غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

ترك الصّلاة ويؤيّد بل يدلّ على ما ذكرنا من عدم كون الجهة تغليب جانب الحرمة إيجاب الإمام عليه‌السلام الصّلاة بعد أيّام الاستظهار وقبل البلوغ إلى العشرة ، لوضوح أنّه لو كانت الجهة ما ذكر لزم تحريم الصّلاة إلى العشرة ، ويمكن أن لا يكون الحكم تعبّديّا كالأمر بإهراق الإنائين والتيمّم في المثال الثّاني ، ودليل الجهة فيه الابتلاء بنجاسة البدن بالاستصحاب لو توضأ بكل من الإنائين على وجه يحصل له القطع بصدور وضوء صحيح منه بأن يتوضأ بأحدهما ثمّ يطهر مواضع وضوئه بالآخر ثمّ يتوضّأ به ، فإنّه حينئذ يقطع بوضوء صحيح منه لو أتى بهما احتياطا ، فإنّه وإن ارتكب حراما أيضا بناء على الحرمة الذّاتية ، إلّا أنّه لا ينافي قصد القربة بما في الذمة من الواجب واقعا وإن لم يعلمه تفصيلا ، إلّا أنّه بعد ملاقات بدنه للماء الثّاني يقطع بنجاسته حينئذ تفصيلا ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون النجس هو الثّاني فيحدث بمجرّد ملاقاته النّجاسة للبدن ، وإمّا أن يكون النجس هو الأوّل فيكون نجسا من قبل إلى حين الملاقاة ، إذ بمجرّد ملاقات الثّاني قبل انفصال الغسالة والتعدّد لا تحقّق الطّهارة ، فعلى أي تقدير يقطع بأن بدنه حين ملاقاته للماء الثّاني نجس ، إمّا من السّابق أو حينه ، وبعد تطهيره بالثّاني يشك في زوال نجاسته والأصل بقاءها (١).

نعم ، لو كان الماء الثّاني بمقدار تتحقق الطّهارة بمجرد ملاقات البدن إيّاه كما لو كان كرا ولم نعتبر الانفصال والتّعدد فيه لا يعلم تفصيلا بنجاسة البدن حين ملاقاته له وإن علم إجمالا بنجاسته إمّا بملاقات الأوّل أو الثّاني ، ولا مجال للاستصحاب الطّهارة حينئذ لما حققناه في بابه من أنّه يعتبر في إجرائه إحراز

__________________

(١) أقول ولا يقدح في ذلك تردد المعلوم تفصيلا بين ما يزول بعد الانفصال والتّعدد وبين ما يبقى إلى أن يردد عليه مطهر آخر لأنّه من قبيل القسم الثّاني من أقسام استصحاب الكلّي ولا مانع من جريانه فيه كما حقّق في محلّه ، لمحرّره.

٣٨١

اتّصال زمان الشّك بزمان اليقين ، وهذا ممّا لا يمكن إحرازه في شىء من الحادثين اللّذين علم إجمالا بتقديم أحدهما على الآخر ، فالمرجع حينئذ قاعدة الطّهارة ، وحيث أن المفروض في المثال الثّاني هو الماء القليل بقرينة قوله عليه‌السلام : «يهريقهما ويتيمّم» فلذا لم يأمر بالوضوء بكلّ منهما فيه ، فتحصل ممّا ذكرنا أنّ الحكم في المثالين كإهراق الإنائين في الثّاني إمّا تعبّدي وإمّا لجهة اخرى غير تغليب الحرمة على الوجوب عند الدّوران بينهما.

وأقول : سلّمنا كون جهة الحرمة في المثالين تغليب جانب الحرمة على الوجوب ، لكن الدّوران فيهما بين الواجب والحرام ، وبعبارة الاخرى بين فعل المكلّف بالفتح لا المكلّف بالكسر ، وتغليب الحرمة في الأوّل لا يستلزم تغليبها في الثّانى كما عرفت سابقا.

«الأمر الثّالث»

قد عرفت أن ملاك باب الاجتماع إنّما هو وجود المقتضي لكلّ من الحكمين في المجمع بخلاف باب التّعارض بين الأدلّة حسبما مرّ مرارا ، فلا فرق في جواز الاجتماع وامتناعه على القولين بين ما إذا كان المجمع معنونا بعنوانين وموجها بوجهين يقتضي أحدهما التّحريم على وجه الإطلاق بحيث يشمل المجمع ، والآخر يقتضي الإيجاب أيضا كذلك ، كعنواني الصّلاة والغصب المتصادقين على الأكوان الصّلاتية الواقعة في الدّار المغصوبة ، وبين ما إذا كان مضافا بإضافتين مع اتّحاد عنوانه يقتضي أحدهما التّحريم مطلقا حتّى في المجمع والاخرى الإيجاب كذلك حتّى فيه ، كما لو ورد «أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق» وفرض العلم بأن الإكرام المضاف إلى العالم

