غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

الثّاني في نظر العرف وأن كان العقل يعين الأخير بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء اختلاف الشّرط في كلّ منهما على حاله ، حيث يرى أنّ الأمور المتمايزة المختلفة بما هي كذلك لا يمكن أن يكون كل واحد منها مؤثّرا في واحد ، إذ لا بدّ من أن يكون بين العلّة والمعلول ربط خاص يوجب تاثيرها فيه ، ولا يكاد يتحقق ذلك الرّبط بين المختلفين فصاعدا بما هما كذلك ، وبين الواحد بما هو واحد ، فلو كانا شرطا له ، أي علّة له ومؤثّرا فيه عقلا أو شرعا في ظاهر خطاب يستقلّ العقل بأنّ الشّرط حقيقة واحد ، وهو الجامع المشترك بينهما ، ولذا أرجعنا التّخيير الشّرعي في جميع موارده إلى التّخيير العقلي ، وأقول : قضيّة ذكر في الوجه الأخير عدم كونه في عرض الوجوه المتقدّمة عليه ، فلا ينبغي ذكره في عدادها ، وكيف كان هما وجه آخر ، وهو تقييد إطلاق الشّرط في كلّ منهما بعدم الآخر. وبعبارة اخرى رفع اليد عن ظهور كلّ منهما في كون كلّ من الشّرطين علّة مؤثرة في إيجاب الجزاء مطلقا بحمله على كونه كذلك عند عدم الآخر ، وأمّا مع وجوده فلا ، وهل المؤثّر حينئذ هو السّابق منهما أو الجامع ، سيأتي الكلام فيه.

وعلى هذا لا يوجب خفاء الأذان القصر إلّا عند عدم خفاء الجدران ، وكذا العكس ، ولو خفي كلاهما فهل المؤثّر كلّ منهما أو الجامع بينهما ، سيأتي الكلام فيه. ولذا لم يتعرض له أو لرجوعه إلى احد الاوّلين على القول بالتّداخل.

ومنها إشكال في خصوص القضيتين يجيء من جهة التّخيير بين الأقلّ والأكثر بناء على ما عدا الوجه الثّاني وهو إنّه كيف يمكن جعل كلّ منهما سببا مستقلا لوجوب القصر مع أنّهما مترتبا الوجود سيّما إذا فرض أن أحدهما دائما متاخر عن الآخر؟ كما أنّ الظّاهر أن خفاء الجدران بالنّسبة إلى خفاء الأذان كذلك ، إذ مع

٤٤١

وجود الأوّل لا يبقى مجال لأن يؤثّر الثّاني فكيف يجعل سببا في عرض الأوّل ، والظّاهر أنّ الوجه الّذي تقدم في بيان رفع إشكال التّخيير بين الأقلّ والأكثر غير جار في المقام فتأمل.

«الأمر الثّالث»

إذا تعدّد الشّرط واتّحد الجزاء وكان على وجه يقبل التّعدّد سواء ، كان الشّرط متعدّدا وجود كما إذا ورد : إذا بلت فتوضأ. وبال مرّتين. أو جنسا ، كما إذا ورد : إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ ، أو إذا حضت فاغتسلي وإذا أجنبت فاغتسلي ، فبال ونام أو حاضت وأجنبت ، فلا إشكال في الحكم لو جمع بين القضيتين في الفرض الثّاني على الوجه الثّالث من وجوه الجمع المتقدّمة في الأمر الثّاني ولم يوجد كلّ من الشّرطين متعدّدا ، كما إذا بال مرّة أو نام كذلك ، وأمّا ما عداه من وجوه الجمع بين القضيتين ، وكذا عليه فيما إذا وجد كلّ من الشّرطين متعدّدا ، كما إذا بال مرّتين ونام كذلك ، ففى لزوم الإتيان بالمشروط على حسب تعدّد الشّروط كما عن المشهور ، أو التّداخل وجواز الاقتصار على الواحد كما عن جماعة منهم المحقق الخوانساري «ره» ، أو التّفصيل بين اتّحاد جنس الشّروط وتعدّده بالالتزام بالتّداخل في الأوّل وعدمه في الثّاني كما عن الحلي «قدس‌سره» ، خلاف وإشكال ، مشاؤه عدم امكان إبقاء القضيّة الشّرطيّة على ظاهرها الأولى : ولزوم التّصرف فيه ، واختلاف أنظارهم في كيفيته ، توضيح ذلك : أنّ ظاهرها حدوث الجزاء ، أعني وجوب الإتيان بالمشروط كلّما حدث الشّرط لسببيته أو لكشفه عن سببه ، فإذا تعدّد الشّرط جنسيا كالبول والنوم أو الحيض والجنابة ووجد كلّ منهما

٤٤٢

خارجا ، أو تعدّد وجوده كالبول أو النّوم أو الحيض أو الجنابة فيما إذا فرض أنّه السّبب خاصة ولكن وجد مرتين لزم حدوث وجوب المشروط حينئذ كالوضوء أو الغسل ، مع أنّه حقيقة واحدة متعدّدا أو هذا غير معقول ، لأنّ حقيقة واحدة بما هي واحدة لا تكاد تكون محكومة بحكمين ، لانّ اجتماع المثلين مستحيل كاجتماع الضّدين.

