غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

اختلافا بينها ، كذلك ما معنى العموم الاستغراقي والمجموعي والبدلي كذلك ، فيكشف هذا عن كون مفهوم العام في الجميع واحدا ، وهذه الاختلافات إنّما تجىء وتنشأ من قبل كيفيّة تعلّق الحكم به ، فهي كيفيّات مختلفة له لا للعام.

ولا يتوهّم : أنّه على هذا يلزم أن يكون كلّ رجل في العام الاستغراقي أو المجموعي مع أي رجل في العام البدلي من قبيل المترادفين لكونهما في المعنى حسب الفرض متساويين ، وذلك لأنّ كلّ واحد من اللّفظين كما أنّه يدل على إرادة العموم من مدخوله كذلك يدلّ على كيفيّة تعلّق الحكم به ، فيجيء الاختلافات بين مدلولهما من هذه الجهة وليس المدّعي عدم الاختلاف بينها بالمرّة ، كيف وهما مختلفان مفهوما ومصداقا قطعا ، بل المدّعى عدم الاختلاف بين مفهوم العام مع قطع النّظر عن تعلّق شيء به من الأحكام ، ومن الواضح أنّه لا تنافي بين هذا القول وبين القول باختلاف مدلولي اللّفظين بعد فرض تعلّق الحكم بهما كما لا يخفى ، وقد تبيّن ممّا ذكرنا أن الشمول المركّب لأجزائه كالعشرة ونحوها لآحادها المندرجة تحتها ليس من العموم ، لعدم صلاحيّة مفهومه للانطباق على كلّ واحد منها ، فافهم.

* * *

٤٨١

الفصل الثّاني

هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟

اختلفوا في أنّه هل للعموم صيغة تخصّه أم لا؟ بل كل ما ادّعي كونه كذلك مختص بالخصوص أو مشترك بينهما على أقوال ، والحقّ هو الأوّل ، لتبادر العموم من بعض الألفاظ قطعا كلفظة كلّ وما يرادفها في جميع اللغات ، والتّبادر علامة الوضع والحقيقة ، ولا مانع من ذلك سوى ما ذكروه تمسّكا لما عدا القول الأوّل ، وهي وجوه اعتبارية لا اعتبار بها ، غير صالحة للمنع. منها ما يتمسّك به للقول الثّاني وهو وجهان.

الأوّل : أن الخصوص متيقّن الإرادة ، لأنّه إمّا مراد من اللفظ بخصوصه مستقلا أو في ضمن العموم تبعا ، بخلافه ، فإنّه مشكوك الإرادة واختصاص الموضوع بالمتيقّن أولى من اختصاصه بالمشكوك ، فإنّه أوفق بحكمة الواضع حيث أنّ غرضه من الوضع ليس التّفهيم والتّفهّم.

الثّاني : أنّ تخصيص العمومات كثير جدّا حتّى اشتهر وشاع وذاع إلى أن قيل مبالغة «ما من عام إلّا وقد خص» وحكمة الواضع تقتضي تخصيصه الوضع بإزاء ما

٤٨٢

هو المراد من الألفاظ والاستعمالات الشّائعة المتعارفة المتداولة وهو الخصوص ، لا الشّاذة والنّادرة جدا وهو العموم ، مضافا إلى أن تخصيصه به فيلزم كثرة المجاز ، وهو على خلاف الأصل.

ويضعّف الأخير : مضافا إلى أن المجاز أو كثرته لو سلّم في المقام إن كان بالقرينة ممّا لا محذور فيه بالمرّة ، فإنّ التّخصيص ولو بالمنفصل لا يستلزم المجازيّة لما سيأتي تحقيقه إنشاء الله من أن مرجع التّخصيص بالمتّصل إلى التّخصيص والتّقييد حقيقة ، ومن الواضح أنّ تقييد الموضوع بقيد لا يوجب تجوزا فيه ولا في المقيّد ، وبالمنفصل إلى تحكيم الحجّة الأقوى على غيره مع بقائه على ما هو المراد به من العموم بالإرادة الاستعماليّة على وجه القاعدة والضّابطة ليكون حجّة للمخاطب وعليه ما لم تقم حجّة أقوى منها على خلافه من المخصّص ، فإنّ غاية ما يستكشف عن المخصّص كون المراد بالعام واقعا وبالإرادة الجديّة هو الخاص لا أنّه المستعمل فيه لعدم الملازمة بين كونه مرادا كذلك وبين كونه مستعملا فيه ، بل نقول أنّ المراد به بالإرادة الاستعماليّة إلّا العموم قاعدة ، وإن كان مراد به الخصوص بالإرادة الجديّة ، نعم ، لو دلّ دليل على أنّه كلّما اريد به الخصوص كان هو المستعمل فيه لزم المجاز كما ذكر ، ولكن أين هذا الدّليل مع أنّ قضيّة عدم حجّيّة العام فيما بقي كما لا يخفى.

