غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

آثاره العقليّة لا الشّرعيّة فلا يثبته الأصل إلّا على القول بالأصل المثبت.

فإن قلت : لم لا تتمسك في المقام بأصالة عموم دليل الحكم الواقعي فإنه يدلّ على التّوسعة وبقاء الوجوب إلى آخر الوقت ، فإذا أتى بالعمل على طبق الإمارة ثم انكشف الخلاف والوقت باق فلا مانع من التّمسك بعموم الدّليل.

قلت : من جهة إن حكم الإمارة بناء على السّببيّة لا يكون من قبيل المخصص لذلك العموم بل رافع لموضوعه ، حيث أن العمل على طبقها يحصل الغرض من الأمر بالواقع فيسقط الأمر به ، فإذا شكّ في هذا فلا مجال للتّمسك بالعموم ، بل لا بدّ من الرّجوع إلى أصل آخر وهو ما ذكرناه من الاستصحاب أو قاعدة الاشتغال ، ولو كان المرجع في المقام أصالة العموم لم يبق فرق بينه وبين ما إذا شكّ في الإجزاء وعدمه في الأوامر الاضطرارة ، مع إنك قد عرفت أن المرجع فيه أصالة البراءة عن الإعادة وعن القضاء بطريق أولى ومحصل الفرق بين المقامين بعد عدم جواز التّمسك بالعموم فيها هو أن المأتي به بالأمر الاضطرار معلوم أنّه مأمور به واقعا ، ولكن يشكّ في أنّه هل يجزي عن الأمر الواقعي أو لا يجزي؟ فأحد التّكليفين وهو التّكليف الاضطرار معلوم ، وما ما زاد عليه مشكوك فيه مدفوع بالأصل ، وكذا الحال بالنّسبة إلى الغرض من الأمر والمصلحة فإنّهما بالنّسبة إلى الأمر الاضطراري معلومان تفصيلا والمفروض سقوطهما بالعمل على طبقه وما زاد عليهما مشكوك مدفوع بالأصل ، ولذا قلنا في ذلك المقام بأصالة البراءة عن الإعادة والقضاء.

وأمّا في المقام فحيث أنه ليس فيه تكليف معلوم تفصيلا وكذا الغرض والمصلحة بل كلّ من هذه مردد بين العمل بالواقع وبين العمل على طبق الإمارة حسب الفرض ، فالمرجع فيه استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف بالواقع أو

٢٢١

قاعدة الاشتغال ، وقضيتهما لزوم الإعادة مطلقا والقضاء إن كان بالأمر الأوّل وإن كان بغرض جديد فلا يجب إذ لا يثبت بأصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف فوت الواقع مع مصلحته الذي هو سبب القضاء إلّا على القول بالأصل المثبت ، نعم لو دلّ دليله على أن سببه مجرد ترك الواقع وإن لم يكن فريضة وحصل غرضه وجب القضاء بل الإعادة بطريق أولى ، ولكنّه مجرد فرض والله العالم.

وممّا ذكرنا ، يتبين أن عدم ذكر هذا الاستدراك في المقام مع ذكره فيما قبله كما في الكفاية لا وجه له سوى وضوحه ، ولعلّه لأجله تركه والحمد لله أولا وآخرا والصلاة على محمّد وآله أبدا دائما سرمدا.

* * *

٢٢٢

الفصل الرّابع

في مقدمة الواجب

وأقوى ما يدلّ على المطلوب من وجوب المقدّمة الوجدان عند ملاحظة ما هو مرتكز في الأذهان ، فإن الإنسان إذا راجع إلى نفسه عند أمره عبده بماله مقدّمة أو مقدّمات يرى أنّه يريدها ويطلبها منه أيضا لو التفت إليها ، غاية الأمر إن طلبها وإرادتها غيري تبعي تطفلي ترشح من قبل طلب الغير إرادته بمعنى أنه لو التفت إليها ورأي أن ما هو مطلوب به نفسا متوقف عليها بحيث لا يمكن إيجاده بدونها يحدث له في نفسه طلب آخر نحوها ، بل ربّما يبعث إليها ويجعلها في قالب الخطاب والطّلب أيضا بتلك الجهة والحيثيّة الّتي يبعث نحوه بإنشاء طلبه أعني من جهة مولويته وأمريته ، فيقول بعده مثلا : أدخل السّوق واشتر اللّحم؟ هل الأمران والطّلبان بملاك واحد ، أعني بملاك المولويّة أو الثّاني كذلك ، والأوّل إرشادي محض ، فيكون هذا الأمر من المولى على نحو ما قاله غيره لو فرض إن المولى اقتصر على قوله أدخل السّوق ، ولم يدر العبد أن اللّحم في أي مكان ، فسأل عن الغير وأجابه بقوله : أدخل السّوق واشتر اللّحم ، حيث أن الأوّل حينئذ لا يكون إلّا

٢٢٣

إرشاديّا محضا ، وعلى نحو ما لو كان الآمر في المثال عبدا وما لو كان الآمر طبيبا وقال للمريض : اشرب اللّبن أو الدّواء الفلاني. ومن المعلوم أنّا إذا راجعنا إلى أنفسنا لا نذعن بأن الأمرين نشئا بملاك واحد ، كما أن الثّاني نشأ بملاك المولويّة كذلك الأوّل وإن كانا مختلفين في النّفسيّة والغيريّة ولا يقتضي عدم كون الأوّل نفسيّا أن يكون إرشادى ، بل يكون مولويّا غيريّا ، بمعنى أنّه لما التفت إلى أن اشتراء اللّحم لا يكاد يوجد إلّا بدخول السّوق فلذا بعث نحوه مولويّا تبعا لبعثه إلى اشتراء اللّحم.