ومن هنا انقدح : أنّ النّزاع والأشكال في المقام غير متفرع على القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشّرطيّة ، لأنّ منشأه التّنافي بين ما هو قضية ظاهرها الأولي من حدوث وجوب المشروط على حسب تعدّد الشّروط ولو وجودا ، وبين وجوبه لكونه حقيقة واحدة كذلك ، فإن تعدّد الوجوب فيها يستلزم اجتماع المثلين ، فيجري النّزاع ، وإن إلّا لم تكن قضية واحدة في البين أو كانت قضيتان كما إذا ورد : إذا بلت فتوضأ وإذا نمت فتوضأ ، ولم نقل بثبوت المفهوم فإنّ الإشكال فيهما إنّما يجيء من قبل التّنافي بين منطوقيهما ، حيث أن قضية كلّ منهما حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط مطلقا ، وهو مستحيل عند اجتماعهما كما عرفت لا من جهة التّنافي بين منطوق أحدهما ومفهوم الأخرى كما هو جهة البحث في الأمر الثّاني ، فلا بدّ من التّصرف في ظاهر القضيّة الشّرطيّة بأحد وجوه.

الأوّل : الجمع بين القضيتين فيما إذا تعدّد الشّرط حقيقة كالبول والنّوم بالنّسبة إلى الوضوء ، والحبض والجنابة بالنّسبة إلى الغسل بالوجه الثّالث المتقدّم ، وهو تقييد إطلاق منطوق كل منهما بمنطوق الأخرى ولكن هذا التّصرف لا يجدي في رفع الأشكال ، لأنّ رفع اليد من ظهور كلّ في القضيتين في أنّ كلّ واحد من الشّرطين سبب مستقل في إيجاب المشروط بحمله على كونه جزء السّبب وأنّ

٤٤٣

مجموعهما تمام السّبب لا يرفع الأشكال إلّا فيما إذا وجد كلّ من الشّرطين مرّة واحدة ، وإمّا إذا وجد كلّ منهما متعدّد ، كما إذا بال مرّتين ونام كذلك مثلا فلا ، لأن حال تعدّدهما كذلك حال تعدّد واحد منهما وجودا لو فرض كونه سببا تاما في أنّ قضيّة تعدّد السّبب تعدّد المسبب ، وهو حدوث وجوب الوضوء مثلا مرّتين فيلزم فيه اجتماع المثلين ، وهذا هو الإشكال

الثّاني : رفع اليد عن ظهور الشّرطيّة فى الدّلالة على حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط مطلقا ، بحمله على إرادة مجرّد الثّبوت عند الثّبوت وإن كان لأجل حدوث سبب آخر سابق ، وإن كان ذلك السّبب من غير جنس اللاحق ، ومرجع هذا إلى التّداخل في الأسباب عند اجتماعها والالتزام بأنّ التأثير للسّابق منهما إن كان ، وإلّا فللمجموع عرفا وللقدر الجامع عقلا.

الثّالث : الإلزام بأن متعلق الجزاء وإن كان واحدا صورة واسما كالغسل مثلا إلّا أنّه حقائق متعدّدة حسب تعدّد الشّروط والأسباب ، فغسل الحيض مثلا غير غسل الجنابة حقيقة ، وهكذا نظير فريضة الصّبح ونافلته وفريضة الظّهر مع فريضة العصر لاختلافهما حقيقة وأنّ اتحدتا صورة ، غاية الأمر أنّه على القول بالتّداخل تكون تلك الحقائق متصادقة على واحد يكون مجمعا لها ، فللمكلّف امتثال الجميع بفعل المجمع والاقتصار عليه بأنّ يأتي بغسل واحد مثلا بقصد امتثال الجميع لكونه مجمعا لها ، فتكون حال تلك الأوامر حال ما إذا ورد أكرم هاشميّا وأضف عالما ، فأضاف عالما هاشميّا بقصد امتثال الأمرين لأنّه يصدق عليه إنّه امتثلهما ، ولا يقتضي الأمر أزيد من صدق الامتثال ، فلا محالة يسقط كلا الأمرين ، وكذا فيما نحن فيه ، وله امتثال الجميع بالمتعدّد بأنّ يأتي بمصاديق مختلفة كاغسال

٤٤٤

كذلك حسب تعدّد الشّروط والأسباب كلّ واحد بقصد امتثال أمره على حدة ، كما أنّ له في المثال المذكور امتثال كلّ من الأمرين بأنّ يكرم هاشميا ويضيف عالما ، ويشهد لذلك ما في بعض الأخبار في خصوص الأغسال ، إذا اجتمع عليك حقوق أجزأك غسل واحد ، ومرجع هذا إلى التّداخل في المسببات اختياريّا عند اجتماع الأسباب إذ المفروض جواز امتثال الأوامر بالمتعدّد لا لزوم الاقتصار على الواحد ، كما هو قضية الوجه الثّاني وقضيّة هذا الوجه بإبقاء ظاهر القضيّة الشّرطيّة في الدّلالة على الحدوث عند الحدوث بحاله ، أمّا على القول بجواز الاجتماع فواضح ، وأمّا على القول بالامتناع فلأن كلّ واحد من الشّرطين أنّما يوجب حدوث وجوب بالنّسبة الى الطّبيعة لا الى خصوص المجمع ، ولا محذور في هذا ، غاية الأمر أن الجمع على هذا القول يتصف بالوجوب لا بوجوبين ، لأن اجتماع المثلين كالضّدين مستحيل في الواحد ، أنّه مع هذا يجزي عن كلا الواجبين لأنّه مشتمل على ملاكي الوجوبين ، وقد عرفت غير مرّة أنّ ملاك الوجوب في الموضوع كاف في صحّته والإجتزاء به ، فلذا كان المكلّف مخيّرا فى امتثال الواجبين به وبالتعدّد ، ولكن هذا على خلاف التّحقيق لاستحالة اجتماع حقيقتين في واحد ، إنّما الممكن اجتماع عنوانين فيه ، وقد حققنا في مسألة اجتماع والأمر والنّهي إنّ العنوان بمجرّده لا يكون متعلق الحكم وإن تعدّده لا يوجب تعدّد المتعلق ، فمتعلق الحكم ليس إلّا المعنون ، والعنوان إنّما يؤخذ مقدرا ومحددا له ، ومن المعلوم أنّ المعنون مطلقا لا يكون إلّا حقيقة واحدة ومندرجا تحت واحدة من مقولات التّسع ، فلا يكون المجمع وأن تصادق عليه عنوانان فصاعدا إلّا حقيقة واحدة ، فكيف يجزي عن حقيقتين تعلق الأمر بكلّ منهما على حدة؟ فالقول بالتّداخل في المسببات لا يجامع

