هل يوجب جواز الاجتماع بين الأحكام ورفع التّضاد بينهما في الواحد الذي اجتمعت فيه الجهات والعناوين فيجوز اجتماع الأمر والنّهي في واحد ذي وجهين وعنوانين أم لا؟ بل يكون حاله حال ذي وجه وعنوان واحد ، فيستحيل اجتماعهما فيه.

المجوّز يجتهد في إثبات كفاية التّعدّد المذكور في رفع التّنافي والتّضاد بين الأحكام في موضوع واحد ، والمانع يجتهد في إثبات عدم كفايته ، فالنّزاع في الحقيقة صغروي ، كلّ من الفريقين يسلّم استحالة اجتماع الحكمين في موضوع واحد ، إلّا أنّ المانع يدعي أن ما تعدّد فيه الوجه والعنوان متعلق التّكليف فيه واحد وجودا وماهيّة ، والمجوز يدعي أنه متعدّد.

٢٩٧

ومن هنا ظهر أمر آخر ينبغي تقديمه ، وهو الفرق بين هذه المسألة ومسألة النّهي عن العبادة ، فإن موضوع المسألة هو الواحد الذي تعدّد فيه الوجه والعنوان ، بخلاف موضوع المسألة الآتية فإنه متّحد بحسبهما ، بأن يكون النّهي فعلا متعلقا بنفس ما تعلق به الأمر ولو عموما أو إطلاقا ، أي بعنوانه ووجهه كصلاة الحائض المنهي عنها فعلا مع مطلق الصّلاة المأمور بها ، فإن أدلة وجوب الصّلاة تشملها عموما أو إطلاقا ولم يتعلق بها النّهي بعنوان آخر غير كونها صلاة.

ومحصل النّزاع في المسألة الآتية هو أنّه بعد الفراغ عن تعلق النّهي فعلا بعين ما تعلق به الأمر عموما أو إطلاقا وقع النّزاع في أن ذلك النّهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ ولذا اتفقوا على اقتضائه فساد العبادة لاتفاقهم على استحالة اجتماع الأحكام في موضوع واحد لم يتعدّد فيه الوجه والعنوان ، فمع تعلق النّهي بها فعلا ، كما هو المفروض في المسألة الآتية لا بدّ من فسادها لعدم إمكان تعلق الأمر بها أيضا كذلك.

توضيح وجه الفرق بين المسألتين إن تعدّد المسائل وامتياز كلّ واحدة منها عن الأخرى إنّما هو بتعدّد الجهات المبحوث عنها فيها وإن اتّحدت موضوعاتها لا بتعدّد موضوعاتها وإن اتّحدت الجهة المبحوث عنها ، ضرورة أنّه مع تعدّد الموضوع واتّحاد الجهة لا ينبغي عقد مسألتين فصاعدا بحسب تعدّده ، بل لا بدّ من عقد مسألة واحدة تعمّ الجميع ، ومع تعدّد الجهات المبحوث عنها وإن كان الموضوع واحدا لا بدّ من عقد مسائل بحسب تلك الجهات ، فيمكن أن يكون موضوع واحد موضوعا لمسائل كثيرة من علم واحد أو علوم كثيرة والجهة. المبحوث عنها في المسألة غير الجهة المبحوث عنها في المسألة الآتية ، إذ قد عرفت أن جهة البحث في

٢٩٨

المسألة هي أنه بعد الفراغ عن كون الأحكام متضادة مستحيلة الاجتماع في موضوع واحد لم يتعدّد فيه الجهات والعناوين وقع النّزاع في أن تعدّدها هل يجدي ويكفي في رفع غائلة التّضاد واستحالة الاجتماع بين الأحكام في موضوع واحد ذي وجهين وعنوانين كي يجوز اجتماع حكمين منها فيه ، أو لا يجدي ولا يكفي ذلك؟ بل يكون حاله حال ما لم تتعدّد فيه الجهات والعناوين فلا يجوز اجتماعهما فيه ، وجهة البحث في المسألة الآتية هي أنّه بعد الفراغ عن تعلق النّهي الفعلي بعين ما تعلق به الأمر عموما أو إطلاقا وقع النّزاع في أن ذلك النّهي هل يقتضي الفساد أم لا؟ ولذا اتفقوا على اقتضائه فساد العبادة واختلفوا في اقتضائه فساد المعاملة ، إذ مع وحدة متعلق الأمر والنّهي وكونه فعليّا لا محالة يكون متعلق النّهي فاسدا إن كان عبادة ويمكن صحّته إن كان معاملة.