وبالجملة لا يكون المدعى ثبوت الملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها تفصيلا ، ضرورة اعتبارها كذلك ربّما لا يلتفت الآمر إلى أن لمطلوبه مقدّمة أو مقدّمات فضلا عن أن يأمر بها ويبعث نحوها ، بل ثبوت الملازمة إجمالا وعلى وجه الارتكاز بمعنى أنه لو التفت إلى أن لمطلوبه مقدّمة أو مقدّمات وأنّه لا يكاد يوجد بدونها يحدث له طلب آخر نحوها تبعا وتطفلا ، فإيجابها إجمالي ارتكازي ، وتفصيله متوقف على الالتفات إليها وإلى أنّها ممّا يتوقف عليه الواجب ، وهذا المعنى الإجمالي الارتكازي موجود في الكلّ ، لأنّه لو صحّ في بعض المقدّمات كما في المثال المذكور صحّ في غيره لوجود ملاكه ومناطه في الكلّ على حدّ سواء ، فالتّفصيل بين أقسامها بإيجاب السّبب دون غيره كما عن بعض ، أو بإيجاب الشّرط الشّرعي دون غيره كما عن آخر فاسد ، لما أسلفنا وسيأتي له مزيد تحقيق إن شاء الله.

ولا بأس بذكر ما استدل به على وجوب المقدّمة أبو الحسن البصري وبيان ما يرد عليه فإنه كالأصل لسائر الاستدلالات الّتي ذكرها الأفاضل ، حيث إنّهم ذكروه مع عدم تغيير له ، أو مع تغيير له يوجب إصلاح ما فيه من الخلل بحسب

٢٢٤

أنظارهم ، وهو أنه لو لم تجب المقدّمة لجاز تركها وحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم التّكليف بما لا يطاق وإلّا خرج الواجب عن كونه واجبا.

وفيه : أنّه إن اريد بالتّالي في الشّرطيّة الأولى أعنى جواز التّرك الإباحة والتّرخيص الشّرعي كما هو ظاهر ، ففيه ما لا يخفى ، بداهة أن المقدّمة إذا لم تكن بواجبة شرعا من جهة كونها مقدّمة الّتي هي كلّ الكلام في المقام لا يقتضي هذا أن تكون مباحة ومرخصا في تركها شرعا ، لإمكان أن لا تكون من هذه الجهة محكومة بحكم شرعي أصلا ، لا بالوجوب ولا بغيره ، وللشّارع أن يحيل حكمها إلى العقل حيث أنه مستقل بوجوبها من باب الأبديّة ، وهذا اتفاقي ، فيمكن أن تكون المقدّمة مباحة ذاتا ، ولكن تكون من جهة كونها مقدّمة للواجب غير محكومة بحكم شرعي أصلا ، لكفاية حكم العقل حينئذ ، وإمكان إحالة الشّارع إليه.

فانقدح ممّا ذكرناه ما ربّما يتوهّم من أنّه كيف يمكن أن تكون المقدّمة غير محكومة بحكم شرعي مع أن كلّ واحد من أفعال المكلّفين لا يخلو من أحد الأحكام الخمسة التّكليفيّة؟ وذلك لأن مفروض الكلام إثبات وجوب المقدّمة من حيث كونها مقدّمة ، فللمانع أن يلزم بخلوها عن الحكم الشّرعي من هذه الجهة وإن كانت مباحة ذاتا وواقعا ، وإن اريد بالتّالي هذا المعنى أعني عدم المنع الشّرعي ، نقول : أن هذا مسلم لكن نقول : إن اريد بقوله وحينئذ فإن بقي أمر حين جواز التّرك ففيه أيضا ما لا يخفى ، لعدم صدق شيء من الشّرطين وعدم لزوم أحد المحذورين ، ضرورة أنّه عند جواز ترك المقدّمة كيف يلزم أن يكون التّكليف بذيها تكليفا بما لا يطاق أو خروجه عن كونه واجبا ، لأن تأثير الإيجاب في القدرة غير معقول وعدم كون تركها إلّا كتركه في أنه مع بقاء الوقت لا يقتضي سقوط التّكليف ، ومع خروجه

٢٢٥

يلزم سقوطه لتحقق العصيان ، وهو موجب لسقوط التّكليف ، كما أن الإطاعة موجبة له ، وأين هذا من خروج الواجب عن كونه واجبا كما لا يخفى ، وإن اريد به حين ترك المقدّمة ، ففيه أن تركها يقتضي سقوط التّكليف عن ذيها لأنّه غير ممكن من الإتيان به حينئذ ، فيسقط التّكليف وإن كان زمانه متأخرا عن زمان ترك المقدّمة كترك السّفر مع الرّفقة الأخيرة إلى الحج ، فإنه يوجب حصول العصيان بترك الحج حين ترك السّفر معها ، ولا وجه لترقب زمان حضور العمل ، وبالجملة عند ترك المقدّمة وإن لم يبق وجوب لذيها إلّا أن هذا لأجل حصول عصيانه حين تركها لأنه متمكن من الإتيان بها وإطاعة الواجب ، وقد اختار بسوء اختياره تركه بتركها ، وإن كان قبل زمان وجوبه مع استقلال العقل اتفاقا بلزوم الإتيان بها إرشادا إلى ما في تركها من حصول عصيانه ولا محذور في هذا الالتزام.