٤٤٥

القول بالامتناع ولا بدّ عليه من المصير إلى ما ذهب إليه المشهور من لزوم الإتيان بالمشروط حسب تعدّد الشّروط ، وأمّا من الالتزام بما هو قضية الوجه الثّاني أعني التّداخل في الإتيان وإنّ التّأثير للسابق منها وإن كان ، فللمجموع إذا تعدّد الجامع ، وأمّا من الالتزام بالوجه الآخر الّذي يأتي بيانه إن شاء الله. ولا مجال هنا على القول بالامتناع للقول بأنّه يقدّم أقوى المناطين من السّببين ، وإن كان لاحقا فيؤثّر هو في إيجاب المجمع دون غيره ، وإن كان سابقا كما يقال به في مسألة اجتماع الأمر والنّهي على القول بامتناعه للفرق الواضح بين المقامين وذلك لأنّ قضيتهما في مسألة الاجتماع مختلفة ، قضيّة احدهما إيجاب المجمع وقضيّة الأخرى تحريمه ، فلا محال يقع الكسر والانكسار بينهما ويبقى من الأقوى شيء بلا مزاحم ، فيؤثر هو ولو في إثبات الاستحباب أو الكراهة إن لم يكن الباقي بمقدار يكفي في الإيجاب أو التّحريم دون غيره لعدمه بالمرّة ، بخلاف قضيتهما في المقام ، فإنّها ايجاب المشروط ، فيتأكد ملاك الوجوب في المجمع فيصير وجوبه أشدّ وآكد ، سواء تواردت الأسباب دفعة واحدة وتدريجيّا.

الرّابع : الالتزام بحدوث الأثر عند حدوث كلّ شرط كما هو قضيّة ظاهر الشّرطيّة لكن الأثر الحادث هو وجوب المشروط كالوضوء أو الغسل عند حدوث الشّرط الأوّل كالبول والجنابة وتأكّد وجوبه عند حدوث الأخر قياسا للأسباب والشّروط والشّرعيّة على الأسباب والعلل العقليّة والعاديّة ، فإن معلولاتها إن كانت قابلة للشدّة والضّعف تقع شديدة عند اجتماعها سواء وجدت دفعة واحدة ، أو تدريجا ، مثلا السّواد في الجسم إن وجد فيه أحد أسبابه يحدثه فيه ، ولكن إذا وجد بعده سبب آخر يزيده سوادا فيشتدّ سواده ، وهكذا إن تواردا عليه

٤٤٦

دفعة واحدة ، فإذا كان ظاهر القضيّة كون الشّرط سببا لإيجاب الجزاء كما هو المفروض يكون اجتماع الشّروط موجبا لتأكّد وجوبه لا لإحداث وجوبه مرّتين ، لامتناع اجتماع المثلين كالضّدين.

وبالجملة حال الأسباب الشّرعيّة حال الأسباب العقليّة في أنّها عند اجتماعها تشتدّ مسبباتها إن كانت قابلة لشدّة كالوجوب في المقام.

الخامس : الالتزام بحدوث الأثر عند كلّ شرط لكنّه حدوث فرد من الطّبيعة عند حدوث كلّ شرط وعلى هذا فلو تعدّد الشّرط فالواجب بالأوّل إيجاد لها ولآخر إيجاد آخر لها ، وهكذا ، مع الالتزام بأنّها في الجميع حقيقة واحدة ، ومتعلّق الوجود ليس مطلق إيجاد الطّبيعة كي لا يتحمّل وجوبين ، لعدم الفرق في امتناع اجتماع المثلين بين الوحدة الشّخصيّة والجنسيّة فيجيء الإشكال بل أفرادها وبعبارة أخرى إيجاداتها مع حسب تعدّد الشّروط جنسا أو وجودا ، ومن الواضح أن أفراد إيجادها متعدّد ، فيصبح تعلّق التّكاليف المتعدّدة بها فتحمل القضيّة الشّرطيّة على بيان هذا المعنى.

هذا هي التّصرفات الممكنة لدفع الإشكال الجائي من قبل لزوم الأمثال لو ابقيت الشّرطيّة على ظاهرها الأوّلي. وهل الجميع متساوية وفي عرض واحد عرفا فتكون القضيّة مجملة مردّدة بينها ، أو يكون بعضها ولو في مقام الجمع أقرب ، الظّاهر كون الأخير كذلك ، لقصور الأذهان والأنظار العرفيّة عن ادراك ما عداه من الوجوه أو بعدها في أنظارهم.