٣٨٢

يقتضي الإيجاب مطلقا والمضاف إلى الفاسق يقتضي التّحريم كذلك ، فالمجمع كإكرام زيد العالم الفاسق إن كان ذا عنوان واحد ـ أعني عنوان الإكرام ـ إلّا أنّه تجتمع فيه اضافتان مختلفتان في اقتضاء الإيجاب والتّحريم على وجه الإطلاق فملاك باب الاجتماع موجود في كلا القسمين من غير فرق في البين إن كان تعدّد العنوان والوجه مع وحدة المعنون وجودا مجديا في جواز الاجتماع بدعوى أنّه يوجب اختلاف المعنون مع وحدته وجودا بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا والوجوب والحرمة شرعا ، فليكن تعدد الإضافات أيضا كذلك ، بداهة أنّه أيضا يوجب اختلاف المضاف بها على وحدته وجودا بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح العقليين والإيجاب التّحريم الشّرعيين ، وإن لم يكن تعدد الوجه والعنوان كافيا في جواز الاجتماع في المجمع لأجل وحدته وجودا ، فليكن أيضا تعدد الإضافات غير كاف في جواز الاجتماع فيه ، فلا ينبغي التّأمّل في لحوق تعدّد الإضافات بتعدد الجهات والعناوين ، فيجري في القسم الثّاني أيضا أحكام باب الاجتماع على القول بالامتناع من التّرجيح بمرجّحات المقتضيات المتزاحمات ، فيقدم الأقوى من المقتضيين وإن كان أضعف تأثيرا في المجمع لأجل الابتلاء بالمزاحمة ، ولذا قد يفيد استحبابه أو كراهيّته أو وجوبه أو حرمته لكن لأحد الوجوب أو الحرمة في سائر الموارد إن كان أحد المقتضيين أقوى ، وإن لم يكن فيهما أقوى فالمجمع يصير ما بالقوّة كلّ من المقتضيين عن تأثيره بمزاحمته بالمثل. هذا فيما احرز المقتضي لكلّ من الحكمين ومقدار كلّ من المقتضيين وإن لم يكن في البين إلّا أصلا الخطابين ، فإن كانا اقتضائيين فالحكم كما تقدّم ، وإن كان أحدهما فعليّا أو ظاهرا في الفعليّة دون الآخر قدّم الفعلي ولا تعارض ولا اجتماع ، وإن كان كلّ منهما

٣٨٣

ظاهرا في الفعليّة فهل يعامل معهما في المجمع معاملة المتعارضين ، من التّرجيح بمرجحات الرّوايات أو التّخيير ، كما لعله المرتكز في الأذهان والمتراءى من عمل الأصحاب في مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق نظرا إلى أنّه يعلم إجمالا بكذب أحد الدّليلين ولو بعمومه أو إطلاقه على القول بالامتناع ، وهذا هو المعيار في باب التّعارض ، أو معاملة باب الاجتماع ، إمّا لأنّ حمل كلّ منهما على الاقتضائي جمع وتوفيق عرفي بين الدّليلين ، وإمّا لاستكشاف المقتضي بطريق الإن لكلّ من الحكمين مطلقا حتّى في المجمع من ظهورهما في الفعليّة كذلك ، لوضوح أنّها لا تتحقّق إلّا مع وجود المقتضي عدم المانع وعدم فعليّة أحد الحكمين في المجمع وإن كان معلوما على القول بالامتناع إلّا أنه لم يعلم استناده إلى عدم المقتضي فيبقي ظهور الخطابين في وجود المقتضي بكلا الحكمين فيه بلا مانع ، فيرفع اليد عن ظهورهما في عدم المانع حتّى في المجمع فيحملان على الاقتضائي جمعا بينهما ، والمراد بالاقتضائي أنّ عدم أحد الحكمين فيه لأجل ابتلائه بمزاحم أقوى ، فلو فرض انتفاء ذلك المزاحم بنسيان أو اضطرار ونحوهما يبقى الآخر مؤثّرا فيه ، وجهان ، لعلّ الثّاني أقوى ، وعلى هذا فيشكل ما هو المرتكز في الأذهان من العمل بين المثالين المتقدّمين مطلقا عمل باب التّعارض بين الدّليلين.

وتظهر الثّمرة كثيرا ، أمّا على القول بجواز الاجتماع فواضح ، وأمّا على القول بالامتناع ففي صورة الاضطرار ونحوه كما تقدّم ، وفيما حصل التّرجيح بحسب الدلالة أو استند على خلاف ما هو أقوى في المقتضيين لو علم بثبوتهما لكلا الحكمين في المجمع.

وبالجملة عند التّعارض الدّليلين أو الإمارتين لا يكون مفاد أدلّة اعتبارها إلّا

٣٨٤

اعتبار واحد من المتعارضين بلا عنوان وهذا لا يفيد إلا نفي الثّالث ، ولذا قلنا في باب التّعارض أن الأصل فيه هو تساقط كلا المتعارضين بالنّسبة إلى مدلوليهما المطابقيين ، فينحصر مورد التّعارض بصورة عدم وجود المقتضي للاعتبار في أحدهما للعلم الإجمالي بكذبه ، بخلاف باب التّزاحم والاجتماع ، فإنّه لا يكاد يتحقّق إلّا عند وجود المقتضي لكلا الحكمين ، فإن لم يكن ترجيح لأحدهما كان التّخيير بينهما على طبق القاعدة ، بخلاف باب التّعارض فإنّ الأصل فيهما هو التّساقط والتّخيير بينهما مطلقا أو عند فقد المرجّحات على القول باعتبارها شرعي تعبّدي يستفاد من الأخبار العلاجيّة لولاها لم يكن له وجه.

وأقول : قد تقدّم الإشكال منه «دام ظلّه العالي» في استكشاف المقتضي بطريق الإن لكلّ من الحكمين عند ظهور دليلهما في الفعليّة ، ومحمل صحيح لعمل الأصحاب ، والحقّ مع ما أفاده سابقا فيراجع ثمّة الحمد لله تعالى أوّلا وآخرا والصّلاة على محمّد وآله أبدا سرمدا.

