غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة والسّلام على محمّد وآله الطّاهرين واللّعنة على أعدائهم أجمعين من الاوّلين والآخرين الى يوم الدّين.

وبعد :

هذا الكتاب مشتمل على :

١ ـ مقدّمة

٢ ـ مقاصد

٣ ـ خاتمه.

٢١
٢٢

الامر الاوّل

في موضوع علم الاصول ومسائله

في بيان موضوع علم الاصول ومسائله ، وهو يستدعي تقديم مقدّمة : وهي أن لكلّ علم موضوعا ومسائل ، أمّا موضوعه وهو الذي يبحث فيه عن عوارضه الذّاتيّة ، أي عن أحواله الّتي تعرض عليه بلا واسطة في العروض بأن لا تكون تلك الاحوال من أحوال الواسطة بحسب الحقيقة بحيث يكون إسنادها الى ذي الواسطة أي الموضوع لاجلها تجوزا وعلى وجه المسامحة ، فهو ما انتزع واخترع عن موضوعات مسائله جامعا بينها ومغايرا لها بحيث يتّحد بها عينا وحقيقة وينطبق عليها خارجا اتحادا الكلّي مع الافراد وانطباق الطّبيعي على المصاديق ، فلا تغاير بين موضوع كلّ علم وبين موضوعات مسائله إلّا عند التّصور وبحسب المفهوم الذّهني تغاير الجزئي مع الكلّي والمصداق مع الطّبيعي كالفعل والفاعل والمفعول والحال والتّمييز ونحوها في موضوعات مسائل النّحو الّتي يبحث فيها عن عوارضها الذّاتيّة كالاسناد والرّفع والنّصب ونحوها فانها ممّا يتّحد معها وينطبق عليها موضوعه وهو ذات الكلام والكلمة لا بشرط وغير مقيدة بقيد حتى قيد الاطلاق.

٢٣

وأمّا مسائله : وهي الّتي تكون حقيقة نفس ذلك العلم فهي جملة من القضايا المتشتتة المختلفة بحسب الموضوع والمحمول المتساوية والمشتركة في الدّخل في حصول الغرض ، والمهم الدّاعي على تدوين العلم وهو الضّابط ، وهذا والمقياس لتميز المسائل كلّ علم في ما عداها ، فكلّ قضية تذكر فيه ينبغي أن تلاحظ إن كانت مشتركة في الدّخل في حصول ما هو الغرض في تدوين العلم فهي في مسائله وإن لم تكن كذلك بل كانت مرتبطة به في بعض المقامات فهي ممّا تذكر فيه استطراد أو تبعا لما ترتبط من المسائل والاستطراديات في كلّ علم كثيرة جدا ، مثلا لو فرض أن الغرض من تدوين علم النحو هو معرفة أحوال الكلام والكلمة فكلّ قضية تذكر فيه إن كانت مشتركة في الدّخل في حصول هذا الغرض فهي داخلة في مسائله ، وإلا فهي خارجة عنه ، وإن كانت من استطرادياته ولأجل ما ذكرنا يمكن تداخل بعض العلوم كالاصول واللغة أو النّحو أو الكلام أو الحكمة في جملة من المسائل اذا كانت مشتركه في الدخل فيما هو الغرض تدوين علمين فصاعدا كما لا يخفى. وليس المراد بالغرض ما يتعلق بأمر شخصي ، ضرورة أنّه قد يتعلق الغرض من تدوين علم بأمرين ، كمعرفة أحوال الكلام والكلمة من علم النّحو مثلا ، وليس المراد بالمسائل خصوص المسائل المعنونة المبحوث عنها في ألسنة أرباب ذلك العلم ، بل الاعمّ منها ومن المسائل المستحدثة الّتي لم تكن معنونة عندهم بعد اذا كانت مشاركة لها في الدّخل في حصول الغرض الدّاعي على تدوين العلم. مثلا لو فرض أن الغرض من تدوين علم الاصول تنقيح القواعد الّتي تقع في طريق استنباط الاحكام الفرعيّة من أدلتها أو تنتهي اليها عند اليأس عن الظفر على الامارات والطرق ، فكلّ مسئلة ينتفع بها في هذا المقام فهي من مسائله سواء