أمّا الأوّل وهو حمل القضيّة على بيان مجرّد الثّبوت عند الثّبوت فلأنّه متوقف على إدراكهم استحالة اجتماع الأمثال كي يوجب هذا حملهم القضيّة على بيان ما

٤٤٧

ذكر ، وكذلك الثّاني لأنّ المسبب في مثل الوضوء والغسل ونحوهما عندهم واحد لا يفهمون إنّه حقائق متعدّدة بحسب تعدّد الشّروط وإن وجدوا شرطيّة كلّ واحد في دليل على حده ، وكذا حمل القضيّة على بيان الحدوث عند الحدوث بالوجه الرّابع بعيد عن أنظارهم بخلاف الحمل على المعنى الآخر ، بل ليس تصرفا وارتكابا لخلاف الظّاهر في أنظارهم ، ويشهد لذلك أنّا نجدهم يفهمون هذا المعنى من القضيتين إن فرضتا متصلتين ، مثلا إذا وجدوا قوله : إذا نمت فتوضّأ ، متصلا بقوله : إذا بلت فتوضّأ ، يفهمون أنّ النّوم سبب لإيجاد فرد من الوضوء والبول سبب لإيجاد فرد آخر منه ، وهكذا في سائر الموارد ، فإن كانوا يفهمون هذا المعنى فيما إذا فرضتا متصلتين كان معيار التّعيين الأقرب عرفا إن وردتا منفصلتين كما هو محل الكلام في المقام ، فإنّ إطلاقهما (١) لو اقتضى الحمل على غير هذا المعنى إلّا أنّ ظهورهما فيه في صورة اتّصالهما يوجب عدم صحّة الحمل على غيره في صورة الانفصال ، لأنّ كلّ واحد منهما يكون بمنزلة البيان للأخرى ، فلا يصحّ التّمسك بما هو قضيّة إطلاقها ، وهذا هو المراد بما كتب في الكفاية.

وأقول : حيث أنّ الإشكال غير مختص بصورة تعدّد الشّرط جنسا وكذا محلّ الخلاف أعم فينبغي تقرير وجه الدّفع على نحو يشمل القسمين ، وما افيد هنا لا يعمّها كما لا يخفى ، والأولى تقريره هنا على وجه يفيده فيما بعد في مقام إبطال مسألة الحلي «قدس‌سره» في التفصيل بين متعدّد الشّروط جنسا وبين متعدّدها وجودا بالالتزام بالتّداخل في الأوّل دون الثّاني وهو أنّ قضيّة إطلاق مادة الأمر وإن كان تعلق الأمر بالطّبيعة المطلقة المرسلة المعرّاة عن قيد المرّة والتّكرار وهي بهذه

__________________

(١) في صورة انفصال ، لمحرّره.

٤٤٨

الملاحظة غير قابلة لتوارد الوجوبين عليها لأنّ امتناع المثلين لا يفرق فيه بين الوحدة الجنسيّة والشخصيّة ، أنّ ظهور القضيّة الشّرطيّة وإن كانت واحدة في كون كلّ وجود من الشّرط سببا أو كاشفا عن ما هو السّبب لحدوث وجوب فرد من وجود طبيعة الجزاء يصير قرينة لبيان المراد في إطلاق المادة ، فلا دوران بين ظهور الإطلاق في كفاية وجود واحد للجميع وبين ظهور الجملة في حدوث الجزاء عند حدوث كلّ شرط ، لأنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقا على عدم البيان ، وظهور الشّرطيّة في ما ذكر صالح لأنّ يكون بيانا لما هو المراد بالإطلاق فلا دوران.

وبالجملة لا بدّ للقول بعدم التّداخل من دعوى ظهور الشّرطيّة في كون كلّ وجود من الشّرط موجبا لوجود فرد من طبيعة الجزاء ، ومن الواضح أنّه بعد فرض هذا الظّهور لا مجال للتّمسك بإطلاق مادة الأمر وعدم دلالتها على المرّة والتّكرار ، ولعل هذا كان مراده بما كتبه في الكفاية لا ما افيد سابقا ، وبه يرفع الإشكال بحذافيره وتفصيل الحلّي «قدس‌سره» أيضا كما سيأتي التّنبيه عليه إنشاء الله ، وكيف كان فقد أفاد الاستاذ العلّامة «قدس سره وأدام الله تعالى أيّامه».

وربّما يجاب عن الإشكال : بأنّ الشّروط والأسباب الشّرعيّة ليست بمؤثرات حقيقة كالعلل العقليّة ، بل هي معرفات وكواشف عمّا هو المؤثر والسّبب حقيقة فلا يلزم من اجتماعها وتعدّدها تعدّد المسبّب لإمكان كونها حينئذ معرّفات وكواشف عن معرّف واحد يكون هو المؤثّر والسّبب حقيقة.

وفيه : أنّه على تقدير تسليم ما ذكر أنّ هذا الوجه إن كان مرجعه إلى ما تقدّم في الوجه الثّاني من منع دلالة الشّرطيّة على حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بل على مجرّد الثّبوت عند الثّبوت فلا يكون وجها آخر في قباله ، وإلّا فلا يدفع

٤٤٩

الإشكال لأنّه نشأ من دلالة الشّرطيّة على حدوث الجزاء عند حدوث كلّ شرط بملاحظة أن قضيّة هذا اجتماع الوجوبين فصاعدا في الجزاء مع أنّه واحد ، لوضوح أنّه لا فرق في ورود الإشكال بعد تسليم دلالة الشّرطيّة على حدوث الجزاء عند حدوث الشّرط بين كون الشّرط الشّرعي سببا مؤثرا بنفسه أو معرفا وكاشفا عن وجود سبب آخر مقارنا له ، فلا بدّ في رفع الإشكال من منع الدّلالة المذكورة ، ولا يكفي في ذلك مجرد دعوى كون الشّروط الشّرعيّة معرفات لا مؤثرات حقيقة.