* * *

٣٨٥

الفصل الثّالث

اقتضاء النّهي الفساد

في العبادات والمعاملات وعدمه

اختلفوا في اقتضاء النّهي للفساد في العبادات والمعاملات وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض في تحقيق المسألة ينبغي تقديم امور :

«الأمر الأوّل»

قد تقدّم في المسألة السّابقة الفرق بينها وبين المسألة ، وأن اختلافهما من جهة اختلاف البحث فيهما لا من جهة تعدّد موضوعيهما ، فإن تعدّد المسائل إنّما يكون بتعدّد الجهات المبحوث عنها فيها وإن اتّحدت موضوعاتها ، كما إن اتّحادها إنّما يكون باتّحاد الجهة وإن تعدّدت الموضوعات ، وإن جهة البحث في السّابقة هي أنه بعد الفراغ من كون الأحكام الشّرعيّة بأسرها متضادّة مستحيلة الاجتماع في واحد لا تعدّد فيه أصلا ، وقع النّزاع في أنّ تعدّد العنوان والجهة أو الإضافة هل يكفي ويجدي في رفع غائلة استحالة اجتماع الحكمين في المجمع أو لا؟ بل وحدته وجودا

٣٨٦

تمنع عن اجتماع الحكمين فيه ، وإن جهة البحث في المسألة هي أنه بعد الفراغ عن تعلّق النّهي الفعلي بشيء من العبادة أو المعاملة اختلفوا في أنّه هل يقتضي فساده مطلقا أو إن كان عبادة ، أم لا يقتضيه مطلقا ، أو في الجملة؟ على اختلاف الأقوال ولأجل اختلاف الجهتين تعدّد العنوان وعقدت لكلّ منهما مسألة على حده.

نعم ، لو قيل بامتناع الاجتماع في المسألة السّابقة وتقديم جانب النّهي مطلقا أو في كلّ مورد قدم النّهي فيه على الأمر تصير من صغريات هذه المسألة ، فلا يقتضي النّهي فساد المجمع إن كان عبادة ، إلّا على مذهب من يقول في هذه المسألة باقتضاء النّهي فساد العبادة ، وإن كان فرق بين المسألتين ، حيث أنّه مع انتفاء فعليّة النّهى عن المجمع إن كان عبادة لأجل الأعذار العقليّة من الاضطرار ونحوه ، يحكم بصحّتها ، بخلاف انتفاء فعليّة النّهي عنها في المسألة فإنّها لا تصحّ أصلا لعدم مقتضي الأمر وملاكه فيها ، فكيف تقع صحيحة؟ إلّا أن هذا الفرق لا ينافي ما ذكرنا من أن المسألة السّابقه على القول بالامتناع وتغليب جانب الحرمة تكون من صغريات المسألة ، ودعوى أنّها لا تكون من صغرياتها حتّى على هذا القول ، لأنّها عقليّة كما تقدّم منها بخلاف المسأله كما سيأتي إن شاء الله ، فكيف تكون من صغرياتها؟ مدفوعة بكون المراد باللفظيّة ما يعمّ الالتزاميّة ، أعني بتوسّط مدلول الصّيغة كما سيأتي بيانه إنشاء الله فلا تنافي بين كونه السّابقة من صغريات المسألة وبين اختلافهما وكون السّابقة عقليّة دون هذه.

ولا يخفى أنّه ليس المراد أنّها على هذا القول تكون من صغريات المسأله مطلقا ، بل في صورة تقدم النّهي الفعلي ، وفي صورة الاضطرار ونحوه لا يكون النّهي فعليّا فلا يكون تناف بين قولنا بالصحّة في صورة الاضطرار ونحوه في السّابقة وعدمها

٣٨٧

مطلقا في المسألة وبين قولنا بأن المسألة السّابقة على القول بالامتناع وتقديم النّهي تكون من صغريات المسألة كما لا يخفى.

«الأمر الثّاني»

ملاك النّزاع في المسألتين مختلف ، قضيّته في الاولى عدم اختصاصها بالألفاظ وعدّها من المباحث العقليّة لأنّ مرجع النّزاع في جواز اجتماع الأمر والنّهي وعدمه حقيقة ولبّا الى اجتماع مدلوليهما ، أعني حقيقتي الوجوب والحرمة وعدمه ، ولذا عمّمنا النّزاع فيها لما إذا لم يكن خطاب في البين وكان الوجوب والحرمة عقليين وإن كان ظاهر التّعبير بالأمر والنّهي في عنوان المسألة في كلماتهم اختصاص النّزاع باللّفظين وقضيّته في هذه المسألة اختصاصها بالالفاظ وجعلها من مباديها لأنّ في الأقوال قول باقتضاء النّهي الفساد في المعاملات مع إنكار قائله الملازمة بين الفساد وبين الحرمة المولويّة الّتي هي مفاد النّهي في المعاملات ، ومعلوم أنّها لو جعلت عقليّة يكون مرجعها حقيقة ولبّا الى النّزاع في أن مدلول النّهي وهي الحرمة المولويّة الّتي هي محل النّزاع في المقام هل تجامع الصحّة فلا يقتضي النّهي الفساد ، أو لا تجامع؟ فيقتضي الفساد ، وعلى هذا يلزم خروج القول المذكور عن الأقوال في المسألة ، فلا بدّ من جعلها من مباحث الألفاظ كي تعمّ القول المذكور أيضا ، ولا ينافي هذا إنّ من جملة الأقوال قول بالاقتضاء في العبادات دون غيرها لأجل الملازمة بينه وبين الحرمة مطلقا ، وإن لم تكن مدلولا عليها باللّفظ في العبادات دون المعاملات ، إذ على هذا تختلف حال المسألة ، في العبادات تكون عقليّة على هذا القول ، وفي غيرها تكون لفظيّة على ذلك القول ، وذلك لإمكان جعلها لفظيّة مطلقا

٣٨٨

بجعل النّزاع في مطلق دلالة الصّيغة ولو بالالتزام ، إذ على هذا القول وإن كان مدلول النّهي أي الحرمة تقتضي الفساد ، إلّا أنّه مع هذا يقال : أنّ النّهي يقتضي الفساد أي يدلّ عليه بالالتزام وبتوسّط مدلوله ، وبالجملة إن جعلت المسألة لفظيّة بأن يقال أن البحث فيها في دلالة الصّيغة مطلقا ولو بالالتزام ، أعني بتوسّط مدلولها تعمّ جميع الأقوال بخلاف ما إذا جعلت عقليّة فلا تعم بعضها حسبما عرفت فلذا ألجأنا إلى جعلها لفظيّة بالمعنى الّذي تقدّم.