هذا فيما لم يكن الخاص مراد من العام بطريق الكناية ، وأمّا فيما كان كذلك بأن كان إطلاقه عليه بجعله إيّاه لا حقيقة ، بل إدّعاء وتنزيلا كما هو الشّائع في الاستعمالات أيضا ، فحينئذ لا يلزم فيه مجاز قطعا وإن لم يكن المراد به من أوّل الأمر سوى الخاص ، قصوى الأمر أنّه يلزم مجاز في الإسناد على غير مذهب السّكاكي في الاستعارة ، وأمّا عليه فلا يلزم مجاز فيه أصلا ، لا في الإسناد ولا في

٤٨٣

الكلمة.

ومن هنا انقدح فساد الوجهين الأخيرين أيضا لمنع اقتضاء حكمة الواضع تخصيصه الوضع بإزاء الخصوص لأنّه المراد به كثير جدّا ، أو لأنّه متيقّن إرادة ، بل حكمته تقتضي اختصاص الوضع بإزاء العموم كي يمكن استعماله فيه وإرادته منه على وجه القاعدة والضّابطة وإن لم يكن هو المراد به بالإرادة الجدّيّة ، ليكون حجّة عند عدم حجّة أقوى على خلافه من المخصّص أي حكمة أقوى من هذه الحكمة ، فلو لم تكن حكمة الواضع تقتضي اختصاص الوضع بإزاء العموم ليفيد ما ذكرناه من القاعدة العظيمة لم تقتض العكس كما لا يخفى.

وبالجملة : إن لم يكن المراد بالعام في شيء من إلّا الموارد الخصوص ولم ندّع أنّه ربّما يراد به العموم لم تقتض حكمة الواضع مع هذا تخصيصه الوضع بإزاء الخصوص إن لم تقتض العكس ، إذ معه يكون العام حجّة مع عدم لزوم تجوز فيه بالمرّة ، بخلاف العكس لأنّ قضيّة وضع اللّفظ بإزاء الخصوص كون استعماله في العموم مجازا.

هذا تمام الكلام في مقابل القول باختصاص الوضع بالخاص.

وأمّا القول باشتراك اللّفظ بينه وبين العام فقد استدلّ له باستعمال اللّفظ فيها ، وإنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة ، ويظهر ضعفه ممّا تقدّم من تبادر العموم من بعض الألفاظ بلا شبهة ولا ريبة في كلّ لغة ، ولا مجال للأصل على تقدير جريانه عند تعدّد المستعمل فيه مع وجود التبادر في أحد المعنيين ، مضافا إلى أنّه لا جامع بين

٤٨٤

المعنيين في المقام لأنّ أحدهما الخاص بشرط لا ، والآخر الخاص بشرط الغير ، وهما بهذين الاعتبارين لا يكونان إلّا متباينين ، فكيف يكون اللّفظ مشتركا بينهما معنى؟ فتأمّل.

* * *

٤٨٥

الفصل الثّالث

أقسام صيغ الدّالة على العموم

الصّيغ الدّالة على العموم على قسمين ، لأنّ فيها ما يدلّ عليه وضعا كلفظة كلّ وما يرادفها من كلّ لغة ونحوها ، لعدم ما يوجب دلالتها عليه غيره ، ومنها ما يدلّ عليه عقلا كالفكرة الواقعة في خبر النّفي أو النّهي فإنّها لا تدلّ عليه إلّا بملاحظة حكم العقل بأنّه لا يكاد يكون انعدام طبيعة أو إعدامها إلّا مع انعدام أو إعدام جميع ما لها في الأفراد ، هب أنّها كلّي منحصر في فرد عند وجوده ، وإن كان جميع ما عداه من الأفراد معدوم ، يصدق وجودها لا عدمها ، ولهذا تفيد العموم في مقام النّفي أو النّهي ولا تفيده في مقام الأثبات ، وليس هذا الاختلاف في مدلولها في المقامين ناشئا من اختلاف الوضع لها فيهما قطعا ضرورة أن مدلولهما فيهما واحد من دون تفاوت فيه أصلا في البين ، إلّا أنّها لا تفيد العموم إلّا بمقدار ما أريد بها في الطّبيعة مرسلة أو مقيدة ، لأنّ الحكم العقلي لا يساعد على إفادتها العموم إلّا بهذا المقدار ، فإن أحرز أنّه أريد بها الطّبيعة المطلقة المرسلة تفيد استيعاب السلب وعمومه بالنسبة إلى جميع ما تصلح أن تنطبق عليه من الأفراد لما ذكر ، وإن احرز أنّه أريد