ثمّ إنّه لما اشتهر في كلام غير واحد من الأعاظم أنّ الشّروط والأسباب الشّرعيّة معرفات لا مؤثرات كالاسباب العقليّة ، فينبغي التّكلّم في ذلك وبيان جهة التّفرقة بين الأسباب الشّرعيّة وغيرها ، فنقول : أنّ ما جعل وأخذ شرطا للحكم في الشّرطيّة فيما صدر عن الموالى العرفيّة الى عبيدهم لا يخلو ، إمّا أن يكون لنفسه دخل شرطا أو شطرا في ترتب الحكم على موضوعه بأن يكون موضوع الحكم في مثل : «إن جاءك زيد فأكرمه» زيد الجائي بحيث يكون لنفس المجيء دخل في وجوب الإكرام ، وإمّا أن يكون لنفسه دخل في ترتب الحكم ، ولكنّه إنّما يؤخذ شرطا له لكونه ملازما لامر يكون كذلك ، فيكون كاشفا عن ذلك الأمر ، ولذا أخذ شرطا في القضيّة ، وإمّا أن يكون سببا عند وجوده لانقداح الدّاعي الى إنشاء الحكم في نفس المولى ، فالاقسام المتصورة لما يؤخذ شرطا في القضيّة الشّرطيّة الصادرة عن والموالى العرفيّة في مقام الثّبوت والواقع ثلاثة ، ولا شبهة في إطلاق السّبب للحكم بنحو الحقيقة على الشّرط في القسم الأخير لوضوح إن إنشائه الحكم من الإفعال الاختياريّة الصّادرة عن الفاعل فيحتاج الى سبب يدعوه إليه ، فإذا فرض كون ما اخذ شرطا في القضيّة ، كذلك صدق عليه أنّه سبب للحكم ومؤثر فيه

٤٥٠

حقيقة ، كما أنّه لا شبهة في صحة إطلاق المعرف والكاشف في القسم الثّاني لانّه بنفسه لا يؤثر في الحكم أصلا ، وأمّا إطلاق السّبب عليه في القسم الأوّل فهو إنّما يصحّ تسامحا بملاحظة أنّه يوجب تماميّة موضوع الحكم إذ له دخل فيه حسب الفرض وكلّ موضوع بالنّسبة الى حكمه بمنزلة العلّة له ، فإنه متوقف عليه ولا يعقل ثبوت الحكم بدون الموضوع ، إلّا أنّ السبب حقيقة هو ما يؤثر في الشّيء وليس السّبب للحكم بهذا المعنى سوى القسم الأخير ، وحيث أنّ هذا غير واقع في الإحكام الشّرعيّة على مذهب العدليّة ، إذ عليه لا يكون الدّاعي الى إنشائها سوى علمه تبارك وتعالى بما في نفس الإفعال من المصالح والمفاسد أو إنّما في نفس إنشائها وجعلها من المصلحة على اختلاف الموارد أو القولين ، فلذا يصحّ أن يقال أنّ الاسباب الشّرعيّة كلّها ليست بعلل حقيقة بل معرفات وكواشف مطلقا ، أمّا في ما إذا كانت من قبيل الثّاني فواضح ، وأمّا فيما إذا كانت من قبيل الاوّل فلانّ دخلها في تحقق الموضوعات كلا أو بعضا ، وبعبارة اخرى في حدوث المصلحة في نفس التّكليف بها أو في صيرورتها ذوات حسن ومصلحة أو قبح ومفسدة لا يوجب كونها مؤثرات في إنشاء الأحكام ولا يصدق عليها السّببيّة في هذا القسم أيضا إلّا تسامحا كما عرفت ، ولعل هذا هو المنشأ لما اشتهر بينهم أنّ الأسباب الشّرعيّة معرفات لا مؤثّرات ، إلّا أن هذا الفرق لا يجدي في رفع الإشكال ولزوم القول بالتّداخل فيها لا في غيرها كما قيل ولا فيما قبل أيضا من ابتناء المسألة أي القول بالتّداخل وعدمه على كونها معرفات أو مؤثّرات ما لم ينضم إليه منع دلالة القضيّة على الحدوث عند الحدوث ، أو على تقدير تسليم دلالتها على ذلك يلزم محذور اجتماع المثلين سواء قلنا بأنّها معرفات أو مؤثّرات كالعلل العقليّة كما لا يخفى ،

٤٥١

فالقول بالتفصيل كذلك ضعيف كالقول بالتفصيل بين تعدّد الشروط جنسا وبين تعدّدها وجودا بالالتزام بالتّداخل في الثّاني دون الأوّل ، إذ لا وجه له ايضا عدا ما يتوّهم من عدم صحّة التعلق بعموم اللّفظ في الثّاني لأنّه من أسماء الأجناس ، فمع تعدّد أفراد شرط واحد لم يوجد إلّا السّبب الواحد بخلاف الأوّل لكون كلّ واحد من الأسباب سببا على حده في ظاهر الخطاب ، فلا وجه لتداخلها.