«الأمر الثّالث»

التّعبير بلفظ النّهي الظّاهر في التّحريمي النّفسي في العنوان وإن كان يوهم اختصاص النّزاع به ، إلّا أنّ ملاك النّزاع فيه جار في التّنزيهي في العبادات لوضوح أنّه كما أنّ الحرمة لا تجامع الصّحّة فيها ولذا كان النّهي التّحريمي مقتضيا للفساد فيها كذلك ، الكراهة المطلقة الّتي تكون مدلول النّهي التّنزيهي وهى محل الكلام فى المقام لا الكراهة بالإضافة الى سائر الافراد الّتي تسمّى اصطلاحا بكراهة العبادات لا تجامع الصحّة في العبادات ، فلا فرق بين القسمين في العبادات ، وبالجملة مطلق المرجوحيّة فيها سواء بلغت مرتبة الالزام أو الحرمة أو الكراهة المطلقة لا المضافة الى سائر الأفراد لا يجامع الصّحة في العبادات ، فلا وجه لتخصيص النّزاع فيها بالتّحريمي ، وعدم جريان الملاك في التّنزيهي المتعلّق بالمعاملات لأنّه يجامع صحّتها قطعا لا يوجب تخصيص النّزاع بالتّحريمي ، فإنّ جريان الملاك في غيره ولو في خصوص العبادات يكفي في تعميم العنوان ، غاية الأمر أن عدم جريانه في المعاملات يوجب التّفصيل في التّنزيهي بأن يقال : أنّه يقتضي الفساد في العبادات

٣٨٩

دون المعاملات.

وكذلك ملاك النّزاع في النّفسي جار في الغيري الأصلي كما لا يخفى ، فهو أيضا داخل في محل النزاع ، وأمّا الغيري التّبع فهو وإن كان خارجا عنه بناء مع كون المسألة لفظيّة وكون النّزاع فيها في دلالة اللّفظ والصّيغة ، فان التّبعي من مقولة المعنى ، إلّا أنّ دلالة الأصلي على الفساد فيما لا يكون للإرشاد إليه كما هو محل الكلام في المقام حيث لا يكون إلّا من جهة أن مدلوله ـ أعني الحرمة ـ لا تجامع الصّحة من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك ، كما توهّمه المحقق القمّي «قدس‌سره» ، وهذه الجهة موجهة في التّبعي أيضا ، فيكون أيضا داخلا في حريم النّزاع.

ويؤيد ما ذكرنا جعل ثمرة النّزاع في أن الأمر بشىء يقتضي النّهي عن فعله فساده إن كان عبادة ، إذ لو كان لاستحقاق العقوبة على مخالفة النّهي دخل في اقتضائه الفساد ولم يكن التّبعي لاجل عدم استحقاق العقوبة على مخالفته مقتضيا له ، لم يكن يجعل فساد الضّد إن كان عبادة ثمرة النّزاع في تلك المسألة فتأمل جيدا.

«الأمر الرّابع»

المراد بالعبادة في المقام ما يكون بنفسه وعنوانه تقربا إليه سبحانه لو لا تحريمه شرعا أو ما لو تعلق الامر به لكان عباديّا ، أى لا يسقط إلّا إذا أتى به بداعي قربي.

فالاوّل : كالسّجود والرّكوع والخضوع والخشوع والتّسبيح والتّقديس لله تبارك وتعالى ، فإن لهذه بذواتها وأنفسها ما لم يتعلق بها نهي شرعا ، كنهي الحائض والجنب عن السّجود لله سبحانه تعظيم له سبحانه ومتقربة إليه وموجبة

٣٩٠

لاستحقاق المثوبة لديه (١).

والثّاني : مثل صوم العيدين والصّلاة في أيّام الحيض ، فإنّهما لو تعلق الأمر بهما كان عباديّا قطعا للقطع بتساويهما مع سائر الاقسام من أفراد الصّلاة والصّيام فلو تعلّق الأمر بهما كان عباديّا على حد غيرهما وربّما تعرّف العبادة في المقام بأنّها ما أمر به لأجل التّعبد به ، أو ما يتوقف صحّته على النّيّة ، أو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيه في شىء.

ولا يخفى أن العبادة بأي واحد من هذه التّعاريف مضافا إلى ورود ما أورد عليها بالانتقاض طردا وعكسا ـ كما يظهر من مراجعة المطولات ـ لا يكاد يمكن أن يتعلّق بها النّهي ، إذ مع فرض وجود الأمر كما هو قضيّة الاوّلين أو المصلحة كما هو قضيّة الثّالث ، كيف يمكن تعلق النّهي أيضا؟ فلا بدّ من تفسيرها بما ذكرنا ، فإنّه ممّا يجامع النّهي كما لا يخفى.