وأقول : الأولى في الجواب أن يقال : لزوم أحد المحذورين على تقدير تسليمه وارد على كلّ حال سواء قلنا بوجوب المقدّمة أو عدمه ، فالأشكال مشترك الورود لا اختصاص له بالقول بعدم وجوبها ، سلّمنا عدم وروده على القول بوجوبها لكن نقول : بعد ترك المقدّمة إمّا أن يبقى زمان ذيها ويتمكن من إيجاده أو لا ، وعلى الأوّل لا يلزم أحد المحذورين كما لا يخفى ، وعلى الثّاني يلزم سقوط التّكليف حينئذ عن ذي المقدّمة لأجل حصول عصيانه اختيارا ، ولا محذور في هذا الالتزام ، ولعلّ هذه الصّورة محل الكلام ولذا لم يتعرض الأستاذ العلّامة «أدام الله تعالى أيامه» للتّحقيق وإلّا كان اللازم التحقيق في الجواب على نحو ما ذكرنا.

وأمّا التّفصيل بين السّبب وغيره بالإيجاب في الأوّل دون الثّاني فقد استدل له ، أمّا على عدم وجوب غير السّبب فبعدم الدّليل عليه ، وأمّا على وجوب السبب

٢٢٦

فبأن التّكليف لا يتعلق إلّا بالمقدور وهو ليس إلّا السّبب ، لأن المسبب من الأفعال التّوليدية وآثار السّبب المترتبة عليه قهرا ، ولا يكون من أفعال المكلّف وحركاته أو سكناته فلا بدّ من صرف الأمر المتوجه إليه إلى نفس السّبب.

وفيه : مع وضوح فساده ضرورة أنه لا يعتبر في صحّة التّكليف بشيء أن يكون مقدورا بلا واسطة ، بل يكفي عقلا كونه مقدورا بالواسطة بأن يكون من الأفعال التّوليديّة والمسببات الّتي تكون أسبابها مقدورة للمكلّف لا لصدق المقدور عليها بالعرض والواسطة وعلى نحو المجاز والمسامحة بل لصدقه عليها على نحو الحقيقة ، لأن المعيار والملاك في صدقه على شيء كونه وجودا وعدما بإرادة المكلّف واختياره بحيث لو شاء فعله ولو شاء تركه ، وهذا المعنى حقيقة موجود في الأفعال التّوليديّة والمسببات وإن كان إيجادها وتركها ، بإيجاد أسبابها وتركها ، قصوى الأمر أن نحو مقدوريتها يخالف نحو مقدوريّة أسبابها ، وهذا لا يقتضي أن يكون صدق المقدور عنها بالواسطة والغرض وعلى نحو المسامحة ، فيصحّ تعلق الأمر بها بأنفسها ، فلا وجه بصرف الأمر المتوجه اليها إلى أسبابها أنه لو سلم لا يكون إلّا دليلا على صرف الأمر المتوجه إلى المسببات إلى أسبابها ، فيكون مرجعه إلى إنكار وجوب المقدّمة مطلقا ، فلا يكون دليلا على المدعى وهو التّفصيل بين المقدّمات بثبوت الوجوب في الأسباب وعدمه في غيرها كما لا يخفى.

وأمّا التّفصيل بين المقدّمات الشّرعيّة وغيرها فقد استدل له ، أمّا على عدم وجوب غيرها فبعدم الدّليل عليه ، وأمّا على وجوبها فبأنّه لولاه لما كان شرطا فإن مقدّميتها ليست بعقليّة أو عادية فتتوقف مقدّمتها على إيجابها الغيري شرعا ، بخلاف غيرها فإن مقدّميتهم عقليّة أو عادية فلا تتوقف على إيجابه شرعا.

٢٢٧

وفيه : إن الإيجاب الغيري لا يتعلق إلّا بما كانت مقدّمة ، ضرورة أنه على القول بالملازمة ليس إلّا ترشحا من وجوب ذي المقدّمة ، فما لم يكن الشّيء مقدّمة للواجب لا يترشح من وجوب وجوبه إليه لأنه أجنبي عنه ، فكيف يترشح من وجوبه وجوب إليه؟ فالإيجاب الغيري مطلقا متوقف على المقدّمية ، وبعبارة أخرى موضوع الحكم الشّرعي بناء على الملازمة ليس إلّا موضوع الحكم العقلي ، ومن الواضح أنّ العقل لا يحكم بالوجوب إلّا فيما كان مقدّمة للواجب ، فيكون حكم الشّرع بالوجوب أيضا متوقفا على المقدّمية فلو كانت مقدّمية الشّرط الشرعي متوقفة على وجوبها شرعا يلزم الدّور ، نعم إثبات المقدّمية الشّرعيّة قد يكون بالإيجاب الشّرعي كاستفادة شرطيّة الطّهارة للصّلاة من مثل قوله تعالى : (إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية كما أن استفادة المانعيّة الشّرعيّة قد يكون بالنّهي وقد يكون استفادتها وإثباتها بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا صلاة إلّا بطهور» أو «صلّ عن طهارة» مثلا. فما صدر عن المفصل من توقف مقدّمية الشّرط الشّرعي على إيجابه شرعا إنّما نشأ من اشتباه مقام الإثبات بمقام الثّبوت في بعض المقامات ، إذ قد عرفت أن استفادة الشّرطيّة أو المانعيّة الشّرعيّة لا تنحصر في ورود الأمر أو النّهي ، بل يمكن استفادتهما بنحو آخر.

