غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

وجود في محل لا يمكن وجود الآخر كالبياض فرفع الضّد الموجود حينئذ ممّا يتوقف عليه الضّد المعدوم ، بخلاف ما لو كان المحلّ خاليا عنهما لاستواء نسبته إليهما ، فهما حينئذ متساويا الاقدام بالنّسبة إليه ، فلا وجه لتوقف وجود أحدهما على عدم الآخر ، بل عدم كلّ منهما مساوق لعدم الآخر.

ويندفع بما عرفت : من أنه لا مقتضي لتقدم عدم أحد الضّدين على وجود الآخر طبعا ورتبة حتّى في الضّد الموجود ضرورة أنه يمكن أن توجد علّة واحدة تقتضي وجود المعدوم وعدم الموجود فيهما في عرض واحد ، ويمكن أن تنتهي علّة وجود الموجود مع حدوث العلّة لوجود المعدوم مقارنة له وهما حينئذ أيضا في عرض واحد ، فلا مقتضى للتّقدم في البين في كلا الطّرفين ، بل عرفت أنه محال لاستلزامه الدّور.

فظهر ممّا ذكرنا أنّه لا حرمة للضّد الخاص مطلقا من باب المقدّمية.

وأمّا بناء على كون أحد الضّدين مع فعل الآخر متلازمين فهل يحكم بتحريم الضّد الخاص كما قيل نظرا إلى أن المتلازمين في الوجود الخارجي يمتنع اختلافهما في الحكم الشّرعي لأنّه إذا فرض وجوب أحدهما وحرمة الآخر فيستلزم التّكليف بما لا يطاق؟ الأقوى لا ، لأن غاية ما يسلم من عدم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم عدم إمكان اختلافهما في الحكم الفعلي بأن يكون أحدهما واجبا فعلا والآخر حراما كذلك ، وأمّا اختلافهما في الحكم الفعلي وعدمه بأن يكون أحدهما فعلا واجبا أو حراما دون الآخر بأن لا يكون محكوما بحكم فعلي أصلا ، فلا محذور فيه ، ولذا يجب تقديم الأهم من الواجبين المتزاحمين ، فإن ملاك الوجوب وإن كان في غير الأهم أيضا ، إلّا أنّه لأجل الابتلاء بالمزاحمة فلا يؤثر فعلا ، فيبقى غير محكوم

٢٤١

بحكم فعلي حينئذ وإن كان واجبا بحسب الحكم الواقعي ، ولذا لو أتى به وترك الأهم استحق الثّواب عليه وكان صحيحا وإن عوقب على ترك الأهم أيضا لتفويت ما فيه من زيادة المصلحة اللازمة.

وبالجملة عدم إمكان خلو الواقعة عن الحكم إنما هو بحسب الحكم الواقعي لا الفعلي ، فيمكن أن يكون أحد المتلازمين محكوما بحكم فعلي ولا يكون الآخر محكوما بحكم كذلك وإن لم يكن خاليا عن حكمه الواقعي ، بل يبقى على ما هو عليه واقعا لو لا الابتلاء بمزاحمة الأهم الواجب فعلا ، فلا وجه لتحريم الضّد الخاص من جهة الملازمة أيضا ، فإذن الأقوى عدم اقتضاء الأمر بالشّيء النّهي عن الضّد الخاص مطلقا لعدم وجود ملاك التّحريم فيه أصلا ، لا من جهة النّفسية حسب الفرض ولا من جهة المقدّمية أو الملازمة كما عرفت تفصيلا.

وأمّا الضّد العام : بمعنى التّرك فقد قيل باقتضاء الأمر بالشّيء النّهي عنه بالجزئية بأن ادّعى أن الوجوب في مقام الثّبوت والواقع وهو الطّلب الأكيد النّفساني والشّوق المؤكد مركب من جزءين طلب الفعل وطلب ترك تركه ففي مقام الإثبات والدّلالة اللّفظيّة يكون الدّال عليه وهو الطّلب الإنشائي دالا على النّهي عن التّرك بالتّضمن.

والتّحقيق : حسب ما يساعد عليه الوجدان بعد مراجعة الإنسان إلى نفسه عند إيجابه فعلا على عبده أن الوجوب مفهوم بسيط وجداني وهو مرتبة شديدة أكيدة من حب الفعل وإرادته والاشتياق إليه وطلبه النّفساني الذي قد يكون داعيا إلى تحريك العضلات نحوه باختيار إيجاده إن كان من أفعاله الاختيارية ، أو تحريك العبد نحوه وبعثه إليه بأمره به إن كان من أفعاله ولا تركب فيه إذ ربّما لا يلتفت