٤٨٦

بها الطّبيعة المبهمة المهملة فلا تفيد العموم بالنّسبة إلى جميع ما يصلح أن تنطبق عليه ، بل إن كان لها قدر متيقّن تفيد العموم بالنّسبة إلى ذلك المقدار لا أزيد ، وإلّا فتصير مجملة ، لأنّ المهملة في قوّة الجزئيّة ، فتفيد السّلب في الجملة لإمكان أن يكون المراد بها حينئذ بعضا معينا واقعا وإن لم يعيّن وقت الخطاب إن كان متقدّما على وقت الحاجة أو كان عدم تعينه على حسب الحكمة ، ولذا لو عيّنه المتكلم حينئذ لم يكن ما عيّنه ثانيا منافيا لما أبهمه وأهمله أوّلا ، أو بعضا غير معيّن لا أزيد منه واقعا على حسب ما تقدم في القسم الأوّل ، وأن لا يكون له تعيين على أحد الوجهين عند المتكلم حين الخطاب إن كان متقدّما على زمان الحاجة لتحيره بعد في تحديد موضوع حكمه وإن أنشأه في الجملة ، لأنّ مجرّده لا يقتضي تحديده حين الخطاب من جميع الجهات ، إنّما اللازم تحديده وقت الحاجة أفرض أنّه يعيّنه فيه ، ففي هذا الصّور لا وجه لإفادتها عموم السّلب بالنّسبة إلى جميع ما تصلح للانطباق عليه من الأفراد لإنّها حسب الفرض ما أخذت مطلقة مرسلة وبوجودها السّعي كى تفيد العموم كذلك ، بل أخذت مهملة مبهمة ولا كاشف عن ما هو المراد واقعا ، بل ربّما لا يكون له تعين واقعي كى يفرض له كاشف ، فكيف يؤيّد عموم السّلب بالنّسبة إلى جميع الأفراد.

ومن هنا انقدح حكم صورة الشّك ، فإنّها فيها لا تفيد إلّا عموم السّلب بالنّسبة إلى تيقّن بإرادته منها إن كان ، وإلّا فتكون مجملة ، ولا ينافي هذا كونها دالّة على العموم عقلا ، لأنّه لا يحكم بالعموم إلّا بمقدار دائرة ما أريد من الطّبيعة مطلقة أو مقيّدة ببعض الخصوصيّات والوجودات ، كما أنّ لفظة كلّ وما يراد منها ونحوها ممّا يدلّ على العموم وضعا لا تقتضي العموم والاستيعاب إلّا بالنّسبة إلى جميع ما أريد

٤٨٧

من مدخولها لا بالنّسبة إلى جميع ما يصلح أن يصدق وينطبق عليه مدلول مدخولها حقيقة ، ويشهد لهذا إنّه لا ينافي عمومها الوضعي تقييد مدخولها بقيود كثيرة قطعا كما لا يخفى.

وبالجملة لا منافات بين كون الصّيغة دالّة على العموم عقلا ووضعا وبين كونه بإضافة إلى خصوص ما أريد من الطّبيعة في القسم الأوّل ومن مدخولها في القسم الثّاني لا بإضافة إلى جميع ما تصلح الطّبيعة أو المدخول للانطباق عليه حقيقة ، فلا بدّ في مقام إثبات العموم كذلك من إحراز مقدّمات الحكمة أو قرنية أخرى حاليّة أو مقاليّة ، اللهمّ إلّا أن يدعى ظهورها عند الإطلاق في استيعاب جميع ما تصلح أن تنطبق عليه من الأفراد سواء وقعت في حيز النّفي أو النّهي أو مدخولة كلمة كلّ ونحوها ، وليس ببعيد وهذا هو الحال في الجمع المحلّى باللام والمفرد المحلّى به إن قلنا بإفادته العموم أيضا ، ولذا لا ينافي عمومهما تقييد مدخول اللام فيهما بقيود كثيرة بنحو التّوصيف ونحوه ، فيكشف هذا عن كون العموم فيهما أيضا بالإضافة إلى خصوص ما أريد في المدخول لا مطلقا ، ومرجع تقييده ببعض القيود حقيقة لا التّخصيص ، إذ لم ينعقد له ظهور في أزيد ممّا هو المراد أعني المقيّد ، فلا يكون دائرته أوسع كي يضيق ويتخصص فيكون حينئذ من قبيل ضيق فم الرّكيّة. وبالجملة حال تقيد مدخول اللام جمعا كان أو مفردا حال مدخول كلمة كلّ ونحوها والنّكرة في سياق النّفي أو النّهي في أنّ مرجعه حقيقة إلى التّخصص لا التّخصيص ، ولكن كون عموم المحلّى باللّام جمعا كان أو مفردا بحسب الوضع مشكل لتوقّفه إمّا على وضع اللّام للاستغراق أو مدخولها للطّبيعة المطلقة المرسلة لا المهملة المبهمة أو المجموع المركّب منهما للعموم ، وهذه كلّهما ممنوعة لظهور اللّام

٤٨٨

في التّعريف ومدخولها في الطّبيعة المهملة الغير الملحوظ فيها شىء من الخصوصيّات حتّى إطلاقها ، وعدم ثبوت وضع للمركّبات ، فدلالتها على العموم محتاجة إلى قرينة ولو بالإطلاق عند جريان مقدّمات الحكمة ، إلّا أن يدعى أيضا ظهور مدخولها في صورة الإطلاق في الطّبيعة المطلقة المرسلة ، وليس ببعيد ، ولعلّ بعض الكلام في ذلك يأتي إنشاء الله في باب المطلق والمقيّد.