٢٤

عنونت في كلّ مات الاصوليين أو لم يكن معنونة بعد ، وممّا ذكر تبين أن تمايز العلوم إنّما هو باعتبار تمايز الأغراض الدّاعية على تدوينها لا باعتبار تمايز موضوعات المسائل أو محمولاتها كما قيل ، بل هو المعروف ، ضرورة أن الموضوع والمحمول في أبواب كلّ علم كالطّهارة والدّيات من علم الفقه بل في كلّ مسألة من كلّ باب منه غير الموضوع والمحمول فى سائر الابواب والمسائل الاخرى من ذلك العلم ، ولو كان اختلاف العلوم باختلاف الموضوعات أو المحمولات لزم أن يكون كلّ باب من كلّ علم بل كلّ مسألة منه علما على وحده ، وهذا واضح الفساد. فتحصل مما ذكرناه أن المقياس الصّحيح لامتياز العلوم هو اختلاف الأغراض الا الدّاعية على تدوينها سواء اختلفت مسائلها موضوعا ومحمولا أم اتّحدت في جملة منها ، كما أن مجرد اختلاف المسائل كذلك لا يوجب اختلاف العلوم ، كذلك اتحادها في الجملة لا يوجب اتحادها ، بل إنّما يوجب تداخلها موضوعه ، فهو على حسب ما عرفت في بيان المقياس لموضوع كلّ علم عبارة عن الطّبيعي الجامع بين شتات موضوعات مسائله وإن لم تكن معنونة بذلك ، فإن قدرنا على استقصائها والتّعبير عن الجامع بينها بمفهوم فارد ومعنى واحد ينطبق عليها فهو ، وإلّا فنشير إليه بأي لفظ يدل عليه ولو بمثل ما ينطبق عليها ويتحد معها ، ولا يلزم محذور حينئذ ، ضرورة أن العجر عن ذلك لا يقتضي جهالته مطلقا كي يكون طلبه من قبيل طلب المجهول المطلق ، فإن معرفة الشّيء بوجه يكفي في صحّة طلبه قطعا ، وبمثل ما ذكر تتحقق معرفته بوجه كما هو واضح ، وليس موضوعه خصوص الأدلة الأربعة الكتاب والسّنّة والاجماع والعقل إذ لو كان الامر كذلك يلزم أن يكون البحث في كلّ مسألة من المسائل الاصوليّة راجعا إلى البحث عن أحوال الأدلة مع أنه في كثير من مسائله

٢٥

المهمّة لا يكون كذلك ، وذلك لأنّ منها ما يكون النّزاع فيه صغرويّا ، بمعنى أنه في أصل ثبوت الموضوع وما هو مفاد كان التامة الذي يقع جوابا عن سؤال عنه بهل البسيطة كمسائل التّحسين والتّقبيح العقليين وحرمة الضّد ووجوب المقدّمة وعدم جواز إجماع الأمر والنّهي في شيء واحد وحجّية الاجماع وخبر الواحد تعيينا أو تخييرا عند المعاوضة ونحوها لوضوح أن البحث في هذه المسائل يرجع الى أنه هل للعقل حكم واستقلال في بعض الاشياء أم لا؟ وإلى أن الاجماع المتحقق بم يتحقق؟ هل يتحقق من باب اللّطف كما هو مذهب الشّيخ (قده)؟ أو من باب الحدس كما هو مذهب المتأخرين ، أم لا؟ لأنّه بعد تحققه لا يمكن النّزاع في حجّيته ، ضرورة أنّه بعد تحققه يكون قطعيا فكيف ننكر حجّيته؟ والى إنّه عند تعارض الاخبار هل فيها حجّة شرعيّة يقينيا أو تحيزا أم لا. ومنها ما يكون النّزاع فيه كبرويّا ، بمعنى أنّه يرجع الى النّزاع في كيفية ثبوت الموضوع بعد الفراغ عن أصل ثبوته وما هو مفاد كان النّاقصة الذي يقع جوابا عن سؤال عنه بهل المركبة ، كمسائل حجّية ظواهر الكتاب والسّنة القطعيّة وحكم العقل بعد فرض ثبوته في مقابل الاخباري المنكر لها.