ويقابل العبادة المعاملة ، فهي ما لا يكون بنفسه وعنوانه متقربا إليه سبحانه ولا الأمر به عباديّا لو تعلّق به ، سواء كان من العقود أو الايقاعات أو غيرها من التّوصليّات كغسل الثّياب والأواني من النّجاسات. هب أن الأمر تعلّق بغسلها على وجه الوجوب ، لكن الغرض منه لمّا علم بأنّه تحصيل لمجرد وجوه في الخارج ولو على وجه محرم أو غير المكلّف ، فلا معنى لبقاء الامر حينئذ ، لما مرّ مرارا من أن العبرة في سقوط الأمر بحصول الغرض منه ولو بفعل غير ما تعلق به الامر لا بخصوصه ، وربّما تكون دائرة ما يحصل الغرض أوسع من دائرة متعلّق الأمر فيسقط ، الأمر حينئذ بفعل يحصل الغرض وإن كان خارجا عن متعلق الأمر إذ

__________________

(١) وإن أتى بها رياء ، لمحرّره.

٣٩١

لا يعقل بقاء الأمر مع حصول الغرض منه ، ما هو واضح.

«الأمر الخامس»

لا يكون محلّ النّزاع في المقام الّا ما كان قابلا للاتّصاف بالصّحة والفساد شرعا ، بأن يكون تارة واجدا لما يعتبر في تأثيره شرعا وأخرى فاقدا له ، ضرورة أنّ ما لا اثر له شرعا بالمرّة ، أو كان أثره الشّرعي ممّا لا ينفك عنه أصلا كبعض أسباب الضّمان ، أو كان اثره ممّا يترتّب عليه عقلا أو عادة لا يصحّ أن ينازع في أن النّهي عنه هل يقتضي فساده أم لا؟ أمّا فيما لا أثر له شرعا أو كان أثره الشّرعي غير منفك عنه فواضح ، وأمّا فيما كان الأثر المترتب عليه من الآثار العقليّة أو العاديّة فلأنّها ليست مجعولة وضعا ورفعا بالجعل الشّرعي ، فكيف يقتضي النّهي عدم ترتبها على أسبابها؟ إن كان الالقاء في النّار موجبا للاحتراق مثلا لا يعقل أن يكون النّهي عن إلقاء المصحف مثلا فيه مقتضيا لعدم إحراقه ، فتعيّن أن يكون المراد بالعبادة كالمعنى المتقدم والمعاملة في مقابله ما يقبل الاتّصاف بالصّحة تارة ، وبالفاسد أخرى ، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما كأسباب الطّهارات والنّجاسات ونحوها ممّا يكون له أثر شرعي يترتب عليه ولا يترتّب عليه أخرى لاختلال بعض ما يعتبر فيه.

«الأمر السّادس»

الصّحة لغة وعرفا بمعنى التّماميّة ويعبّر عنه بالفارسيّة ب «درستى» ويقابلها الفساد ، وهما بهذين المعنيين من الأمور الاضافيّة الّتي تختلف بحسب الآثار والأنظار ، ربّما يكون عمل واحد صحيحا بحسب أمر وفاسدا بحسب آخر ، وإن

٣٩٢

اتّحد النّظر ، وصحيحا بحسب نظر دون آخر وإن اتّحد الأثر ، ولهذا يصحّ أن يجمع بين كلماتهم ويقال : أن الصحّة في العبادة والمعاملة عند الكلّ بمعنى واحد ، وهو معناه اللّغوي ، وإن فسّروها في المعاملة بترتب الأثر المقصود فيها وفي العبادة بإسقاط القضاء والإعادة أو خصوص القضاء ، كما عن الفقهاء ، وبموافقة الأمر أو الشّريعة ، كما عن المتكلمين ، بأن يقال : إن هذا الاختلاف بين المعاملة والعبادة إنّما هو بحسب ما هو المهمّ والمقصود من الأثر المترتّبة عليهما الّتي تختلفان بحسبها صحّة وفسادا ، أي تتصفان بالتّماميّة وعدمها وإن اختلاف بين الفقهاء وبين المتكلمين في تفسيرى الصّحّة والفساد في العبادة ، لاجل الاختلاف فيما هو المهم لكلّ منهما من الأثر ، حيث أن غرض الاوّلين لا يتعلق إلّا بالبحث عن أفعال المكلّفين من حيث تفريغ الذمّة ، فلذا فسّروا الصحّة بإسقاط القضاء والإعادة ، وغرض الآخرين لا يتعلّق إلّا بالبحث عن فعل المكلّف ، وبعبارة الاخرى عن أفعال المكلّفين من حيث استحقاق المثوبة أو العقوبة عليهما من المكلّف ، فلذا فسّروها بموافقة الأمر تارة وبموافقة الشّريعة أخرى ، لأنّ الموافقة كذلك توجب استحقاق المثوبة كما أنّ عدمها يوجب استحقاق العقوبة.

وبالجملة ، حيث أنّ أثر الصّحّة بمعنى التّماميّة في العبادة بحسب ما تعلّق غرض كلّ من الطّائفتين بالبحث عنه مختلف ، فلذا فسّرها كلّ منهم بما يوافق غرضه من الأثر ، فهذا الاختلاف بينهما ليس اختلافا في بيان حقيقة الصّحة ، بل هي عند الكلّ باقية على معناها اللّغوي وهي التّماميّة ، غاية الأمر أن أثرها يختلف اختلاف الموارد فأثرها في المعاملة حصول مثل الزّوجيّة والملكيّة والحريّة والطّلاق والعتاق ونحو ذلك ، فلذا فسّروا الصّحيح فيها بما يترتّب عليه الأثر المقصود منها ، و

٣٩٣

في العبادة إسقاط القضاء والإعادة أو القضاء دون الإعادة حسب اختلاف الموارد والانظار ، وحصول الامتثال والموافقة الموجب استحقاق المثوبة ، ولذا فسّر الصّحيح فيها المتكلّمون بما يوافق الأمر أو الشّريعة ، والفقهاء بما يوجب اسقاط القضاء والإعادة.