وكيف كان ، المقدّمة الشّرعيّة من الشرطية أو المانعيّة منتزعة من الأمر النّفسي المتعلق بذي المقدّمة إذا أخذ على وجه لا يكاد يوجد إلّا مع وجود شيء أو عدمه مقارنا له أو ما لم يتعلق الأمر بشيء على نحو خاص لا توجد تلك الخصوصيّة إلّا باقترانه بوجود شيء وعدم آخر معه لا ينتزع بذلك الشّيء الشّرطيّة ولهذا المانعيّة ، وبعد تعلقه به كذلك ينتزع لهما الشّرطيّة والمانعيّة الشرعية ، كما أن انتزاع

٢٢٨

الجزئيّة أيضا لا يكاد يتحقق إلّا بعد تعلق الأمر بوجودات خاصّة أي بجملة أمور ، حيث أنّه بعد تعلق الأمر بها ينتزع لكلّ واحد منها الجزئية ، فالمقدّمة الشّرعيّة مطلقا كالجزئيّة في إنّها منتزعة عن الأمر النّفسي لا عن الأمر الغيري ، كيف وهو متأخر عنها كما عرفت.

نعم الوجوب الغيري أيضا متأخر عن الأمر النّفسي ويترتب عليه إلّا أنّه ليس في مرتبة المقدّمية ، بل متأخر عنها بمرتبة ، هذا على مذهب الأشعري المنكر لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في متعلقاتها واضح ، وكذا على مذهب العدليّة فيما كانت المصلحة في نفس التّكليف لا في المكلّف ، وأمّا فيما كانت المصلحة في المكلّف به فالمقدّمية منتزعة عن كون الفعل ذا مصلحة وموافقا للغرض وإن لم يتعلق به أمر.

فتحصل ممّا ذكرنا : أن المقدّمة الشّرعيّة غير متوقفة على الأمر الغيري لا في مقام الثّبوت ولا في مقام الإثبات وهي راجعة إلى المقدّمة العقليّة لما تقدم من أن المقدّمة الشّرعيّة وهي ما يستحيل وجود ذي المقدّمة بدونها شرعا لا يتحقق إلّا إذا أخذ قيدا وشرطا له وجودا أو عدما ، واستحالة وجود المشروط والمقيد بدون شرطه وقيده ليس إلّا عقليا ، فترجع المقدّمة الشّرعيّة إلى المقدّمة العقليّة وهي ما استحيل وجود ذي المقدّمة بدونها واقعا ، وبالجملة المقدّمة الشّرعيّة أخذها واعتبارها في تحقق الواجب شرعي إلّا أن استحالة وجوده بدونها عقلي ، فمرجعها حقيقة إلى المقدّمة العقليّة ، ولو التزم أحد بوجوبها كالمفصل فلا محيص له من الالتزام بوجوب غيرها فإن ملاك وجوبها وهو توقف وجود الواجب على وجودها فلذا يترشح من إرادته وتعلق الطّلب به إرادة أخرى وتعلق طلب آخر

٢٢٩

نحوها بعينه موجود في غيرها فلا بدّ من الالتزام بوجوبها أيضا على حد سواء (١)

تتمّة :

لا ينبغي الإشكال في أن مقدّمة المستحب كمقدّمة الواجب في إنّهما على القول بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة وبين وجوبها يسري الاستحباب من المستحب إلى مقدّمته ، لأن ملاك الملازمة بين الوجوبين ، وهو كون مقدمة الواجب ممّا لا يتمكن المكلّف من إيجاد المطلوب بدونها فلذا يترشح من طلبه طلب آخر نحوها بعينه موجود بين المستحب ومقدّماته ، فلا محيص من الالتزام باستحبابها أيضا.

وأمّا مقدّمة الحرام أو المكروه أعني مقدّمة تركه فهي من قبيل مقدّمة الواجب أو المستحب فالكلام فيها الكلام فيهما ، وأمّا مقدّمة فعل الحرام أو المكروه فإن كانت سببا له بأن لم يمكن معها من ترك الحرام أو المكروه فلا محالة تكون مطلوبة التّرك على حسب مطلوبيّة ذي المقدّمة لأن طلبها يترشح من طلبه ، فتصير محرّمة أو مكروهة على حسبه (٢) بل على القول بوجوب المقدّمة السّببية حيث أن مرجع دليله كما عرفت إلى صرف الأمر المتوجه بالمسبب إلى سببه يلزم القول هنا بصرف النّهي التّحريمي أو التّنزيهي من المسبب إلى سببه ، وإن كانت غير سبب بأن يمكن معها من ترك الحرام أو المكروه وإن لم يمكن من فعله بدونها فلا وجه لترشح الحرمة أو الكراهة وسرايتها ، إليها لعدم وجود ملاك الملازمة حينئذ ، فإنّه أنما يكون بين المطلوب وبين مقدّمته ، والمفروض أن فعل الحرام أو المكروه ليس بمطلوب بل تركه

__________________

(١) كذي المقدّمة كما أنّه يسرى الوجوب من الواجب إلى مقدمته ، لمحرّره.

(٢) وجود ملاك الملازمة بين وجوب الشّيء وذي مقدّمته وبين حرمته وحرمة مقدّمته وبين كراهته وكراهة مقدّمته كما لا يخفى ، لمحرّره.

٢٣٠

مطلوب فلا وجه لسراية الحرمة أو الكراهة وترشحها ، إلى مقدّمته.