ولا يخفى أن السّنة إن اريد بها نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره كما هو المصطلح فيها فالبحث في حجّية الخبر الواحد داخل في القسم الاوّل ، لوضوح أن البحث عن حجّيته يرجع الى أنّه هل ثبت به السّنة أم لا؟ وكذا مسائل التّعادل والتّرجيح. وإن اريد بها ما يعمّ حكايتها فالبحث عن حجّيته يدخل في القسم الثّاني ، وكذا مسائل التّعادل والتّرجيح كما لا يخفى ، والاجماع المنقول بخبر الواحد قسم منه فيأتي فيه حكمه. ولو كان موضوع الاصول خصوص الأدلة يلزم خروج

٢٦

القسم الاوّل عن مسائله لانه عمدة مسائله المهمّة لعدم رجوع البحث فيه عن أحوال الأدلة بما هي أدلة كما لا يخفى. وربّما يتكلّف لادراج مسألة حجّية خبر الواحد ومسائل التّعادل والتّرجيح حيث أن البحث فيها ليس عن أحوال السّنة بعد الفراغ عن الدّليلية فيلزم خروجها عن مسائل الاصول.

ويقال : أن المراد بالأدلة ذواتها بما هي هي لا بما هي أدلة ، ومرجع البحث فيها الى البحث عن ثبوت السّنة بخبر الواحد عند عدم المعارضة وبأى الخبرين عندها ، والبحث عن ثبوت السّنة بحث عن أحوالها.

وفيه : أن البحث عن أحوال كلّ شيء وعوارضه فرع إحرازه وإثباته ، وما قيل في أن مرجع البحث في هذا المسائل الى البحث عن إثبات السّنة بخبر الواحد ولو حال المعارضة إن اريد به إثباته واقعا فهو واضح الفساد ضرورة أنّه لا تثبت بخبر الواحد ولو مع عدم المعارضة السّنة واقعا. وإن أريد به اثباته تعيين القول هذا مسلّم ، ولكنّه في عوارض السّنة لو اريد بها ما يعمّ حكايتها لا نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره فإنه عند قيام خبر الواحد غير معلوم فكيف يكون البحث عن إثباتها حينئذ بحثا عن أحوالها؟ ومن هنا ظهر أن عد مسألة حجّية خبر الواحد ومسائل التّعادل والتّرجيح من مسائل الأصول إنّما يصحّ لو اريد بالسّنة ما يعمّ حكايتها وهو خلاف المصطلح فيها.

* * *

٢٧

الأمر الثاني

في اختصاص اللفظ بالمعنى

الوضع نحو اختصاص للفظ بالمعنى وارتباط خاص بينهما يحدث تارة بوضع الواضع اللّفظ بازاء المعنى واخرى غلبة استعماله فيه الى أن يصير حقيقا له ومنقولا إليه ، وبهذا المعنى يصحّ تقسيم الوضع الى قسمين : تعييني وهو الاوّل الحادث من وضع الواضع ، وتعيني وهو الثّاني الحادث من كثرة الاستعمال على ما مرّ. ولا بدّ في الاوّل للواضع في تصور الطّرفين اللّفظ والمعنى حين الوضع ولا يخلو إمّا أن يكون الوضع أي المعنى الملحوظ حينه عاما أعني به ما ينطبق ويصدق على كثيرين ، أو خاصا ليس كذلك ، وعلى الاوّل فإمّا أن يوضع اللّفظ بازاء ذلك المعنى العام فيكون الوضع والموضوع له حينئذ عامين ، وإمّا أن يوضع اللّفظ بازاء مصاديق ذلك المعنى وأفراده الكثيرة المجهولة بخصوصياتها ومشخصاتها المعلومة بهذا العنوان العام حين الوضع فإن العام وجهة لها ومعرفته طريق ومرآة لمعرفتها فإنّه ممّا ينطبق عليها ويتّحد معها عينا ، ولا يلزم في مقام الوضع تصور المعنى بنفسه وحقيقته ، بل تكفي معرفته بوجه. ومن المعلوم أنه إذا لاحظ العام فقد لاحظ

٢٨

الخاص ، أي كلّ فرد من أفراده بوجهة فيصحّ له أن يوضع اللفظ بإزائهما ، وإن وضع كذلك يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا ، وعلى الثاني فلا بدّ له من أن يوضع اللفظ بازاء ذلك المعنى الخاص ، ولا يمكن العكس بأن يتصور معنا خاصا ويوضع اللفظ بازاء عام ، فإن معرفة الخاص بما هو خاص كمعرفة زيد بما هو زيد لا يكون معرفة للعام كالانسان بما هو عام ، لا بنفسه وحقيقته ولا بوجهه ، فلا يكون ملحوظا بوجه ، فلا يعقل أن يوضع اللفظ بإزائه إذ لا بدّ في مقام الوضع في تصور المعنى الموضوع له ولو بوجهه.