٢٤٢

صاحبه إلى التّرك أصلا ، نعم لو التفت إليه يلزمه عدم الرّضا به وكونه مبغوضا له من قبل تعلق الحبّ الشّديد والشّوق الأكيد إلى فعله ، لا إنّهما يحدثان في النّفس في مرتبة واحدة ، بل الثّاني يحدث فيها من ناحية الأوّل لأجل الملازمة ، وبالجملة الوجوب ليس إلّا مرتبة شديدة أكيدة من طلب الفعل القائم بالنّفس والطّلب الشّديد القائم بها ليس إلّا كالسّواد الشّديد ونحوه من الصّفات القائمة بالأجسام ، فكما أن السّواد الشّديد في الجسم ليس مركبا من أمر وجودي وعدم عدمه ، كذلك الطّلب الشّديد في النّفس ليس مركبا من طلب الفعل وطلب عدم عدمه ، غاية الأمر إنّ هذا قائم بالنفس وتلك قائمة بالأجسام ، وهذا الفرق غير فارق ، فالوجوب حقيقة مفهوم بسيط وكذا الاستحباب ، وهما مشتركان في طلب الفعل إلّا أن الأوّل مرتبة شديدة والثّاني مرتبة ضعيفة منه ، ولا تركب في شيء منهما ، نعم ربّما يقال في مقام تفسير المرتبتين وتعيينهما أن الوجوب عبارة عن طلب الفعل مع المنع من التّرك ، والاستحباب عبارة عن طلب الفعل مع الرّضا بالتّرك ويتخيل من ذلك أن كلا منهما مركب من الجزءين ، حيث أن ظاهر التّفسيرين كونهما حدين لهما فيكون المنع من التّرك والرّضا به من أجزاء الوجوب والاستحباب ومقوماتهما إلّا أن المراد ليس كذلك ، ولو فرض كونه كذلك ، ففيه ما عرفت من أنّهما من لوازم الوجوب والاستحباب وخواصهما بمعنى أن الأمر لو التفت إلى التّرك لا يكون راضيا به عند الإيجاب ويكون راضيا به عند الاستحباب ، وبالجملة مفهوما الإيجاب والتّحريم متقابلان ، الإيجاب مرتبة شديدة من طلب الفعل لا أنه مركب منه ومن تحريم تركه ، كما أن التّحريم مرتبة شديدة من طلب التّرك لا أنّه مركب منه ومن إيجاب تركه ، وإن كان كلّ منهما يستلزم الآخر بالمعنى المتقدم ، ولأجل هذه

٢٤٣

الملازمة يمكن إسناد الوجوب إلى ترك ترك الواجب بالعرض والمجاز كما أنه يمكن إسناد التّحريم إلى ترك ترك الحرام كذلك.

ومن هنا انقدح : فساد القول بالاقتضاء على نحو العينيّة إذ قد عرفت أن الأمر الإيجابي ليس إلّا طلب الفعل على الوجه الأكيد وليس الفعل عين عدم عدمه كي يكون طلب أحدهما عين طلب الآخر ، بل هما متلازمان بالمعنى المتقدم ، ولذا قلنا بالاقتضاء على وجه اللّزوم وهو يقتضي المغايرة لا الاتحاد والعينيّة ، نعم لا بأس بالقول بها بأن يكون المراد أنّه عند الإيجاب ليس إلّا طلب واحد وهو كما أنه يكون حقيقة منسوبا إلى الوجود وبعثا إليه ، كذلك يصح أن ينسب إلى التّرك بالعرض والمجاز ويكون زجرا عنه ، إلّا أن هذا خلاف الواقع ، ليس الوجوب إلّا بعثا إلى الفعل قولا كما أن التّحريم ليس إلّا زجرا عنه كذلك والبعث والزّجر القوليان حقيقة مختلفان كالفعلين منهما.

ثمّ أنّه تظهر ثمرة المسألة : فيما لو كان ضد الواجب فعلا كإزالة النّجاسة عن المسجد في أوّل الوقت عبادة كالصّلاة فيه فإنها على القول بالاقتضاء تقع فاسدة لأن النّهي عن العبادة يقتضي فسادها ، وعن البهائي «قدس‌سره» إنكار هذه الثّمرة ، ومحصل ما استند إليه أن الأمر بالشّيء كإزالة النّجاسة عن المسجد وإن لم يقتض النّهي عن الضّد كالصّلاة في أوّل الوقت ، إلّا أنه لا أقل من اقتضائه عدم الأمر بالضّد لعدم إمكان اختلاف المتلازمين في الحكم الفعلي وعدم الأمر يكفي في فساد الضّد.

وفيه : أن عدم الأمر بالضّد إن كان لعدم ما يقتضيه من المصلحة الّتي يستتبعها الأمر الفعلي لو لا المزاحمة فالحقّ معه كما هو واضح ، وإن كان لوجود المانع عنه مع

٢٤٤

وجود المقتضي له المؤثر في إيجابه فعلا ، لو لا المزاحمة بالأمر الفعلي بالضّد الآخر فيما إذا فرض مضيقا دونه أو فرض أهم منه فيما إذا فرضنا مضيقين حيث أن ذلك الأمر بالواجب الفعلي منهما مانع عن الأمر بغيره كذلك كالصّلاة في أوّل الوقت مع الإزالة الواجبة فعلا ، فإن وجوبها كذلك وإن كان يمنع عن الأمر بالصّلاة فعلا إلّا أنهما مع هذا باقية على ما فيها من الرجحان في نفسها والمحبوبيّة لله تعالى ، والخصوصيّة المقربة والمصلحة اللازمة المقتضية لإيجابها لكونها (ناهية (عن الفحشاء ، ومعراج المؤمن ، وقربان كل تقي) وخير موضوع) ضرورة أن الأمر بها ناشئ من هذه لا أنها ناشئة عنه ، نمنع ما ذكره إذ يكفي في صحّة العبادة وإجزائها والتّقرب بها إلى الله تعالى مجرد إتيانها بداعي ما فيها من المحبوبيّة ونحوها ممّا تقتضي الأمر وإن لم يصح تعلقه بها فعلا لأجل المزاحمة إذ بعد إيجادها كذلك يسقط ملاك الأمر فلا يبقى ما يقتضي إيجابها ثانيا وهذا هو المراد بصحّتها وإجزائها.