وبعبارة أخرى : موضوع الحكم الشّرعي المولوي في باب الملازمة ليس إلّا موضوع حكم العقل ، ومن الواضح أن حكمه بالملازمة الذي لا ينكره أحد ، إنّما يكون فيما كان مقدمه هو المطلوب شرعا والمفروض أنه مع إتيان مقدمة الحرام أو المكروه يتمكن من فعله وتركه اختيارا فلا (١) حكم للعقل حينئذ بالملازمة ، فكذلك لا حكم للشّارع بها أيضا ، وهذا واضح ، فإذا لم تكن للحرام مقدّمة سببيّة وإن كانت له مقدّمات كثيرة لا يتصف شيء منها بالحرمة ، وكذا القول في مقدّمة المكروه.

نعم لو أتى بها بقصد التّوصل إلى الحرام كما لو سلك طريقا بقصد السّرقة أو الزّنى ونحوهما من المحرمات المتوقفة على ذلك كان هذا نوعا من التّجري وشروعا في الحرام إن توصل منها إليه ، وإلّا كان تجريا محضا ، كما إنّه لو أتى بمقدّمة الواجب بقصد التّوصل إليه كان هذا نوعا من الانقياد وشروعا في الإطاعة أن توصل إليه ، وإلّا كان انقيادا محضا.

لا يقال ، كيف لا يكون شيء منها بحرام مع أن فعله لا محالة يكون بعد واحدة منها على وجه لا يتمكن من تركه بعدها ، ضرورة أن الشّيء ما لم يجب لم يوجد ، فتلك المقدّمة لا بدّ من أن تكون محرّمة على ما اعترفت به من كون المقدّمة السّببيّة محرّمة ، والحاصل أن مجموع المقدّمات علّة تامّة لفعل الحرام فكيف لا يكون شيء منها بحرام؟

لأنّا نقول : نعم ولكن ليس جميع تلك المقدّمات باختياريّة ، لأن منها مبادي

__________________

(١) فلا تكون مقدّمة لما هو المطلوب وهو التّرك ، لمحرّره.

٢٣١

الاختيار وهي ليست باختياريّة وإلّا لتسلسل الاختيار أو دار ، فإن كانت تلك المقدّمة الّتي لا يتمكن بعدها من ترك الحرام من المبادي لم يكن وجه حينئذ لترشح الحرمة إليها لعدم كونها اختيارية ولا إلى غيرها لعدم كونه مقدّمة سببيّة لفعل الحرام ولا إلى المجموع كما لا يخفى.

أقول : وظنّي أنّه هكذا فيه الإشكال والجواب عنه ، وكيف كان يمكن أن يكون مراد المستشكل إثبات الحرمة للجزء الأخير من المقدّمات لدعوى أن مجموعها علّة تامّة لفعل الحرام والجزء الأخير منها كالسّبب في أنّه بعده لا يتمكن من ترك الحرام ، فلا محالة يصير محرّما كالسّبب.

وجوابه : إن الجزء الأخير قد لا يكون اختياريا كمبادئ الاختيار حيث إنّها ليست باختياريّة وإلّا لتسلسل الاختيار ، فلا وجه لسراية الحرمة إليه ولا إلى غيره لأنّه ليس من قبيل السّبب لفعل الحرام ، إلّا أنّه يتوجه على هذا أنّه ننقل الكلام إلى ما كان من المقدّمات الاختياريّة قبل هذه المقدّمة الغير الاختياريّة إذ بعدها ينجر الأمر إلى فعل الحرام لا محالة ، فلا محيص من الالتزام بحرمتها ، وكيف كان مرجع هذا الجواب إلى تسليم الحرمة في بعض الصّور وهو ما إذا كانت مقدّمة الإجزاء اختياريّة أو مسبوقة باختيارى.

وربّما يجاب بأن فعل الحرام لشرب الخمر مطلقا مستند إلى الاختيار ، إذ بعد كلّ واحدة من المقدّمات كالمشي إلى بيت الخمّار وشراء الخمر منه ووضعه في الإناء ورفعه ووضعه في الفم ونحو ذلك من المقدّمات ، يمكن من ترك الشّرب أيضا إلّا أنه بعد تحقق الاختيار لا محالة يصدر منه الشّرب ولا يتمكن من تركه حينئذ والاختيار ليس باختياري حيث أنه مطلقا متأخر عن جميع المقدّمات ، فلا يكون

٢٣٢

شيء منها بحرام.

وفيه : أن الاختيار الذي لا يعقل أن يكون اختياريّا من القوي النّفسانيّة الّتي بعد إعمالها يصدر الفعل أو التّرك عن الفاعل بالاختيار ويسند إليه ، فاختيار الفعل ناشئ من ذلك الاختيار لا أنّه هو فليس اختيارا الشّرب مثلا إلّا عبارة عن فعله ، فما في هذا الجواب ناشئ من اشتباه الاختيار بمعناه الأوّل به بمعناه الثّاني ، ويمكن أن يكون مراد المستشكل إثبات الحرمة لجميع المقدّمات بدعوى أن مجموعها علّة تامّة لفعل الحرام والعلّة التّامّة كالمقدّمة السّببيّة محرّمة فيكون كلّ واحدة من المقدّمات محرّمة لأنّها أبعاض العلّة التّامّة.

وجوابه : إن مجموعها مع مبادى الاختيار علّة تامّة ومبادئ الاختيار ليست باختياريّة ، فلا وجه لثبوت الحرمة لما عداها فإنّها خاصة لا تكون علّة تامّة لفعل الحرام فلا يكون شيء منها بحرام.