وحاصل الفرق بين القسمين أن جميع أفراد العام ما وجد منها وما سيوجد لأجل تشتتها وعدم إنهائها أو عدم انحصارها ممّا لا طريق الى معرفتها بأنفسها وخصوصياتها ، فاذا أراد الواضع أن لوضع لفظا بإزائها فلا بدّ له من الاقتصار بمعرفتها بوجهها ، أي بعنوان جامع ينطبق عليها أعني الطّبيعي المشترك بينها. فإن لاحظها كذلك ووضع لفظا بإزائها يكون الوضع حينئذ عاما والموضوع له خاصا ، بخلاف العكس فإن ملاحظة الخاص بما هو خاص كملاحظة زيد بخصوصيته زيديته لا يكون آلة ومرآة ووجهه لملاحظة العام بما هو عام ، لا بنفسه ولا بوجهه ، فلا يمكنه أن يتصور خاصا ويوضع لفظا بازاء عام ، نعم لو تصور الخاص وجرد عنه قيد خصوصيته وحلل الى خصوصيّة ومعنى عام يشترك بينه وبين سائر الافراد وهو المسمى بالطّبيعي كما لو تصور زيدا وحلله الى خصوصيته الزّيديّة والانسانيّة فقد تصور العام أو أيضا حينئذ بنفسه وحقيقته ، فله أن يضع لفظا بإزائه ، إلّا أن هذا ليس قسما رابعا بل هو القسم الاول ، غاية الأمر أن تصور العام نفسه حينئذ إنما حصل تصور الخاص وتحليله فانه صار سببا لتصوره بنفسه. ولا

٢٩

ننكر هذا إذ فرق واضح بين كون تصور الخاص بما هو خاص تصورا للعام بوجهه وبين كونه موجبا وسببا لتصوره بنفسه أيضا إذا حلل الى جزءين خصوصية ومعنى عام كالإنسانيّة في زيد والذي ننكره هو الاول ضرورة أن تصور زيد مثلا بما هو زيد من دون تحليله الى الجزءين لا يكون تصورا للانسانيّة الموجودة في ضمن عمرو مثلا ، فإن ما هو موجود في ضمن زيد بما هو زيد وخصوصيته من العام مغاير لما هو موجود منه في ضمن عمرو كذلك فاذا لم يكن تصور الخاص بما هو خاص تصورا للعام بما هو عام لا بنفسه ولا بوجهه فلا يعقل أن يوضع لفظا حينئذ بإزائه ، فالأقسام الممكنة للوضع باعتبار المعنى المتصور بعينه والمعنى الموضوع له ثلاثة كما ذكرها القدماء والفحول والاساطين : إمّا كلاهما عام وإمّا كلاهما خاص أو الاوّل عام والثّاني خاص ، ولا يمكن العكس كما توهّمه بعض الأعلام حيث زعم أنه كما يمكن أن يجعل تصور العام موجبا لتصور الخاص بوجه ، فان العام مرآة الخاص ، فبتصور العام يتصور الخاص لوجهه ومرآته لا بنفسه وحقيقته كذلك يمكن العكس بأن يجعل الواضع ملاحظة الخاص آلة ومرآتا لملاحظة العام ، فيصوره بوجهه ويضع لفظا حينئذ بإزائه وهو ناشئ عن الغفلة وعدم التّفرقة بين كون تصور الخاص موجبا لتصور العام بنفسه وحقيقته عند تجريد خصوصية الخاص وتحليله الى جزءين خصوصيته ومفهوم عام ، وبين كون تصوره موجبا لتصور العام بدون التّجريد والتّحليل والذي ننكره ونقول بعدم مكانه هو الثّاني ، لأن تصور الخاص بما هو خاص لا يوجب تصور العام أصلا كما أن تصوره لا يوجب تصور الخاص بما هو خاص كما لا يخفى. ومن هنا يقال إنّ لجزئي لا يكون كاسبا ولا مكتسبا ، والاوّل الذي نعترف هو قسم في الإقسام

٣٠

الثلاثة حقيقة كما عرفت ، وهل الإقسام الثّلاثة الممكنة حصولها واقعة أم لا؟

لا اشكال ولا كلام في وقوع القسم الاوّل كأسماء الاجناس ، فإن الوضع والموضوع له فيها عام بلا كلام وكذلك في وقوع القسم الثّاني كأسماء الاعلام فإن الوضع والموضوع له فيها خاص بلا اشكال وكلام.