وقد تصدّى جماعة من الأعلام : لتصحيح الضّد في المقام لا بما ذكرناه من الوجه ، بل بتصحيح الأمر به في مقابل البهائي المنكر له لكن لا بنحو الإطلاق ، بل بنحو التّرتّب ، إمّا على عصيان الأمر الفعلي بالآخر بنحو الشّرط المتأخر ، وإمّا على العزم والبناء عليه بنحو الشّرط المتقدم أو المقارن فأثبتوا في مقام تزاحم الواجبين أمرين ، أمر مطلق بما هو واجب فيهما فعلا وأمر معلق على عصيان الأمر المطلق أو على العزم والبناء عليه بالآخر ، ففي المثال المتقدم على ما ذكروا كأنّه ورد هكذا أزل النّجاسة عن المسجد مطلقا ، وورد أيضا أن عصيت هذا الأمر أو عزمت على عصيانه فأقم الصّلاة فعلا بدعوى أنه لا مانع عقلا من توجه هذين الأمرين وتنجزهما عند حصول شرط المعلق منهما من عصيان الأمر الأوّل وإن لم يتحقق

٢٤٥

بعد أو العزم والبناء عليه فعلا فإن الجمع بينهما وإن كان تكليفا بما لا يطاق إذ لا يتمكن المكلّف من الجمع بين المزاحمين إلّا أنه ناشئ عن سوء اختيار المكلّف وإرادته لأنه كان متمكنا من عدم إيجاد الشّرط المعلق عليه ، ومع هذا قد أوجده ، فقد نجّز الأمر المعلق عليه بسوء اختياره ومن قبل نفسه ، والامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فلو قيل : الجمع بين الأمرين فعلا بكلا الضّدين تكليف بالمحال على كلّ حال فما الفائدة في توجيه الأمر المعلق على العصيان أو العزم عليه؟

يقال : الفائدة فيه استحقاق العقوبة على تقدير تحصيل الشّرط المعلق عليه ، ضرورة أنّه حينئذ إن لم يتحقق مخالفة الأمرين فلا أقلّ من مخالفة أحدهما بعدم تمكنه من الجمع بين الضّدين فلا محالة يصدر عنه المخالفة بسوء اختياره ، فلا يستحق العقوبة هذا محصل ما أفاده في المقام.

وأقول : لا يخفى أن محل الكلام هو ما إذا لم يحصل عصيان الأمر بالواجب الفعلي من الضّدين إذ بعد حصوله لا إشكال ولا خلاف في صحّة الأمر بالضّد الآخر ، كما هو واضح ، فالنّزاع إنما هو فيما إذا فرض الضّدان المتزاحمان مضيقين مع كون أحدهما المعين أهم أو مختلفين مع فعل الموسع منهما في وقت المضيق ، كما لو صلّى في أوّل الوقت مع فرض اختصاصه بإزالة النّجاسة عن المسجد ، ضرورة أنّه في هذين الفرضين لا يتصور عصيان لأمر بالواجب الفعلي من الضّدين كي يعلق عليه أو على العزم عليه الأمر بغيره ، إذا عرفت هذا فأعلم أن إيجاب الضّدين فعلا على وجه الإطلاق بأن يكون إيجابهما فعلا في عرض واحد ممّا لا إشكال في امتناعه وهو مفروغ عنه ومسلم عند القائلين بالتّرتب أيضا ، وليس ملاك الامتناع فيه إلّا

٢٤٦

لزوم التّكليف بغير المقدور لعدم تمكن المكلّف من الجمع بين الضّدين ، وهو قبيح فيستحيل صدوره من الحكيم ، وهذا الملاك بعينه موجود في المقام فإن الأمر بغير الأهم المعلق على عصيان الأمر بالأهم أو على العزم عليه وإن لم يكن في عرض الأمر المطلق بالأهم ، إذ ربّما لا يوجد شرط المعلق من أحد الأمرين ، ومعه لا يوجد المعلق ولا ينجز ، بخلاف المطلق فإنّه غير معلق على شرط ، إلّا أن هذا الأمر المطلق بالأهم في عرض المعلق ومرتبته ، لأن المفروض بقاؤه فعلا وعدم سقوطه بتحقق شرط المعلق من العصيان فيما بعد وإن لم يعص بعد أو العزم عليه فعند تحقق شرط المعلق يتنجز التّكليفان ، فيلزم المحذور من لزوم التّكليف بغير المقدور ، مثلا إذا فرض أن المولى يقول لعبده أنقذ ولدي الغريق ، ويقول له أيضا إن عصيت هذا الأمر أو عزمت على عصيانه فأنقذ أخي الغريق ، أو فرض أن الشّارع يقول. أزل النّجاسة عن المسجد فعلا ، ويقول أيضا إن عصيت هذا الأمر أو عزمت عليه فأقم الصّلاة ، فعند تحقق شرط الأمر بإنقاذ الولد أو إقامة الصّلاة يتنجز التّكليفان في عرض واحد مع أن المكلّف لا يتمكن من الجمع بينهما في الامتثال ، فملاك الاستحالة وهو لزوم التّكليف بالمحال موجود في كلا المقامين من دون تفاوت في البين ، وما يصحّ ويصلح لأن يجعل فارقا بينهما أمران.

الأمر الأوّل : إن إيجاب الضّدين فعلا في المقام الأوّل وهو ما لو كان إيجابهما على وجه الإطلاق وفي عرض واحد لما لم يكن لاختيار المكلّف وإرادته مدخل فيه ، فلذا لم يصحّ صدوره من الحكيم ، بخلاف المقام الثّاني وهو لو كان إيجابهما على نحو التّرتب وفي الطّول إذ لاختيار المكلّف وإرادته فيه مدخل فله أن لا يوجد شرط الثّاني ومع هذا اختار إيجاده من عصيان الأمر الأوّل واقعا والعزم عليه فعلا فيصحّ

٢٤٧

أن يكلّف بالضّدين ويخاطب بكلا التّكليفين.