* * *

٤٨٩

الفصل الرّابع

هل العام المخصّص حجّة فيما بقي مطلقا

هل العام المخصّص حجّة فيما بقي مطلقا كما عليه المشهور من أصحابنا ، بل لم ينسب الخلاف إلى بعض أهله ، أو ليس بحجّة كذلك كما عزي إليه أو يفصّل بين التّخصيص بالمتّصل فالأوّل والتّخصيص بالمنفصل فالثّاني كما عن بعض آخر منهم ، فيه أقوال ، أقواهما الأوّل ، بل لا ينبغي الشّك فيه ، لكن على حسب ما يأتي تفصيله إنشاء الله. احتج الثّاني مطلقا بأنّ العامّ بعد ورود التّخصيص عليه يصير مجملا ، لكونه مجازا في الخصوص ومراتبه في الباقي إلى ما ينتهي جواز التّخصيص اليه كثيرة ، كلّها متساوية النّسبة إليه ، وحيث لا قرينة أخرى معيّنة حسب الفرض ، فتعيين خصوص الباقي من بين المراتب ترجيح بلا مرجح.

ويظهر فساده ممّا أشرنا إليه آنفا من أن التّخصيص لا يلازم المجازيّة مطلقا ، أمّا في التّخصيص بالمتّصل فلعدم انعقاد ظهور للعام فيه من أوّل الأمر إلّا بمقدار الباقي بعد التّخصيص ، فالعموم فيه بحاله من غير ورود تخصيص وتضييق عليه حقيقة كي يقتضي مجازيّته ، نعم دائرته أضيق ممّا لم يخصّص بمخصّص أصلا فأين عموم

٤٩٠

«كلّ رجل عالم» من عموم «كلّ رجل» مثلا ، إلّا أنّ هذا الاختلاف إنّما يجيء من قبل مدخول كلمة كلّ ، حيث أنّه أخذ مقيّدا في الأوّل وغير مقيّد في الثّاني ، لا من جهة اختلاف مدلولها فيهما ، بل هو فيهما معنى واحد ، وقد استعملت فيه ، وكذا الحال في سائر صيغ العموم سواء كانت دلالتها عليه عقليّة أو وضعيّة حسبما عرفت آنفا ، وبالجملة اختلاف دائرة العموم سعة وضيقا ليس لأجل اختلاف مدلول أداة العموم كي تكون مجازا في بعض الصّور ، بل لأجل اختلاف مدلول ذي الأداة فلا تجوز فيها ، وأمّا في التّخصيص بالمنفصل فلأنّ كون الخصوص هو المراد من العام واقعا بالإرادة الجديّة لا يستلزم كونه مستعملا فيه وكون التّخصيص قرينة عليه ، بل المراد به بالإرادة الاستعماليّة هو العموم على وجه القاعدة والضّابطة ليكون حجّة عند عدم حجّة أقوى منه على خلافه ، ويشهد لهذا بناء العقلاء الّذي هو الأصل لتشخيص الظّهورات في باب الألفاظ على صحّة مؤاخذة المولى عبده فيما لو ألقى إليه خطابا ما ثمّ خصصه ببعض المخصّصات ، وهو اقتصر في مقام امتثاله علم بإرادته منه بعد ذلك التّخصّص وانقطاع عذره حينئذ ، وهذا كاشف عن كون المراد به العموم على وجه القاعدة والضّابطة ، فالمخصّص المنفصل لا يكون مصادما لظهور العام ورافعا له ، وليس تقديمه عليه من هذه الجهة ، كما أن الأمر كذلك في المخصّص المتصل ، بل ظهوره في العموم باق بحاله ، وإنّما يقدّم عليه الخاصّ مع هذا تحكيما للنّص أو الأظهر على غيره ، وبعبارة الاخرى تحكيم للحجة الأقوى على خلافها ، فالمزاحمة في هذا الصّورة بين الحجّتين مع تقديم أحدهما على الاخرى ، بخلاف الصّورة الاولى إذ ليس فيها ظهور للعام إلّا في خصوص الخاص ، أعني الباقي بعد التّخصيص ، وكلتاهما مشتركتان في تقدم الخاصّ على العام ، إلّا أن جهته في الاولى

٤٩١

كون الخاص موجبا لعدم انعقاد ظهور للعام فيما عدا الباقي ، وفي الثّانية كونه أقوى بحسب الحجيّة في العام ، فلا تزاحم بينهما في الاولى بخلاف الثّانية.

وبالجملة العام المخصّص مطلقا لم يكن مستعملا إلّا في معناه الحقيقي أي العموم ، ولا وجه لتوهّم أن تقديم المخصّص عليه يقتضي استعماله في الخصوص أصلا سواء كان متّصلا أم منفصلا ، هذا ما يقتضيه التّحقيق في الجواب عن الاستدلال مذكور ، وربّما يجاب عنه بوجهين آخرين كلّ منهما مبني على تقدير تسليم مجازية العام المخصّص.

أحدهما : أن المرجّح أقربية الباقي إلى العام من سائر المراتب ، لأنّ أقرب المجازات بعد تعذّر الحقيقة متعيّن ، وفيه إنّه لا اعتبار بالأقربية لو أريد بها بحسب المقدار والكم ، إذ لا دليل على كفايتها في مقام التّرجيح ما لم ينضمّ إليها شدّة أنس اللّفظ بالمعنى النّاشئ من كثرة استعماله فيه الّتي تقع في طريق الحقيقة وصيرورة المعنى منقولا إليه بالغلبة ، وإن أريد بها الأقربية بهذا المعنى فهي معتبرة ، ولكن نمنع وجودها في المقام ، لأنّ المستعمل فيه ليس مفهوم الباقي قطعا ، بل مصداقه ومصاديقه بحسب الموارد كثيرة جدّا غير منضبطة في عدد معيّن قطعا كي يحمل اللّفظ عليه عند تعذّر الحقيقة.