وأمّا القسم الثّالث وهو كون الوضع عاما والموضوع خاصا فقد يتوهّم وقوعه أيضا ويعدّ منه وضع الحروف وما يشابهها من الاسماء بزعم أن المستعمل فيه لها خاص دائما ، وهو كاشف عن كونها حقائق في المعاني الخاصة الّتي تستعمل فيها ، اذ من البعيد جدا كونها موضوعة لغيرها من المعاني العامة مع عدم استعمالها فيها أصلا وإن لم يكن استعمالها في المعاني الخاصة من قبيل المجاز بلا حقيقة ، وحيث أن المعاني المستعمل فيها لم تكن معلومة للواضع حين الوضع بتشخصاتها وخصوصياتها قطعا ، فلا بدّ بعد فرض كونها حقائق هما في الالتزام بانها كانت متصورة حين الوضع لا بنفسها بل بوجهها ، أي بتصور الطّبيعي الجامع بينها ، فيكون الوضع فيها عاما والمستعمل فيه خاصا.

وقد يتوهم : فيها أن المستعمل فيه خاص فقط دون الوضع والموضوع له ، وكلا القولين على ما يقتضيه النّظر الدّقيق على خلاف التّحقيق ، وذلك لأن خصوصية المعنى المستعمل فيه المتوهمّة لا يخلو إمّا أن تكون الخصوصية الخارجية أو الذهنية ، لان الكلّي الطّبيعي له موطنان الخارج والذّهن ، إن وجد في الخارج يتخصّص ويصير جزئيا خارجيا ، وإن وجد في الذّهن يتخصّص فيه أيضا ويصير جزئيا ذهنيّا ، أو يمتنع بهذا اللّحاظ والتّصور الذّهني صدقه على كثيرين حتى أنه يباينه إذا لوحظ ثانيا كما لوحظ أوّلا ، وإن كان الملاحظ واحدا ، فإن اريد بالخصوصية المعنى

٣١

الثّاني فلا شبهة في كذبه وفساده ، لوضوح أن المستعمل فيه ربّما يكون كلّيا كما في مثل سر من البصرة ، ولذا كان المكلّف مخيرا في الابتداء في ايّ مكان يشاء ، ولو كان المعنى جزئيا خارجيا لم يكن له ذلك كما لا يخفى ، وإن اريد بالخصوصية المعنى الثّاني نظرا إلى أن معاني الحروف آليّة وغير مستقلة في أنفسها بخلاف معاني الأسماء فإنّها ملحوظة مستقلة في أنفسها ، فامتياز كلّ كلّ منهما عن الآخر إنّما هو بحسب اللّحاظ والتّصور الذّهني إذا لوحظ المعنى في غيره وبتبعه لأنه من أحواله وخصوصياته القائمة به يكون حرفيا ، وإن لوحظ مستقلا في نفسه يكون اسميا ، مثلا مفهوم الابتداء إن لوحظ في أحوال المبتدأ والمبتدأ منه كالسير والكوفة مثلا في سرت من الكوفة يكون معنا حرفيا ، ولذا قيل في تعريفه : هو ما دلّ على معنى في غيره ، وإن لوحظ مستقلا في نفسه يكون معنى اسميّا ، فالمعنى الحرفي جزئي ذهني نسبته الى المعنى الاسمي في الوجود الذّهني نسبة العرض الى الجوهر في الوجود الخارجي كما أن العرض لا يكاد يوجد خارجا إلّا في الجوهر ، لانّه من أحواله وصفاته فهو قائم به وموجود بتبعه ، كذلك المعنى الحرقي (١) لا يكاد يوجد ذهنا إلّا في مفهوم آخر لانّه من أحواله وخصوصياته القائمة به.

ففيه : أن هذه الخصوصيّة إمّا تجيء وتحدث في قبل الارادة الاستعماليّة أي استعمال اللّفظ في المعنى إذ ليس إلّا عبارة عن إرادته باللّفظ وهي كسائر الخصوصيات الجائية من ناحية الارادة والاستعمال كلحاظ استقلالية المعنى من مقومات المعنى المستعمل فيه ، بمعنى أنّها ليست مأخوذة فيه على وجه الجزئيّة أو الشّرطيّة ، فإن مرتبة صيرورة المعنى مستعملا فيه في عرض مرتبة الاستعمال ،

__________________

(١) لا يخفى أنّ أقول خصوصية المعنى الحرفي كخصوصية المعنى الاسمي.