الأمر الثّاني : إن الجمع بين الضّدين في التّكليف بهما في العرفيّات كثير جدا ، كما يقول الوالد لولده اذهب إلى المكتب وإلّا فاقعد في البيت ، ولغيره عند غرق ولده وأخيه مع كون إنقاذ الولد أحبّ إليه وعدم القدرة على إنقاذهما أنقذ ولدي وإلّا فأنقذ أخي ، وهكذا الأمر بالضّدين على وجه التّرتب في العرفيّات فوق حدّ الإحصاء ، والوقوع أقوى شاهد على الإمكان ، فما ذكر وجها لاستحالته يكون من قبيل الشّبهة في مقابل البديهيّة.

ويندفع الأوّل : بأن وجه امتناع التّكليف بغير المقدور ليس إلّا كون الأمر بشيء بعثا إليه وترغيبا وتحريكا نحوه ، والآمر إذا كان حكيما وملتفتا إلى كون الفعل غير مقدور للمكلّف لا يبعثه نحوه بأمره به لكونه سفهيا ومن الواضح أن هذا الوجه لا يفرق فيه بين المقامين ، وما قرع سمعك من أن الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فانما هو فما إذا تنجز التّكليف باجتماع شراشر شرائطه من القدرة وغيرها ، ثم جعل المكلّف نفسه بسوء اختياره غير قادر على امتثاله بترك مقدّمة من مقدّماته ، كما لو ترك المستطيع الخروج مع الرّفقة الخيرة إلى الحجّ ، فإنه حينئذ وإن امتنع على نفسه فعل الواجب إلّا أن امتناعه لما كان بسوء اختياره ، لا يمنع الاختيار بمعنى أنه حينئذ يستحق أن يعاقب ويؤاخذ على ترك الواجب وإن كان زمانه متأخرا عن زمان ترك المقدّمة لأن هذا عصيان للواجب عقلا ، وليس المراد أنّه لما كان عدم مقدوريته بسوء اختيار المكلّف ، فلا يصحّ أن يخاطب ويؤمر بإيجاده فعلا ، لكون هذا الخطاب والبعث إلى الفعل سفهيا لا يصدر من الحكيم الملتفت إلى محاليته ، فعدم منافات الامتناع بالاختيار للاختيار لا يفيد في المقام ، إذ المقصود

٢٤٨

التّمسك به لتصحيح الأمر بالضّدين على وجه التّرتب وقد عرفت أنه لا يفيد إلّا حسن العقاب على غير المقدور لا الأمر والخطاب به.

والحاصل أن تنجز التّكليفين على تقدير التّرتب وإن كان يجيء من قبل المكلّف حيث أن أحدهما كان معلقا على مقدّمة اختيارية وقد أوجدها فهو بسوء اختياره صار منشأ تنجز التّكليف المعلق عليه حينئذ ، إلّا أن الكلام في أن مجرد التّعليق على أمر اختياري هل يصحح التّكليف بغير المقدور أو لا؟ ونحن نقول باستحالته من الحكيم الملتفت إلى كونه غير مقدور لكونه لا يبعث نحوه لكونه سفهيا كما أنّه لا يمكن البعث الفعلي إلى الضّدين كذلك لا يمكن البعث القولي الإنشائي إليهما بإنشاء الأمر بهما ، كيف ولو أمكن ذلك وصح تعليق الأمر بغير المقدور بأمر مقدور لجرى بعينه ، فيما إذا كان واحد من الأمرين بالضّدين مطلقا وفرضا في عرض واحد من دون ترتب بينهما ، مع أن التّكليف بهما كذلك غير معقول اتفاقا ولا وجه له سوى ما ذكرنا من أن التّكليف بغير المقدور مطلقا سفهي لا يصدر عن الحكيم.

ويندفع الأمر الثّاني : بأن الإنسان إذا راجع إلى وجدانه حيث يقول لولده مثلا اذهب إلى المكتب وإلّا فاقعد في الدّار وكذا في سائر الموارد الّتي يأمر بالضّدين على وجه التّرتب يقطع بأنّه لو ألتفت إلى أن المكلّف لا يقدر على الجمع بينهما لا يأمره بهما فعلا بحيث يبعثه نحوهما جدا إذا لم يكن سفهيا فإنّه سفهي لا يصدر عن الحكيم كما عرفت ، نعم يمكن الأمر بغير المقدور تعجيزا ، كما ورد في من صوّر صورة أنّه يؤمر يوم القيامة بخلقها وليس هو حقيقة بأمر ولا دخل له بما نحن فيه ، وحقيقة تلك الأوامر في العرفيّات لا يخلو من وجهين ، إمّا أن يكون الأمر الأوّل ممّا رفع اليد وتجاوز عنه الأمر بعد استشعاره من حال المأمور عبدا كان أو ولدا بأنّه في مقام