وبالجملة : حيث أن جهتي البحث في المسألتين مختلفتان عقدت لكل واحد منهما مسألة على حدة ، ولذا اتفقوا في المسألة الآتية على فساد العبادة واختلفوا في فسادها في المسألة على القول بجواز الاجتماع يرتب جميع لوازم الأمر والنّهي من حصول الامتثال والتّقرب والثّواب والعقاب عليها ، وعلى القول بعدم الجواز يمكن تغليب جانب الأمر ، ويمكن العكس فيترتب على مورد الاجتماع آثار أحد التّكليفين ، ويمكن ارتفاعهما بالمرّة ، مع ثبوت الاستحباب أو الكراهيّة أو الإباحة حسب ما هو قضية التّزاحم وحصول الكسر والانكسار بين جهتي الأمر والنّهي قد تكونان مختلفتين بحيث يكون الزائد من أحدهما بمقدار يقتضي الإيجاب أو التّحريم أو الاستحباب أو الكراهة ، فيكون المجمع واجبا أو حراما أو مستحبا أو

٢٩٩

مكروها ، وقد يكونان متساويتين فيكون مباحا ، وهذا بخلاف المسألة الآتية حيث أن وجود النّهي الفعلي في محل النّزاع فيها مفروغ عنه ، فلا محيص من الالتزام فيها بفساد العبادة.

نعم لو قلنا في مسألتنا بعدم الجواز مع تغليب جانب النّهي يصير موضوعها كالصّلاة في الدّار المغصوبة من صغريات تلك المسألة ، فإن قلنا فيها باقتضاء النّهي فساد العبادة لزم الحكم بفساد مثل الصّلاة ، وإلّا فلا.

فإذن تحقق ممّا ذكرنا أن فرق المسألتين إنما هو بتعدّد جهتي البحث فيهما لا بتعدّد موضوعهما كما أفاده في الفصول حيث قال : «ثمّ إن الفرق بين المقام والمقام المتقدم وهو أن الأمر والنّهي هل يجتمعان في شيء واحد أم لا؟ أمّا في المعاملات فظاهر ، وأمّا في العبادات فهو أن النّزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنّهي بطبيعتين متغايرتين بحسب الحقيقة وإن كان بينهما عموم مطلق وهنا فيما إذا اتّحدتا حقيقة وإن تغايرتا بمجرّد الإطلاق والتّقييد بأن تعلق الأمر بالمطلق والنّهي بالمقيد» انتهى ، فإن مجرّد تعدّد الموضوعات ذاتا لا يكفي في تعدّد المسائل ما لم يكن بينها اختلاف الجهات المبحوث عنها كما تقدم ، فما افيد في الفصول من الفرق بين المسألتين باختلاف موضوعيهما فاسد لا من جهة عدم اختلافهما فإن هذا مسلم ، بل من جهة أن مجرّد هذا غير كاف في عقد المسألتين ولا بما ذكره بعض آخر من أن النّزاع في المسألة في جواز الاجتماع وعدمه عقلا وفي المسألة الآتية في دلالة النّهي لفظا ، وضوح أن مجرد هذا ما لم يكن اختلاف الجهة المبحوث عنها في كلّ واحدة منهما لا يقتضي إلّا عقد مسألة واحدة وتفصيلا فيها ، لا عقد مسألتين ، مع أنه ممنوع لما سيأتي إن شاء الله من عدم اختصاص النّزاع في

٣٠٠