ويضعّف : بما تقدّم من أنّ ظاهر القضيّة أنّ كلّ وجود من الشّرط يقتضي إيجاب وجود من المشروط ، وبعبارة اخرى كلّ فرد من الشّرط يوجب فردا من المشروط؟ ومن الواضح أنّ إفادة هذا المعنى لا يفرق فيه أصلا بين كون الشّرط متعدّد جنسا بأنّ كانت الشرطيّة متعدّدة ، أو وجودا بأنّ كانت واحدة ، مثلا إذا ورد «إذا نمت فتوضأ» مفاده أنّ كلّ نوم يوجب وجودا من الوضوء ، فإن تحقق النّوم مرّات لزم إيجاد الوضوء كذلك بعددها ، وإذا ورد أيضا «إذا بلت فتوضأ» كان مفاده أيضا كذلك ، فقضيّة الخطابين أن كلّ واحد من النّوم والبول متى ما تحقق يجب الوضوء بعده ، هذا مضافا إلى ما مرّ غير مرّة من أن الشّيء الواحد كوجوب الجزاء فيه نحن فيه لا يمكن أن يكون أثرا لمتعدّد بما هو متعدّد ، بل بما هو واحد ، أي بجامع اشتراكها فلا بدّ من إرجاع الشّروط المتعدّدة جنسا لمشروط واحد إلى شرط واحد بأن يكون الجامع بينها حقيقة هو الشّرط لا كلّ واحد بما له من الخصوصيّة ، فيجب الالتزام بالتّداخل مطلقا حتّى في متعدّد الجنس أو بعدمه كذلك.

وبالجملة بعد إرجاع الشّروط المتعدّدة إلى واحد لا يبقى وجه للتفرقة بينها ، فلا بدّ من المصير إلى ما اخترناه وفاقا للمشهور من عدم التّداخل مطلقا ، لأنّه قضيّة ظاهر الشّرطيّة حسبما عرفت ، أو إلى ما أختاره جماعة من التّداخل مطلقا

٤٥٢

إنكارا لظهور القضيّة فيما ذكرناه.

هذا تمام الكلام فيما كان الجزاء قابلا للتعدّد ، وأمّا إذا لم يكن كذلك كالقتل فأنّ لم يكن قابلا للتأكد أيضا نظير الملكيّة والحرّيّة ونحوهما كالضّمان باليد والإتلاف مثلا إن قلنا بأنّ وجوب رد المثل أو القيمة الى المالك لا يتأكد بتعدّد أسباب الضّمان ، فلا بدّ من الالتزام بالتّداخل في الأسباب ، بمعنى أن التّأثير للسّابق منها إن كان فيها سابق ولا حق ، ويكون ما عداه حينئذ لغوا غير مؤثر أصلا ، لعدم قابلية المحل للتعدّد والتأكد ، وإن كانت مقترنة فالتّأثير للمجموع عرفا وللقدر الجامع عقلا ودقّة ، وإن كان قابلا للتأكد فلا بدّ من الالتزام بالتّداخل في المسببات ، بمعنى أن الأوّل من الأسباب كالارتداد مثلا يوجب حدوث أصل المسبب كالقتل وما بعده كالقتل مثلا يوجب تأكد قتل المرتد ، فإن الوجوب فيه قابل لان يتأكد ، وهكذا فيما إذا توارد الأسباب دفعة واحدة على المسبب يحدث وجوبه أكيدا ، ولكن وجوبه كذلك مستند الى الجامع أو المجموع كما عرفت.

* * *

٤٥٣

الفصل الثّاني

في مفهوم الوصف

اختلفوا في إثبات الحكم لموضوع اخذ فيه وصف أو ما بحكمه كالحال ونحوه هل له مفهوم أي يدلّ على انتفاء نسخ الحكم المذكور عن غير محل الوصف وما بحكمه ، أم لا؟ الظّاهر هو الثّاني كما في الشّرط ، بل ثبوت المفهوم هنا أوهن ، لأحد إثباته في الشّرط دونه ، ولا يصحّ العكس ، وذلك لعدم دلالة اللّفظ عليه أصلا ، أمّا المطابقة فواضح ، وأمّا التّضمن فلانه فرع دلالة القضيّة المذكورة على قضيّة اخرى تخالفها في الإيجاب والسّلب في عرضها ، بأن يكون بمنزلة القضيتين ، وبعبارة اخرى منحلة الى عقد إيجابي وهو الثّبوت في محل الوصف ، وعقد سلب وهو الانتفاء عن غير محلّه وليست كذلك ، وأمّا الالتزام فلانّه فرع دلالة القضيّة وصفا أو لأجل قرينة عامّة على اعتبار خصوصية في حكم المنطوق تستتبع المفهوم كما هو إنسان في كلّ قضيّة ، لها مفهوم ، وهذا غير معلوم لعدم ثبوت الوضع وعدم قرينة اخرى عامّة ملازمة لتلك الخصوصيّة عدا ما يتوهّم من لزوم اللّغويّة بدون المفهوم ، هو فاسد لعدم انحصار الفائدة فيه قد يكون واردا موردا الغالب كما في قوله

٤٥٤

تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) وقد تكون لأجل الاهتمام بمحل الوصف كما في قوله تعالى (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى.) ولعدم احتياج السّامع الى غيره أو لدفع توهّم اختصاص الحكم به أو لعدم المصلحة في بيان غيره ، وهكذا ، ولا ينافي ما ذكرنا ما اشتهر بين أهل العربية أنّ الوصف مشعر بالعلّية ، فإن محلّ الكلام هو الدّلالة وأين الاشعار منها ، بل نقول فوق ما يقولون وندعي بأنه يدلّ على العليّة بمعنى أن له دخلا في ثبوت الحكم لموضوعه ، ومع هذا لا منافات بينه وبين عدم المفهوم له ، بل لو سلم دلالته على كونه تمام العلّة أيضا لا ينافي عدم المفهوم ، لوضوح أنّ مجرّد كونه علّة مستقلة لثبوت الحكم المنطوقي لا يقتضي الانتفاء عند الانتفاء لإمكان أن ينوبها في غير محلّ الوصف علّة أخرى يقتضي ثبوت الحكم فيه أيضا ، نعم لو استفيد في مقام كونه علّة منحصرة اقتضى انتفاء الحكم عن غير محل الوصف ، إلّا أنّه ليس من مفهوم الوصف لانّه قضية العلّية المنحصرة المستفادة لأجل القرينة في ذلك المقام ، وأين هذا من ثبوت المفهوم حيث ما أطلق كما هو محلّ الكلام ومورد النّقض والإبرام.