٢٤٩

العصيان وعازم عليه شفقة منه عليه ومع التّجاوز ورفع اليد عنه لا محذور في الأمر بالضّد الآخر ، ولا يتوهّم أنّه على هذا المقدّميّة يلزم بطلان ما تجاوز الأمر عن الأمر به فيما إذا بدا للمأمور وأتى به لعدم الأمر به حينئذ ، وذلك لأنّه مشتمل على ملاك الأخير من الخصوصيّة الملزمة وهو كاف في اقتضائه في الصّحة ولذا يحسّنه العقلاء ويرحّب به المولى كما هو واضح ، وأمّا أن يكون الأمر الثّاني إرشادا إلى محبوبيّة متعلقة وبقائه على ما هو عليه من المصلحة والخصوصيّة الملزمة فعلا لو لا المزاحمة وإن الإتيان به يوجب استحقاق المثوبة وإن لم يذهب بها تمام ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر الأوّل لما في متعلقه من زيادة مصلحة لازمة الرّعاية لأجلها صار واجبا تعيينا ، ضرورة أنّه لو كان مساويا للمأتي به في المصلحة أو كان المقدار الزّائد منها فيه على وجه يقتضي الاستحباب والفضيلة ، لكان أحد الواجبين تخييرا أو أفضلهما وحيث أن المفروض وجوبه تعيينا فالإتيان بغيره لنقصان مصلحته لا يوجب إلّا ذهاب بعض ما استحقه من العقوبة على مخالفة الأمر الأوّل ، فإن الحسنات يذهبن السّيئات ومع فرض كون الأمر الثّاني إرشاديّا لا مولويّا فعليّا كالأوّل لا محذور في الأمر بالضّد الآخر ، ولذا لو لم يأت بشيء من الضّدين فيما إذا كان مضيقين كما هو مفروض الكلام في المقام لم يستحق عقوبتين على مخالفة الأمرين ولا أظن أن يلتزم بهما العامل بالتّرتب لقبح عقاب العبد على ما لا يقدر عليه ، ولذا لم يلتزم بهما سيدنا الأستاذ «طاب ثراه» مع إصراره على تصحيح الأمر بالضّدين على نحو التّرتب ، وهذا أقوى شاهد على عدم صحة الأمر بالضّدين مطلقا وإلّا لم يكن وجه لعدم الالتزام باستحقاق العقوبتين على مخالفتهما.

وكيف كان ، دعوى أن جهة قبح الأمر بكلا الضّدين إذا فرضا عرضا ولم يكن

٢٥٠

ترتب بين الأمرين هي المضادة والمطاردة بينهما مع فعليّة الأمرين وهذه الجهة غير موجودة فيما إذا فرضا طولا ويكون أحدهما معلقا ومرتبا على عصيان الآخر أو العزم عليه ، فاسدة جدا ، لأنّ الأمر المعلق وإن لم يكن في عرض المطلق إلّا أنّه عند تحقق شرطه يتنجز ويصير فعليّا كالأمر المطلق فيتحقق المطاردة والمضادة حينئذ بين الضّدين مع فعليّة الأمرين ، فملاك امتناع الأمر بالضّدين موجود في كلا الفرضين بلا تفاوت أصلا في البين ، فانحصر الوجه في تصحيح الضّد إذا كان عبادة فيما ذكرناه وهو اشتماله على ملاك الأمر من المحبوبيّة والمصلحة الملزمة فعلا لو لا المزاحمة ، إذ يكفي هذا المقدار في الإجزاء به وصحته ، ضرورة أنه مع فرضه كذلك بعد إيجاده لا يبقى ما يقتضي إيجابه ثانيا فيسقط الأمر ، وهذا هو المراد بأجزائه وصحته ، فالتّقرب به إنّما يتحقق بإيجاد هذا الدّاعي أي لأجل اشتماله على ملاك الأمر لا بداعي الأمر لفرض عدمه.

هذا فيما إذا فرض الضّدان المتزاحمان مضيقين وأتى بغير الأمر منهما ، وأما إذا كان الأهم منهما مضيقا دون الآخر بأن زاحم الأهم في بعض وقته كمزاحمة الصّلاة مع إزالة النّجاسة عن المسجد في أوّل الوقت مع فرض اختصاصه بالإزالة فيمكن حينئذ أن يقال له أن يأتي بغير الأهم من الضّدين في وقت الأهم بداعي الأمر كأن يأتي بالصّلاة في أوّل الوقت بداعي الأمر إذ لا مانع من التّرتب على هذا التّقدير ، ولذا لو كانت له مقدّمات لا يتمكن من إيجادها في وقته ويتمكن من إيجادها في وقت المضيق كالإزالة لزم عليه تقديمها وإيجادها حين الإزالة ان لم تكن مزاحمة بها وحينئذ ، فيتنجز الأمر بالصّلاة في أوّل الوقت وإن وجب فعلها بعد خروج وقت المضيق كالإزالة لأن هذا ظرف الواجب لا الوجوب ، الوجوب فعلي والواجب

٢٥١

استقبالي ، والفرد المأتي به وإن كان خارجا عن طبيعة الصّلاة المأمور بها بما هي مأمور بها ، إلّا أنه لمّا كان كالباقي تحتها من الأفراد وافيا بتمام الغرض من الأمر ، بل قد يكون أو في منها في تحصيله لاشتماله على مزية كفضيلة أوّل الوقت ، ولذا كان يسقط الأمر المتعلق بها ، ففيما إذا لم يكن للمكلّف داع على فعل الصّلاة سوى الأمر بها كما أنّه يتمكن من إيجاد تلك الأفراد بداعي الأمر ، كذلك يتمكن من إيجاد هذا الفرد الخارج عن ما تعلق به الأمر بداعي الأمر ، إذ المفروض أنه مثلها في كونه وافيا بتمام الغرض من الأمر ومسقطا له ، فله أن يأتي به بداعي الأمر كسائر الأفراد من غير فرق بينه وبينها أصلا ، ودعوى أنه لا يكاد يصحّ أن يدعو الأمر إلّا إلى فعل ما تعلق به ، والمأتي به ليس ممّا تعلق به حسب الفرض ، فكيف يصحّ أن يؤتى به بداعي الأمر؟ فاسدة ، فإنه إنّما يوجب ذلك فيما إذا كان خروج المأتي به من متعلق الأمر تخصيصا لا مزاحمة ، وبعبارة ، اخرى فيما إذا كان خروجه لعدم المقتضي فيه لا لوجود المانع عنه كابتلائه بمزاحمة الأهم ، فإنّه حينئذ وإن كان لا يعمد الأمر ، إلّا أنّه ليس لقصور فيه من جهة عدم وجود المقتضي فيه ، بل لأجل عدم إمكان تعلق الأمر والخطاب به عقلا ، فهو حينئذ كسائر الأفراد في كونه ممّا يمكن أن يؤتى به بداعي الأمر لكونها مثلها في كونه محصلا للغرض من الأمر ومسقطا له من غير فرق في ذلك بين القول بأن الأوامر متعلقة بالطّبائع أو الأفراد وإن كان جريانه على الثّاني أخفى كما لا يخفى.