ثمّ أنّ الأمر في الشّريعة على أقسام ، فقد يكون واقعيّا أوّليا كالصّلاة مع الطّهارة المائيّة ، وقد يكون واقعيّا ثانويّا كالصّلاة في حال التّقيّة أو مع الطّهارة التّرابية أو المأتي بها على وجه التّقية ، وقد يكون ظاهريّا كالصّلاة مع الطّهارة المستحبّة مع انكشاف الخلاف.

لا إشكال في اقتضاء الاوّل للاجزاء ، فالعبادة المأتي بها على طبقه صحيحة على كلا التّفسيرين ، وفي اقتضاء للأخيرين لا إجزاء بالنّسبة إلى القضاء والإعادة أو خصوص القضاء مطلقا أو بحسب الموارد أو الفرق بينهما باقتضاء الثّاني للإجزاء دون الثّالث كما هو الأقوى ، فالعبادة المأتي بها على طبق أحدهما صحيحة عند المتكلّمين لو أراد بالأمر في تفسيرهم ما يعمّ الآخرين ، وعند الفقهاء أيضا بحسب أثر دون أثر مع القول باقتضائهما الإجزاء بالنّسبة إلى القضاء دون الإعادة وبحسب نظر دون نظر ، على القولين في اقتضائهما الاجزاء مطلقا وعدمه ، ولو أريد بالأمر خصوص الواقعي في تفسير المتكلّمين وما يعمّ الواقعي الثّانوي دون الظّاهري كما هو الظّاهر وقيل بالإجزاء في الأخيرين فالعبادة الموافقة لأحدهما أو خصوص الأخير غير صحيحة عند المتكلّمين وصحيحة عند الفقهاء على القول بالإجزاء ، أمّا على القول بعدم الإجزاء مطلقا أو بالنّسبة إلى الإعادة فالعبادة الموافقة لهما غير صحيح عند الكلّ أو بحسب الأثر كالإعادة دون آخر كالقضاء مع القول بالتّفصيل ،

٣٩٤

هذا حكم العبادة.

وأمّا المعاملة فكذلك قد تتصف بالصّحة بحسب أثر دون أثر أو بحسب نظر دون نظر كما يخفى.

تذنيب : هل الصّحة والفساد من الأوصاف الاعتباريّة ينتزعهما العقل من انطباق المأتي به لما هو مأمور به وعدمه أو لما هو المجعول سببا وعدمه مطلقا في العبادات بكلا تفسيرها ، والمعاملات أو الأحكام الوضعيّة مطلقا أو في خصوص المعاملات ، وأمّا في العبادات فهما عقليان أو من الأحكام التّكليفيّة في العبادات على تفسير الفقهاء والامور الانتزاعيّة فيها على تفسير المتكلّمين ، أقوال : وليس المقصود التّكلم في أصل مجعولية الاحكام الوضعيّة وعدمها ، بل المقصود التّكلم في خصوص الوصفين بعد فرض اختلاف حكمي الوضع والتّكليف ، فنقول :

التّحقيق أنّه لا ينبغي الشّك في أنّهما من العبادات على تفسير المتكلّمين وصفان انتزاعيان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها ، وأمّا على تفسير الفقهاء فإنّ اضيفا إلى المأمور به الكلّي الأمر الواقعي الاوّلي وصحّته بذلك التفسير وهي عبارة الاخرى عن أجزائه إنّما يكون من لوازم الإتيان به عقلا لأنّه من مستقلاته كاستقلاله باستحقاق المثوبة عليه ليست حينئذ من أحكام التّكليف ولا من أحكام الوضع المجعول بنفسه أو بتبع التّكليف ، ولا من الأمور الاعتباريّة ، وأمّا المأمور به الكلّي بالأمر واقعي الثّانوي أو الظّاهري فصحّته بذلك التّفسير على القول باقتضائهما الإجزاء يكون من الأحكام الشّرعيّة المجعولة ، نظير رفع الحكم الضّرري والحرجي مع ثبوت المتقضي له ، إذ مع وجود المقتضي للّزوم الإعادة والقضاء ، كما هو المفروض فرفعه تخفيفا ومنّة على العباد كوضعه بيد جعل

٣٩٥

الشّارع ، والمراد بالحكم الشّرعي ما يكون بيد جعله وضعا ورفعا ، ولا اختصاص له بما وضعه ، فرفع لزوم الإعادة والقضاء أو خصوص القضاء على الخلاف في مسألة الاجزاء في الأحكام الشّرعيّة المجعولة. نعم ربّما يكون رفعهما عقليّا كما تصورناه في مسألة الإجزاء ، وهو فيما إذا كان المأمور به بالامر واقعي الثّانوي أو الظّاهري وافيا بالغرض في الأمر الواقعي الاوّلي لا بتمامه وإلّا لكان اللازم على حدّ المأمور به بالأمر الواقعي الاوّلي فيلزم التّخيير بينهما ، وهذا خلف ، بل بالمقدار اللازم منه مع فرض عدم إمكان تدارك ما فات منه ، كما إذا فرض أنّ الصّلاة المنسي جزئها كذلك ، فإن صحتها وإجزائها حينئذ من مستقلات العقل كما في الصّورة الاولى ، وإن اضيفا إلى الفعل الخارجي المأتي به فصحّته بذلك التّفسير مطلقا لا تكون إلّا منتزعة من انطباقه على المأمور به الكلّي بالأمر الواقعي الاولي أو الثّانوي أو الظّاهري على القول بالإجزاء مطلقا ، وكذا حال الفساد إن أضيف إلى الكلّي أو الجزئى الخارجي كما لا يخفى ، هذا في العبادات.