وثانيهما : من بحث شيخنا الأستاذ العلّامة «أعلى الله مقامه» على ما في تقريراته بقوله : والاولى أن يجاب بعد تسليم مجازيّة الباقي بأنّ دلالة العام على كلّ فرد من أفراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من أفراده ، ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عد شموله للأفراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لأنّ المانع في مثل المقام

٤٩٢

إنّما هو ما يوجب صرف اللّفظ عن مدلوله ، والمفروض انتفائه بالنّسبة إلى الباقي لاختصاص المخصّص بغيره ، شكّ فالأصل عدمه انتهى.

وفيه : إن كان المراد أن العام مستعمل في كلّ واحد من الأفراد من قبيل تعدّد الدّال والمدلول وعلى حدّ استعمال المشترك في أكثر من معنى بحيث يكون بمنزلة تعدّد الأفراد وإثبات الحكم لكلّ واحد منها على حدّه ، كأنّه عبارة أخرى عن قضايا عديدة يكون مفاد كلّ واحدة منها ثبوت الحكم لواحد من الأفراد على حدّه ، صحّ ما ذكره بقوله : أن دلالة العام ... الخ ، إذ على هذا الفرض تكون دلالات العام متعدّدة ، فيصحّ أن يقال أن كلّ واحدة منها غير منوطة بالاخرى ، إلى آخر ما ذكره حسب ما أفاده ، ولكنّه خلاف الواقع ، لمنع كون دلالة العام كذلك على تقدير مجازيّته كما هو المفروض ، وإن كان المراد أنّ العام مستعمل في الخصوص مجازا ومع هذا يدلّ على الأفراد ولا يكون دلالته على كلّ واحد منوط بدلالته على الآخر ، ففيه ما لا يخفى من معنى هذا الكلام على هذا التّقدير ، وذلك لأنّ دلالة العامّ على أفراده ليس إلّا لأجل دلالته على العموم واستعماله فيه ، فإذا أريد به الخصوص واستعمل فيه مجازا كما هو المفروض ، فكيف يمكن حينئذ فرض دلالته على أفراده كي لا تكون دلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على الآخر؟ فإذا فرض أن مراتب الخصوص من الباقي إلى ما يجوز انتهاء التّخصيص إليه كلّها ممكنة لعدم إباء اللّفظ عن الحمل عليه فتعيّن خصوص الباقي من بينها ترجيح بلا مرجح وتعيين بلا معيّن كما ذكره المستدل ، لأن تعيينه متوقّف على ثبوت وضع له كذلك أو قرينة معيّنة ، وكلاهما بحسب الفرض مفقود ، فالمانع عن الحمل على الباقي وإن كان مفقودا كما أفاده ، إلّا أن المقتضي له غير موجود بعد رفع اليد عن العموم ، وبالجملة

٤٩٣

إن حمل على الوجه الأوّل فلا يتوجه عليه عدا كونه خلاف الواقع ، وإن حمل على معنى آخر فهو غير مفهوم لنا ، ولعلّه أراد ما ذكرناه في الجواب ، والاشتباه إنّما صدر عن المفرد والله العالم.

وكيف كان ، فقد انقدح ممّا ذكره إن ما يمكن أن يستدل به للقول المختار ، أعني حجيّة العام في الباقى هذه الوجود الثّلاثة المذكورة في الجواب عن استدلال الثّاني ، وقد عرفت أن الحقّ منها هو الأوّل ، وإذ عرفت هذا فلا بدّ من تعيين مورد حجيّة العام من الباقي.

فنقول أمّا العام المخصّص بالمتّصل فهو حجّة فيما علم دخوله في المخصّص ، وأمّا فيما احتمل دخوله فيه سواء كانت الشبهة حكميّة ، أي في مفهوم المخصّص ، أو موضوعية أي في مصداقه ، فلا يكون حجّة ، مثلا إذا ورد : «أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم» وفرض الشّك في فسق زيد لأجل الشّك في أنّه من مصاديق الفاسق بعد إحراز مفهوم الفسق ، أو لأجل تردّده بين ما يحصل بارتكاب مطلق المعاصي أو خصوص الكبائر إذا فرض أنّ زيد اجتنب الكبائر دون الصّغائر ، فلا يمكن التّمسّك بالعام حينئذ لإثبات وجوب إكرام زيد.