نعم لو قيل بأنه يعتبر في التّقرب المعتبر في العبادة أن يؤتى بها بداعي الأمر فإنّه حسب الفرض لم يتعلق به فكيف يمكن إتيانه بداعي الأمر المتعلق به؟ وهذا واضح.

وأقول : بقى حكم صورة اخرى من صور المزاحمة هي العمدة لكونها مبتلا بها

٢٥٢

كثيرا والمعركة العظمى ولعلها المنشأ لتحرير المسألة وهي ما لو فرض المتزاحمان مختلفين بأن كان أحدهما واجبا فورا ففورا والآخر موسعا كالصّلاة في سعة الوقت مع الإزالة بناء على أن وجوبها بنحو الفور فالفور ، إذ وجوبها كذلك يزاحم وجوب الصّلاة في كلّ وقت يسع للصّلاة ، إلّا إنّ حكمها حكم الصّورة الثّانية المذكورة ، إذ بعد فرض تمكّن المكلّف من الجمع بينهما في الإتيان بكليهما ، فلا محذور في تعلق الأمر بكليهما فعلا وإن اختص أوّل الوقت بالإزالة فإن وجوب الصّلاة حينئذ فعلي وإن كان الواجب منهما ـ أعني ما تعلق به الأمر ـ استقباليا ، فلو لم يأت بشيء منهما استحق عقوبتين على مخالفتهما ، وله أن يأتي بالصّلاة مع ترك الإزالة في كلّ جزء من الزّمان حتّى في أوّل الوقت بداعي الأمر بالتّقريب الذي تقدّم في الصّورة الثّانية ، ففي الصّورتين الأخيرتين لو ترك كلا المتزاحمين استحق على مخالفتهما عقوبتين ، وأمّا في الصّورة الأولى وهي ما لو كانا مضيقين لم يستحق إلّا عقوبة واحدة على ترك الأهم إن كان فيهما أهم أو أحدهما إن لم يكن فيهما أهم لا عقوبتين ، لعدم صحّة العقوبة على غير المقدور ، ولذا لم يلتزم بهما القائلون بالتّرتّب كما تقدم نقله عن المحقق الشّيرازي ، «أعلى الله مقامه».

ثمّ أنّه على القول بإمكان التّرتيب قد يتوهّم أن وقوعه محتاج إلى دليل آخر ، ولذا يورد على قائليه بعد تسليم إمكانه عقلا أن وقوعه يحتاج إلى دليل وليس في شيء من موارد التّزاحم ، فلا يكفي القول بإمكان التّرتب لتصحيح الضّد ، والحقّ أن وقوعه غير محتاج إلى دليل شرعي عليه ، لأن المقتضي للأمر في كلا المتزاحمين موجود حسب الفرض ، وكذا الأمر وظاهره الفعليّة ، وعند تزاحم الأهم بغيره لا يمنع العقل إلّا من اجتماع الأمر بغيره معه في عرض الآخر به لا بنحو التّرتب ، وهو

٢٥٣

إنّما يخصص ويقيد الأمر بغيره بصورة عصيان الأمر به أو العزم عليه ، فيبقى الأمر بغيره في هذه الصّورة على ما هو عليه من اقتضاء الإجزاء والصّحة.

وبالجملة : لو أمكن التّرتب عقلا فالعقل مستقل بوقوعه بين الأمرين بعد فرض وجود ملاك الأمر بين كلا الضّدين فالقائل به يلزمه القول بصحّة العبادة الّتي تكون ضدّا للمأمور به فعلا في جميع موارد المزاحمة وإن لم يقل بكفاية وجود ملاك الأمر في الصّحة والإجزاء كما لا يخفى.

* * *

٢٥٤

الفصل السّادس

هل يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أم لا؟

فيه خلاف عزي إلى أكثر أهله الأوّل. والحقّ وفاقا لأهله هو الثّاني ، لأنّه قضية الشّرطيّة ، إذ ليس الشّرط إلّا ما يستلزم من عدمه العدم ، فلو كان الأمر مشروطا بشرط فمع فرض انتفائه وعلم الآمر به يستحيل صدور الأمر منه ، وإلّا لزم الخلف ولكان صدوره حينئذ مساوقا لوجود المعلول بدون علّته ، ضرورة أن الشّرط من أجزاء العلّة وإن انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكلّ ، فمع انتفاء الشّرط تنتفي العلّة ، فيستحيل وجود المعلول وهو الأمر المشروط ، فالقول بالجواز بظاهره بديهي البطلان إلّا أن يؤوّل بأحد وجهين.

الأوّل : أن يكون مراد المجوزين جواز الأمر ببعض مراتبه الّتي لا تكون مشروطة بما كان شرطا لبعض مراتبه الأخر كما لو فرض أن الأمر بمرتبة فعليته مشروط بشرط كالعلم به مثلا ولكنه بمرتبة إنشائه أو اقتضائه لا يكون مشروطا بذلك الشّرط ، فحينئذ يصحّ أن يقال يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه بأن يكون المراد أنه يجوز أمر الآمر بتلك المرتبة التي لا تكون مشروطة بالشّرط وإن علم الآمر بانتفاء شرطه لكن لا بتلك المرتبة ، بل بمرتبته الاخرى ، ويصحّ أيضا أن يقال لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه بأن يكون المراد أنّه لا يجوز الأمر

٢٥٥

بتلك المرتبة الّتي تكون مشروطة بالشّرط لأنّه مستلزم للخلف والمحال كما تقدم.