ومن هنا انقدح أنّ ما صدر عن بعض الأعلام من التّفصيل في المقام بين ما إذا كان الوصف علّة وبين غيره وإن حمل العلّة في كلامه على العلّة المنحصرة ، واقع في غير محله ، وربّما يتوهّم التّنافي بين عدم ثبوت المفهوم للوصف وبين ما هو المعروف من أن الأصل في القيود أن تكون احترازيّة ، ولكنّه فاسد كتوهّم التّنافي بين القول بعدمه والقول بحمل المطلق على المقيد في مثل : أعتق رقبة ، وأعتق رقبة مؤمنة ، إذ لو لم يكن مفهوم الوصف حجّة لم يكن وجه لتقييد المطلق به ، وذلك لأنّ معنى احترازيّة القيد كونه مأخوذا في موضوع الحكم في مقام الثّبوت ، والغرض من

٤٥٥

ذكره في مقام الاثبات والدّلالة تحديده وتضيق دائرته كأنه مذكور بلفظ واحد يحكي عنه بذلك الضيق بحيث يكون : جئني بحيوان ناطق مثلا بمنزلة : جئني بإنسان ، فلا يعم الحكم ما عداه بمعنى أن حكمه مسكوت عنه نفيا وإثباتا ، ويقابل هذا المعنى عدم احترازيّة القيد فيمكن عنده أن يكون الموضوع أيضا مقيدا بما قيد به في الكلام ، ويمكن أن لا يكون كذلك ويعمّ غيره ، غاية الامر أنّه حينئذ لا بدّ من وجود نكتة وفائدة في ذكره من شدّة اهتمامه بمحل الوصف أو عدم احتياج السّامع لغيره ، أو الورود في مورد الغالب كما في قوله تعالى (وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ونحو ذلك لئلا يكون لغوا ، وهذا الاختلاف بينهما إنّما هو في طرف المنطوق الّذي كان المتكلّم بصدد بيانه ، سواء قلنا بأن للوصف مفهوما أم لا ، فصحّ لأحد أن يقول بأن الأصل في القيد أن يكون احترازيّا ، أو يدّعي القطع بذلك ومع هذا ينكر المفهوم ، لوضوح عدم المنافاة بين كون موضوع الحكم في المنطوق منحصرا في المقيّد كما هو قضيّة احترازيّة القيد ، أو غير منحصر فيه كما هو قضيّة عدم احترازيّته ، وبين عدم المفهوم له بمعنى كون الكلام غير ناظر إلى بيان حكم ما عدا محل الوصف نفيا وإثباتا ، غاية الأمر أنّه قد يكون ناظرا إلى ما اخذ موضوعا للحكم إلّا واقعا عليه كما في صورة احترازيّة القيد ، وقد لا يكون أيضا كذلك فلا يكون له دلالة على المفهوم ولا على تحديد موضوع الحكم في المنطوق ، ويحصل الفرق بين صورة احترازيّة القيد وعدمها أنّ موضوع الحكم في الأولى مضيّق ثبوتا وإثباتا فلا يعمّ غيره ، وفي الثّاني غير مضيّق بمعنى أن اللّفظ لا دلالة له على ذلك ، فيمكن أن يكون في الواقع مضيّقا ويمكن أن لا يكون كذلك ، إذ ليس الحاكم بصدد بيان تمام ما يعتبر في موضوع حكمه المذكور في الكلام ، وأمّا انتفاء نسخ ذلك

٤٥٦

الحكم عند الانتفاء فهو على القول بعدم المفهوم للوصف ممّا ليس له مقام ثبوت فضلا عن مقام إثبات ، لأنّه على هذا القول مسكوت عنه نفيا وإثباتا في كلتا الصّورتين من غير فرقين في البين ، فلا تنافي بين القول بعدمه وبين القول بكون الأصل في القيد أن يكون احترازيّا.

هذا تمام الكلام في بيان فساد التّوهّم الأوّل.

وأمّا فساد التّوهم الثّاني فلأنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة التّنافي بين منطوقهما وكون ظهور المقيّد في كون القيد مأخوذا في موضوع الحكم أقوى من دلالة المطلق على الإطلاق وعدم كون الموضوع مقيّدا به لا من جهة التّنافي بين مفهوم المقيّد ومنطوق المطلق كما توهّم ، لوضوح أنّه بعد وحدة التّكليف وسائر شرائط الحمل يدور حكم المنطوق بين كونه متعلّقه هو المطلق أو المقيّد ، سواء قلنا بأنّ له مفهوما أم لا ، ومحصّل الحمل ليس إلّا أن المراد بالمطلق هو المقيّد كأنّه لم يكن في البين غيره ، فلا يجب ما عداه لا تعيينا ولا تخييرا ، لأنّ الحكم المذكور لا يدلّ إلّا على وجوبه أصلا وغير ناظر إليه نفيا وإثباتا لا أنّه ينفي وجوبه كما هو قضيّة المفهوم.