* * *

٢٣٣

الفصل الخامس

أنّ الامر بالشّيء هل يقتضي النّهي عن ضده

اختلفوا في أن الأمر بشيء هل يقتضي النّهي عن ضده بنحو العينيّة أو الجزئيّة أو الملازمة بلزوم البين بمعناه الأعم أو الأخص وهل هذا النّزاع في مقام الثّبوت والواقع أو في مقام الإثبات والدّلالة؟ احتمالان ، فينبغي تحريره في مقامين.

الأوّل : في مقام الثّبوت بأن يكون النّزاع في أن طلب الفعل الإيجابي النّفساني هل يقتضي النّهي عن ضده بنحو العينيّة كما قيل به في الضّد العام أي التّرك بأن يدعى أن طلب الفعل وطلب ترك تركه الإلزاميين وإن كان مفهوما مختلفين إلّا أنّهما حقيقة في النّفس واحد وبنحو الجزئيّة كما قيل به أيضا في الضد العام بأن يدّعي أن الطّلب الإيجابي النّفساني مركب من جزءين : طلب الفعل وطلب ترك تركه ، أو بنحو اللّزوم البين بمعناه الأخص كما قيل به في الضّد العام ، أو بمعناه الأعم كما قيل به في الضّد الخاص.

الثّاني : في مقام الإثبات والدّلالة بأن يكون النّزاع في أن طلب الفعل الإيجابي الإنشائي كصيغة الأمر هل يتقضي النّهي عن ضده بنحو العينيّة أو الجزئيّة أو

٢٣٤

الملازمة بأحد الوجهين؟ وبعبارة أخرى هل يدلّ على النّهي عن ضدّه بالمطابقة أو التّضمن أو الإلزام بأحد الوجهين أم لا؟ ولا يخفى أن النّزاع في المقام الثّاني لا يصحّ إلّا بعد إثبات المقام الأوّل والفراغ عنه ، ولا يصحّ لأحد أن يقول في المقام الثّاني بخلاف ما قاله في المقام الأوّل ، بل كلّ من قال بالاقتضاء على بنحو العينيّة أو التّضمن أو الملازمة في المقام الثّاني يلزمه أن يقول بمثله في المقام الأوّل ، بل لا يصحّ التّفكيك بين المقامين من الطّرفين ، وكيف كان فاستعمال لفظ الاقتضاء في العنوان لا يخلو عن مسامحة ، فإنّه على حقيقته إنما يكون بين الاثنين وعلى القول بالعينيّة لا اثنينيّة في البين إلّا أن يقال أن التّعبير به ليس بحسب الحقيقة والماهيّة بل بحسب المفهوم ، وهما بحسبه مختلفان كما عرفت ، فاستعماله في العنوان على سبيل الحقيقة لا التّوسع والمسامحة ، وكيف كان المراد بالضّد هنا معناه اللّغوي أعني مطلق المنافي والمعاند وجوديّا كان أو عدميّا لوقوع النّزاع في الضّد العام أيضا ، فليس استعماله في كلمات القوم على ما اصطلح عليه ، لحكماء وهو خصوص المعاند الوجودي ، ويمكن إرجاع الضّد العام إلى الكفّ كما قيل به في المطلوب بالنّهي وهو فعل وجودي ، إلّا أنّه من الواضح أن النّزاع في المقام ليس مبنيا على ذلك القول ، فلا بدّ من الالتزام بأن المراد في المقام مطلق المعاند والمنافي وإن كان عدميّا.

ثمّ أنّ القول بالاقتضاء به في الضّد الخاص منشأ به عند القائلين به أحد أمرين ، إمّا توهم عدم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم الشّرعي بناء على أنه ليس بين ترك أحد الضّدين مع فعل الآخر إلّا التّلازم لا مقدّمية في البين من الجانبين ، بل هما في عرض واحد ، وإمّا توهم كون ترك أحد الضّدين مقدّمة لفعل الآخر بناء على القول بوجوب مقدّمة الواجب ، إذ على هذا القول بعد تسليم مقدّميّة ترك الضّد

٢٣٥

لفعل الآخر يلزم وجوب ترك الضّد إذا كان أحد الضّدين واجبا ، وليس وجوب ترك الضّد إلّا عبارة أخرى عن حرمة فعله. وعلى هذا الوجه فالنّزاع بين المثبتين والنّافين يكون مفرديا حيث أن مرجعه إلى أن ترك أحد الضّدين هل هو مقدّمة لفعل الآخر كي يقتضي وجوبه وجوبه أم لا كي يقتضي وجوبه وجوبه؟ ولمّا كانت عمدة الوجه عند القائلين باقتضاء الأمر النّهي عن الضّد الخاص الوجه الثّاني ينبغي تقديم مقدّمة يتعرض منها لبيان منشأ التّوهّم ، وفساده منقول وبابه الإستفائه إن نشأ بوهم مقدّميته ترك أحد الضّدين لفعل الآخر ليس إلّا ملاحظة وجود المعاندة والمنافاة والمنافرة والتّمانع بين فعليهما ، ومن الأمور الواضحة المعروفة إن عدم المانع من إجزاء المقتضى فيكون ترك أحد الضّدين مقدّمة لفعل الآخر ، ومنه أن حقيقة ما بين الضّدين من المنافرة والمعاندة والمطاردة والمنافاة لا تقتفي إلّا عدم إمكان اجتماع عينيهما في الوجود ، فيكون بين عين كلّ منهما مع ما هو بدليل الآخر ونقيضه ـ أعني عدمه الخاص لا عدمه المطلق ، ضرورة عدم التّناقض بين الشّيء وعدمه المطلق ـ كمال الملازمة ، وقضية هذا ليست إلّا إمكان اجتماعهما في الوجود عرضا وفي مرتبة واحدة ، فلم يكون ترك أحدهما مقدّما على الآخر ، طبعا ليست نسبة ترك أحدهما إلى عين الآخر إلّا كنسبة نقيض أحد المتناقضين إلى عين الآخر ، فإن المتناقضين وإن لم يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما بخلاف الضّدين حيث يمكن ارتفاعهما إن كان بينهما ثالث ، إلّا أنّهما من جهة وجود المنافرة والمنافاة بين وجودي الضّدين والمتناقضين على السّوية ، وكما أن المنافرة والمنافاة بين المتناقضين لا تقتضي أزيد من اجتماع أحد المتناقضين مع نقيض الآخر من دون أن يكون تقدم طبيعي لأحد الجانبين كذلك المنافاة والمنافرة بين عيني الضّدين لا