الثّاني : أن يكون مراد المجوزين جواز الأمر الصّوري أي الطّلب الإنشائي الذي يصدر لا بداعي البعث والتّحريك نحو المطلوب ، بل بداع آخر كالابتلاء والامتحان ، فإن هذا النّحو من الأمر غير مشروط بما كان شرطا له إذا كان بنحو آخر أي بداعي البعث إلى الفعل كما هو واضح ، فيصحّ أن يقال حينئذ ، يجوز أمر الآمر أي الطّلب الإنشائي الصّوري مع علم الآمر بانتفاء شرطه بنحو آخر وهو ما لو كان الطّلب الإنشائي حقيقيا وجوديا بأن يكون إنشاؤه بداعي البعث والتّحريك نحو الفعل ، ويصحّ أيضا أن يقال لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أي الأمر الحقيقي الجدّي ، فإنه مشروط بعدم نسخه مثلا بخلاف الأمر الصّوري والامتحاني حيث أنّه غير مشروط بهذا الشّرط ، ويشهد لهذا تمثيل المجوزين بأمر إبراهيم الخليل عليه‌السلام بذبح ولده إسماعيل عليه‌السلام فإنه صوري امتحاني لا جدّي حقيقي ، وبأحد الوجهين يمكن أن يتصالح بين الفريقين ويرفع النّزاع من البين بأن يحمل كلام كلّ منهما على مورد غير مورد كلام الآخرين ويجعل النّزاع لفظيّا بين المجوزين والنّافين ، وإلّا فيفيد جدّا حمل كلام المجوزين على مرتبة من الأمر تكون مشروطة بشرط أو على ما إذا كان حقيقيا وفرض اشتراطه بشرط ، إذ على أحد التّقديرين تجويز الأمر مع انتفاء الشّرط مستلزم للخلف والمحال فهو بديهي البطلان.

وكيف كان : التّحقيق في المقام أن يقال أن الأمر بأيّ مرتبة من مراتبه وعلى أيّ نحو خاص من أنحائه إذا فرض مشروطا بشرط لم يعقل وجوده بتلك المرتبة وبذلك النّحو الخاص مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، وإذا فرض أنه بإحدى مراتبه كمرتبة اقتضائه أو إنشائه أو بأحد أنحائه كالابتلاء والامتحان وإن لم يصدق عليه الأمر إلّا توسعا وتسامحا ، بأن يدعي أنه ينصرف عند الإطلاق إلى الأمر الحقيقي

٢٥٦

إذا بلغ مرتبة الفعليّة ، فإذا كان صوريّا أو لم تبلغ مرتبة الفعليّة لا يطلق عليه الأمر إلّا توسعا وتجوزا لا يكون مشروطا بشرط وإن كان ببعض مراتبه أو أنحائه الأخر مشروطا بشرط فلا مانع من ورود الأمر بتلك المرتبة وبذلك النّحو الخاص الذي لا يكون بحسبهما مشروطا بشرط ، فإن كان مراد المجوزين التّجويز في الصّورة الأولى ففساده أوضح من أن يخفى ، وإن كان مرادهم التّجويز في الصّورة الثّانية فلا بأس به إذ لا محذور فيه بالمرّة.

هذا على تقدير كون محل الخلاف جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه ، وأمّا لو كان محل الخلاف جواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرط المأمور به فالحقّ فيه أيضا عدم الجواز إذ مع انتفاء شرط المأمور به يصير غير مقدور فينتفي حينئذ شرط الأمر أيضا ، إذ القدرة شرط له ، فيرجع انتفاء شرط المأمور به إلى انتفاء شرط الأمر ، وقد عرفت أنّه لا يجوز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه ، إلّا أنّه لو كان محلّ الخلاف هكذا لا يكون بطلان القول بالجواز بمثابة بطلانه لو كان محلّ الخلاف على التّقدير الأوّل وإن مرجع الخلاف على هذا التّقدير إلى أن شرط المأمور به هل هو أيضا شرط الآمر أم لا؟

وبعبارة اخرى : هل القدرة شرط الآمر أم لا؟ فالقائل بالجواز على هذا التّقدير ينكر ذلك ويجوز التّكليف بغير المقدور ، وهذا وإن كان باطلا إلّا أنّ بطلانه ليس بمثابة القول بجواز الأمر مع علم الآمر بانتفاء شرطه فإنه أوضح بطلانا ، لأنّه مستلزم للخلف والمحال فهو بديهي البطلان ، بخلاف القول بجواز الأمر بغير المقدور كما لا يخفى.

* * *

٢٥٧

الفصل السّابع

هل أنّ الأوامر والنّواهي

متعلقة بالأفراد بخصوصيّاتها الخارجيّة وتشخصاتها العينيّة

وقع النّزاع في أنّ الأوامر والنّواهي متعلقة بالأفراد بخصوصيّاتها الخارجيّة وتشخصاتها العينيّة بحيث تكون لتلك الخصوصيّات والتّشخصات دخل في الأوامر والنّواهي بها أو بالطّبائع وإن قيدت بقيود وحدت بحدود تكون معها موافقة للغرض والمقصود مجرّدة عن الخصوصيّات والتّشخصات وإن كانت لا تنفك عنها خارجا إذ بعد تجديداتها وتقييداتها وإن كانت كثيرة إلى أن بلغت حدا تنحصر في فرد خارجا لا تصير جزئيّة ما لم توجد في الخارج بل معها أيضا باقية على كونها كلّية ، إذ يمكن صدقها على أفراد كثيرة متصورة بحسب خصوصيات الزّمان والمكان وغيرهما ، وتلك الخصوصيّات وإن كانت ملازمة لها في الوجود الخارجي ، إلّا أنّها خارجة عنها في مقام تعلق الحكم بها ، فلو فرض إمكان انفكاكها عنها لا تكون ناقصة عن ما تعلق به الحكم ، بل تكون تامة ، فيكون التّخيير بين الأفراد عقليّا كما هو المعروف ، حيث أنّه لمّا يرى عدم التّفاوت بين الخصوصيّات الّتي لا تنفك الطّبيعة عن وجود إحداها معها خارجا ، فيحكم بأن