٣٢

وهذه الخصوصيّة متأخرة عن مرتبة الاستعمال لتفرعها عليه ، فكيف تكون مأخوذة في المستعمل فيه شطرا أو شرطا؟ نعم يمكن أخذها فيه كذلك إمّا أنه يحتاج استعمال اللّفظ فيه الى إرادة اخرى ولحاظ آخر فإن مفروض الكلام ، الكلام الصادر عن القصد والارادة ، ولما لم تكن للمستعمل إلّا إرادة واحدة قطعا فيعلم عدم كون الخصوصية جزءا وقيدا للمستعمل فيه ، فهو في الحروف ليس إلّا نفس المعنى مجردا عن الخصوصيات الحادثة فيه من ناحية الارادة ولحاظ آليته وعدم استقلاله في نفسه ، كما أن المستعمل فيه في الاسماء إنّما هو نفس المعنى مجردا عن الخصوصيات الحادثة فيه من قبل الارادة ولحاظ استقلاليته إذ لا يعقل أن يكون شيء من الخصوصيتين مأخوذا من المستعمل فيه ، مع أن المعنى لو كان هذا للحاظ والخصوصية مستعملا فيه لامتنع تعلق التّكليف وامتثاله في مثل سر من البصرة إلّا وإلغاء الخصوصيّة ، لأنّه بهذا اللّحاظ من أقسام الكلّي الفعلي ولا موطن له إلّا في الذّهن ، فيمتنع صدقه مع الخارجيات الّتي هي متعلقات التّكاليف ، مضافا الى أن لحاظ عدم استقلال المعنى لو كان موجبا لخصوصيّة المستعمل فيه في الحروف فليكن الامر كذلك في الأسماء لأن معانيها أيضا ملحوظة بنحو الاستقلال ، وحيث أن هذه اللّحاظ فيها لا يوجب خصوصية معانيها فكذلك في الحروف من غير فرق أصلا. وبالجملة لا فرق بين كلمة من والابتداء في المعنى وكذا بين سائر الحروف والاسامي الموضوعة لمعانيها إلّا بحسب التّصور واللّحاظ في الذّهن مستقلة في أنفسها أو غير مستقلة كذلك مثلا مفهوم الابتداء إن لوحظ مستقلا في نفسه لا في أحوال غيره وخصوصياته يكون معنى للابتداء الاسمي ويصح حينئذ أن يخبر به وعنه كأن يقال إبتداء سيري من مكان كذا أحسن من كذا فيقبل للصّدق

٣٣

والكذب حينئذ ، وأن لوحظ غير مستقل في نفسه بل في غيره وبتبعه بحيث لا يمكن تصوره بدون تصور الغير لأنه من .. أحواله وخصوصياته في الذّهن كالسير والكوفة يكون معنى لمن ولا يصح أن يخبر به ولا عنه حينئذ وحيث قد عرفت أن هذان اللحاظان خارجان عن ذات المعنى غير مأخوذين فيه عند الاستعمال فلا فرق بين الحروف والاسماء الموضوعة لمعانيها لا بحسب الوضع ولا بحسب الموضوع له ولا بحسب المستعمل فيه.

فإن قلت : على هذا تكون كلمة من والابتداء والى والانتهاء وكذا سائر الحروف والاسامي الموضوعة لمعانيها في قبيل الالفاظ المترادفة ، فيجوز استعمال كلّ منها في معنى الآخر مع أن هذا واضح الفساد.

قلت : الفرق فيهما كما أشرنا إليه إنّما هو في اختصاص كلّ من الحروف والأسماء بوضع وطور على حده ، بمعنى أن الغرض والدّاعي على الوضع فيهما مختلف فالغرض من وضع الحروف أن تلاحظ معانيها وتصور غير مستقلة في أنفسها ، فتراد باستعمال الفاظها فيها لكن لا مع هذا اللحاظ ، بل مجردة منه والغرض من وضع الأسماء أن تلاحظ وتصور معانيها مستقلة في أنفسها وبما هي هي فتراد باستعمال الفاظها أيضا مجردة عن هذا اللّحاظ ، لما قد عرفت من أن لحاظ آلية المعنى أو استقلاليته خارج عن المستعمل فيه ، ولا يعقل أخذه فيه فالمستعمل فيه في الحروف والأسماء هو ذات المعنى المتصور كمفهوم الابتداء مثلا مجردا عن قيد تصوره غير مستقل أو مستقلا في نفسه ، فلو استعمل كلّ منهما في مقام الآخر واريد به المعنى مجردا عن القيدين لم يستعمل اللّفظ في غير معنى ما وضع له ، بل إنّما استعمل مع خلاف وضع استعماله وطوره ، فإن شئت أن تسمي هذا النّحو من

٣٤

خلاف الوضع في طور الاستعمال مجازا فلا مشاحة في الاصطلاح إلّا أنّه خارج عن اقسام المجاز بالمعنى المصطلح كما لا يخفى ، فعدم جوازه إنّما هو لأجل كونه على خلاف ذلك الوضع والقانون في مقام الاستعمال.