أمّا في الشّبهة الحكميّة : فلعدم انعقاد ظهور للعام إلّا في الباقي بعد التّخصيص ، فلو فرض إجمال المخصّص بين الأقلّ والأكثر كما في المثال المذكور ، أو بين المتباينين يسري إجماله إلى العام حقيقة ، فكيف يتمسّك به؟ كأنّ موضوع الحكم في المثال العلماء العدول ، فالشّك في عدالة زيد وفسقه على الوجه المذكور مع فرض كونه من العلماء يكون حاله حال الشّك في علمه إذا فرض أنّه ورد : أكرم العلماء ، فكما أنّه لا يجوز التّمسّك فيه بالعام ، كذلك في المقام ، والسرّ فيه ما تقدّم من أنّه لم ينعقد

٤٩٤

للعام ظهور إلّا بمقدار الباقي بعد التّخصيص ، فمع الشّك في المخصّص لا يكون له ظهور كي يجوز التّمسّك به.

وأمّا في الشّبهة الموضوعيّة : فلما ذكر ولما سيأتي في الشّبهة الموضوعيّة من المخصّص بالمنفصل وإن كان يمكن الفرق بينهما إلّا أنه خلاف التّحقيق على ما يأتي إنشاء الله قريبا.

وأمّا العام المخصّص بالمنفصل : فهو حجّة فيما علم عدم دخوله في المخصّص لما تقدم من ظهوره في العموم وإن زاحمه المخصّص وقدّم عليه ، تحكيما لما هو الأقوى من الحجّتين المتزاحمتين على غيره ، فإنّ مجرد هذا لا يقتضي انثلام ظهوره في العموم ، فلا مانع من التّمسّك به في الشّك المذكور ، وكذا فيما احتمل دخوله في المخصّص لأجل إجماله وتردّده بين الأقل والأكثر ، لأنّ إجماله حينئذ لا يسري إلى العام لا حقيقة ولا حكما ، فيكون رافعا لإجماله ومبيّنا لمقدار مدلوله أي الأقل ، لأنّه فيما زاد عليه لا يكون في نفسه حجّة ولا يقدم على العام إلّا بمقدار ما يكون حجّة فيه ، وهو ليس إلّا الأقلّ ، مثلا ، إذا ورد : «أكرم العلماء» ثمّ ورد : «لا تكرم الفسّاق منهم» وفرض الشّك في مفهوم الفسق على الوجه الّذي تقدم ، لزم إكرام كلّ من أحرز علمه ، وإن ارتكب الصّغائر ، ففي هذا النّحو في الشّبهة الحكميّة يحصل الفرق بين المخصّص المتّصل والمنفصل كما لا يخفى ، وأمّا فيما احتمل دخوله في المخصّص لأجل إجماله وتردّده بين المتباينين فلا يجوز التّمسّك بالعام ، لأنّ إجمال المخصّص وإن لم يكن يسري إلى العام إلّا حقيقة أنّه يسري إليه حكما ، إذ لا يتّبع ظهوره في واحد من المتباينين اللّذين علم تخصيصه بأحدهما ، فالمرجع حينئذ سائر الأصول من التّخيير إن كان كلّ من الحكمين الالزاميين ، أو الاحتياط إن كان

٤٩٥

أحدهما كذلك دون الآخر ، وكذا فيما احتمل دخوله في المخصّص لأجل إجماله وتردّده بحسب المصداق بأن تردّد فرد بين كونه مصداق له أو للعام مع عدم الشّك في مفهوم كلّ منهما ، كما لو ورد أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم ، واشتبه زيد بين كونه عالما أو فاسقا مع عدم الشّك في مفهومهما ، فإنّه وإن قيل بجواز التّمسك بالعام حينئذ ، بل نسب إلى المشهور إلّا ، أنّه على خلاف التّحقيق ، إذ غاية ما يمكن أن يقال في وجه هذا القول هو أنّ المتخصّص لا يزاحم حجيّة العام إلّا فيما كان حجّة فيه فعلا ، وكلّ موضوع اشتبه اندراجه تحت مصاديقه لا يكون حجّة فيه ، ضرورة أنّ إثبات النّتيجة موقوف على إثبات الكبرى والصّغرى لا كبرى خاصّة ، مثلا إذا قال المولى بعد قوله : أكرم العلماء ، لا تكرم الفسّاق منهم ، لا يمكن إثبات هذا الحكم لمثل زيد المشكوك اندراجه تحت الفسّاق ، لعدم إحراز كونه فاسقا ، فلا يكون المخصّص فيه حجّة ، بخلاف العام لأنّه من أفراده قطعا حسب الفرض ، فيكون فيه حجّة ، ولا يزحمه المخصّص ، لأنّ مزاحمته به من قبيل مزاحمة الحجّة بغير الحجّة وعلى هذا يكون مفاد العام إثبات حكمين ، واقعي بالنّسبة إلى ما هو مراد به جدّا بعد التّخصيص ، وظاهري بالنّسبة إلى ما احتمل اندراجه تحت عنوان المخصّص في الشّبهة الموضوعيّة ، نظير قاعدة الطّهارة فيها.