وبالجملة حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة المنطوق لا المفهوم ، ولو كان بلحاظه أمكن منعه كما قيل ، لأنّ التّعارض بين المفهوم والمنطوق من قبيل تعارض الظّاهرين ، وظهور المقيّد في المفهوم ليس بأقوى من ظهور المطلق في الإطلاق لو لم نقل بالعكس ، لأنّ مفهوم الوصف على القول به ليس على حدّ سائر المفاهيم ، فيمكن أن يقدّم عليه ظهور المطلق ، ولا أقلّ من تساوي الظّهورين ، فالتّرجيح يحتاج إلى مرجّح في البين ، وحيث أنّ بناءهم على حمل المطلق على القيد مطلقا

٤٥٧

فيعلم أن الوجه تعارض منطوقيهما مع كون ظهور المقيّد أقوى من ظهور المطلق في بيان موضوع الحكم ، إذ على هذا لا بدّ من الحمل وإن لم نقل بثبوت المفهوم للوصف كما لا يخفى.

تذنيب : هل مفهوم الوصف على تقديره انتفاء نسخ الحكم عند انتفاء الوصف عن خصوص الموصوف ، فلو ورد مثلا : في الغنم السّائمة زكاة لم يكن مفهومه سوى نفي الزّكاة عن معلوفة الغنم لا من معلوفة الإبل أيضا ، أو عن مطلق ما انتفى عنه الوصف وأن لم يكن من جنس الموصوف ، فيقتضي نفي الزّكاة عن الإبل معلوفة في المثال كما عن بعض الشّافعيّة حيث قال : أن قولنا : في الغنم السّائمة زكاة يدلّ على عدم الزّكاة في معلوفة الإبل ، احتمالان ، كلّ منهما ممكن ، على الأوّل يختصّ النّزاع بما إذا كان الوصف أخصّ مطلقا من الموصوف ، وعلى الثّاني يجري النّزاع فيه وفيما إذا كان الوصف مساويّا أو أعمّ أو أخصّ من وجه في الموصوف بالنّسبة إلى مورد الافتراق من جانب الوصف من غير فرق في جريان النّزاع بين هذه الأقسام بناء على أن وجه ما ذهب إليه بعض الشّافعيّة استفادة العلّيّة العامّة المنحصرة إذ على هذا يلزم انتفاء نسخ الحكم عن غير محل الوصف مطلقا وإن لم يكن من جنس الموصوف كالإبل المعلوفة بالنّسبة إلى الغنم السّائمة من غير فرق بين الأقسام لجريان الوجه المذكور فيها على السّويّة ، غاية الأمر أنّه على هذا يلزم تعميم الحكم في طرف المنطوق أيضا إلى كلّ ما وجد فيه الوصف ، والحاصل أنّه لو سلّم الوجه المذكور كان لازمه ثبوت المفهوم للوصف مطلقا سواء كان أخصّ مطلقا أو أخصّ من وجه كما هو مورد كلام بعض الشّافعيّة ، أو أعمّ مطلقا أو مساويا ، فلا وجه لما قيل من خروج القسمين الأخيرين عن محل النّزاع معلّلا بعدم تحقق موضوعه

٤٥٨

فيهما ، مع استظهار جريانه في القسم الثّاني عن بعض الشّافعيّة بناء على أن وجهه ما تقدّم من استفادة العلّيّة المنحصرة العامّة لجريانه في الجميع على حدّ سواء ، غاية الأمر أن ذلك الوجه فاسد وإن قلنا بالمفهوم ، لوضوح أنّه لا يستفاد من مثل قوله : (في الغنم السّائمة زكاة) كون السّوم مطلقا حتّى في غير الغنم علّة منحصرة لوجوب الزّكاة كي يدور مداره وجودا وعدما حتّى في غير الغنم ، قصوى الأمر استفادة كونه في خصوص الغنم علّة منحصرة لوجوب الزّكاة فيه ، لكنّ فساد الوجه وكذبه عندنا لا يوجب اختصاص النّزاع ببعض الأقسام ، لأنّ قضيّته على فرض صحّته كون مفهوم الوصف انتفاء نسخ الحكم عن مطلق ما انتفى عنه الوصف وإن لم يكن من جنس الموصوف فيجري النّزاع في جميع الأقسام من غير فرق بينها كما لا يخفى.

* * *

٤٥٩

الفصل الثّالث

في مفهوم الغاية

أي دلالة على انتفاء نسخ الحكم المذكور فيها عن ما بعد الغاية ، أو عنها وعن ما بعدها ، فتكون بمنزلة قضيتين ، أحدهما مثبتة للحكم إلى الغاية ، والأخرى ، نافية لنسخه عنها وعن ما بعدها ، أو عن خصوص ما بعدها ، فلو دلّ دليل آخر على ثبوته كذلك كان مناقضا لها ، أم لا؟ فيه خلاف وأقوال :

الأوّل : وقد عزي إلى المشهور وعن جماعة منهم السّيّد والشّيخ «قدّس الله سرّهما».

الثّاني : ربّما يخطر بالبال أن التّأمّل في المجال يقضي بالتّفصيل بين الموارد بأن يقال : إن كانت الغاية من قبيل الغاية للحكم كما في قوله عليه‌السلام «كلّ شىء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرام» و «كلّ شىء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» و «كلّ شىء مطلق حتّى يرد فيه نهي» ونحو ذلك اقتضت انتفاء نسخ الحكم عن ما بعد الغاية إذ لا يعقل بقاؤه بعدها ، ولما كانت الغاية غاية ونهاية له ، وإن كانت من قبيل الغاية لموضوع الحكم كما في مثل : سرّ من البصرة إلى الكوفة ، فلا تقتضي الانتقاء ، لأنّها

٤٦٠