ومن هنا انقدح : أنّه يصح الالتزام بأن الاختلاف بين الإخبار والإنشاء كذلك ، بأن يقال : أن المعنى المستعمل فيه في مثل «بعت» إخبار أو إنشاء واحد ، وهو إسناد المتكلّم البيع الى نفسه مجردا عن خصوصية إخبارية أعني لحاظ قصد الحكاية والإخبار بلفظ «بعت» عن تحقق ذلك المعنى في موطنه خارجا أو ذهنا إن أمكن وعن خصوصية إنشائيته أعني لحاظ قصد وقوعه وثبوته في الخارج لنفس هذا اللّفظ. فالفرق بينهما إنّما هو من قد يقصد المتكلّم في لفظ بعت مثلا الحكاية عن تحقق معناه في موطنه فيصير اخبارا ، وقد يقصد به تحقق معنى في موطنه وإيجاده لنفس هذا اللّفظ فيصير إنشاء ، لكن المعنى المستعمل فيه في كلا الاستعمالين واحد ، وهو ذات المعنى المقصود مجردا عن اللّحاظين ، فإنّهما يبحثان في ناحية الارادة والاستعمال ولا يعقل أن تكون خصوصية المعنى الحادثة بنفس الارادة والاستعمال مأخوذة في المستعمل فيه ومن مقوماته.

ومن هنا انقدح : أنّه يمكن أن يقال أن الموضوع له والمستعمل فيه في أسماء الاشارة والضمائر كهذا ، وأنا وأنت ونحوها عام وإن كان يصير في جزئيا خارجيا بعد الاستعمال ، فإن تشخصه وجزئيته إنّما تجيء من قبل الاشارة الحسية في مثل «هذا» والحكاية عن النفس في مثل «أنا» والمخاطبة مع الغير في مثل «أنت» وتشخص المعنى بالاشارة أو الحكاية أو المخاطبة لا يقتضي أن يكون هو بهذا التشخص الخارجي وبهذا اللّحاظ مستعملا فيه ، فيصح أن يقال ، أن هذا مثلا هو

٣٥

موضوع ومستعمل في مطلق المفرد المذكر لمشار إليه ولكن بقيد كونه مشارا إليه كي يكون جزئيا ، بل مجردا عن هذا القيد ، غاية الامر أن الاشارة الحسيّة تقتضي جزئيته وتشخصه خارجا ، وهكذا الكلام في مثل أنا وأنت ، فإن تشخص المعنى فيهما في ناحية الحكاية والمخاطبة ولا داعي لنا على الالتزام بأنّ الموضوع له والمستعمل فيه في أسماء الاشارة والضّمائر خاص ، إذ يمكن القول بكونهما فيها عامين وإن تشخص المعنى المستعمل فيه إنّما يجيء من قبل الامور المقارنة في الاستعمال من الاشارة والحكاية أو المخاطبة.

فتلخص ممّا ذكرناه : أن خصوصيّة المعنى المستعمل فيه سواء كانت خارجيّة كما في أسماء الاشارة والضمائر أو ذهنيّة كما في أسماء الاجناس والحروف لا تقضي كون الموضوع له خاصا ولا المستعمل فيه كذلك ، إذ يمكن أن يقال أن المستعمل فيه عام وإن تشخصه ذهنيا أو خارجيا إنّما يجيء من قبل الاستعمال ، والحكاية أو الاشارة ونحوها ، ولا يكون مأخوذا في المستعمل فيه قيدا أو جزء له بل لا يعقل ، لأن غرض المتكلّم في لفظ «هذا» الاشارة الى معناه ، وبها إنّما يتعين ويتخصص ، فكيف يكون تعيّنه وتخصصه بالاشارة جزء منه ومأخوذا فيه كي يستعمل اللفظ فيه بهذا التّعيين والتّخصص؟ وهكذا الكلام في سائر أسماء الاشارة والضّمائر ، سلمنا إمكان كون المستعمل فيه فيها وفي الحروف معانيها بما هي عليها من الخصوصيات الخارجيّة أو الذّهنيّة ، لكن نقول : أيّ دليل يدل على أن الواقع هذا دون ذلك ، فإن كلا منهما فنقول فيمكن أن يكون الواقع في الاقسام الثّلاثة المتصورة للوضع اثنين ، وهما القسمان الاوّلان. ولعله إذا لم يكن في كلام القدماء من وقوع القسم الثّالث في الحروف وما الحق بها عين ولا أثر ، وإنّما ذهب اليه بعض