أمّا في المعاملات : فإن اضيفت الصّحة إلى الكلّي تكون من الأحكام الشّرعيّة المجعولة ، لوضوح أن ترتب الأثر على معاملة عقدا كان أو ايقاعا أو غيرهما كالزّوجيّة والطلاق والطّهارة والنّجاسة وأمثالها ممّا يترتب على أسبابها لا يكون إلّا بجعل الشّارع وترتيبه عليها ابتداء أو إمضاء لما هو المتعارف بين النّاس ، فالصّحة حينئذ تكون لا محالة مجعولة من قبل الشّارع ، وإن أضيفت إلى المعاملة الخاصّة المأتي بما في الخارج فلا تكون إلّا منتزعة من انطباقها على الكلّي الّذي جعله الشّارع مؤثرا ابتداء أو إمضاء ، وهكذا حال الفساد وباضافة إلى الكلّي والجزئي من المعاملة.

٣٩٦

فتخلّص ممّا ذكرنا أن الصّحة والفساد في العبادات على تفسير المتكلّمين من الأمور الانتزاعيّة وكذا فيها على تفسير الفقهاء في المعاملات أيضا إن أضيفا إلى الأفعال الخارجيّة ، وإن أضيفا إلى الكلّي فهما في العبادات ربّما تكونان من الأحكام المجعولة ، وربّما تكون من المستقلّات العقليّة ، وأمّا في المعاملات فمطلقا تكونان من الأحكام المجعولة.

فانقدح : ممّا ذكرنا فساد القول بانّهما مطلقا من الأمور الاعتباريّة أو من الأحكام المجعولة وساير التّفاصيل المتقدّمة من غير حاجة إلى نقل أدلّتها وبيان ما يرد عليها تفصيلا.

وأقول : لعل هذا الكلام في المقام مبني على إبقاء كلماتهم في تفسير الصّحة والفساد في العبادة والمعاملة على ظواهرها ، إذ لو جمع بينها بأن حملت الصحّة فيها على معنى واحد وهو التّماميّة والفساد على ما يقابلها حسبما تقدّم ، فغير خفي أنّهما بهذين المعنيين من الأمور الاعتباريّة ، واختلاف آثارهما ممّا من حيث كونها عقليّة في بعض الموارد وشرعيّة جعليّة في بعضها الآخر واعتباريّة بحسب بعض الإضافات لا يقتضي اختلافا في حقيقتيهما كما لا يخفى.

«الأمر السّابع»

إذا شكّ في اقتضاء النّهي للفساد له فهل هنا أصل يرجع إليه أم لا؟ التّحقيق أن يقال أما بالنّسبة إلى هذه المسألة الاصوليّة فلا ، إذ دلالة اللّفظ على معنى أمر إحرازي وجداني ، فمع الشّك فيها لا إحراز ، فلا دلالة ، وليس لها واقع آخر كي يحرز بالأصل نفيا أو إثباتا ، وأمّا بالنّسبة إلى المسألة الفرعيّة فمتعلّق النّهي إن كان عبادة وتعلّق بنفسها فالشّك في اقتضاء النّهي فسادها يستلزم الشّك في كون فعلها مقرّبا

٣٩٧

إلى الله سبحانه ، ومع الشّك في المقرّبية لا يمكن تأتّي قصد القربة (١) فلذا لا تقع صحيحة ، وإن تعلّق النّهي بشرطها فالشّك في اقتضائه الفساد لا يقتضي فسادها مع ما سيأتي إنشاء الله ، إذا كان الشّرط في نفسه عبادة كالطّهارات الثّلاث بالنّسبة الى الصّلاة ، وإن تعلّق النّهي بجزئها فالشّك في اقتضائه الفساد يوجب الشّك في صلاحيته ذلك الجزء ، لأنّ يتقرب به وعدمها ، والعبادة لا بدّ أن تكون بجميع أجزائها ممّا يمكن قصد القربة بها ، ومع الشّك المذكور لا يمكن ذلك إلّا أن يقال أنّ مرجع الشّك حينئذ حقيقة الى أن ذلك الجزء كالقراءة للصّلاة مثلا هل هو جزء لها مطلقا أو إذا أتى به على وجه غير محرم ، فيكون من قبيل دوران الواجب بين الأقل والأكثر ، وقضية الاصل العقلي فيه وإن كان هو الاشتغال على ما حققناه في محله ، إلّا أنّ قضيّة الدّليل النّقلي مثل حديث الرّفع لو شمل مثل ما نحن فيه هو البراءة ، ولا مجال لقاعدة الشّك بعد الفراغ حينئذ ، لأنّ جزئية الجزء مفروغ عنها ، إنّما الشّك في أنّ النّهي عنه هل يقتضي فساده كي يقضي الى فسادها أم لا فالشّبهة حينئذ حكميّة ، ولا مجال لقاعدة الشّك بعد الفراغ فيها ، لأنّها إنما تجري في الشّبهة الموضوعيّة ، فلا يتصور فيما نحن فيه ما يمكن الرّجوع فيه الى قاعدة الشّك بعد الفراغ وإن كتب في كفاية ، فما كتب فيها في غير محلّه ، وإن كان متعلّق النّهي معاملة ، فالحكم أصالة الفساد مطلقا سواء تعلّق بنفسها أو جزئها ، لأنّ ترتب الأمر عليها بحكم الشّارع وجعله إياها سببا له ومؤثرا فيه وهذا حادث مسبوق بالعدم ، فمع

__________________

(١) ـ وأقول في الالتفات وأمّا في حال الغفلة فيمكن قصد القربة إلّا أن يكون الفعل المأتي به حينئذ مقربا غير معلوم لعدم ، العلم بتعلّق الأمر به والأصل عدم تعلّقه به لكن الرّجوع إلى هذا الأصل إنّما يصحّ فيما لم يكن هناك أصلا لفظي من العموم أو اطلاق وإلّا فهو المرجع كما سيأتي نظيره في المعاملات ، لمحرّره.