٢٣٦

تقتضي أزيد من إمكان اجتماع عين أحدهما مع نقيض الآخر عرضا لا طولا ، وليس اجتماعهما إلّا كاجتماع نقيضيهما ، فإنّهما كما عرفت ممكنا الارتفاع ، فكما أنه في صورة اجتماع نقيضيهما لا تقدم لأحدهما على الآخر كذلك في صورة اجتماع عين أحدهما مع نقيض الآخر ، بل ليس اجتماعهما إلّا كاجتماع نقيض أحد الخلافين مع عين الآخر في كونهما مجتمعين من دون ترتب في البين لأحد الطّرفين ، وببيان آخر ، ليس التّنافي وعدم إمكان الاجتماع بين عيني الضّدين إلّا إذا فرضا عرضا وفي مرتبة واحدة ، ضرورة إنّهما إذا فرضا طولا وفي مرتبتين ممكنا الاجتماع ، ففي تلك المرتبة الّتي لا يمكن اجتماعهما عينا يمكن اجتماع عين أحدهما مع نقيض الآخر وبديله ، فعين أحدهما مع نقيض الآخر في مرتبة واحدة من دون أن يكون لأحدهما تقدم طبيعي على الآخر ، إذ لا تقتضى له ، بل لا يعقل ذلك لأنّه إذا توقف فعل أحد الضّدين على ترك الآخر توقف الشّيء على عدم مانعة ، إذ المفروض أن ترك أحدهما من قبيل عدم المانع لفعل الآخر يلزم توقف ترك أحدهما على فعل الآخر توقف الشّيء على عدم مانعة ، لأن هذا قضية فرض التّمانع من كلا الطّرفين والمانعيّة لكلّ من الضّدين ، فيلزم الدّور لوضوح أنه على هذا يلزم توقف فعل كلّ من الضّدين على ترك الآخر وترك كلّ منهما على فعل الآخر وهذا دور صريح.

وربّما يتفصى عنه بأن التّوقف من طرف الوجود فعلي بخلافه من طرف العدم ، فإنّه إنما يكون على فرض وجود المقتضي له مع جميع شرائطه سوى وجود ضدّه ، إذ حينئذ لا يتحقق ترك ذلك الضّد إلّا لأجل وجود الضّد الآخر ، وهذا الفرض لا يكاد يتحقق ، لأن العدم دائما مستند إلى عدم المقتضي له لا إلى وجود المانع عنه ، فلا دور ، لأنّ التّوقف في الطّرفين ليس على نسق واحد ، في طرف الوجود فعلي وفي

٢٣٧

طرف العدم مجرد إمكان ليس بفعلي ، ولعلّ نظر هذا المتفصّي إلى أفعال العبيد لا مطلقا.

وعلى أي حال يتوجه عليه مضافا إلى أن ما ذكره لو سلم فإنما هو في أفعال العبيد ، وليس النّزاع في المقام مختصا بها ، بل يجري في أفعال الله تعالى ، ولا وجه لأن يقال أن العدم فيها مستند إلى عدم المقتضي لا إلى وجود المانع ، أن مرجع ما ذكر إلى إمكان لزوم المحال ، لأن فعل أحد الضّدين إن كان صالحا للمانعيّة الفعليّة في صورة وجود المقتضى على ما هو قضية كلام المتفصّي فلا محالة يلزم إمكان وقوع هذه المانعيّة ، مع أن وقوعها يستلزم الدّور ، فمرجع كلامه إلى إمكان وقوع الدّور ، وهذا باطل ، لأنّ ما يستلزم من فرض وقوعه محال فهو محال ، فالدّور على ما ذكرناه المتفصّي وإن كان يرتفع لاختلاف التّوقف في الطّرفين ، إلّا أن يلزم الاعتراف بإمكان وقوع المحال ، إذ لا يخلو إما أن يلتزم بصلاحية فعل الضّد للمانعيّة ولو في بعض الصّور أم لا؟ وعلى الثّاني يلزم الخلف لأنه يقتضي عدم كون ترك أحد الضّدين مقدّمة لفعل الآخر ، وهو خلاف الفرض ، وعلى الأوّل يلزم إمكان وقوع الدّور على ما عرفت ، ولو منع عن صلاحية كون فعل أحد الضّدين مانعا عن الآخر بدعوى أن صدق القضية الشّرطيّة ـ وهي في المقام كلما وجد المقتضي لفعل أحد الضّدين كان عدمه حينئذ مستندا إلى وجود الضّد الآخر ـ لا يتوقف على صدق طرفها ، يمكن أن تكون صادقة مع كذبهما كقولك في اللّيل إن كانت الشّمس طالعة كان العالم مضيئا.