٣٦

من تأخر أن تخصص معانيها عند الاستعمال ذهنا أو خارجا يستلزم أن يكون هي بهذا التّخصص مرادة ومستعملة فيها ، واستعمالها كذلك دائما كاشف عن كون الموضوع له فيها خاصا ، وقد عرفت بما لا مريد عليه أن خصوصية المعنى عند الارادة والاستعمال لا يستلزم أخذها في المستعمل فيه ، فلا كاشف عن خصوصية المعنى الموضوع له.

* * *

٣٧

الأمر الثالث

هل استعمال اللّفظ

فيما يناسب الموضوع له بالوضع أو بالطّبع؟

صحّة استعمال اللّفظ فيما يناسب الموضوع له ويلائمه هل هو بالوضع ولو نوعا أو بالطّبع؟ وجهان بل قولان ، أصحها الثّاني بشهادة الوجدان فإنا نجد حسن استعماله له فيما يناسب ما وضع له ولو مع عدم التفات المستعمل الى ترخيص الواضع ووصفه ووضعه له ولو نوعا ، وعدم صحته واستهجانه فيما لا يناسبه ولو مع ترخيص الواضع في استعماله فيه ، ولا نعني بصحة الاستعمال إلّا حسنه مع أن علائق المجازات لو كانت موضوعة ولو نوعا لزم أن لا يكون فرق بيّن في حسن الاستعمال لاشتراك الجميع في الوضع على حد سواء مع انا نجد الفرق البيّن في من الاستعمال بينها بحسب اختلاف مراتبها في المناسبة والملاءمة مع المعنى الموضوع له شدة وضعفا كما لا يخفى ، مع أنّا لو وضعنا لفظا لمعنى ولم نلتفت الى ما يناسبه والوضع له نجد صحّة استعماله فيما يناسبه قطعا ، وهذا أقوى شاهد على أنه ليس في المجازات وضع ولو نوعا ، فالقول بثبوت وضع فيها من الاغلاط ، والملاك فيهما هو

٣٨

ما ذكرناه من المناسبة والملاءمة بين المعنيين ولا العلائق الّتي ذكروها لعل من كان بصدد هذا الامر وأنهاها الى عدد لم يلتفت الى أزيد منه ، ولم يستقصها وبقي منها مما لم يظفر عليه ما هو أقوى بحسب الملاك الذي ذكرناه.

* * *

٣٩

الأمر الرّابع

في إطلاق اللّفظ

قد يطلق اللفظ ويراد به نوعه كما اذا قيل : ضرب فعل ماضي أو صنفه أو فرد مثله ، كما إذا قيل ضرب ، في «ضرب زيد» فعل ، أو زيد فيه فاعل ، ولم يقصد به شخصه ، فإنّه وحينئذ يمكن أن يراد به صنفه ويمكن أن يراد به فرد مثله ولا شبهة ولا إشكال في صحّة هذه الاطلاقات لما تقدم من أن صحة استعمال اللّفظ في غير ما وضع له ممّا يناسبه ويلائمه بالطّبع ، لا بالوضع ويشهد لهذا صحّة هذا النحو من الاطلاقات في المهملات ، كأن يقال : ديز ، ويراد به نوعه أو صنفه أو مثله مع أنه لا وضع فيها أصلا ولو كانت صحّة هذه الاطلاقات متوقفة على الوضع لزم عدم صحتها في المهملات أو التزام وضع فيهما ، وهو كما ترى فيعلم من هذا أن صحّة استعمال اللّفظ فيما يناسب الموضوع له ليس من الوضع ، وكيف كان هل يصح أن يطلق اللّفظ ويراد به شخصه ويحكم عليه بما يخصه من دون تأويل؟ كأن يقال : مسألة زيد لفظ ، استشكل فيه صاحب الفصول مستدلا بقوله : لاستلزامه اتحاد الدّال والمدلول أو تركب القضيّة من جزءين ، انتهى توضيح ما ذكره في لزوم احد التّاليين الفاسدين أنه لا يخلو إمّا أن يكون للفظ دلالة على شخص نفسه أو لا

٤٠