٣٩٨

الشّك فيه الأصل عدم جعلها سببا ومؤثرا فيه إلّا أن يكون لدليل جعلها كذلك عموم أو إطلاق يشمل مورد النّهي لولاه ، وحينئذ كان المرجع أصالة العموم أو لاطلاق لرجوع الشّك في اقتضاء النّهي للفساد حينئذ إلى الشّك في التّخصيص أو التّقييد ، والاصل عدمها ، فلا بدّ في كلّ عدد من ملاحظة دليل تلك المعاملة المنهي عنها أو عن جزئها هل له عموم أو إطلاق كذلك أم لا؟ فإن كان له عموم أو إطلاق فهو المرجع عند الشّك وإلّا فالمرجع أصالة الفساد كما لا يخفى.

وأقول : هذا الاستثناء أيضا جار في العبادات فلا وجه لتركه فيها.

«الأمر الثّامن»

النّهي المتعلّق بالعبادة على أقسام ، لأنّ متعلقه إمّا نفس العبادة ، كصلاة الحائض مثلا ، أو جزئها كقراءة العزيمة في الصّلاة ، أو شرطها الخارج عنها كالطّهارة من الحدث أو الخبث والتّستر بالماء والثّوب المغصوبين بالنّسبة إليها ، أو وصفها الملازم لها كالجهر والاخفات للقراءة فيها ، أو الملازم الغير الملازم لها كالغصبيّة لأكوان أنّ الصّلاة المنفكة عنها ، وهذه الأقسام في النّهي عن العبادة وإن كانت متصوّرة في المعاملة أيضا ، إلّا أنّ جميعها غير واقعي فيها ، بل بعضها.

وكيف كان ، لا ريب في دخول القسم الاوّل في حريم النّزاع ، وكذا الثّاني لأنّ جزء العبادة أيضا عبادة ، حيث أنّها لا تكون إلّا عبارة عن مجموع الأجزاء ويعتبر في كلّ واحد منها صلاحيته لأن يتقرّب به ولو في ضمن الكلّ ، والنّهي يمنع عن ذلك ويقتضي فساده ، وفساده يستلزم فساد الكلّ ، أعني عدم صلاحيته لأن يتقرّب به ، هذا فيما لو اقتصر على ذلك الجزء ، وأمّا إذا لم يقتصر عليه ، بل أتى بعده بما لم يتعلّق به

٣٩٩

النّهي ، كما إذا قرأ بعد قراءته الفرعيّة في الصّلاة سورة اخرى من غير العزائم ، فلا وجه للحكم بفساد العباد حينئذ إلّا إذا استفيد من النّهي المتعلّق بذلك الجزء ، مضافا الى حرمته كونه مانعا أو رافعا أو قاطعا ، وحينئذ يحكم بفساد العبادة لا لاجل نقيضه فيها ، بل لأجل زيادة مبطلة لها ، وبالجملة النّهي عن العبادة لا يقتضي فسادها إذا لم يقتصر عليه وأتى بجزء ممّا لا نهي عنه ، إلّا إذا كان دليل الحرمة ودالا على كون ذلك الجزء مانعا عن قابلية الأجزاء اللاحقة للضّم الى الأجزاء السّابقة أو رافعا لأثرها وملغيا لها أو قاطعا للهيئة الاتصاليّة المعتبرة شرعا بين الأجزاء السّابقة واللاحقة.

وأمّا القسم الثّالث : فالنّهي عنه ، هو المتعلّق بالشّرط لا يقتضي فساد العبادة المشروطة به إلّا إذا كان في نفسه عبادة كالطّهارات الثّلاث بالنّسبة الى الصّلاة ، لأنّ النّهي عنه يقتضي فساده ، وفساده يقتضي فساد العبادة المشروطة به ، لانّ الشّرط الفاسد بمنزلة العدم ، فكأن العبادة المشروطة به وقعت فاقدة الشّرط ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن الشّرط في نفسه عبادة كالطّهارة الخبثيّة للثّوب والبدن بالنّسبة الى الصّلاة فإنّها وإن وقعت على وجه محرم كما لو حصلت بماء مغصوب لا يوجب فساد الصلاة ، لأنّ الشّرط مطلقا خارج عن حقيقة المشروط ، ليس على حدّ الجزء بالنّسبة الى المركب ، فحرمته لا تنافي عبادته المشروط به وكونه مقربا ، فلو تستر في الصّلاة بالثّوب الغصبي على وجه لا يجتمع التّصرف فيه مع أكوان الصّلاة كما لو ألقاه في حال الرّكوع والسّجود وتستر بمباح آخر لم يكن مانعا حينئذ عن صحّة الصّلاة ، لأنّ النّهي عنه وإن كان شرطا لا ينافي صحّة الصّلاة المشروطة به.

وأقول : الحكم بصحة الصّلاة مع تطهير الثّوب أو البدن بالماء المغصوب ، لأنّ

٤٠٠