وهو في غاية الفساد ، لأنّ المخصّص المنفصل وإن لم يزاحم ظهور العام في العموم بخلاف المخصّص المتّصل حسبما عرفت الفرق بينهما ، إلّا أنّه يزاحم حجّيّته في كلّ موضوع يكون من مصاديق المخصّص واقعا وإن لم يحرز كونه منها ، لأنّ المراد به كالفسّاق في المثال الأفراد الواقعيّة لا المعلومة ، حسب أن الألفاظ مطلقا لا تكون موضوعة إلّا لمعانيها الواقعيّة ، فمثل : زيد العالم ، الّذي اشتبه اندارجه تحت الفسّاق لم

٤٩٦

يعلم إنّه من مصاديق أي واحدة من الحجّتين ، فإدخاله في كلّ منهما ليس بأولى من العكس ، فلا بدّ فيه من الرجوع إلى ما هو قضيّة الأصل في التّخيير أو الاحتياط ، نعم لو كان مفاد المخصّص إخراج خصوص ما علم دخوله في مفهوم لزوم حجّيّة العامّ في الشّبهات المصداقيّة ولكن هذا خلاف ما هو قضيّة وضع الألفاظ لأنّها موضوعة لمعانيها الواقعيّة لا المعلومة ، ويشهد لما ذكرنا بناء العقلاء الّذي هو الأصل والمدار في باب الحجّيّة ظواهر الألفاظ ، فأنّهم إذا وجدوا في كلام المولى بعد قوله : أكرم العلماء ، لا تكرم الفسّاق فنهم ، يجعلون العامّ بمنزلة قوله : أكرم العلماء العدول ، أو بمنزلة أكرم العلماء للّذي لم يعلم فسقهم ، ففي كلّ شخص شك في كونه فاسقا أو عادلا وإن علم كونه من مصاديق العام ، إلّا أنّه غير معلوم دخوله فيه فيما هو حجّة فيه واقعا أو فيما كان المخصّص حجّة فيه كذلك وحيث لا ترجيح لإحدى الحجّتين فلا بدّ من الرّجوع إلى ما هو قضيّة في البين ولا ينافي لا تقدّم من جواز الرّجوع إلى العام في الشّبهة الحكميّة فيما إذا دار المخصّص بين الأقلّ والأكثر لعدم حجّيّة المخصص فيه واقعا إلّا بمقدار الأقلّ ، فلا يزاحم العام فيما زاد عليه ، أعنى أكثر ، ولذا يكون حجّة فيه بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ حجّيّة المخصّص فيه إنّما يزاحم حجّيّة العام بحسب مصاديقه الواقعيّة لا المعلومة ، فالفرد المشكوك اندارجه فيها مردّد بين الحجّيّتين ، فإدخاله خصوص أحدهما تعيين بلا معيّن وترجيح بلا مرجّح.

هذا تمام الكلام في ما شكّ في اندراجه تحت المخصّص إن كان لفظيّا ، وأمّا فيما شكّ في اندراجه فيه إن كان لبّيّا بأن حصل القطع بخروج بعض الأفراد وشكّ في موضوع خاصّ أنّه من مصاديق ذلك البعض الخارج أم لا ، كما إذا قال المولى لعبده : أكرم جيراني أو أضف العلماء ، وحصل القطع بأنّه لا يريد إكرام أو إضافة من كان

٤٩٧

عدوّا له من جيرانه أو العلماء ، وشك في واحد من الجيران أو العلماء أنّه من أعداء المولى أو الأصدقاء ، فهل يجوز التّمسّك بالعام حينئذ وإن لم نقل به فيما إذا كان المخصّص لفظيّا؟ التّحقيق أن يقال ، إنّه إن كان على وجه يصحّ أن يتّكل عليه المتكلّم في مقام الخطاب كان كالمتّصل إذ يسري إجماله إليه ولا ينعقد معه ظهور العام من أوّل الأمر إلّا في الباقي بعده ، فلا عموم كي يكون حجّة فيه ، وإن لم يكن كذلك فالظّاهر حينئذ جواز التّمسّك بالعام ، بل لا ينبغي الشّك فيه وإن لم نقل به فيما إذا كان المخصّص المنفصل لفظيّا ، ووجه الفرق بين المقامين واضح ، أمّا إجمالا فلاختلاف بناء العقلاء فيهما حيث أنّه يصحّ مؤاخذة المولى عندهم في المثال المذكور لو لم يكرم أو لم يضف واحدا من الجيران أو العلماء بمجرّد احتمال عداوته ، له ولا يصحّ عندهم الاعتذار بذلك وليس الأمر عندهم كذلك فيها إذا صدر عن المولى بعد قوله : أكرم العلماء ، منفصلا عنه ، لا تكرم الفسّاق منهم ، ولم يكرم العبد من العلماء من شك في فسقه ، كما لا يخفى على من راجع إلى الطّريقة المعروفة والسّيرة المستمرّة المألوفة بين العقلاء الّتي هي ملاك حجّيّته الظّهورات في باب الألفاظ ، وأمّا تفصيلا فلعدم صدور حجّة أخرى عن المولى على خلاف ما صدر عنه من العام في المقام فيبقى في المصاديق المشبّهة على حجّيّته في العموم كظهوره فيه بلا مزاحم معلوم ، إذ المفروض عدم العلم به ولا كاشف عنه أيضا من قبل المولى ، أفرض أن العدو من الجيران خارج عن حكم أضف جبراني ، لكن من الواضح أنّه ليس الخارج منه مفهوم العدوّ ، بل بمصداقه ولعلّة لم يكن في الجيران أصلا ، ومع عدم وجوده فيهم لم يكن الحكم فيهم مخصّصا واقعا ، فلا موجب للتصرّف في العام حينئذ لا في حجّيّته ولا في ظهوره ، ولذا تصح مؤاخذة المولى وينقطع عذر العبد فيما