٢٥٨

المكلّف مخير بين إتيان الطّبيعة بأي واحدة منها فإنّها في موطن الخارج ليست إلّا عين الفرد لصدقها عليه حقيقة وانطباقه عليها خارجا ، فلو تعلق طلب المولى بإيجاد الطّبيعة كما في الأوامر يكون المكلّف مخيّرا عقلا بين إيجادها في ضمن أيّ فرد ، بخلاف ما لو كان متعلق الأحكام الأفراد بخصوصيّاتها وتشخصاتها ، إذ على هذا يلزم أن يكون التّمييز العقلي المعروف في جميع موارده شرعيّا أو عرفيّا على حسب اختلاف الموالى وإن لم يسمّ بالتّمييز الشّرعي أو العرفي اصطلاحا ، لوضوح أن متعلق الحكم في جميع تلك الموارد ليس إلّا الفرد لكن لا بخصوصيّة معيّنة ، بل بإحدى الخصوصيّات لا على التّعيين ، فيكون التّخيير بين الأفراد حينئذ مستفادا من قبل اللّفظ ولسان الآمر فيكون مستندا إليه شارعا كان أو غيره لا إلى العقل.

وبالجملة قضية القول بتعلق الأحكام بالأفراد رجوع التّخيير العقلي المعروف إلى التّخيير الشّرعي في الشّرعيّات كما أنّ قضيّة القول بتعلقها بالطّبائع رجوع التّخيير الشّرعي كالتّخيير بين الصّيام والإطعام إلى التّخيير العقلي فيما إذا كان التّخيير لا بملاك المزاحمة بالبرهان الذي سيأتي إن شاء الله.

وكيف كان : الحقّ تعلق الأحكام بالطّبائع لأنّه ممّا يساعد عليه اللّفظ والوجدان والبرهان ، أمّا اللّفظ فلأن الأمر لا يدلّ إلّا على تعلق الطّلب بإيجاد نفس الطّبيعة وإن فرضت مقيّدة لا بخصوصيّاتها المفردة وعوارضها الخارجيّة ، كما أن النّهي لا يدلّ إلّا على تعلق الطّلب بترك نفس الطّبيعة إن كانت موجودة وباستمرار عدمها إن كانت معدومة لا بخصوصيّاتها وعوارضها وإن كانت في الخارج لا تنفك عنها.

وأمّا الوجدان : فلأن الإنسان إذا راجع إلى نفسه عند أمره عبده أو ولده أو نحوهما ممن له عليه جهة مولويّة بفعل من الأفعال وإن قيده وحدّده بأمور كثيرة

٢٥٩

يرى أنّه لا غرض له في مطلوبه إلّا نفس الطّبيعة ولا نظر له إلّا إليها من دون غرض ونظر منه إلى شيء من خصوصيّاتها وعوارضها أصلا ، بحيث لو فرض إمكان انفكاكها عنها خارجا لا تكون ناقصة عن ما هو المطلوب وتعلق به الغرض كما هو إنسان في القضيّة الطّبيعيّة ، وبعبارة اخرى يرى أن وجودها السّعي بما هو وجودها تمام المطلوب لا بما لا بدّ منه من الخصوصيّات الخارجيّة فهي خارجة عن المطلوب من لوازمه وعوارضه لا من أجزائه ومقوماته.

وأمّا البرهان : فهو أن موضوع كلّ حكم بمنزلة العلّة له لا بدّ من دخله في التّأثير فيه وإلّا لكان كلّ موضوع موضوعا لكلّ حكم ، فلو فرض أن موضوعات الأحكام هي الأفراد بخصوصيّاتها المفردة ومشخصاتها لزم أن يكون لتلك الخصوصيّات والتّشخصيات مع كونها متفاوتة ومتغايرة أو متباينة دخل في ثبوت الأحكام ، وهذا غير معقول ، لأن الأشياء بما هي متغايرة ومتباينة ومتفاوتة لا يمكن أن تكون مؤثرة في شيء واحد ، بل بما هي واحدة ومشتركة في جهة جامعة لاعتبار نحو خاص من الارتباط والسّنخيّة بين المعلول والعلّة لأجله صار أحدهما علّة والآخر معلولا ، كيف لا يعتبر ذلك بينهما وإلّا لزم تأثير كلّ شيء في كلّ شيء ، فلا محالة يكون المؤثر حقيقة هو الطّبيعة الجامعة بينهما ، ولذا الحكم برجوع التّخيير الشّرعي كالتّخيير بين الصّيام والإطعام عمّا إذا لم يكن التّخيير بملاك المزاحمة إلى التّخيير العقلي لأنّ الأمر بأحد الشّيئين فصاعدا مع كونهما متباينين لا يصحّ إلّا إذا كان هناك غرض واحد يقوم بتمامه كلّ واحد منهما ، ولذا يسقط بإتيانه الأمر لوضوح أنّه لو كان هناك غرضان يقومان بهما ولم يكن تزاحم بينهما ولا بين الغرضين لزم إيجابهما تعيينا لا تخييرا ، فالواجب حقيقة هو الجامع بينهما لا أحدهما

٢٦٠