نجيب : سلّمنا ذلك إلّا إنّا نقول أن صدقها يتوقف على وجود الملازمة بين الطّرفين ومنع الصّلاحية المذكورة مساوق لمنع الملازمة بين طرفي القضية

٢٣٨

الشّرطيّة ، ضرورة إنها بينهما لا تتحقق بدون الصّلاحية المذكورة ، ومعها يستلزم إمكان وقوع الدّور وهو محال ، وبدونها لا توقف أصلا لا في طرف الوجود ولا في طرف العدم ، وحيث أن التّوقف في طرف الوجود مسلّم عند المتفصّي فلا بدّ له من الالتزام لوجود الصّلاحية المذكورة ، وهي على ما عرفت مستلزمة لإمكان وقوع الدّور ، وما يستلزم من فرض وجود محال فهو محال.

فانقدح ممّا ذكرنا أن التّمانع بين الضّدين بمعنى كون ترك أحدهما مقدّما على فعل الآخر أو العكس طبعا لا مقتضي له ، كما يمكن أن يقال أن ترك أحدهما مقدّم على فعل الآخر يمكن أن يقال بالعكس ، وأمّا التّمانع بينهما المعاندة والمنافرة والمنافاة وعدم إمكان الاجتماع بين العينين ما شئت فسمّه به فهو موجود فيهما ، إلّا أن هذا المعنى لا يقتضي إلّا وجود الملاءمة والمناسبة وإمكان الاجتماع بين أحد العينين وبين بديل الآخر ونقيضه في تلك المرتبة التي يكون التّضاد والتّعاند بهذا المعنى بين العينين ، فأحدهما مع ما هو نقيض الآخر في عرض واحد وفي مرتبة واحدة.

وبعبارة اخرى : يكونان متلازمين معلولين لعلّة اخرى.

نعم إذا فرض في مورد تحقق العلّة التّامّة لأحد الضّدين لا كليهما ـ وإلّا لزم اجتماعهما وهذا خلف ـ كانت مانعة عن الضّد الآخر بالمعنى الأوّل ، فإنها حسب الفرص مقتضية لوجود ما ينافيه ويعانده ومؤثرة فيه ، فكيف لا تكون مانعة عن تأثير ما يقتضي وجود الآخر ، مثلا إذا فرض أن في نفس الإنسان مرتبة من المحبّة الشّديدة والشّفقة الأكيدة بالنّسبة إلى إنقاذ الولد لا تكون بالنّسبة إلى إنقاذ الأخر عند المزاحمة ، فلذا يبعث إلى إنقاذ الولد دون الأخ بمباشرته أو بأمر العبد به ، فكما

٢٣٩

أن تلك المحبة أو ذلك الأمر يكون مؤثرا في إنقاذ الولد الغريق تكون مانعة أيضا عن تأثير ما يقتضي إنقاذ الأخ الغريق من الشّوق الأكيد أو الأمر ، بل لو أحرز العبد هذا المعنى في نفس المولى وإن لم يصدر منه إليه أمر أصلا لعدم التفاته إلى غرقهما لزم عليه في حكم عقله إنقاذ الولد دون الأخ ويصحّ من المولى المؤاخذة والعقوبة على تركه ولا يقبل منه الاعتذار بعدم الأمر ، فإن ملاك الأمر الفعلي في إنقاذ الولد من المحبّة الأكيدة والشّفقة الشّديدة موجود ، فتصحّ المؤاخذة والعقوبة على تركه وإن أنقذ الأخ أيضا فإنه حينئذ وإن أتى ببعض ما هو محبوب ومطلوب له ، إلّا أنه لما لم يأت بتمامه لأنّه حسب الفرض ليس إلّا في إنقاذ الولد ، فلذا تصحّ مؤاخذته وعقوبته على تركه وإن اثيب أيضا بإنقاذ الأخ لما فيه من ملاك الأمر الفعلي لو لا المزاحمة.

وبالجملة تلك المرتبة من المحبّة المركوزة في النّفس أو الفعليّة عند الالتفات إلى غرق الولد والأخ أو الأمر الفعلي بإنقاذ الولد كما تكون مقتضية لإنقاذ الولد دون الأخ مباشرة أو تسبيبا بالأمر به ، كذلك تكون مانعة عن تأثير ما يقتضي إنقاذ الأخ عند المزاحمة من المحبّة أو الأمر الفعلي كما لا يخفى ، ولا يقتضي هذا أن يكون الضّد الذي تحققت العلّة التّامة لوجود مانعا عن الآخر كي يكون عدمه متقدّما على الآخر طبعا ورتبة كما هو المدعي ولا يكاد يتفاوت الحال فيما ذكرنا بين الضّد الموجود والمعدوم ، وبعبارة اخرى : بين ما لو كان المحل مشغولا بأحد الضّدين كالسّواد مثلا ثمّ يطرأ عليه العدم ويوجد الضّد الآخر كالبياض فيه وبين ما لو كان خاليا منهما ثمّ يطرأ عليه أحدهما ، خلافا لبعض الاعلام حيث فصل بين القسمين وقال بالتّوقف في الأوّل دون الثّاني ومنشؤه أن أحد الضّدين كالسّواد إذا فرض

٢٤٠