٤٩٨

إذا اتّفق إن من لم يضيفه من الجيران كان في الأصدقاء ، بخلاف ذلك المقام فإنّه صدر عن المولى حجّة أقوى من العام على خلافه ، أعني المخصّص المنفصل كقوله : لا تكرم الفسّاق من العلماء ، بعد قوله : أكرم العلماء ، فإنّه كاشف عن وجود الفاسق فيهم وإلّا لكان لغوا وهذه الحجّة الأقوى ، أعني المخصّص المنفصل أمّا أن تكون قرينة على إرادة الباقي من العام جدا واستعماله فيه مجازا كما يراه القائل بالمجازية ، فلا يكون للعام حينئذ ظهور في العموم ولا حجّيّة فيه كي يتمسّك به فإن العام المخصّص بالمنفصل على هذا التّقدير يكون كالمخصّص بالمتّصل ، فيصير قوله أكرم العلماء ، بعد مجيء لا تكرم الفسّاق بعده منفصلا بمنزلة قوله أوّلا : أكرم العلماء العدول أو العلماء غير الفاسقين ، ومن الواضح أنّه لا يصحّ التمسّك بالعام حينئذ حسبما عرفت في المخصّص المتّصل ، وإمّا أن تكون قرينة وإمارة على إرادة غير العموم في العام جدا لا استعمالا لكون المستعمل فيه مطلقا هو العموم على وجه القاعدة والضّابطة كما يراه القائل بالحقيقة ، فلا يبقى العام حينئذ على حجّيّته في العموم مع بقاء ظهوره فيه ، لأنّ المخصّص على هذا التّقدير إنّما يتصرّف في حجّيّة العام لا في ظهوره لبقائه على حاله.

ومحصّل الفرق بين القولين : إن العام على الأوّل مجاز لاستعماله في الباقي والمخصّص قرينة عليه ليكون أكرم العلماء بعد مجيء لا تكرم الفسّاق منهم بمنزلة أكرم العلماء العدول أو الغير الفاسقين ظهورا وحجّيّة وعلى الثّاني حقيقة لاستعماله في العموم وإن كان المراد به جدا غير بقرينة المخصّص فإنّه على هذا لا يكون قرينة على التّصرّف على حجّيّته في العموم لا في ظهوره فيه ، فيكون أكرم العلماء بعد مجيء المخصّص بعده على هذا التّقدير بمنزلة قوله : أكرم العلماء العدول أو الغير

٤٩٩

الفاسقين حجّيّة لا ظهورا ولكنّها مشتركان في أنّ العامّ لا يكون حجّة إلّا في ما عدا المخصّص وإذا لم يكن حجّة إلّا في هذا القدار ففي الفرد المشتبه اندراجه فيه لا يمكن التّمسّك بالعموم لعدم ظهور لفظ فيه على القول الأوّل ولعدم حجّيّة له فيه على الثّاني ، لأنّ حجّيّة المخصّص تتصرف في حجّيّته وتضيق دائرتها فيبقى الفرد المشكوك فيه محتمل الاندراج تحت كلّ في الحجّتين ، وحيث لا ترجيح في البين فلا يجوز التمسّك بالعامّ في ذلك المقام بخلاف المقام ، إذ ليس فيه إلّا حجّيّة واحدة وهي خطاب العام ، وظاهره العموم ، وليس في البين ما يتصرّف فيه لا في ظهوره ولا في حجّيّته ، إنّما خرج عنه مورد القطع بانتفاء حكمه من جهة أن القطع حجّة عقليّة منجعلة وليس فوق عبادان قرية.

وأمّا في غير مورده فلا صارف لانتفاء القطع ولعدم ما يستكشف به عن وجود المخصّص في أفراد العام واقعا من قبل المولى حسب الفرض ، فلا وجه لرفع اليد عن ظهور العام ولا عن حجّيّته في العموم حينئذ. وبالجملة ليس في المقام سوى احتمال المانع والمعاند عن الحكم في المصداق المشتبه في مقام ثبوته لا في مقام إثباته ، إذ المفروض عدم العلم بخروج فرد من أفراد العامّ وعدم صدور ما يخصّصه أيضا من قبل المولى مع وجود المقتضي لإثباته فيه وهو العام ، حيث أنّه ظاهر في العموم وحجّة فيه ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه ، ولما لم تكن في البين حجّة على خلافه إلّا احتمالا في متن الواقع من دون طريق إلى إثباته أصلا ، فلا يصحّ رفع إليه عن الحجّة المقتضية لإثبات الحكم وهي العموم باحتمال المانع والمعاند والمنافي ثبوتا وإلّا لجرى في جميع ما احرز المقتضي للحكم فيه في مقام إثباته مع احتمال المانع عنه في مقام ثبوته ، وهذا باطل قطعا ، وأمّا في ذلك المقام فقد أحرز فيه من قبل المولى

٥٠٠